(تنشر هذه المادة ضمن حملة "لنحقق العدالة" بالتعاون والشراكة مع معهد صحافة الحرب والسلام)
لا تعد الرغبة الجنسية هي الدافع الأساسي لارتكاب العنف الجنسي في زمن النزاعات المسلحة، ففي أغلب الحالات وبغض النظر عن المكان والزمان، تواجد هذا العنف مع النفوذ والهيمنة وسوء الاستعمال والاستخدام للسطة. ولطالما كان هذا النوع من الجرائم مخفياً أو غير مرئياً، لأنه يترافق بمشاعر العار أو الإذلال أو حتى الذنب لدى الضحايا، ناهيك عن الخوف من النبذ أو الإقدام على الانتقام من قبل المنتهكين، وحتى الأذية الجسدية والنفسية والعاطفية من قبل العائلة والأقارب والمحيط المحلي. وفي حالة النزاعات المسلحة، يضاف إلى كل ذلك عوائق وعقبات إضافية، كالمخاطر الأمنية وصعوبة التنقل وتكلفته، مع عدم توفر الاستجابة السريعة من قبل القائمين\ات على تقديم الخدمات والمساعدات، في ظل ضعف الخبرات والموارد من قبل العاملين\ات على دعم الضحايا.
يقع هذا العنف على النساء والأطفال والرجال على حد سواء، مع الاختلاف في الأثار حسب النوع الاجتماعي، ويرتكب هذا العنف موظفون\ات حكوميين، أعضاء مجموعات مسلحة غير حكومية، أو حتى أفراد ليس لديهم مناصب أو قوة عسكرية، ويترافق هذا العنف مع انتهاكات أخرى لعدد من حقوق الإنسان الأساسية والعالمية، ومنها على سبيل المثال، الحق في الحياة ، والحق في الأمن الشخصي، والحق في الحماية المتساوية بموجب القانون، والحق في عدم التعرّض للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية أو اللإنسانية أو المهينة والحاطة من الكرامة. فيتم خلال ممارسة هذا العنف القتل غير المشروع خارج نطاق القانون، وتجنيد الأطفال، تدمير وتخريب ونهب الممتلكات.
العنف الجنسي والقوانين الدولية
وبموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني والاتفاقيات الدولية ذات الشأن، يمكن أن يشكل هذا النوع من العنف جريمة ضد الإنسانية أو جريمة حرب أو حتى جريمة إبادة جماعية. فعلى الرغم من أنّ المادة الثالثة المشتركة من اتفاقيات جنيف الأربعة (وهي التي تطبق على حالات النزاع المسلح غير الدولي كما هو الحال في سوريا) لم تتحدث صراحة عن العنف الجنسي بكافة أشكاله، إلا أنّ بقية مواد اتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها الإضاقية، حظرت أي انتهاك لحق الحياة والسلامة الجسدية، والمعاملة القاسية أو الحاطة بالكرامة أو التعذيب، أو الإكراه على الدعارة أو الاغتصاب مع التشديد على حماية النساء والأطفال من أي شكل من أشكال هذا النوع من العنف. ولاحقاً شدّدت المحاكم الدولية والمحكمة الجنائية الدولية على أن الاغتصاب والإكراه على الدعارة وأيّة صورة من صور خدش الحياء، والاستبعاد الجنسي، أو الحمل القسري أو التعقيم القسري، أو أيّ شكل آخر من أشكال العنف الجنسي، تشكل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية أو حتى جرائم إبادة جماعية متى توفرت أركانها.
في التشريعات السورية
وفي التشريعات السورية، كباقي الجرائم الدولية أو الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، لم تتضمن هذه التشريعات أي توصيف أو تجريم لهذا النوع من العنف كجريمة ضد الإنسانية أو جريمة حرب أو جريمة إبادة جماعية. كافة أشكال العنف الجنسي وردت في قانون العقوبات السوري ضمن الجرائم الواقعة على الأسرة أو التعرّض للأداب والأخلاق العامة، ومن التوصيف الواضح لفظياً، نجد أن المشرّع السوري لم يلتفت للضحية بذاتها بل ركز على أنّ هذا النوع من العنف يقع على الأسرة وحتى على المجتمع دون التركيز على الضحية.
