(تنشر هذه المادة ضمن حملة "لنحقق العدالة" بالتعاون والشراكة مع معهد صحافة الحرب والسلام)
حين سارَرْتُهم بالبرد دفّأوني بالصفعات.
بصقتِ الساعاتُ ثوانيها في عيوننا.
جولان حاجي، من قصيدة "اختفاءات"
" كنتُ أخزّن القصص في داخلي كي أحكيها حين أخرج". هذا ما تقوله عبير فرهود لحكاية ما انحكت وحملة "لنحقق العدالة". وفرهود معتقلة سابقة وشاهدة على حوادث عديدة حصلت معها في السجون المختلفة (الفرع 215 وسجن عدرا) التي تنقلت بينها. وفي حديثها معنا تحكي عبير عن امرأة زاملتها في السجن. كانت المرأة قد عُذبت بشدّة من قبل قوات الأمن قبل أن يجبرونها على أن تخرج على القناة السوريّة التلفزيونيّة الناطقة باسم النظام السوري وتُقر باعترافات كاذبة محورها أنّها كانت تساعد "المجاهدين" وكانت تمارس "جهاد النكاح". تقول عبير إنّ والد المرأة قد زارها في سجن عدرا، بصق عليها أمام باقي الزائرين وتبرّأ منها وقال إن هي خرجت من السجن حيّة فسيقوم بذبحها بنفسه لأنّها لوثت شرف العائلة.
كأنّها قيامة
"مع مرور الوقت بدأ الناس يتوافدون إلى بيتنا مباركين إطلاق سراحي. رفضتُ تسميتي بالبطل. لم أكن بطلًا. أخبرتُ عوائل أبناء حارتي المُعتقلين بوجودهم معنا في السجن. في صبيحة اليوم التالي حلقتُ شعرَ رأسي بنفسي على درجة الصفر، بعدما رأت أمي القمل على فراشي. لم أبقَ في البيت سوى يومين. انتقلتُ إلى بيت أختي (أمي الثانية) التي كانت قد تركته فارغًا، بعد أن سافرت إلى إحدى المُدن الكرديّة في الشمال، كانت قد نقلت بيتها إلى هناك قبل خروجي من القبر بأيام. بقيتُ هناك لأربعة أيام بعيدًا عن ضجيج الناس، وحيدًا مع عزلتي. كم تمنيتُ العودة إلى السجن! بدأتُ أعتقدُ بأنّ السجن هو الحريّة."
ما سبق كان جزءًا صغيرًا من شهادة الشاب "محمد صدّيق عثمان" التي نشرها في كتاب بعنوان "كأنّها قيامة" الصادر سنة 2017 عن دار بيت المواطن ضمن سلسلة "شهادات سوريّة". ومحمد صدّيق عثمان هو معتقل سوري سابق، تم اعتقاله في سنة 2013 وكان يبلغ من العمر آنذاك السابعة عشرة من عمره، وقد أطلق سراحه بعد شهور قليلة. ونشر تجربته وشهادته عن المعتقل في هذا الكتاب.
في المقطع السابق، والمكثّف بشدّة يحكي عثمان عن أيامه الأولى بعد الخروج من المعتقل، عبر إطلاق صفة البطل عليه في بيئته الكرديّة ورفضه لذلك، ويحكي عن شوق أهالي الحيّ لمعرفة مصير أبنائهم وعن رغبته بالعزلة واعتقاده آنذاك أنّ السجن حريّة مقارنة بالضوضاء وضجيج الناس من حوله.
ما أحسّ به محمد صدّيق عثمان في ذلك الوقت ليس غريبًا، عادة ما يعيش الناجون حالتين، إمّا الانعزال عن العالم الخارجي والعيش في وحدة مختارة لفترة زمنيّة قد تطول وقد تقصر، أو بالحديث عن فترة الاعتقال بكثرة.
