يبدو أنّ العالم كان أجمل. هكذا يبدو الأمر في ذاكرتي. أتذكر شوارع القامشلي، حين كنتُ طفلًا أعيش مع عائلتي في تلك المدينة البعيدة. ما زالت تبدو لي بعيدة جدًا في الشمال، رغم أنّني الآن أعيشُ في الشمال الحقيقي، شمال كوكب الأرض.
تبدو القامشلي بعيدة. بعيدة عن كلّ شيء. في الجغرافيا بعيدة، وفي الذاكرة بعيدة. عشتُ في تلك المدينة ست سنوات، مذ كنتُ في الرابعة من عمر طفولة شقيّة وحتى صرت في العاشرة من بداية فتوةٍ شديدة. تعود بي ذاكرتي الأولى إلى القامشلي. أحسّ بأنّني أفكر في بيتي الأول كلّما فكرتُ بالقامشلي، وأزعمُ أنّ ذاكرتي تنقل بيتنا في دمشق الشام من موضعه، واضعة إياه في إحدى شوارع الحيّ الغربي في القامشلي.
حين أغوص في ذاكرتي البعيدة، أعرف أنّ تلك المدينة قد شكّلت أَوَّلِيّ؛ الصور الأولى التي رأيتها، خبراتي الأولى في الحياة، مهارات كرة القدم الأولى، العلاقات بين البشر وما شاءت الدنيا أن تريني إياه آنذاك… والأغاني.
حسنًا، أولئك كلّهم نالوا حظهم من الشهرة والمستمعين، لكن لم يحظ أحد بالشهرة التي حظي بها جوان حاجو، ابن بلدة تربسبيه في ريف القامشلي.
في القامشلي، وفي الجزيرة السوريّة عمومًا، خليط من الناس، عربٌ وكردٌ وآشوريون وشركس وكلدان وتركمان وأرمن، وهم مسلمون سنة وشيعة -وفيها أفراد من طوائف إسلاميّة أخرى- ومسيحيون بطوائفهم المختلفة ويهود وإيزيديون وملحدون، فيها عشائر وبدو ومدنيون، يكاد يكون فيها كلّ ما يحتويه الشرق الأوسط من فئات بشريّة مختلفة. يعيشون جنبًا إلى جنب منذ مئات (أو ربما آلاف) السنوات، بينهم ما بين كلّ الناس من مودة وحبّ وإخاء وحروب أهليّة ومشكلات. اللغات الأكثر شيوعًا هناك هي الكرديّة والعربيّة والسريانيّة، بلهجاتهم المختلفة.
هذا الخليط العجيب، الذي يعيش في بيئة فقيرة فيها كلّ أمراض الفقر وعلّاته، خلق تراثًا وثقافة في المدينة لا تشبه تلك التي في المناطق القريبة مثل الرقة ودير الزور ودياربكر والموصل، رغم أنّه تأثر تاريخيًا، وما زال يتأثر، بما يحدث في تلك المدن لكن ثقافة القامشلي تطورت بشكل مختلف، ووقوعها في منتصف المسافة تقريبًا بين تلك المدن وتكوينها الحديث (القامشلي مدينة حديثة بُنيت في القرن العشرين خلال فترة الاحتلال الفرنسي لسوريا) مقارنة بتلك المدن، جعلها تختلف بأشكال عدّة.
أعود في هذا النص إلى ذاكرتي، وأبحث في الأغنيات التي كانت (وما زالت) تُسمع في تلك المدينة البعيدة.
الأغنيات الكردّية
ملك المدينة هو محمد شيخو، لا ينازعه حتى اليوم على عرشه أحد، رغم أنّه قد فارق الحياة منذ أكثر من ثلاثين عامًا (1989). يقولون إنّ القامشلي لم تشهد تشييعًا مثل تلك الجنازة التي خرجت لمحمد شيخو، ربما قاربتها تلك التي خرجت في توديع لاعب نادي الجهاد هيثم كجو الذي قضى في حادث سير سنة 2002، لكن جنازة محمد شيخو، لم يحصل لها مثيل. يقولون إنّ الناس توافدت من أرجاء كوردستان المختلفة لتوديع بطلها الشعبي، من صدحت أغنياته في كلّ زوايا كوردستان.
ذلك النحيل الذي أتعب السلطات السوريّة والعراقيّة والإيرانيّة الشوفينيّة، ضلّ يغني ويُعلّم الموسيقى حتى يوم وفاته، وضلّ الناس يرددون أغنياته القوميّة والعاطفيّة حتى اليوم.
ما أحكيه هنا هو الأغنيات التي انتشرت بشكل محلي، فبالطبع كان الناس في القامشلي وما حولها يسمعون أغنيات فيروز وأم كلثوم وصباح فخري وعمرو دياب وكاظم الساهر وغيرهم من أصحاب الشهرة العابرة للحدود.
