ملحمة الحزن الكامن فينا


تتسع الذاكرة لتكوّن هذا العالم، لتسكن تفاصيله، كلّ مدينة وكلّ شارع مررنا به في هروبنا. توسمنا في هذا الهروب الخلاص.. عبثًا. الذاكرة تمعن في حفر المشاهد أمامنا، لتصبح شواهد عليها.

08 نيسان 2021

سعيد سامر بلبيسي

حقوقي فلسطيني.

اللعنة على هذه الذاكرة الخائنة.. لكن!

كأنّ الأمر اختلط في زحمة متاهات ما يتربّص بشعورنا، بأحاسيسنا. تبدو المشاهد التي مررنا بها، أو بالأحرى التي مرّت بنا مثل إعصار استلب أرواحنا متغلغلًا في أديم أعصابنا. فمشاهد الكارثة، المحرقة، المقتلة السوريّة لا يمكن أن تنتهي بإغماضة عين ومحاولة الإغفاء في حلم آمن، أو حتى إزاحتها من أمام عيوننا ممنّين النفس بأنّ ما خلفنا يجب أن يبقى في غياهب الماضي، ويا ليته لو انتهى ومضى إلى حال سبيله

نحن في مأزق تجتمع فيه تلك المشاهد، بضغطها الهائل المتمثّل بالغرابة! كيف تمّ تفعيل غريزة القتل الكامنة في بشر هم أشباهُنا؟

أحاول إشاحة أطياف هذه الأسئلة، والمضي نحو الأمام دون عويل ذاكرة مشبعة بالدمار والدماء. أتأمل الطبيب النفسي وهو يقيّم حالتي بأنّها تراوما سبّبتها الصدمة ممّا حصل ومازال يحصل، أتفكّر بما يجعلها مستمرّة وتتمدد في مساحات النظرات والأفكار. لو يعلم صديقي الذي يحاول معالجتي، مقدار ما تعجّ به المسافة بين يديّ وفنجان القهوة أمامي من ذكريات هي بالتالي مقارنات بين ما كان والآن واحتمالات ما سيكون.

تتداخل الذاكرة مع الخيبة، فيصبح التوقّع مشوبًا بالحذر والسوء، وبالخوف أيضًا.

لا يمكن وصف المأساة بالنسبة لأيّ شخص، يمكن أن يتخيل الآخرون مقدار عذابه وهم يحاولون التخفيف عن صاحبها بكلمات الأمل والإيمان بالاستمرار، لتهدأ الروح قليلًا، لكن هذه الكلمات لم تُزح مرارة ما أَلمَّ بهذه الروح.

قد تكون الذاكرة آخر ما نتمسّك به، فتمثّل لنا شرنقة نملكها بهاجس التشبث بما اعتقدناه أملًا يُولد منه زمنٌ جميلٌ قبل ذاك العصف الذي أطاح بأرواحنا وبأجسادنا وبكلّ شيء آنسناه عمرًا وحسبناه ناموس حياة.

"يعني إذا قعدت أحكي معك بتنحل مشكلتي؟"

30 حزيران 2020
كيف يتعامل السوريون مع أمراضهم النفسية؟ هل يعترفون بها؟ هل يذهبون إلى الطبيب؟ هل يعرفون أسبابها؟ هل كلها ناجمة عن "صدمة ما بعد الحرب" أم هناك أسباب أخرى؟ هل تصل...

مهما تقلبت هذه الدنيا بنا، فإنّها لن تمسّ صورًا تراكمت لتشكّل مجتمع ألفناه وكان عنوانًا للحياة: وجوه أناسٍ تأبى أن تفارقنا ذكراهم -لا بل قد يكون من الخيانة نسيانهم بما كانوا يتملكون من أرواحنا- وصور نهايتهم التي تمتدّ أفقًا من اللعنات والدماء.

لا يمكن أن يستتبّ الأمر بنسيانهم، والتخيّل حتى أقصى حدود الاضطراب بأنّ العدالة ستأخذ مجراها بالنسيان. لا.. لا يمكن أن يُفلت القتلة. تصوّر إفلاتهم  يرمي بنا في غياهب الأسى والحسرة وكلّ صنوف الفتك بالروح حدّ الاختناق. ورغم أنّ العدالة المتأخرة هي ظلمٌ ما، لكنها أفضل من أن يفلت القتلة، لا نستطيع تخيّل إفلاتهم، لا نستطيع أن نتوقع حدوث هذا السقط الإنساني في النهاية.

تتداخل الذاكرة مع الخيبة، فيصبح التوقّع مشوبًا بالحذر والسوء، وبالخوف أيضًا. تصير العلاقات في الأغلب لا طائل منها طالما كان مآلها معلومًا.

