"الثورة المستحيلة وقعت فعلًا!"
ياسين حاج صالح
بحلول منتصف آذار 2011، كانت انتفاضة سلمية تدق أبواب دمشق كما غيرها من العواصم العربية عقب انتصار الانتفاضتين التونسية والمصرية، قبل أن تتبدى حيوية تلك الانتفاضة باقتراب نيسان التالي من نهايته. في حزيران، بدأت الانتفاضة تفرز تنظيماتها، وعلى رأسها لجان التنسيق المحلية التي برز على رأسها نشطاء يساريون، كعمر الإدلبي ورزان زيتونة، إلى جانب اتحاد تنسيقيات الثورة الذي أخذ طابعًا شعبيًّا ذا صبغة إسلامية. ورغم الإعلان عن تشكيل الجيش السوري الحر في 29 تموز، بقيت الاحتجاجات السلمية هي النمط المهيمن على الثورة، ولم تتخذ الثورة شكل الانتفاضة المسلحة حتى كانون الثاني 2012، عندما بدأ نمط الكفاح المسلح يغلب على الثورة بعد تدخل جبهة النصرة في سوريا، وحدوث واقعة الزبداني حين نجح مسلحون في منع قوات النظام من دخول المدينة إلا بعد التوصل إلى اتفاق، مقدمين بذلك نموذجا للإنجاز الذي قد يفلح السلاح في تحقيقه. بعد انهيار اتفاق إطلاق النار الذي أبرمه كوفي عنان، المبعوث الدولي إلى سوريا، بين النظام والمعارضة في نيسان، ووقوع مجزرة الحولة في أيار حين أعدمت قوات النظام الرسمية وغير الرسمية (ميليشيات الشبيحة الطائفية) 108 شخصًا أغلبهم من النساء والأطفال، ميدانيًّا، أعلنت الأمم المتحدة في حزيران، متبوعة بالصليب الأحمر، أن سوريا في حالة حرب أهلية(1).
ثورة أم حرب أهلية؟
إنّ تلك الوقائع معروفة ويمكن التحقّق منها بسهولة عبر الأرشيف الصحفي، لكن قراءة تلك الوقائع ووضعها في سياق قصة متكاملة، أو ما نسميه فعل "السرد"، هو ما يبقى مثار جدل عميق، كثيرًا ما يتجرّد عبر السؤال: هل ما حدث كان ثورة أم حربًا أهلية؟
يميل الثوار إلى الإجابة الأولى، بينما يميل بعض المحللين ومؤيدو النظام السوري وحلفاؤه إلى الإجابة الثانية، بينما يبدو التقدّم نحو إجابة جدلية تجمع الطرفين خيار بعض المحللين الذين يحاولون التوصل إلى منظور أعمق. وكثيرًا ما تستدعى في ذلك السياق مقولة لينين: "إن تاريخ الثورات يثبت أن الصراع الطبقي يتحوّل حتمًا، وليس بمحض الصدفة، إلى حرب أهلية"(2) شاهدًا على ذلك المنظور.
عاني كل سرد لحدث كحدث الثورة السورية تحديًا نسميه "تحدي الحتمية"، فالتاريخ بعد وقوعه يبدو حتميًّا، ومن ثم يلقي بظلاله على قدرتنا على تخيّل البدائل وقراءة المشهد الحاضر وآفاق المستقبل.