ما هو العنف الجنسي والجنساني – المبني على النوع الاجتماعي؟
العنف الجنسي يعني "أي علاقة جنسية، أو محاولة للحصول على علاقة جنسية، أو أيّة تعليقات أو تمهيدات جنسية، أو أيّة أعمال ترمي إلى الاتجار بجنس الشخص أو أعمال موجّهة ضدّ جنسه باستخدام الإكراه، يقترفها شخص آخر مهما كانت العلاقة القائمة بينهما وفي أيّ مكان. ويشمل العنف الجنسي الاغتصاب، الذي يُعرّف بأنّه إدخال القضيب، أو أي جزء من الجسد أو أداة خارجية أخرى، في الفرج أو الشرج بالإجبار أو الإكراه"[1].
العنف المبني على النوع الاجتماعي، هو "مصطلح شامل لأي فعل ضار يرتكب ضد الشخص استنادا ً إلى الاختلافات الاجتماعية (أي النوع الاجتماعي) بين الذكور والإناث. ويتضمن الأفعال التي تلحق الأذى الجسدي أو الجنسي أو العقلي أو المعاناة والتهديد بالقيام بمثل تلك الأفعال والإكراه وغير ذلك من أشكال الحرمان من الحرية. يمكن أن تحدث هذه الأفعال في الأماكن العامة أو الخاصة. وتشمل الأشكال الشائعة للعنف المبني على النوع الاجتماعي العنف الجنسي (الاغتصاب، ومحاولة الاغتصاب، اللمس غير المرغوب فيه، والاستغلال الجنسي والتحرّش الجنسي)، وعنف الشريك (الذي يطلق عليه أيضاً العنف المنزلي، بما في ذلك الاعتداء البدني والعاطفي والجنسي والاقتصادي)، والزواج القسري والزواج المبكر وختان الإناث"[2].
المشرّع السوري لم يلتفت للضحية بذاتها بل ركز على أنّ هذا النوع من العنف يقع على الأسرة وحتى على المجتمع دون التركيز على الضحية.
وينتج عن هذا العنف عدّة أثار، منها الأذية الجسدية، بما في ذلك الأذية الجنسية. كما يتسبّب بالصدمات العاطفية والنفسية، مع التحديات الاقتصادية، بالإضافة إلى النبذ والوصم الاجتماعي، وقد يصل إلى حد الوفاة أو الانتحار أو القتل على يد المنتهك أو ذوي الضحية وأقرباءها ومحيطها الاجتماعي. لكن كل هذه الآثار لا يمكن اعتمادها أو تصوّرها ووضعها في قالب واحد، حيث يجب التعامل مع كل ضحية لهذا النوع من العنف على أنه شخص مستقل بذاتها، وسيختلف تأثرها بالأذى عن تأثر غيرها. على الرغم من أن الضحية من يقع عليها هذا العنف هي المتضررة الأساسية، إلا أن أثار هذا العنف تمتد وتتسع لتشمل عائلات الضحية ومحيطها.
العنف الجنسي والجنساني -العنف المبني على النوع الاجتماعي في سوريا:
لم تكن الثورة في عام 2011 هي التي كشفت وجود الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في سوريا، فهذه الانتهاكات كانت تمارس منذ عقود. كل ما حدث بعدها هو ازدياد رقعة الانتهاكات أفقياً وعامودياً، ومنهجة هذه الانتهاكات وظهورها للعلن كسياسة متبعة بشكل غير مسبوق، كل هذا تم في ظل تنوّع أشكال هذه الانتهاكات وأنماطها. العنف الجنسي والجنساني حاله حال كافة الانتهاكات، مُمارس كذلك لسنوات طويلة. الشيء الجديد في هذه الانتهاكات هو ازديادها مع ارتفاع عدد الضحايا والمنتهكين\ات، وتداولها بشكل أكبر بين السوريين\ات بسبب التطور التقني وسهولة الاتصالات، ناهيك عن سهولة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير رغم كل الرقابة الحكومية والقبضة الأمنية، وأعتقد هنا أن النظام السوري تراخى في ذلك ضمن سياسته الإعلامية لتسهيل وصول رسائله في إرهاب السوريين\ات.