حكايات مختلفة لكن متقاطعة
حين خرج عبد العزيز الدريد (31 سنة ومقيم حاليًا في اسبانيا) من المعتقل كان في قمة سعادته، يقول إنّ ذلك اليوم كان أجمل يوم في حياته، "صورتي الشخصيّة المُفضلة هي الصورة التي التُقطت لي في ذلك اليوم". يقول إنّه قد فقد الأمل في الخروج قبل أن يخلوا سبيلهم، فآمن بعد خروجه بأنّ الإنسان قد يعود إلى الحياة بعد الموت.
استُقبل استقبال الأبطال، رغم أنّه لم يرَ نفسه كذلك مثله مثل محمد صدّيق عثمان، من قبل أصدقائه (عائلته كانت تقيم خارج سوريا)، مما أعطاه دفعة معنويّة كبيرة، "دفعني ذلك إلى تغيير اسمي على وسائل التواصل الاجتماعي، كنتُ سابقًا أستعمل أسماء مستعارة لكنني قمت بتغيير الاسم إلى اسمي الحقيقي، لأنّني شُحنت بطاقة إيجابيّة، كان الأمر بالنسبة إليّ نوعًا من التحدي وكأنّي أقول للنظام، انظروا لقد اعتقلتموني ولم تستطيعوا قتل نزعة الحريّة في داخلي"، يقول الدريد لحكاية ما انحكت إنّه صار يرى الناس بشكل مختلف "لماذا لم يحرّكوا ساكنًا فيما كنتُ أنا، وما زال الآلاف، يعذبون بالقرب منهم، ربما لو فعلوا شيئًا ما لما حلّ بنا ما حلّ" لكن من ناحية أخرى صار يرى كثيرًا من الناس خائفين وبحاجة "إلى حاجز لكسر حاجز الخوف لديهم" كما يقول لحكاية ما انحكت وحملة "لنحقق العدالة".
يقول الدريد إنّ نظرته إلى الحياة تغيّرت، صار ينظر إلى التفاصيل الصغيرة التي نعيشها كلّ يوم بشكل اعتيادي لكن يفتقدها المُعتقلون، بعين أخرى، صار يقدّر امتلاكه لمقص الأظافر الذي كان يفتقده هناك. "صرتُ أعاملُ نفسي بشدّة، وكأنّني أؤمن بأنّ المرء يمكن أن تتغير حياته في أي لحظة وأن يعيش ظروفًا قاسية وأن لا يتوفر لديه ما يتوفر لدينا الآن من أشياء يوميّة، وفي حال تكرّرت أيام الاعتقال أو أيّة أيام شبيهة سأكون مستعدًا بدرجة أكبر، ولو بدرجة واحدة فقط".
مثل أصدقاء عبد العزيز، استقبلت عائلة عبير فرهود (34 سنة وتقيم حاليًا في ألمانيا) ابنتهم بكلّ فخر وحب لكن بخوف، فأخرجوها من البلاد تهريبًا بعد عشرة أيام من خروجها بكفالة وقبل خضوعها للمحكمة. تقول عبير إنّ الأيام العشرة الأخيرة في السجن كانت الأسوأ، كان إخلاء السبيل قد صدر لكنهم احتفظوا بها في سجن عدرا دون سبب منطقي. أخرجوها في الليل من السجن مع امرأة أخرى. مشيتا وحدهما في الظلام القريب من خط النار، حيث كانت قوات المعارضة تقترب من مناطق سيطرة النظام وكانت تدور اشتباكات كثيفة. مشيتا طويلًا حتى صادفتا سيارة أجرة أوصلتها البيت في الطرف الآخر من المدينة.
تحكي عبير لحكاية ما انحكت وحملة "لنحقق العدالة" قصص صغيرة عن نساء التقت بهن خلال اعتقالها، ومن تلك القصص حكاية امرأة بقيت تتواصل معها بعد السجن. قام أهل المرأة بحبسها في البيت بعد خروجها من السجن بحجة خوفهم عليها، إلى أن قام أخوها بتهريبها من البيت بعد فترة طويلة من السجن البيتي.