إنّ مقولة لينين يمكن أن تقرأ على نحو مختلف بافتراض أنّ الحدث الصراعي نفسه في التاريخ قابل للسرد بوصفه ثورة، وقابل كذلك للسرد بوصفه حربًا أهليةً. إنّ السرد هنا ليس شيئًا زائدًا عن تأريخ الأحداث، أو الوقائع القابلة للتحقّق موضوعيًّا من صحتها، يمكن حذفه للوصول إلى الحقيقة، كما يمكن لتفكير عفوي أو مفرط الوضعية أن يتخيل، فالوقائع مجرّدة عن سردية تبقى بلا معنى. هذه الضرورة السردية للتاريخ، أي ضرورة أن تتحول الوقائع المنفصلة إلى قصة، ليست مجرد شر لا بد منه نتيجة الانحياز البشري الضروري أثناء سرد الوقائع، وإنما خير لا بد منه لأن تاريخ الماضي لا يكتسب قيمته إلا بأن يتحول إلى سردية تقول شيئًا عن ممكنات الحاضر والمستقبل، وربما عمّا ينبغي أن نعمل لتحقيقه فيهما(3). تنطوي السردية إذن على بعد تحليلي يتعلق بالحكمة التي أفرزتها تلك الخبرة التاريخية، وبعد توجيهي (سمّه أيديولوجيا إن شئت) يتعلق بما ينبغي أن نعمل لتحقيقه، وفي الحالتين فإن التحقق من موضوعية الوقائع وصدقها ودقتها يبقى مهمًّا، ولا تهمله تلك الرؤية كما قد يبدو للوهلة الأولى.
يعاني كل سرد لحدث كحدث الثورة السورية تحديًا نسميه "تحدي الحتمية"، فالتاريخ بعد وقوعه يبدو حتميًّا، ومن ثم يلقي بظلاله على قدرتنا على تخيّل البدائل وقراءة المشهد الحاضر وآفاق المستقبل. في مواجهة "تحدي الحتميات"، ينبغي البحث عن "التاريخ الممكن"، أي محاولة اكتشاف الممكنات التي انطوت عليها الأحداث وكان لها أن تحطم الحتميات لو أن عوامل أخرى ممكنة تماما وغير مرتبطة بحتميات تاريخية كانت قد توفرت لها.
هل كانت الحرب الطائفيّة حتميّة؟
بعد الثورة، سارع كثير من المحللين إلى النظر إلى سيرورة الثورة حربًا طائفية بوصفها حتمية تنم عن صدع عميق في الوطنية السورية الحديثة. لهذه الفرضية جذورها لدى اتجاه ثقافي عربي يرى أنّ ثمّة ثقافة مرتبطة بالإسلام نفسه، الدين أو الحضارة، تسيطر على الشعوب الإسلامية وتتسم بحساسية تجاه العقلانية الحديثة، سواء في صيغتها النظرية أو في تجلياتها السياسية المتمثلة في الدولة والديمقراطية والمواطنة. وبما أنّ هذه الثقافة في حد ذاتها تمنع التجديد، فيبدو التجديد، نظريًّا على الأقل، مستحيلًا دون تدخل قسري من عنصر خارجي تمثله غالبًا الدولة التي يفترض أن تكون أكثر عقلانية وعلمانية من المجتمع(4). أما عمليًّا، فإن تلك الفرضية تتحول إلى أيديولوجيا تغطي مسؤولية السلطة الفعلية عما يتم تحميله للثقافة من اتهامات، عبر القول بأنّ الثقافة هي سبب إخفاق الدولة في إنجاز مهامها، وتسير تلك الأيديولوجيا الأخيرة إلى عداء صريح مع المجتمع بوصفه جماعة من الرعاع الذين يشكلون تهديدًا لقلة متحضرة يجوز لها أن تدافع عن نفسها، أي أنها تنتهي إلى أيديولوجيا عنصرية تتجه نحو الإبادة(5).
اتخذت هذه الفرضية شكلًا أكثر "موضوعية" في السرديات الأحدث للثورة السورية، كتلك التي نجدها عند نيقولاس فان دام(6) وفؤاد عجمي(7). في الحالتين، يرى المؤلفان أنّ للطائفية في سوريا طبيعة تاريخية ارتبطت بالسياسات الأسدية، لكن هذا الاعتراف بالطبيعة التاريخية لا يجعلهما قادرين على رؤية أية إمكانية وطنية سورية في الثورة، فالحرب الطائفية كانت هي قدرها المحتوم. الانسياق وراء تلك الرؤية، كما يشرح ياسين حاج صالح(8)، لا يعني فقط استحالة الثورة أو التغيير في سورية في المستقبل، بل يعني أيضا مسؤولية القوى المطالبة بالتغيير عن الدمار الذي سيترتب عن حركتها، حيث يبدو النظام الأسدي وكأنه مضطر بحكم البنية الطائفية التي ترسخت، بغض النظر عن الأسباب، لخوض حرب إبادة ضد تلك الحركة.