الغرض من استخدام العنف الجنسي والجنساني في سوريا
يعتبر العنف الجنسي والجنساني أحد أدوات النظام القائم على مفاصل الحكم في سوريا، في اتباع نفس سياسة الترهيب والإرهاب للمدنيين\ات، من خلال ارتكاب هذه الانتهاكات بشكل سري أو علني، مع نشر تفاصيل هذه الانتهاكات، لعدّة أغراض منها ثني الناس عن مقاومته، وبنفس الوقت وضعهم تحت ضغط الاختيار بين الخضوع لهذه الانتهاكات والعمل على مقاومتها والدفاع عن النفس وعن العائلة الصغيرة وما يكبرها. كما يمارس هذا العنف من قبل أجهزة النظام، تارة بشكل مباشر في تعذيب المعتقلين والمعتقلات، لتحقيق عدة غايات كالحصول على معلومات أو الإذلال والإهانة لمن يتعرض له مباشرة أو لأهل وذوي وقرى ومدن ينتمي إليها ضحايا هذا العنف. وفي حالات عديدة يمارس هذه الانتهاكات من باب التسلية. لذلك يمكن القول بالمجمل أن هذا العنف يستخدم كأداة حرب ضد من اختار مقاومته أو حتى لم يبد أي موقف معارض، لحثه على الأقل على البقاء دون معارضته، كل هذا ساهم في تدمير النسيج الاجتماعي.
ومرّ هذا النوع من الانتهاكات عبر عدّة أنماط وأشكال، فالبداية كانت تتم داخل الأقبية السرية لأجهزة النظام مع تسريب قصص عن هذه الانتهاكات. من ثم بدأت هذه الانتهاكات لتأخذ شكل العلنية والوضوح أكثر أثناء المداهمات أو على الحواجز، لتنتقل بعدها لتصبح بشكل ملحوظ في كل مكان، كأماكن العمل أو حتى وسائط المواصلات أو الحدائق العامة أو الشوارع.
موقف بقية أطراف النزاع المسلح والمعارضة من العنف الجنسي والجنساني
كان الضرر المباشر واقعاً على ضحايا هذا العنف، لكنه امتد ليشمل أفراد العائلة الذين واجهوا مشاعر الصدمة، والإحساس بالذل والضعف والذنب بسبب العجز عن حماية الأولاد أو الزوجات أو البنات أو الأخوات أو الأمهات أو الأباء والأخوة وغيرهم من الأقارب. واتسعت نتائج هذا العنف لتشمل عواقبه المجتمعات المحلية، نتيجة مشاعر الخوف والفزع.
أثار هذه الانتهاكات تلقفتها المعارضة لتسليط الضوء على ما يجري من انتهاكات جسيمة، فكثرت الأحاديث عما يجري من انتهاكات مع التركيز على حالات الاغتصاب بشكل كبير، وإهمال باقي أشكال العنف الجنسي. كل هذا جعل مجرد اعتقال أي سيدة أو طفلة، يطلق العنان للحديث بشكل تلقائي عن تعرضهن للاغتصاب، قبل التأكد حتى من ذلك. في حالات كثيرة لم تتعرض المعتقلات للاغتصاب ولكن هذا لا يقلل من باقي الانتهاكات التي تعرضن لها، كالاعتقال التعسفي والتعذيب أو حتى أشكال أخرى من العنف الجنسي تبدأ بالتحرش اللفظي وتنتهي بأشكال أخرى منذ لحظة الاعتقال. هذه الممارسات من قبل الطرفين كانت أحد أسباب إتساع خارطة هذا النوع من الانتهاكات، لتشمل كل أطراف النزاع المسلح على الأراضي السورية الذين تعاطوا بنفس المنهجية بحجة حماية ضحايا هذا النوع من العنف، حيث مارست بعض الأطراف نفس ممارسات الأجهزة الحكومية في هذا النوع من العنف، التي لا تزال رغم كل انتهاكات الأطراف الأخرى، هي المحرّك الأساسي لدوامة العنف بكل أنواعه وأشكاله في سوريا.
