مواطن، معلّم، محب... صفات ثلاث، ربما تختصر بين حروفها وفي معانيها العميقة، شيئًا من تاريخ وحياة الراحل حسان عباس، هذا الإنسان الذي ننعيه اليوم بصيغة الموت والغياب، وهو الذي جعل أمسنا حافلًا بالحياة والعلم، وحاضرنا عمل وعمل ومقاومة، ومستقبلنا أمل قابل للتحقّق بقوة الإرادة والمثابرة.
ففي صفة المواطن التي ناضل طيلة حياته لصناعتها وترسيخها وتعليمها وتأصيلها في وعينا مفهومًا وممارسة، أملًا في يوم يصبح فيه أبناء الطوائف والأقليّات والأكثريّات والطبقات... مواطنين أحرارًا في وطن حرّ، دون أن يتخلوا عن ثقافاتهم المختلفة والمتنوعة، والتي كان حتى آخر لحظة من حياته يصرّ على الدفاع عنها. ففي تلك الصفة (مواطن) ومعانيها التي لا تقبل أيّ التباس، يكمن كلّ تاريخ حسان عباس في مقارعة العنف والتوحش والدكتاتوريّة التي جعلت منه مواطنًا منفيًا بلا وطن، مواطن منفي مع وقف التنفيذ.
أمّا صفة المعلّم التي طالما اعتز بها حسان عباس دون أن يغادر صفة الطالب الذي كلّما ازداد علمه عرف مقدار جهله (وهو موسوعيّ المعرفة) وتواضعه الذي طالما أسر محبيه وطلابه، وكان صاحب هذه السطور واحدًا منهم (سواءً في الورشات التي قام بها أو في الحياة التي لم يبخل فيها يومًا على طلابه بما حازه من معارفها وخبراتها). ففي تلك الصفة يكمن أجمل ما في حسان عباس، ذلك الإنسان الذي أعاد لصفة المعلّم معناها وقيمتها في وطن لم يعمل حكامه طوال عقود إلّا على تسفيه العلم وأصحابه. وكأنّ حسان عباس، في مثابرته على التعليم وشغفه به، كان يدرك أنّه إذ يصرّ على ممارسته تلك، يقوم بفعل مقاومة من نوع أخر، مقاومة هادئة ودائمة ومستمرة، تبني بدلًا من أن تهدم، تُراكم، وتراهن على الوعي في مواجهة الجهل، الذي أدركَ الراحل (آه ما أقسى هذه الكلمة يا حسان) أنّه ألدّ أعداء الإنسان وأنّه سلاح الدكتاتوريات التي طالما عملت على ترسيخه وتعميمه كي تسود، ولهذا أصر حسان على ممارسته حتى آخر لحظة من حياته: مواطنًا يعلّم ويتعلّم.
قلوب محبيك وطلابك ومواطنيك، تحملك بين طياتها، فنم في أوطانها، ريثما نبني لك وطنًا من عنبر وريحان، بما علمتنا إياه.
أما الصفة الثالثة، والتي يمكن للمرء أن يكتب صفحات طويلة عنها وفيها، والتي تكمن في أن كلّ ما كان يمارسه ويصدر عنه، إنّما يصدر عن صفة أصيلة لا تفارقه، ألا وهي صفة المُحب، فهو حين يعطي المعلومة يعطيها بحبّ وحين يمارس التعليم يمارسه بشغف العاشق، وحين يدير ورشة في المواطنة تصدر إشارات الحب والشغف عن كلّ كلمة أو حركة أو إشارة يقوم بها، وهذا ما جعل الكثير من الطلاب والأساتذة يبادلونه هذا الحب بحب وتبجيل كبيرين، وهو ما يمكن للمرء أن يتلّمسه في هذا الحزن العميم الذي عمّ وسائل التواصل الاجتماعي بعد رحيله، ومن الإجماع الكبير الذي حازه حول شخصه في حياته، إذ كان يكفي أن يذكر أحدنا اسمه في أيّ حديث أو لقاء حتى يلقى الإجماع ونظرات الاستحسان والحب، وهذا أمر نادر جدًا في حياتنا السوريّة التي ملأتها في السنوات الأخيرة الفرقة والنميمة والانقسام والشتيمة التي طالما أدار الراحل ظهره لها، مؤمنًا أن العمل وحده ما يحقق البناء الذي طالما سعى له، وهو العمل الذي أجهد نفسه به كثيرًا ( في أحد المرات قلت له متى نراك في المرة القادمة، فتح مذكرته وقال لي أقرب موعد فارغ عندي في شباط أيّ بعد ثلاثة أشهر)، إلى أن سُرق منّا، علّه يجد هناك في الأعالي حيث هو ذاهب راحة ما، ربما ليتابع دروسه في المواطنة لسكان ممالك السماء بعد أن ضاقت به ممالك الأرض التي شردتّه في المنافي بعيدًا عن وطن طالما أحبّه وأراد أن يرى مُثله وأحلامه في المواطنة مجسّدة فيه، فكان أن منحه لقب: مواطن بلا وطن.
لكن قلوب محبيك وطلابك ومواطنيك، تحملك بين طياتها، فنم في أوطانها، ريثما نبني لك وطنًا من عنبر وريحان، بما علمتنا إياه.
وداعا أيها المعلّم.