لطالما تساءلت مع صديقي الطبيب النفسي ذاك عن كيفيّة شفاء المرء من الخيبة؟ وصف لي الكثير من الأدوية النفسيّة المُسكّنة، والتي تفعل فعلها في الجسد كي ينام. لكن لا، رفضت لأبقى يقظًا على الرغم من محاولات النوم المضطرب. أريد أن تمتد هذه الذاكرة إلى أقصى اتساعها،لا أريدها أن تذوي بفعل العقاقير.

الذاكرة تمعن في حفر المشاهد أمامنا، لتصبح شواهد عليها. هي تخدش الهواء في تلفتاتنا خشيّة أن ينبري ظلّ القتلة كالصخر في أرواحنا المثقلة برائحة الحرائق، والغدر، وكلّ صنوف تربصات الموت.

يقول لي الطبيب يجب أن نحكي، يجب أن تحكي لي ما أصابك، أن تحكي عن الأحاسيس التي تعاني منها. هل يعلم الطبيب كم يفقد الحزن من جلاله بالبوح؟ كم يصير الحديث عن الألم عاديًّا في ترديده على الأسماع؟ وكم يفقد شعور بؤس الروح من ملكوت خلال الحديث؟ وكم... كم أكره هذه الشفقة من أناس طيبين يحاولون الدفع بأمل الاستمرار في الحياة! وكم يضيف هذا من مساحات ذاكرة الخيبات!

محاولة الانشغال بأمور الحياة القادمة هو الرهان على انزياح هذي الذكريات العاتية! الادّعاء بهذه الكذبة هو ما يرخي ستار تمويه عمّا يعترينا، نحن العدد الأكبر من الشهود الذين بقوا على قيد الذاكرة، شهودًا على دمار مجتمعات، وبيوت كانت تجمع وجوه ألِفنا الدنيا بوجودهم، شهودًا على دمار الأرواح التي تُساق من مسارات أحلامها لتتساقط واقعًا وحشيًّا أصم، شهودًا على عار الهروب والنجاة بحياتنا التي تهاوت خلفنا تحت ضربات قاتل ملأته غريزة الخوض بدمائنا، متباهيًا بانتصاراته على أرواح بشريّة بريئة، الكثير منها مازال في المهد

الجسد بين الذاكرة والحدث

04 كانون الثاني 2021
تتنقل الكاتبة في ذاكرتها، فقد جعلها الحجر الصحي والانعزال عن العالم تتذكر بعض تفاصيل حياتها السابقة قبل اللجوء إلى ألمانيا، حيث كان والدها معتقلًا سياسيًا في سجون نظام الأسد. تسرد...

تتسع الذاكرة لتكوّن هذا العالم، لتسكن تفاصيله، كلّ مدينة وكلّ شارع مررنا به في هروبنا. توسمنا في هذا الهروب الخلاص.. عبثًا. الذاكرة تمعن في حفر المشاهد أمامنا، لتصبح شواهد عليها. هي تخدش الهواء في تلفتاتنا خشيّة أن ينبري ظلّ القتلة كالصخر في أرواحنا المثقلة برائحة الحرائق، والغدر، وكلّ صنوف تربصات الموت.

تتجلّى الفداحة بأنّنا نظارة متفرجين على مسرح جريمة الفتك بأحلامنا وأجسادنا. هل كنّا محقّين في طلب النجاة؟ وهل نجونا فعلًا؟

ماكنّا نظنّ أنّنا بهذه الهشاشة، فما أن تهبّ ذكرى الحرب في دواخلنا، حتى نشيح بخطواتنا محاولين الهرب بحركات عبثيّة، نستشعر من خلالها أنّنا ما زلنا في ذات المكان، وعيوننا تتابع في هلع وحزن ما نملكه من الفقدان.

في الجلسة الأخيرة مع صديقي الطبيب النفسي، أطال النظر إليّ، وكأنّه يقوم يسبر دواخلي بما يراودها من عته مشاعر لا تناسب كلمات الأمل، أظنُّ أنّه كان سينطقها،لكنه أحجم وقال: "أحاول أن أكون في موضعك في كلّ مرة، لكن الأمر يتعدّى المكان، ومحاولة الاستكشاف في أزمنة الفرد تعني انتهاك خصوصيّة، ممّا يتسبب بالتشبث بالذكريات، لأنّها ما يملكه. فهي اليقين بدون مواربات لحقيقة تواجه احتمالات ما سيحدث. أتمنى أن تتعايش بما لديك، بحياة مليئة بالأخطار، ولعل هذا يكون مدعاة للنجاة، وليس للنسيان".

أخرج من عيادته متأملًا المارّة والناس، باحثًا عن أشباهي وعن أضدادهم، أعبُر بينهم، ولعلّ في موازاتهم تكمن الراحة لمعرفة أن هناك تكمن ذاكرة جمعيّة ما، تستدعي أحلامًا للخروج من دمار أرواحنا… ولعلّ من تراصف هذه الخيبات سيروي أحدهم ملحمة الحزن الكامن فينا.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد