ها قد مضت عشرة أعوامٍ على بداية الثورة السورية. فما الذي حدث، فعلًا، خلال تلك السنوات؟ وكيف، ولماذا، حدث؟ وما هي نتائجه وآفاقه المستقبليّة؟ وكيف تمّ سرد أحداث الثورة السوريّة وحكاياتها؟ وما هي السرديّات التي ظهرت، للإجابة عن مثل هذه الأسئلة، وعمّا يماثلها أو يتصل بها؟ وهل يمكن المقارنة بين تلك السرديّات، لاستخلاص "سرديّةٍ موضوعيّةٍ واحدةٍ"، واستبعاد "السرديّات غير الموضوعيّة"؟ أم إنّ من طبيعة السرديّات أن تكون متخيَّلةً، بحيث يمتزج فيها الواقع بالخيال، والموضوعيّ بالذاتيّ، وما هو كائنٌ بما يجب أن يكون؟ وما أهميّة وجود هذه السرديّة أو تلك؟ وإلى أيّ حدٍّ تلعب مضامين تلك السرديات دورًا مهمًّا، لا في التأريخ الشفوي أو المكتوب للماضي، وفهمه، فحسب، بل في العلاقة مع الحاضر، وفي تحديد آفاق المستقبل، أيضًا؟
سرديةٌ واحدةٌ أم سردياتٌ متعددةٌ؟
من المؤكَّد أنّ سرديّات الثورة السوريّة مختلفةٌ إلى حد التناقض أحيانًا. فهناك سرديّة "الثورة مستمرةٌ"، مقابل سرديّة "الثورة لم تحدث أصلًا". وبين هاتين السرديتين، نجد سرديّات حصول الثورة لأيامٍ أو أسابيعٍ أو أشهرٍ، أو لبضع سنواتٍ فقط. وهناك سرديّة "ما حصل مجرَّد مؤامرةٍ من الخارج (الإمبرياليّة والصهيونيّة والرجعيّة)"، مقابل سرديّة "ثورة شعبٍ ضدّ الاستبداد، من أجل الحريّة والكرامة والعدالة". وهناك سرديّة "أغلبيّةٌ إسلاميّةٌ/ سنيّةٌ ضدّ الحكم العلوي من أجل تأسيس دولةٍ إسلاميّةٍ"، مقابل سرديّة "أغلبيةٌ سوريّةٌ مقموعةٌ من أجل المواطنة والديمقراطيّة". وهناك سرديّاتٌ على أساس النسب الإثنيّ أو الدينيّ أو الطائفيّ أو المناطقيّ، وهناك سرديّاتٌ على أساس الانتساب الوطني إلى سوريا عمومًا، وهناك سرديّاتٌ من منظورٍ سياسيٍّ واقتصاديٍّ عالميٍّ.
سيكون هذا الملف، الذي يحمل عنوان "في سرديّات الثورة السوريّة"، محاولةً للتفكير في (بعضٍ من) هذه السرديّات، وللإجابة عن (بعض) الأسئلة المطروحة آنفًا، من منظوراتٍ متعددةٍ. وسيتضمن كلّ نصٍّ من نصوص هذا الملف عرْضًا لسرديّةٍ أو أكثر من سرديّات الثورة السوريّة، و/ أو تناولًا بالتحليل والنقد لسرديّةٍ أو أكثر من السرديّات الأخرى، وما يتصل بها من أفكارٍ ومفاهيم، في هذا السياق.
في السرد التأريخي (للثورة السوريّة)
يمكن للسرد أن يكون خياليًّا (سرد الروايات والقصص وبقية الأعمال الأدبيَّة) أو تأريخيًّا (سرد علم التاريخ). ويهتم الملف، تحديدًا، بهذا السرد الأخير (للثورة السوريّة). والمقوِّم الأساسي للسرد، كما بيَّن "بول ريكور Paul Ricœur"، هو الحبك، بالمعنى الأرسطي للكلمة، والمتمثل في "ترتيب الأحداث في نسقٍ"(1) فالسرد يحاول إنتاج كليةٍ متسقةٍ من أحداثٍ وأفعالٍ وصدفٍ ووسائل وأهدافٍ وقيمٍ وأفكارٍ تبدو متنافرةً. ولا نعني بالسرديّة هنّا مجرد حكايةٍ أو قصةٍ؛ بل نعني ما هو قريبٌ، جزئيًّا ونسبيًّا، من "السرديّات الكبرى" التي تحدث "جان فرانسوا ليوتار Jean-François Lyotard" عنها، أو عن غيابها في "وضع ما بعد الحداثة"(2). والسرديّة الكبرى رؤيةٌ وصفيّةٌ وتقويميّةٌ عامةٌ، ليس لظاهرةٍ أو حدثٍ ما فحسب، بل وللتاريخ ومعناه وقيمته وفلسفته عمومًا أيضًا. وفي السرديّة الكبرى، قد يختلط أو يتكامل الذاتيّ بالموضوعيّ، والأيديولوجيّ بالمعرفيّ، والأدبيّ بالتأريخي، بطريقةٍ قد تقمع سردياتٍ صغرى كثيرةً، لكنها قد تعطي معنىً لسردياتٍ صغرى كثيرةٍ أيضًا. وحتى الآن، لم يُكتب النجاح لأي سرديةٍ أن تصبح السردية الكبرى. وتتضمن نصوص الملف تصنيفاتٍ رئيسةً مختلفةً، وفقًا لمعايير متنوعةٍ، لأبرز وأهم سرديات الثورة السورية. ومن أبرز النصوص، التي تتناول هذه التصنيفات، في الملف، نذكر نص "مقاربة أوليّة لسردياتنا حول الانفجار السوري"، ﻟـ"حازم نهار"، ونص "سرديّات الثورة السورية"، ﻟـ"معتز الخطيب". كما يتضمن الملف نصًّا ﻟـ"ناهد بدر"– "ماذا حصل منذ عشر سنوات في سورية؟ تعدديّة الأجوبة وفرجة الممكن" – يشدِّد على تعدّد الإجابات عن سؤال "ماذا حصل في سورية منذ عشر سنواتٍ؟".
وما أهميّة وجود هذه السرديّة أو تلك؟ وإلى أيّ حدٍّ تلعب مضامين تلك السرديات دورًا مهمًّا، لا في التأريخ الشفوي أو المكتوب للماضي، وفهمه، فحسب، بل في العلاقة مع الحاضر، وفي تحديد آفاق المستقبل، أيضًا؟
من "السرديات الصغرى" إلى "السرديات الكبرى"
"في البداية"، بدا الربيع العربي وكأنه مجموعةٌ من القصص والأحداث والسرديات الصغرى التي يصعب إقامة علاقةٍ سببيةٍ (خطيةٍ) فيما بينها. فحينئذٍ، لم يكن هناك سرديةٌ كبرى تربط، على سبيل المثال، بين الصفعة التي تلقاها، على الملأ، التونسي "طارق الطيب محمد البوعزيزي" من الشرطية، والصفعة التي وجهها شرطي مرورٍ سوريٍّ، لأحد الشباب في منطقة الحريقة في دمشق. ولم يكن هناك ما يوحي باستثنائية هاتين الصفعتين، وبتحولهما اللاحق إلى جزءٍ أساسيٍّ أو مؤسِّسٍ لسرديةٍ أو لسردياتٍ كبرى. وبدا الحراك الاحتجاجي في "دول الربيع العربي" أشبه بثوراتٍ كبرى، لكن بسردياتٍ صغرى لا كبرى؛ فهي ثورات رفضٍ لما هو كائنٌ، أكثر من كونها ثوراتٍ تحدد (بوضوحٍ) البديل الأيديولوجي الذي يجب أن يكون. لم تكن ثوراتٍ أيديولوجيةً بالمعنى التقليدي والسائد للأيديولوجيا؛ فلم تكن، أو لم يكن يُنظَر إليها، "في البداية"، على أنها ثورة أحزابٍ أو متحزبين، أو يساريين أو يمينيين، أو علمانيين أو إسلاميين، أو ملحدين أو مؤمنين، أو مدينيين أو ريفيين ...إلخ.
هيمنة السرديات الصغرى بدت واضحةً، في البداية، حتى في نطاق كل دولةٍ على حدةٍ. وذلك كان واضحًا في الأسابيع الأولى من الثورة السورية، على الأقل. ففي تلك الأسابيع، لم يكن هناك تنسيقٌ أو تكاملٌ وترابطٌ عضويٌّ بين التحركات والاحتجاجات الشعبية في المناطق السورية المختلفة، أو بين مطالب المحتجين في المناطق السورية المختلفة. لكن سرعان ما بدأت الأطراف المختلفة، ذات الصلة المباشرة أو غير المباشرة بالربيع العربي، بتطوير سردياتٍ كبرى تتصارع جنبًا إلى جنبٍ، مع صراع تلك الأطراف على الأرض. ومنذ ذلك الحين، والصراع على أشدّه بين السرديات المختلفة الخاصة بالربيع العربي عمومًا، أو الخاصة بكل دولةٍ من دوله تحديدًا. ولأسباب كثيرةٍ، لم يفضِ الصراع المذكور بين السرديات، حتى الآن، إلى الاستقرار على سرديةٍ كبرى مهيمنةٍ، فالصراع في الواقع ما زال قائمًا، والآفاق مفتوحةٌ، على الرغم من كل محاولات إغلاقها، وجعلها أحادية الأبعاد.
الثورة بوصفها حدثًا (تاريخيًّا)
الحديث عن الآفاق المفتوحة لا ينفي أن الثورة السورية، بوصفها فعلًا لفاعلين سياسيين سوريين، قد "انتهت فعلًا". لكن الثورة السورية لم تكن، وليست، مجرد فعلٍ، ليتم تناولها على هذا الأساس، ووفقًا لغايات الفعل ونتائجه المباشرة فحسب؛ بل كانت وما زالت حدثًا تاريخيًّا لا ينتهي إلا بانتهاء نتائجه وعقابيله وتداعياته. ويبدو واضحًا أن تلك النتائج والعقابيل والتداعيات لم تنتهِ حتى الآن؛ ومن المرجَّح ألا تنتهي قريبًا. ويمكن للسرديات عمومًا، ولسرديات السوريين خصوصًا، أن تتناول الثورة السورية من منظور نظرية الفعل، بوصفها فعلًا قد انتهى، أو من منظور نظرية التاريخ، بوصفها حدثًا مستمر النتائج والعقابيل والتداعيات. وفي الملف نصان، على الأقل، يشدّد مضمون، بل وعنوان، كلٍّ منهما، على السمة الحدثية للثورة السورية: نص "الثورة السورية بوصفها حدثًا"، ﻟـ"أحمد اليوسف"، ونص "الحدث السوري بوصفه ثورة سياسية"، ﻟـ"لحسن أوزين".
لم تكن ثوراتٍ أيديولوجيةً بالمعنى التقليدي والسائد للأيديولوجيا؛ فلم تكن، أو لم يكن يُنظَر إليها، "في البداية"، على أنها ثورة أحزابٍ أو متحزبين، أو يساريين أو يمينيين، أو علمانيين أو إسلاميين، أو ملحدين أو مؤمنين، أو مدينيين أو ريفيين ...إلخ.
في التشابك الدائم بين الوصفي والمعياري في سرديّات الثورة السوريّة
ثمة تشابكٌ دائمٌ بين البعدين الوصفي والمعياري، في سرديات الثورة السوريّة، سواءٌ تم تناول تلك الثورة، في تلك السرديات، بوصفها حدثًا أو فعلًا. فبالإضافة إلى حضور البعد المعياري الواضح في مقاربات الفاعلين السياسيين المختلفين، يكون ذلك التشابك بين البعدين الوصفي والمعياري حاضرًا في المقاربات المسماة تحليليةً، بغض النظر عن محاولتها البقاء في إطار الوصف والتحليل، والابتعاد عن التقويم والأحكام المعيارية. ولا يقتصر البعد المعياري على الحكم بأن "الثورة قد فشلت أو أُفشِلت" أو بأنها طائفيةٌ أو غير طائفيةٍ... إلخ فقط، بل يمتد ليشمل استخدام هذا المفهوم أو المصطلح أو ذاك. فعلى سبيل المثال، الحديث عن الحدث السوري بوصفه، أو باستخدام مصطلح/ مفهوم، "ثورة" يتضمن أحكامًا معياريةً (ووصفيةً) مختلفةً كثيرًا عن الأحكام المعيارية (والوصفية) المتضمنة في مفهوم "الحرب الأهلية.(3) ويتناول "وسام سعادة" هذين المفهومين في أحد نصوص الملف الموسوم ﺑـ "جدلية الثورة والحرب الأهلية وإشكالية الكيان الوطني نفسه في سوريا" الذي يتضمن مراجعةً نقديةً مكثفةً لكتاب نيقولاوس فان دام "تدمير أمة. الحرب الأهلية في سوريا".(4) لكن، بعيدًا عن الأحكام المعيارية الأحادية و"المتطرفة" التي تقتصر على الحديث عن نقاء الثورة وعظمتها، أو عن كونها مجرد مؤامرة أو "فورة" وما شابه، هناك إقرارٌ متزايدٌ ﺑ "التباس الثورة السوريّة"، وهذا هو عنوان أحد نصوص الملف، وهو ﻟـ"موريس عايق".
الإقرار بهذا الالتباس يتضمن ويقتضي تجنب ورفض كلّ نظرةٍ معياريّةٍ أحاديّةٍ تعمل على ملأكة أو شيطنة هذه الثورة أو الثائرين أو المنتمين لها، انتماءً مباشرًا أو غير مباشرٍ. لكن الإقرار بهذا الالتباس، والتأسيس له، والتأسُّس عليه، معرفيًّا وأيديويوجيًّا، لا يعني، في هذا السياق، اتسام المواقف والتقويمات بالسمة الرماديّة "سيئة الصيت"، أو محاولة تجنب تبني مثل تلك المواقف والتقويمات، من حيث المبدأ، أو من منظور أن "الطرفين سيئان" أو "كل الأطراف أسوأ من بعضها". فالرمادية هنا هي رمادية الموقف، وليست رمادية اللا-موقف، أو رمادية التهرب من الموقف؛ والرمادية المعنية هنا، والمتصلة بالإقرار بالتباس الثورة السورية، تقرِّ أيضًا باستحالة الإقصاء الكامل للبعد المعياري للمعرفة المتعلقة بالظواهر والأحداث الاجتماعية عمومًا، ولتلك المتصلة بحدثٍ مثل "الثورة السورية" خصوصًا. هذه الرمادية هي تعبيرٌ معرفيٌّ عن التعقيدات الكبيرة المتصلة بما حصل ويحصل في سوريا منذ عشرة أعوامٍ. فما حصل ليس مجرد ثورةٍ فقط، أو حربٍ أهليةٍ فقط، أو حروبٍ بالوكالة فقط،... إلخ، بل هو كل ذلك وغيره أيضًا؛ ولا ينبغي اختزاله في أي بعدٍ أو جانبٍ أحاديٍّ، وصفيٍّ- تقويميٍّ. وعلى العكس من السائد والمظنون للوهلة الأولى، يمكن للنظرة الرمادية المقرَّة بالتباس الثورة السورية أن تقدم رؤيةً أو سرديةً أكثر وضوحًا وموضوعيةً من أي نظرةٍ أو سرديةٍ أحاديةٍ اختزاليةٍ؛ بعيدًا عن الانزلاق إلى لا-مبالاة معرفية وتقويمية لا تميِّز، أو لا تظهر التمايز والتراتب القائمين، بين أبعاد الظاهرة المدروسة، وبين العوامل السببية المؤثرة فيها، وبين القيم المرتبطة بها، من منظورٍ قيميٍّ عامٍّ، و/ أو من منظور الفاعلين السياسيين ... إلخ.
بين المعرفة والإيديولوجيا، بين الموضوعيّة والذاتيّة
انطلاقًا من هذا التشابك بين البعدين الوصفي والمعياري، أو من محايثة المعياري لما هو وصفيٌّ، في سرديات الثورة السورية، يمكن تناول مسألة العلاقة بين الأيديولوجي والمعرفي، وبين الذاتي والموضوعي، وبين الانحياز الذاتي والحيادية الموضوعية، في السرد التأريخي عمومًا، وفي السرديات المتعلقة بالثورة السورية خصوصًا. وثمة مشروعيةٌ مبدئيةٌ للاشتباه أو الشك في موضوعية سردية أي ذاتٍ مرتبطةٍ ارتباطًا أيديولوجيًّا ما بالثورة، ومنحازةٍ إليها، لدرجةٍ أو لأخرى. فليس نادرًا أن تكون الذاتية والأيديولوجيا حجر عثرةٍ أمام الموضوعية المعرفية. لكن ذلك التنافر أو التناقض ممكنٌ أو جائزٌ فقط، وليس ضروريًّا على الإطلاق؛ بل يمكن القول بأنه، في مثل هذه السياقات خصوصًا، وفي المعرفة الإنسانية (للظواهر الاجتماعية/ السياسية) عمومًا، لا معرفة بدون أيديولوجيا، ولا معرفة موضوعية بدون ذاتيةٍ وانحيازٍ ما. فالذاتية والانحياز هما طريق الموضوعية (أيضًا)، وليسا نقيضًا ممكنًا لها (فقط). وكذلك هي الحال مع الحيادية التي قد تكون مضادةً للموضوعية في بعض الحالات، وشرطًا ضروريًّا لها في حالاتٍ أخرى. فالحياد المعياري بين القاتل والقتيل، أو بين المجرم والضحية، أو بين الظالم والمظلوم، واعتبارهما مجرد طرفين، يمكن أن يؤثِّر تأثيرًا سلبيًّا في موضوعية أي معرفةٍ تتبنى مثل ذلك الحياد المزعوم الذي لا يعدو أن يكون سوى انحيازًا مقصودًا، على الأرجح، لطرفٍ على حساب طرفٍ آخر.
ينبغي للحديث السابق عن موضوعية المعرفة أو السردية التأريخية ألا يفضي إلى الاعتقاد بإمكانية الوصول إلى السردية الكاملة، أي السردية الكبرى التي تتضمن كل السرديات الصغرى، وتتجاوزها، لتكون سرديةً شاملةً وكاملةً. وهذه السردية ليست غير ممكنةٍ فحسب، بل غير ضروريةٍ، وسلبيةً بالضرورة، لأنها ستكون أقرب إلى السردية الكبرى بالمعنى الليوتاري للكلمة: سرديةٌ أحاديةٌ و"أَحَدَة" تعبِّر عن نزعةٍ وحدانيةٍ ترفض أي إشراك بها، وتعادي كلَّ تعدديةٍ، وتقصي كل مختلفٍ معها، و"تكفِّره" وتزدريه وتنكر وجوده أو وجود أي مشروعيةٍ له. ومن هنا تأتي إحدى ضرورات التخلي عن "حلم السردية الكبرى"، بوصفها "سردية كل السرديات".
يبدو واضحًا وجود ضرورةٍ متزايدة القوة لامتلاك الوعي بأن سرديات الثورة السورية أصبحت تستحضر الماضي أكثر من كونها مجرد تدوينٍ لما هو حاضرٌ.
صحيح أنّ محايثة أو ملازمة الانحياز والذاتية والأيديولوجيا لكل معرفةٍ وسرديةٍ لا يعني بالضرورة لا-موضوعية تلك المعرفة والسردية، لكن المحايثة أو الملازمة المذكورة تبيِّن بوضوحٍ منظورية تلك المعرفة. ونعني بالمنظورية أن السردية والمعرفة عمومًا هي حصيلة تفاعلٍّ مميزٍ بين ذاتٍ وموضوعٍ، ويمكن لذلك التفاعل أن يختلف باختلاف (أحد) الجانبين: الجانب الذاتي المتفاعِل و/ أو الجانب الموضوعي المتفاعَل معه. ويمكن وينبغي لكل معرفةٍ (سرديةٍ)، أو لكل سرديةٍ تأريخيةٍ، أن تحاول، قدر المستطاع، الجمع بين أكبر عددٍ ممكنٍ من المنظورات المختلفة، لكن ينبغي أن تتم تلك المحاولة على أساس إقرارٍ مسبقٍ بأن الجدل بين المنظورات المختلفة والمتناقضة لا يمكن أن يصل إلى ذلك التركيب الهيغلي والمعرفة المطلقة المرتبطة به، وأن ذلك التركيب هو أقرب إلى أن يكون أُفُقًا موجِّهًا يجهد الباحث للاقتراب منه، مع علمه باستحالة الوصول إليه والتطابق معه.
سرديات الثورة السورية بوصفها تأريخًا لماضٍ ولحاضرٍ
يتكثف الحديث عن منظورية المعرفة وذاتيتها، في سرديات الثورة السورية، عند الحديث عند كونها سرديةً لحدثٍ لم تنتهِ مفاعيله وعقابيله بعد، وفي ظل معاناةٍ تخفُّ حينًا، لكنها تشتد أحيانًا أو أحايين أخرى. وفي تأريخ الحاضر، تزداد المخاوف والشكوك المشروعة وغير المشروعة من منظورية المعرفة وذاتيتها، أو بالأحرى من ذاتويتها. لكن سرديات الثورة السورية ليست تأريخًا لحاضرٍ فقط؛ فقد أصبح ضروريًّا الانتباه، بعد مضي عشر سنين على انطلاق الثورة السورية، إلى أن ما يراه كثيرون حاضرًا هو ماضٍ قد مضى، أو قد أصبح ماضيًا بالنسبة إلى كثيرين؛ وأنّ أعدادًا كبيرةً من السوريات والسوريين كانوا أطفالًا أو مراهقين، حين انطلقت الثورة السورية، وهم، بالتالي، لا يعرفون الكثير عن ماهية "سورية الأسد"، وعمّا حصل قبل الثورة و/ أو أثناءها. ويمكن القول إن عددًا غير قليلٍ من السوريين الذين كانوا راشدين وناضجين، حين قامت الثورة السورية، لم يكن لديهم أي معرفةٍ (كافيةٍ) بوضع البلد وأحواله، وبطبيعة النظام السياسي/ الأمني فيه. ولم يكن نادرًا أن يبرّر السوريون "ابتعادهم عن السياسة" وجهلهم بالأوضاع السياسية لبلدهم بحجة أن السياسة ليست من اهتماماتهم أو ليست من أولوياتهم. ويبدو ذلك الأمر واضحًا في كلام السيدة "لونا وطفة" – "الناشطة السياسية والإعلامية" والمعتقلة السياسية السابقة لدى النظام الأسدي – المنشور مؤخرًا. "فحتى بداية المظاهرات الأولى ضد نظام بشار الأسد في آذار/ مارس 2011، لم تكن السياسة من أولويات لونا، و"لم يكن لديها أية فكرةٍ عما يمكن أن تفعله"، بحسب قولها. الأحداث جعلتها تقبل على القراءة حول تاريخ سوريا السياسي، كما قرأت الكثير عن جرائم عائلة الأسد في سوريا وهو ما جعلها تفهم لماذا نزل الناس إلى الشارع للاحتجاج".(5)
انطلاقًا مما سبق، يبدو واضحًا وجود ضرورةٍ متزايدة القوة لامتلاك الوعي بأن سرديات الثورة السورية أصبحت تستحضر الماضي أكثر من كونها مجرد تدوينٍ لما هو حاضرٌ، وبأنها، مثل أي عمليةٍ تأريخيةٍ، تؤثر في هذا الماضي بقدر تأثرها به، وربما أكثر. ويكمن تأثيرها في ذلك الماضي من خلال صياغة بعض أجزائه في حبكةٍ تخلق الانسجام بين تلك الأجزاء المختارة منه، وفق سلمٍّ أو تراتبٍ ما من المعايير والأولويات المعرفية- القيمية الذي يفضي إلى إبراز بعض الأجزاء، أو القول بأساسيتها وأهميتها (الكبيرة)، وتهميش أجزاء أخرى، أو القول بثانويتها، والتقليل من أهميتها. وليس نادرًا أن يدفعنا النظر إلى الماضي/ التاريخ إلى الوقوع في فخ الحتميات، من خلال الاعتقاد بحتمية كل ما حصل فيه. ويتناول "محمود هدهود" تلك النظرة بالنقد في أحد نصوص الملف، وهو نصٌّ موسومٌ ﺑـ"الوطنية "الممكنة": هل كانت هزيمة الثورة السورية محتومة؟".
"حرب الوثائق والتوثيق" والصراع أو الاختلاف بين سرديات الثورة السورية
"حرب الوثائق والتوثيق" بين الأطراف المختلفة، السورية وغير السورية، قائمة منذ انطلاق الثورة السورية التي يمكن القول بأنها ثورةٌ موثَّقةٌ بقدر ما هي ثورةٌ في التوثيق. فقد كان السوريون الثائرون حريصين جدًّا على أن يوثِّقوا ثورتهم بطريقةٍ تفضح وحشية النظام، وتكشف، في الوقت نفسه، ماهيّة الثورة عليه، وضرورة تلك الثورة. وفي نهاية العام الماضي، اختارت مجلة "التايم" الضابط المنشق "قيصر"، والمخرجة "وعد الخطيب"، ليكونا ضمن قائمتها لأكثر 100 شخصيةٍ مؤثرةٍ لعام 2020. "وكان سبب تضمين "قيصر" والخطيب في هذه القائمة هو لتوثيقهما ما يجري في سوريا من انتهاك لحقوق الإنسان في مراكز الاعتقال التابعة للنظام السوري، سواء كان هذا التوثيق في صور أو من خلال لقطات لمشاهد من مدينة حلب شمالي سوريا".(6) وقد صرّح "ستيفن راب Stephen Rapp"، رئيس اللجنة الدولية للعدالة والمسائلة الدولية، أن لدى لجنته أكثر من 900 ألف وثيقةٍ حكوميةٍ توثِّق جرائم النظام الأسدي وتُظهر مسؤولية كبار المسؤولين فيه عمومًا، بما في ذلك رأس ذلك النظام.(7) وأشار برنامج "60 دقيقة Minutes 60" إلى وجود أدلةٍ على جرائم حرب ضد الرئيس السوري بشار الأسد، أكثر مما كانت موجودةً ضد النازيين.(8)
الصراع بين السرديات هو، جزئيًّا ونسبيًّا، جزءٌ من حرب الوثائق والتوثيقات؛ ولعل تضمين هذه الوثائق في سردٍ هو الجزء الأهم من تلك الحرب. ويعي كل من يتناول سرديات الثورة السورية بأن كل سرديةٍ تهجس في السرديات الأخرى المتعارضة معها، وتدخل في حوارٍ أو صراعٍ صريحٍ أو مضمرٍ معها. وتكون السرديات الأخرى، القائمة أو الممكنة، أشبه بالشبح الذي يخيّم فوق كل سرديةٍ؛ وهو شبحٌ لا يمكن التخلص من وجوده بسهولةٍ، لأسباب كثيرةٍ، تبدأ من كون الشبح يقع في منزلةٍ وسطى بين منزلتي الوجود والعدم/ اللاوجود، ولا تنتهي بوجود قوىً عديدةٍ تسعى إلى فرض سرديةٍ أو سردياتٍ (زائفةٍ) على حساب سرديةٍ أو سردياتٍ أخرى. وهذا الصراع هو صراعٌ على معنى الثورة السورية وقيمتها، وهو جزءٌ من الصراع بين أطراف الثورة السورية، أو تتمةٌ واستمرارٌ له، لكن بوسائل أخرى.
ولا يتَّخذ الاختلاف المعرفي والأيديولوجي بين سرديات الثورة السورية، دائمًا، تلك الصيغة الصراعية العدائية – التي تظهر مثلًا في الاختلاف بين السرديات التي تختزل ما حصل في سورية في مؤامرةٍ كونيةٍ، والسرديات التي تختزله في ثورة أخيارٍ على أشرارٍ – بل يمكن لذلك الاختلاف أن يظهر بين رؤىً معرفيةٍ متباينةٍ يسعى أصحابها، بحقٍّ، إلى تقديم سرديةٍ موضوعيةٍ للثورة السورية و/ أو "نقدٍ بناءٍ" لبعض السرديات المهمة أو الرائجة. ويتضمن هذا الملف نصوصًا وسردياتٍ تعكس قدرًا (كبيرًا) من ذلك الاختلاف ومن تلك الرؤى المتباينة. ويمكن القول إن الرؤى والسرديات التي يتبناها كتاب هذا الملف تسعى كلُّها إلى ما هو حقٌّ، أي إلى الحقيقة والخير، بدون أن يفضي ذلك إلى التقليل من حجم الاختلافات القائمة بينها. فالسعي إلى الحق لا يفضي بالضرورة إلى بلوغه، والحقُّ، كما هو حال الوجود/ الموجود – عند أرسطو – يُقال بطرقٍ مختلفة. وهذه الطرق هي التي أطلقنا عليها آنفًا اسم "المنظورات".