استخدم النظام الأسدي الطائفية في ترسيخ وجوده، لكن هذا الاستخدام ظل استخدامًا أمنيًّا فحسب، عبر السيطرة على الأجهزة الأمنية والعسكرية بغرض حماية النظام، بينما لم تمتد تلك الهيمنة العلوية ثقافيًّا واقتصاديًّا بالقدر نفسه، فقد ظل النظام الأسدي على الصعيد الخطابي معتمدًا على البعثية، إلى جانب استدعاءات براجماتية للوطنية السورية، بل وللشعور الإسلامي السني نفسه كما حدث إبان غزو العراق وأزمة الرسوم المسيئة للنبي محمد. وقد بدأ، في حقبة الأسد الابن، خطاب طبقي علماني ضد التدين الشعبي يأخذ محل الخطاب البعثي وطابعه الشعبوي الاشتراكي.
منذ انهيار الأنظمة القومية، أخذ يتطور اتجاه يرى أن الشعوب العربية تفتقر إلى هويات وطنية جمعية ويمكن اختزالها إلى طوائف وأعراق وقبائل وجماعات جهوية.
منذ صعوده إلى سدة الحكم في سوريا، اتجه حافظ الأسد إلى بناء طغمة عسكرية علوية لحماية موقعه، وهو اتجاه يمكن فهمه ليس بالأساس في إطار الوعي الطائفي للأسد الأب، وإنما في إطار سياق صعوده الذي اتسم بتشظي المؤسسة العسكرية بين خلايا لها طابع عصبوي بحيث كانت الطائفة أداة لبناء الولاءات لا غاية في حد ذاتها. وعلى هذا، كان الاعتماد عسكريًّا على تلك العشائر العلوية التي لا تجمعها صلة قوية بمنافسي الأسد اللدودين، صلاح جديد ومحمد عمران، فجرى استبعاد عشيرتي الحدادين (عشيرة صلاح جديد) والخياطين (عشيرة عمران) والحيدريين (المتحالفين مع صلاح جديد)، بينما جرى التوسع في تجنيد المرشديين الذين جرى إقصاؤهم من قبل(9). رغم ذلك، لم يترجم إفساح المجال للطائفة في المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية إلى اهتمام خدمي بالطائفة، فقد ظل فلاحو العلويين يعانون سوء أحوالهم الاجتماعية، إلى درجة دفعت أعتى معارضي الأسد من السنة، وعلى رأسهم مراقب الإخوان المسلمين الأسبق عدنان سعد الدين، إلى الاعتراف بأن كثيرًا من العلويين يعانون اضطهادًا قريبًا من الذي يعانيه السنة(10). ويلاحظ نيقولاس فان دام نفسه "أنه، في بداية الثورة، لم يكن ثمة انفصام طائفي في المجتمع السوري يقسم البلاد بين علوي وغير علوي"، ويضيف أن كثيرًا من العلويين عانى من ديكتاتورية حزب البعث، وتعرض كثير من العلويين للاعتقال والتعذيب(11).
من البداية، قرّر النظام، وخاصة أجهزته الأمنية ذات التاريخ العريق من تحبيذ العنف المشهدي والدموية المفرطة، تحويل الثورة إلى معركة عسكرية، حتى بدا جميل حسن، مدير المخابرات الجوية، أحيانًا، حانقًا على تردّد بشار الأسد في استخدام مزيد من العنف(12). في سبيل ذلك، استخدم النظام خطابًا طائفيًّا تمامًا لتعبئة قواعده الشعبية في سبيل تكوين ميليشيا الشبيحة، ثم في سبيل استدعاء حلفائه في لبنان وإيران.
