وراءَ طابورٍ طويلٍ من السوريين الواقفين أمام بوابة الأمن العام، وبرفقة عددٍ هائلٍ من الإخباراتِ والبلاغاتِ ومحاضر تحقيقٍ يَسوقنا إليّها عناصرٌ ببدلاتٍ مُموّهة، عادت إلى ذاكرتي أصواتُ رصاص الجبهة المفتوحة على تقدّم المليشيات الإيرانيّة وحزب الله اللبناني. بضعة شباب يجذبون البنادق إلى صدورهم ويغنون تحت هدير الطائرات، فيما يتصاعدُ دخانُ حطبٍ يُدفئ أضلعنا من برد حلبَ القارص، ليتبدّد فوق حيّ سليمان الحلبي كغيمة بيضاء صافية. تحاصرنا عناصر المخابرات الجويّة المتمترسين وراء أحواش البيوت القديمة من جهة وملثمي داعش المنتشرين قرب دوّار آخر الخط من جهةٍ أُخرى. أتّحسّس الكلاشن ذي الحديد الباهت، بوسع البندقية أن تكون حبيبةً أحيانًا. من لم يذق مرار الذلّ لا يعرف أنّ الموت أهونُ من ذلك المرار. حينها سيبدو هتاف (الشهادة أو النصر) الشيء الوحيد الحقيقي في هذه الحياة.
عالم من ورق
أحدّق في وجوهٍ منهكة تحمل خريطة المدن السوريّة، وأغرقُ في جبٍّ من الحزن، يجذبني إليه قلقٌ رهيبٌ من الترحيل. إنّه عالمٌ من ورق تتحوّل فيه الأشجار إلى رزمٍ، تُفهرَس فيها أسماء المطلوبين لأفرع المخابرات، ثم يَستحيلُ بياض الأوراق إلى بقع دمٍ تسيل عند جذور الأشجار الباسقة. تُقطّع الأشجار المعمرة لتتحوّل إلى ملفات سريّة يركض فيها المخبرون وعناصر المخابرات والشرطة السريّة لاصطياد الجوائز. يقول لي أحد الضباط: "يوجد في حقك "قرار". أحاول أن أعرف لكنني لا أجد إلى ذلك سبيلًا. أغلق عينيّ أمام غرفة التحقيق، فأسمعُ بكاء طفلٍ تحمله أمّه مهمومةَ الوجهة مكسورةَ الملامح.
بكى الطّفلُ بمرارةٍ من صقيع جبل الشيخ القارص. توسّل المهربُ أن تُسكت المرأةُ طفلها لنستطيع العبور نحو "شبعا". كان وجهُها غارقًا بالعتمة، وكنا نسمع همهمتها أحيانًا. كَتمت بكائها المرّ، وقالت بخجلٍ وقنوط: "مات أبوه وتركّلياه". التصقنا بالأرض خوفًا من حواجز الحزب المنتشرة في عتمة الوادي السحيق. سقط هنا مئات الجرحى والمصابين برصاص القناصة، تجمّد العشرات وهم يخوضون في غمار الثلج المتراكم. ضمّت المرأة الطفل إلى صدرها وابتهلت باكيةً أن يهديه الله إلى السكوت. ثم دعت على نفسها: "يارب تاخذني مثل ما أخذت أبوه وتريحني".
إنّه عالمٌ من ورق تتحوّل فيه الأشجار إلى رزمٍ، تُفهرس فيها أسماء المطلوبين لأفرع المخابرات، ثم يَستحيلُ بياض الأوراق إلى بقع دمٍ تسيل عند جذور الأشجار الباسقة.
تقول أم سعد: "أتدري؟ إنّ الأطفال ذلّ! لو لم يكن لدي هذان الطفلان للحقت به. لسكنت معه هناك. خيام؟ خيمة عن خيمة تفرق! لعشت معهم، طبخت لهم طعامهم، خدمتهم بعيني".
على لسان رجلٍ عجوزٍ في مخيم الرمثا الأردني للاجئين، سمعت كلمات غسان كنفاني في قصة (أم سعد). أطرق الرجل من فوق سيجارة الحمرا، ثم ألقى نظرةً مشمئزة نحو عشرات الشبان المستلقين على أسرتهم يمجون الدخان بسأمٍ. هربوا عند بدء المعركة وجلسوا في الخيام يراقبون الاشتباكات الدامية. ثم هتف بغضب:
شو بتسوّوا هون؟
لو جسمي بيحملني لرجعت قاتلت معهم.
ثم بصق بقرف:
طلعنا نهتف الموت ولا المذلّة،
هربنا من الموت وإجينا على المذلّة برجلينا.