مغنٍ آخر نال من الشهرة نصيبًا وافرًا هو سعيد يوسف، والذي وافته المنيّة مؤخرًا. اشتهرت أغنيات سعيد يوسف بين أبناء جيله وامتدت إلى أجيال لاحقة. يُقال بأنّ محمد عبد الكريم، أمير البزق وأشهر من عزف على هذه الآلة، قد أهدى سعيد يوسف آلته الموسيقيّة قبل أن يرحل عن عالمنا وقد قال إنّ آلة البزق لن تموت طالما يعزف سعيد يوسف عليها.
آخرون حظوا باهتمام وشهرة في القامشلي وعلى سبيل المثال لا الحصر أذكر مطربي الكردي المُفضل رشيد صوفي، من يقولون بأنّه محمد عبد الوهاب الأكراد، لبراعته في العزف على آلة العود من ناحية ولغنائه القصائد الكرديّة الكلاسيكيّة الصعبة بأداء طربي من ناحية أخرى. ولا أنسى أشهر المغنين الأكراد شفان برور والذي اشتهر بأغنياته القوميّة، وهو من غنى له سميح شقير "لي صديق من كوردستان، اسمه شفان"، كما كانت لزوجة شفان السابقة كُلستان نصيب من الشهرة. كذلك حظي فقه تيران وآرام بمستمعيهم الخاصين.
من الجيل الشاب اشتهر بشكل كبير المغني شيدا وروجين وصفقان وزكريا عبد الله، وآخرون كثر لا يسعنا ذكرهم جميعًا.
حسنًا، أولئك كلّهم نالوا حظهم من الشهرة والمستمعين، لكن لم يحظ أحد بالشهرة التي حظي بها جوان حاجو، ابن بلدة تربسبيه في ريف القامشلي، واللاجئ في ألمانيا منذ سنوات طويلة جدًا والممنوع من الدخول إلى سوريا. ربما كان جوان حاجو هو أكثر مطرب محبوب في أرجاء كوردستان، يقال إنّ جمهوره وصل في إحدى حفلاته في كوردستان تركيا، في مدينة باطمان إلى مليون شخص. جوان حاجو، وهو من تتلمذ على يد محمد شيخو، قام بإحياء التراث الكردي وفي نفس الوقت قام بتحديث الموسيقى الكرديّة وإدخال آلات جديدة إليها مما خلق موسيقى جديدة كليًّا. قام جوان حاجو بصناعة عالم موسيقي جديد ومتكامل. ويكاد الأكراد، وأكراد سوريا بشكل خاص، أن يحفظوا جميع أغنياته عن ظهر قلب.
الأغنيات العربيّة
ما أحكيه هنا هو الأغنيات التي انتشرت بشكل محلي، فبالطبع كان الناس في القامشلي وما حولها يسمعون أغنيات فيروز وأم كلثوم وصباح فخري وعمرو دياب وكاظم الساهر وغيرهم من أصحاب الشهرة العابرة للحدود.
كان سكّان القامشلي كذلك يستعمون إلى أغنيات عربيّة تنتمي لبيئات عربيّة قريبة، كالموليّة الرقاويّة، والأغاني التي تنتشر بين العشائر العربيّة التي تسكن على ضفتي نهر الفرات وصولًا إلى العراق ومرورًا بدير الزور، وكذلك اشتهرت الأغنيات التي يرددها رعاة الأغنام وأغنيات يرددها الفلاحون والعاملون في الحقول المنتشرة في الجزيرة السوريّة.
لا يمكن مشاهدة إبراهيم كيفو يغني على المسرح دون أن تجتاح الجمهور موجة من الفرح، حتى يكاد يكون هذا الرجل سفير الجزيرة للفرح.
أذكر فيما أذكر وأنا أغوص في ذاكرتي البعيدة، أغنية انتشرت انتشار النار في الهشيم واسمها "وردة"، وحتى الآن لا يعرف معظم الناس من هو صاحب هذه الأغنيّة. تقول كلماتها التي كانت تُسمع في كلّ بيت وفي كلّ دكان وفي كلّ مسجّل موسيقي:
جتني وردة وش محلى هالجيّة
مكثرة الحمرة والغرّة مكويّة
مديت ايدي جريت الهِبريّة
گالت گطَّع زرار الگلابيّة
گِلت أحبج والحب مو خِطيّة
گالت حبني حُبّة رومنسيّة
كذلك انتشرت أغنية أخرى خلال العام ٢٠٠٢، بعد وفاة اللاعب هيثم كجو، الذي سبق ذكره في الأعلى. ترثي الأغنيّة، التي لم يخل بيت من القرص المدمج الذي يحتوي عليها، نجم فريق الجهاد، وكانت تقول في مطلعها:
أعزي نادي الجهاد
مدري أنا أعزي حالي
أعزي أهل الجزيرة
مدري أنا أعزي حالي
صورة هيثم كجو اليوم
ال مَعَد تفارگ خيالي.