منذ تموز 2011 على الأقل، ظهر بوضوح الاتجاه نحو الكفاح المسلح وصولًا إلى الإعلان عن تأسيس جبهة النصرة في كانون الثاني 2012. ومع التردد الأمريكي حيال دعم الثورة(13)، وتولي فاعلين إقليميين ذوي رؤى استراتيجية محدودة ومتضاربة (مجموعة "أصدقاء سوريا") أمر الدعم العسكري للثورة، كان من الطبيعي أن يلجأ المجتمع السوري تحت وطأة عنف النظام إلى إمكانات التنظيم المحلية. ومع ضعف الدعم المقدم إلى الجيش السوري الحر وضعف تنظيمه، وغياب أي منافس مدعوم، اضطر الجمهور السوري للانتظام حول قيادات إسلامية محلية باعتبارها نقاط الارتكاز الوحيدة التي يمكن الالتفاف حولها. هكذا ظهر جيش الإسلام في دوما، ولواء التوحيد في حلب، وجبهة ثوار سوريا في إدلب وحلب، وحركة أحرار الشام في حلب وحماة. عنى ذلك أسلمة الثورة السورية، بل وتسلفها، خاصة مع اتجاه الداعمين الإقليميين، وعلى رأسهم السعودية، إلى تبني هذا الخطاب.
هذا التطييف الذي اندفعت سوريا باتجاهه، كان حصيلة جرائم وأخطاء ارتكبها لاعبون محليون ودوليون دفعوا، بقصد أو بدون، نحو ذاك التطييف. كانت هنالك أدوات ناجعة لحماية المدنيين والمحتجين السوريين كفرض حظر جوي، أو التفاوض مع حلفاء الأسد بجدية لوضع خيارات بديلة، أو المبادرة لدعم طرف وطني واحد في إدارة الكفاح المسلح ضد النظام الأسدي بما يضمن له القدرة على الهيمنة على منافسيه المتطرفين، وكانت المبادرة إلى استخدام تلك الأدوات لتنقذ الثورة السورية التي بدأت حاملة خطابًا وطنيًا واضحًا قادرًا على إخفات النبرات الطائفية.
أدت ديناميات الخذلان، الدولي عمومًا والأمريكي خصوصًا، إلى تفاقم عنف النظام السوري وحلفائه، وما استتبعه ذلك العنف من تفاقم الدينامية الطائفية وتضخيم أثر العوامل الخطابية التي يبالغ بعض المحللين فيعتبرها هي الأصل. فإذا كانت خطابات سلفية صادرة عن السعودية (كخطب الشيخ السلفي عدنان العرعور) أو عن فصائل سورية سلفية مسلحة موجودة مبدئيًّا، فإنها لم تكن لتشكل الإطار الخطابي للثورة لولا تلك الصيرورة التي دفع في اتجاهها العنف من جهة، والخذلان الدولي للسوريين من جهة أخرى. ويمكن وصف امتناع أمريكا عن كبح جماح العنف الأسدي بأنه امتناع عن واجب إنقاذ إنسان في خطر يبلغ حد التواطؤ الضمني على جريمة ضد الإنسانية(14).
هل الوطنيّة معطى طبيعيّ؟
منذ أخذت الأنظمة الحاكمة في الجمهوريات العربية تتخلى رويدًا رويدًا عن القومية العربية، ومع انهيار النظام البعثي في العراق بعد عقود من الطغيان الذي ترك أثرًا خطيرًا على المجتمع نفسه، تطور اتجاه ثقافي يرى أن الشعوب العربية تفتقر إلى هويات وطنية جمعية ويمكن اختزالها إلى طوائف وأعراق وقبائل وجماعات جهوية(15). ورغم أنّ هذا الاتجاه قدّم نفسه كمنظور أكثر نقدية وموضوعية من السردية القومية، إلا أنّه انطلق من الأساس النظري نفسه الذي افترضته القومية العربية في صيغتها الرومانسية، وهو أن الهويات الثقافية التجزيئية تنقض بحد ذاتها إمكانية هوية سياسية وطنية، وأنّ الصدوع التي ربما تطال وحدة تلك الهوية في تشكلها التاريخي تعني إنّ تلك الهوية غير أصيلة ومحكومة بالانفجار الأهلي أو الطائفي. وقد كانت الولايات المتحدة في اعتمادها الطائفية كناظم سياسي للعراق المحتل أول حامل سياسي لتلك الأيديولوجية ذات الجذور الاستشراقية الواضحة(16).