هل يمكن القضاء على العنف الجنسي والعنف المبني على النوع الاجتماعي:
لا تزال مسيرة القوانين الوطنية والدولية التي تجرّم كل أشكال العنف، وخاصة منها العنف الجنسي لا توازي السرعة التي يجري بها ارتكاب هذه الانتهاكات، كما أنها غير قادرة على وقف اتساع خارطتها، خاصة زمن النزاعات المسلحة. وفي سوريا هناك حاجة إلى تعديل التشريعات المحلية في الدرجة الأولى، بإلغاء كافة المواد التمييزية في هذه التشريعات، وإضافة الجرائم الدولية إليها ومن ضمنها جرائم العنف الجنسي ضمن هذه الجرائم الدولية. كذلك الانضمام إلى كل الاتفاقيات الدولية ذات الشأن والموافقة على سموها على التشريعات السورية. وكل هذا غير كاف حيث يجب ضمان الوفاء بحماية الضحايا وعدم تكرار هذا النوع من العنف بإيجاد آليات حماية واقعية، تضمن تنفيذ هذه القوانين.
في سوريا هناك حاجة إلى تعديل التشريعات المحلية في الدرجة الأولى، بإلغاء كافة المواد التمييزية في هذه التشريعات، وإضافة الجرائم الدولية إليها ومن ضمنها جرائم العنف الجنسي ضمن هذه الجرائم الدولية. كذلك الانضمام إلى كل الاتفاقيات الدولية ذات الشأن والموافقة على سموها على التشريعات السورية
وإلى حين تحقّق ذلك لا بد من عمل جاد ضمن خطة موضوعة من قبل المجتمع الدولي لوقف هذه الانتهاكات بكافة أشكالها. مع ملاحقة كافة مرتكبي هذه الانتهاكات.
مع التركيز على توفير كافة سبل دعم ضحايا العنف الجنسي طبياً ونفسياً ومادياً وتمكين الضحايا من الوصول إلى حقوقهم من خلال مشاركتهم\ن في وضع استراتيجيات تحقق هذه الغاية، دون فرض قوالب جاهزة من قبل الحكومات أو من بعض المنظمات التي تتعاطى مع الضحايا وكأنها وصية عليهم\ن وأنهم\ن قاصرين\ات وغير قادرين\ات على إتخاذ القرار المناسب الخاص بهم\ن.
كما لا يجب إلقاء عبء إثبات هذا النوع من العنف على ضحاياه، وعدم إلقاء أعباء أخرى عليهم\ن بحجة حماية الأخرين\يات من الوقوع كضحايا مستقبليين\ات. وأخيراً عدم تحميل الضحايا مسؤولية تحقيق العدالة في سوريا، أو ربط مطالبهم\ن المحقة بتحقيق السلام من عدمه.
المراجع:
[1] منظمة الصحة العالمية، "العنف الممارس ضد المراة"، 29.11.2017، متاح على الرابط التالي: العنف الممارس ضد المرأة (who.int)
[2] اللجنة التوجيهية المعنية بنظام إدارة المعلومات المتعلقة بالعنف المبني على النوع الاجتماعي، الإصدار الأول 2017، متاح على الرابط التالي: Resource Centre (savethechildren.net)