الأغنيات المردلية
حسنًا، هذه أغنيات تُغنى باللغة العربيّة لكن ارتأيتُ أن أضعها في تصنيف منفصل بسبب تميّز هذه اللهجة والكلمات الخاصة التي تستخدمها، حيث يقول المرء "مو قُلتُولِك" في ترجمة جملة "ألم أقل لكَ؟" إلى لهجة الجزيرة المردليّة. وتعود لفظة "مردليّة" إلى مدينة ماردين، وهي محوّرة من "ماردينلي" أي المارديني، نسبة إلى المدينة القريبة. ينحدر كثيرون من أهالي القامشلي من، ما أصبح لاحقًا، جنوب تركيا، جاؤوا منذ عشرات أو مئات السنين حاملين معهم لهجتهم الحلوة. يمتد المتحدثون بهذه اللهجة في معظم مناطق القامشلي والحسكة وريفهما. حين كبرت عرفت أنّ هذه اللهجة قريبة من اللهجة الموصليّة، التي يتحدث بها سكان مدينة الموصل وما حولها في شمال العراق.
هذه لهجة مغيّبة في سوريا، لا أذكر أنّني سمعتُ مرة أغنية مردليّة على إذاعة سوريّة أو شاهدت مسلسلًا فيه شخصيّة تحكي بالمردليّة، رغم كونها لهجة حلوة ومحبّبة وقريبة من القلب.
في حياتي القصيرة رأيتُ آلاف الأشخاص يرقصون على أغنيات لا يعرفونها ولا يعرفون أصلها، رأيتُ آلاف الأشخاص يستمتعون بأغنيات تُغنى بأصوات لغاتٍ لم يسمعوا بها من قبل، رأيتُ آلاف الأشخاص يتجمعون ليستمعوا إلى موسيقى وغناء يأتيان من بلاد بعيدة لا يعرفون عنها شيئًا.
الآن بعد ما كبرتُ وأبتعدتُ عن البلاد صرتُ أحاول أن استعمل كلمات كنتُ أحكيها حين كنتُ طفلًا يركض في شوارع القامشلي، يحكي لغتين أصبحتا "لغة أم"؛ كرديّة بلهجتها الكورمانجيّة وعربيّة بلهجة مردليّة، فُقدت لاحقًا لصالح لهجة بيضاء اصطنعها أبناء دمشق المنحدرين من أصول غير دمشقيّة.
صوت عبود فؤاد كان يصدح من البيوت ومن المطاعم، وصوره منتشرة أمام محلات بيع الكاسيتات كواحد من أشهر من غنى بالمردليّة. كثيرون غيره غنوا الأغاني المردليّة حتى وصلت مؤخرًا إلى مطربين لبنانيين، غنوها بلهجة جديدة هي مزيج من لبنانيّة بيروتيّة ومردليّة غير مُتقنة.
مؤخرًا اشتهر، وخاصة في الدول الأوروبيّة إذ كثرت حفلاته هناك، إبراهيم كيفو، الذي أخذ على عاتقه إحياء تراث الجزيرة السوريّة، فيغني بالكرديّة والعربيّة (والمردليّة) والسريانيّة والأرمنيّة. لا يمكن مشاهدة إبراهيم كيفو يغني على المسرح دون أن تجتاح الجمهور موجة من الفرح، حتى يكاد يكون هذا الرجل سفير الجزيرة للفرح، فتراه يغني بصوته الجهوري القوي:
خَلّونا الليلة نغني خَلّونا الليلة نفرح
خَلّونا الليلة ت نقول للحزن ماله مطرح
إيدي وإيدكي مشتبكة قومي يلّا عالدبكة
بالصدق أنا حبكي والله أنا مو أمزح
خَلّونا الليلة نغني خَلّونا الليلة نفرح
خَلّونا الليلة ت نقول للحزن ماله مطرح
طيور محبة كِلْ صرنا بفرحتنا كِلْ كِبرنا
وبسما محبتنا تَ نطير بدنيت عشاق نسرح
خَلّونا الليلة نغني خَلّونا الليلة نفرح
خَلّونا الليلة ت نقول للحزن ماله مطرح
ما يشبه خاتمة النص
أسمى ما صنع البشر عبر تاريخهم هي الموسيقى. صوت الروح موسيقى. الموسيقى لغة تواصل عظيمة بين بشر من أعراق وألوان وثقافات مختلفة. الموسيقى توحّد ما تفرقه الحروب. في حياتي القصيرة رأيتُ آلاف الأشخاص يرقصون على أغنيات لا يعرفونها ولا يعرفون أصلها، رأيتُ آلاف الأشخاص يستمتعون بأغنيات تُغنى بأصوات لغاتٍ لم يسمعوا بها من قبل، رأيتُ آلاف الأشخاص يتجمعون ليستمعوا إلى موسيقى وغناء يأتيان من بلاد بعيدة لا يعرفون عنها شيئًا. ما أريد قوله، أو ما أحاول أن أقوله، إنّ في هذه المنطقة، وأقصد الجزيرة السوريّة، جمالٌ باهرٌ يظهر في أحد تجلياته بالأغنيات المختلفة التي تُظهر هذا التنوع الهائل لسكان هذه البقعة من الأرض، وإنّ هذا الجمال يستحق أكثر مما عاناه ويعانيه. يستحق هذا الجمال أن يظهر ويشع كجوهرة، ويستحق أصحاب هذا الجمال وأهله أن يعيشوا حياةً تليقُ بالحياة.