في المقابل، تبدو الهويات الوطنية الحديثة بأسرها هويات مصنوعة خطابيًّا عبر فاعل تاريخي يرمز إلى تلك الهوية(17). لا يعني ذلك أن الهويات تنشأ في الفراغ أو بمجرد الاختلاق الخطابي لها، فالهويات تحتاج إلى مقومات تاريخية وطبيعية، لكن تلك المقومات تحتاج إلى فاعل يجردها ويمفصلها في خطاب وطني لا يدعي أن الهوية الوطنية تناقض الانتماءات الثقافية الجزئية، وإنما يمنع تسييس تلك الأخيرة وربطها بمصالح طبقية واجتماعية تعمل على ترسيخها.
اتسمت سوريا الحديثة بمشكلات ديموغرافية تتعلق بتباعد أقاليمها وتعدد مكوناتها الطائفية والعرقية. كما استمر الإقطاع النمط المهيمن على النشاط الاقتصادي في بعض أقاليمها بسبب تأخر رسملة الزراعة (تحول الفلاح من حالة أقرب إلى القنانة إلى حالة العامل الزراعي بأجر، أو المستأجر، فضلا عن تملك مساحات ولو صغيرة جدًّا؛ وهذا هو ما حدث في مصر في وقت مبكر). كانت تلك المعضلات بحاجة إلى حركة وطنية تحديثية بإمكانها رتق الصدوع الوطنية ومفصلة خطاب وطني وترسيخه عبر سياسات تحديثية تقرّب الأقاليم وتنهي التنظيم الاقتصادي المرتبط بالبنى التقليدية ذات الطابع الطائفي.
ما حدث هو أنّ الانتداب الفرنسي حاول سحق الهوية الوطنية لا ترسيخها عبر التقسيم الشهير لسوريا بين دويلات طائفية، وهو المشروع الذي انهار في دلالة على أنّ الطائفية ليست هي الناظم السياسي الحقيقي في سوريا. وتبعت الانتداب سنوات من عسكرة السياسة السورية بسبب ضعف الدولة وفشل النخبة السورية ممثلة في حزبي الكتلة والشعب في بنائها وحمايتها من الطموح الشعبوي لضباط الجيش. كان من الطبيعي أن تحلّ حركات وطنية جديدة لديها ارتباطات طبقية مختلفة محل تلك النخبة، لكن انقلاب الجناح العسكري على نظيره السياسي داخل البعث عنى تفويت تلك الفرصة، وأبقى من الأيديولوجيا البعثية على مكونها الشمولي فحسب، مما عمّق أزمة الوطنية السورية عوضًا عن أن يعالجها، وأقصى بمزايداته مكونات وطنية ورفض الاعتراف بخصوصيتها (حالة الأكراد).
كان الأسد بعد خريفه الممتد من 1976 و1984 يرى أن نظامه قد بلغ حدا من الإفلاس، أو دخل حقبة موات برجينيفية بتعبير عزمي بشارة، لم يعد بإمكانه خلالها أن يقدم شيئًا سياسيًّا يمكنه على أساسه منافسة أي خطاب سياسي بديل، فكان قراره بتعميق التجريف السياسي الذي كان قد بدأه منذ صعوده إلى السلطة. تمكنت الحركة السياسية السورية من التقاط أنفاسها بحكم الانفتاح الذي فرضه التحول النيوليبرالي في حقبة بشار الأسد، لكن ذلك الانفتاح لم يكن كافيًا لتتبلور قوى وطنية منظمة قادرة على قيادة الثورة وحمايتها من التشظي في معركتها العصيبة مع النظام الذي بدأ يتماهى تمامًا مع أجهزته الأمنية والعسكرية بطابعها الطائفي. وفي الحصيلة لم تحظ الحركة الوطنية السورية عبر تاريخها الحديث بفرصة للتنظيم ووضع رؤى متكاملة حول مشكلات سوريا وبناء وطنيتها.