تقول عبير فرهود إنّ المجتمع لا يرحم المعتقلات بعد خروجهن من بؤر الموت تلك، تقول بشكل حزين "قابلتُ تعليقات مسيئة وتنمرًا كبيرًا من الناس، وتعامل المجتمع كان سلبيًا جدًا حين تحدثت عن التحرّش الجنسي بالمعتقلات الذي يحدث أثناء التعذيب".
تنحو حكاية وسيم حسن (41 عامًا ومقيم حاليًا في ألمانيا) منحى آخر. يقول حسن لحكاية ما انحكت وحملة "لنحقق العدالة" إنّ أصدقاءه الثوريين لم يتركوه وحيدًا لمدة أسبوع كامل بعد خروجه من المعتقل، لكن "الآخرين، ممن وقفوا ضدّ الثورة، وأحكي عن أفراد من عائلتي ومن محيطي، بدؤوا يشككوا بي بطريقة غريبة، صاروا يحكون عني إنّني خائن وعميل وصاروا يتعاملون معي كمجرم يريد تخريب البلاد. وصار البعض من عائلتي البعيدة يكتب في وسائل التواصل الاجتماعي بأنّني خائن وعميل لإسرائيل وما إلى هنالك من أشياء لا علاقة بما كنت أحلم به من حرية للبلاد وكرامة للعباد".
يقول حسن إنّ مشاعر ذلك الوقت كانت مشاعر غريبة مختلطة، فقد كان، وحتى حين كان معتقلًا، متفائلًا جدًا بسقوط قريب لنظام الأسد، "لكنني في نفس الوقت كنتُ حذرًا من الناس من حولي، زملائي في العمل وجيراني من أهل الحيّ، كانت هناك نظرات غريبة بيننا، وكأنّ بهم يسألون "ما أنت؟ هل أنت عدو أم صديق؟".
يقول إنّه بعد خروجه من المعتقل بأسبوع أحسّ بأنّ عليه أن يفعل شيئًا ما، أن يغيّر شيئًا ما. لم يعرف ما الذي يجب عليه فعله فقام بطلاء جدران البيت بألوانٍ فَرِحة، "كان شيئًا غريبًا، لكنّني أحسست بحاجة إلى الألوان بعد الخروج من تلك المنفردة الواقعة تحت الأرض، حيث لا ألوان إلّا تلك الداكنة".
ليلٌ طويل
في فيلم "الليل الطويل" للمخرج الراحل حاتم علي، الممنوع من العرض في سوريا حتى اليوم، يخرج المعتقل السياسي (يُمثّل دوره الراحل خالد تاجا) من السجن بعد سنوات طويلة.
وفي طريقه إلى قريته الأصل، بينما أولاده ينتظرونه في بيوتهم في دمشق، يسأله السائق عن الطريق، فيجيب بأنّه لا يعرف، فيقول السائق إنّ الطريق لم يتغير، ليرد المعتقل السابق بأنّه لم يعد يعرف شيئًا لقد غاب لعشرين سنة، ثمّ يستدل على الطريق القديم، فيقول للسائق طبعًا أعرفه "هادا الطريق القديم ما تغيّر". تتوقف السيارة وينزل منها ليقف تحت المطر فيشعر بدموع السماء تلامس وجهه للمرة الأولى مذ غاب في ظلام الاعتقال.
يصل إلى قريته، وإلى بيت طفولته، فيما أولاده يبحثون عنه. فقط ابنه الأصغر (الممثل باسل خياط) الذي انتهج طريق والده، يشعر بما يمكن أن يفعله والده، فيلحق به إلى تلك القريبة البعيدة عن ضجيج العاصمة.
يسند الرجل ظهره إلى شجرة قديمة، وكأنّه يقول ها قد وصلت إلى البيت. ويموت.
يصل ابنه إلى المكان البيت القديم. يحضن والده الميت ويبكي، وخلال بكائه يسأل جثة أبيه "مشان هيك طلعت؟".