من البيوت المدمّرة إلى الحدود ومن الحدود إلى السجون
تحت مستديرة العادلية في بيروت، سِيق المئات من السوريين إلى سجن (الجسر). يشبه معتقل الأمن العام هناك سجن المخابرات الجويّة أسفل ساحة التحرير، حيث بإمكانك سماع أصوات السيارات التي تمر طيلة الوقت بدبيبٍ مرعبٍ يؤدي إلى الجنون. في الجماعيّة رقم ١٢ أخبرني رجلٌ في الخمسين من عمره أنّه أُوقف في البقاع على حاجزٍ أمنيٍّ. فتشوا الواتس، واعتقلوه لحديث مع أهله في درعا عن الاغتيالات. أمضى الرجل شهرًا كاملًا تتقاذفه الأفرع الأمنيّة. ترك وراءه عائلةً مؤلفة من ٤ أولاد دون أن يعرفوا عنه شيئًا.
لا يُخيفنا الموتُ.. يُخيفُنا الذلُّ. وخوفًا من الذلِّ سار الآلاف نحو موتهم المحتوم.
في درعا تستميت مليشيات حزب الله للسيطرة على المنطقة. حرب الاغتيالات غير المعلنة يفتك بالقرى والبلدات التي رفضت تواجد الحزب والمليشيات الإيرانيّة وخاضت ضدّها حربًا داميةً طيلة عشر سنوات. يقوم عملاء الحزب باغتيال كلّ من له اتصال بالجيش الحرّ ورفض التسويات. من البيوت المدمّرة إلى الحدود ومن الحدود إلى السجون ومن السجون نخرج لنتسوّل شيئًا من الحياة الكريمة في أصقاع الأرض. كان الموتُ أقرب، وكنّا نُغنّي له في المظاهرات وعلى خطوط الجبهات. لا يُخيفنا الموتُ.. يُخيفُنا الذلُّ. وخوفًا من الذلِّ سار الآلاف نحو موتهم المحتوم.
الساعة الثانية عشر بعد منتصف الليل تدخل عناصر غير منضبطة من حركة أمل وحزب الله لتهاجم جسر الرينغ الفاصل بين بيروت الشرقيّة وبيروت الغربيّة. بدأت معركة الأيادي والحجارة في شارع مونو. وفيما كنّا نهرب في زواريب الأشرفيّة كُنت أحني رأسي، خوفًا من رصاص القناصة المحتمل. لم ينصبوا قناصاتهم بعد، لكنهم نصبوها على أسطح البيوت في درعا البلد في الأيام الأولى للمظاهرات. وبدمٍ باردٍ صوبوا نحو المتظاهرين، نحو أعينهم وأفواههم. لم نصدق حينها أنّهم تسللّوا ببدلاتهم السوداء بين البيوت. حملتهم المروحيّات من دمشق إلى الملعب البلدي ومن الملعب البلدي دخلوا المدينة بباصات ٢٤ راكب. لم نُصدّق حينها أنّ القنص يُسليهم، ولم يُصدّق أحدٌ أنهم تسلّوا بموتنا. ستمضي عَشرُ سنواتٍ ليعترف أمين عام الحزب في مقابلةٍ متلفزةٍ أنّهم كانوا في سوريا منذ اللحظة الأولى لاندلاع المظاهرات. أستطيع أن أسمع وأنا أركض الهتاف القادم من جهة الخندق الغميق.
شيعة شيعة شيعة
لم يكن هنالك مقدسات حينها في درعا البلد، ولم يكن هنالك حربٌ مقدسة.
تخرج رصاصة القناصة لتستقر في عين طفل صغير بين ذراعي والده. يصيح أبوه مذهولًا. يرفعه كقربان أمام مرمى الرصاص ويقول: قوصني قوصني. يصرخ للسماء... للمتظاهرين.. للعدالة .. للحريّة... لكنّ القناص لا يقتله.
يتركه للهستيريا.
ثورة ١٧ تشرين لبنان كسجن مؤقت
شكلت ثورة ١٧ تشرين تحوّلًا مختلفًا في مسار التعامل مع الملف السوري في لبنان، ففي حين كانت السلطات الأمنيّة تشدّد حملات قمع واعتقالاتٍ بتغطيّةٍ من حزب الله وبتنسيق مع المخابرات السوريّة (أمن الدولة تحديدًا) استطاعت الثورة أن تخلّخل الهيمنة الأمنيّة لحزب الله على لبنان وغيّرت أولوياته. غزا حزب الله القرى الحدوديّة السوريّة مقتلعًا الآلاف من قراهم. لجأ هؤلاء إلى قرى قاتليهم في الطرف اللبناني بعد أن ضاقت بهم السبل. تحوّلت حياتهم هناك إلى معتقلاتٍ مؤقتة.