إن هذه ليست سردية جديدة للثورة، وإنما خطة لسردية "منفتحة" للثورة السورية، لا ترى أن ما حدث كان محتومًا ولا يمكن الفرار منه، ولا ترى أن الوطنية السورية وطنية مستحيلة، ومن ثمّ تعفي الحركة السياسية السورية من واجبها في النضال في سبيل تلك الوطنية "الممكنة" رغم كل التراجيديا السورية.
الهوامش
(1) يعتمد هذا التأريخ المختصر في أغلبه على كتاب عزمي بشارة، "سورية: درب الآلام نحو الحرية"، الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، 2013، إلى جانب الأرشيف الصحفي.
(2) Israel Getzler, "Lenin's Conception of Revolution as Civil War." (The Slavonic and East European Review, Vol. 74, No. 3, July 1996, pp. 464-472.)
(3) ننطلق هنا من رؤية بول ريكور للعلاقة بين التاريخ والسرد التي دافع عنها في الفصل الخامس "دفاعات عن السرد" من كتاب "الزمان والسرد (الجزء الأول): الحبكة والسرد التاريخي" (ترجمة: سعيد الغانمي وفلاح رحيم، مراجعة: الدكتور جورج زيناتي، بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، ط1، 2006).
(4) يمثل كتاب "الثقافة كسياسة" (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 2016) لياسين حاج صالح دراسة نقدية باهرة لهذا الاتجاه.
(5) ياسين حاج صالح، "الثورة المستحيلة" (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 2017)، ص120 وما يليها.
(6) نيقولاس فان دام، "تدمير وطن: الحرب الأهلية في سوريا" (بيروت: جنى تامر للدراسات والنشر، ط1، 2018).
(7) فؤاد عجمي، "التمرد السوري" ترجمة: أحمد الشنبري. (بيروت: دار جداول، ط1، 2013).
(8) ياسين حاج صالح، "الحتمية الطائفية وتدمير وطن السوريين"، الجمهورية نت، 2 تموز 2020.
(9) بشارة، سورية، ص288.
(10) حنا بطاطو، "فلاحو سورية" (ترجمة: عبد الله فاضل – رائد النقشبندي. بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، 2014)، ص422 وما يليها.
(11) فان دام، تدمير وطن، ص150، 151.
(12) Robert Fisk, "Tougher tactics would have ended Syrian war, claims the country's top intelligence general." Independent. November 2016.
(13) أحمد أبازيد، "عقدة أوباما في سوريا"، إضاءات كوم، 9 مايو 2016.
(14) جلبير أشقر، "انتكاسة الانتفاضة العربية: أعراض مرضية" (بيروت: دار الساقي، ط1، 2015).
(15) مثلا: حازم صاغية، "الانهيار المديد: الخلفية التاريخية لانتفاضات الشرق الأوسط العربي" (بيروت: دار الساقي، ط1، 2013).
(16) في نقد ذلك الاتجاه من منظور تاريخي، راجع: عصام خفاجي: "تشكل العراق الحديث" (بيروت: كلمن، العدد 7، 2012). ومن منظور سياسي: عزمي بشارة: "في المسألة العربية: مقدمة لبيان عربي ديمقراطي" (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط4، 2018).
(17) لمزيد حول البناء الخطابي للهوية السياسية، راجع: Laclau, Ernesto, "The Making of Political Identities." London: Verso Books. 1994.