أدرك الحزب أنّ الغالبية السنيّة التي هُجّرت من قراها لتغيير المنطقة ديمغرافيًا، إنّما الآن هي في عقر داره، فعمل بالتنسيق مع النظام وروسيا للضغط من أجل تسريع ملف عودة اللاجئين التي تحوّلت إلى عودة قسريّة لآلاف من العائلات المهددة بالاعتقال والقتل والتصفية. تكفلت الدولة ممثلةً بالتيار العوني بحملاتٍ عنصريّة للدفع إلى المزيد من الضغط من أجل تسريع ملف (العودة) تحت ذريعة انفجار الوضع الداخلي اللبناني بسبب اللجوء السوري.
انفجرت المرافئ في وجوهنا وسال الدم غزيرًا في الطرقات. أحرق الحزب المدينة دون معارك، دون أسلحة، دون قتال.
بالتزامنِ مع ذلك قام الأمن العام اللبناني بحجز آلافٍ من الأوراق الثبوتيّة وجوازات السفر لعائلات ونساء ورجال سوريين معارضين تحت ذرائع قانونيّة مختلفة. يُصدر بحقهم مذكرات إخضاع سريّة لإذلالهم وقهرهم. يخشى الحزب، الذي استشعر تحوّل مناطق واسعة في لبنان إلى ظهير خلفي للثورة السوريّة، استفادة الثورة اللبنانيّة من آلاف السوريين المعارضين في لبنان. ينسّق الحزب مع الأمن العام لتحويل لبنان إلى سجن مؤقت تمهيدًا للترحيل التطوعي في حال هُيئت الظروف السياسيّة في المنطقة.
راوحت الثورة اللبنانيّة في فراغٍ مجهولٍ أمام العنف المتزايد من السلطة، التي راهنت على والوقت والإنهاك الاقتصادي لبيئة الثورة، في بلد يعاني أساسًا أزمة اقتصاديّة حادة قادته إلى انهيارٍ كاملٍ. بدأ الجميع بطرح سؤال: ماذا الآن؟
أسفل نافذةِ غُرفتي المُطلّة على مرفأ بيروت، كُنت أسمع هدير سياراتٍ ثقيلة عند الفجر، تُثير الرُّعبَ في قلبي. كُنت أعتقد أنّ ذلك الهدير لسيارات تقوم بنقل الأسلحة سرًا الى سوريا. وفي كثير من الأحيان كنت أعتقد أنّني أتخيّل ذلك الصوت. ربما لم تكن شحنات من الأسلحة، ربما كانت نترات الأمونيوم التي خُزنت في المرفأ لتنقل إلى سوريا وتتحوّل إلى براميلَ متفجرة تُرمى على رؤوس السوريين. حوّلَ حزب الله حياتنا إلى جحيمٍ من السماء والأرض. انفجرت المرافئ في وجوهنا وسال الدم غزيرًا في الطرقات. أحرق الحزب المدينة دون معارك، دون أسلحة، دون قتال.
أزهار للقاتل
حمل السوريون في بداية الثورة ورودًا لقاتليهم على أمل أن يقتنعوا بأننا نُريد بناء وطنٍ ودولة، ثُم حمل اللبنانيون الورد لقاتليهم على أمل أن يُقنعوا الحزب أنّهم لا يريدون الدخول معه في حرب إلغاء.
لقد كنّا المقاومة منذ زمن طويل ويجب أن نعود لنكون نحن المقاومة.
في منزل (خ. أبو ج.) في حيّ مار مخايل، جلست مع مدير البنك السابق وصاحب البيت الذي أقمتُ فيه لفترات طويلة. توطدت علاقتي بالرجل خلال الأزمات المتواصلة التي عصفت بالبلد. رجفت يده وهو يمدّها نحوي في منزله المدمر. جلسنا في الصالون فوق الركام. دمعت عينا الرجل، حائرًا بضيافتي التي كان يشعرُ بسرورٍ في كلّ مرةٍ يُقدم لي فيها عصيرَ التوت المعصور من شجر كرمهم في الجبل. حبس نشيجه وهو يقول: لم يعد هنالك شيءٌ أقدمه لك.
الرجل الذي استطاع النجاة خلال الحرب الأهليّة قال لي: لم أنكسر في حياتي كهذه المرة. "دمروا لبنان مثلما دمروا سوريا". ثم استفاض بالشرح قائلًا: "لقد أرادوا أن يقيموا كيانًا يدفع أهل السنة للتحالف مع إسرائيل ضدّ إيران. أشغلوا الناس عن كلّ القضايا الحقيقيّة في المنطقة. إنّهم لا يريدون الحرب مع إسرائيل، إنّهم يريدون فقط تدميرنا. لو استطعت لحملت بندقية وقاتلتهم. لن يجدي حلٌ آخر مع هؤلاء سوى المقاومة. لقد كنّا المقاومة منذ زمن طويل ويجب أن نعود لنكون نحن المقاومة".