يطول الحديث عن انطلاقة الثورة السوريّة وأحداثها الأولى، حيث تتهافت الذكريات وتتبعثر كبقع لا يصل بينها أيّ خط أو قاسم، سوى أنّها قاتمة. لم يمر أكثر من سنوات معدودة، لكنها توغل في أديم الذكريات والأعصاب. يُحاول من عاصرها استرجاعها في تسلسل مفهوم، يحاول أن يجعل مسارها منطقيًّا. كيف انعكس هذا النظام ببنيته اللا منطقية، بسطوته المعتمدة على البطش والقسوة بشكل غير متخيّل، والذي كان متوقّعًا لكن ليس بهذه الصورة، على التظاهرات السّلميّة أولًا، ثمّ بدايات حمل السّلاح لمواجهة عمليات القتل والتصفيّة، قبل أن ينشر آلة القتل الأعمق ويطلق من سجونه المجرمين ليصبحوا بعدها أمراء الحرب والجماعات؟
تعرّضت الثورة السوريّة لعدوانات متوازية، أعملت فيها القتل تلو التشرذم. كلّ ذلك في ضبابيّة ومهاترات الادعاءات التي جعلت الناس تقف وقد أصابها شللٌ خلال أحداث تتوالد حولها وتحمل عنوانًا واحدًا: القتل!
حينئذٍ كان القتل والدماء والخراب هي الطرق الأجدى في إسكات صوت العقل والمطالبات.
يختلف فهم الأحداث بحسب فترات الثورة الزمنيّة المتراكمة. بين تحركات آذار 2011 والتي كانت نتيجة سنوات طويلة من الظلم والنكران والتجاهل لجميع الحقوق، ليس المدنيّة فقط، ثمّ الأشهر الأولى للتحرّك وتحديدًا الأشهر الأربعة الأولى -من آذار حتى تموز 2011- حيث بداية حمل السلاح لمواجهة النظام ومنع قتله للمتظاهرين السلميين.
نلاحظ في هذه الفترة تشكّل وعي مُغرقٌ في الثورة، في الإصرار على عدالة المطالب والتغيير، وعلى أن لا بديل عن رحيل النظام. كان من المهم جدًّا أن يعلو صوت الرصاص والقصف على أصوات المطالبات والمظاهرات، إذ لا يوجد عند النظام أيّ مبرّر لوجوده واستمراره سوى أنّه في حالة دفاع في مواجهة الإرهاب ووصفه بأنّه عبارة عن جماعات مسلّحة.
يزداد البطش كلّما ازداد جهلهم
15 نيسان 2021
حينئذٍ كان القتل والدماء والخراب هي الطرق الأجدى في إسكات صوت العقل والمطالبات، والإدعاء بطريقة فيها من العلانيّة الكثير بأن من يقوم بالمجازر وبكلّ هذه الشناعات، إنّما يرتكبها هو نفسه بإدعاءٍ واهٍ يعزوه إلى الجماعات الارهابيّة، أو يرتكبها هؤلاء بالنيابة عنه.
كان النّاس يُذهلون يوميًّا بكمّ القتل الممارس في كلّ الأوقات، وكذلك بأعداد المفقودين الذين هم فعليًّا بحكم القتلى، وبالقصف وبالخراب وبالاعتقالات. كانت المفاجآت تتوالى لينتشر الخوف من الإتيان حتى برأي مغاير لأيّ قوّة تسيطر في أيّ منطقة يتواجد فيها الناس في تجمعاتهم ومساكنهم.
من المهم لدى النظام أن لا يكون في المشهد السوري سوى الدّماء، أن يكون هو سمة حياة الناس ليطغى على كلّ شيء، وفي كلّ وقت، ومن المهم أيضًا أن يموت الموالون له للادّعاء بأنّه يتعرّض لخسائر مؤلمة. ليس الموالون فقط وكذلك طائفة النّظام نفسها التي يجب أن تكون تضحياتها كبيرة ليكون للمواجهة أبعاد تصبّ في صورته واعتباره ضحيّة أعمال ارهابيّة.
تضارب الوعيّ تحت وقع الرصاص والدماء والدمار، كان من نتائجه تشرذم التمثيل لقوى الثورة السوريّة وتباين مواقفها، وعدم الاتفاق على خطة لدعم الشعب في الداخل وقد تشكّلت سياسيًّا في الخارج، وهو ما صبغ بنيتها وتطلعاتها بحسب الدول الداعمة، أو المستقبلة للمعارضة. بينما المعارضة الفعليّة التي انطلقت بالثورة وأسّست للسّلميّة وصاغت المطالبات المشروعة بأنّها حقٌّ طبيعي، فقد تمّ إخفاء صوتها تحت وقع المعارك، ومن طالته آلة قتل النظام سواء بواسطة فروعه الأمنيّة، أو جماعاته بالوكالة، تمّ اقصاؤه جسديًّا سواء بالاغتيال أو بالإعتقال أو بالإخفاء.
غالبية السوريين، الذين عايشوا تلك المراحل الأولى، يستطيعون تذكرها لأنّها تغصّ بمرارة الفقدان، والكثير من القسوة والدماء في مواجهة سلميّة التحرّك. فضاء مهول من الترقّب والاستنفار كان يقيم بكامل وطأته على كواهلهم برغم ثبات خطوات التمرّد وانسيابه عبر جغرافيّة المجتمع السوري، وكأنّ الذاكرة لم تعد تتّسع للمزيد، أو أنّها لشدّة المواربات ما عاد بامكاننا تتبّع مساراتها، أو تكوين هيكل سردي بأركان محدّدة.
بعد الأشهر الأولى من انطلاق الثورة، انهمرت على الشعب السوري خيبات الأمل. تعدّدت مصادرها، ولكن أشدّها كانت من فئة مثقفي الثورة، أو المدّعين بأنّهم كذلك.
بافتراض العقلانيّة المفترضة لمسار تفكير يتبنّى خيار الناس في استدعاء حقوقهم ضمن مجتمع ودولة، يكون فيه المشهد واضحًا. تلك الحقوق البديهيّة والبسيطة، والتي كان وما زال معروفًا، أنّه من المستحيل أن يضطر نظام الحكم للتنازل وتقديم بعضها، وإن فعل، فسيكون هذا اعترافًا منه ببعض التراجع الذي يعني الهزيمة. إلّا أنّ البداية كانت شفافة بعكس ما تلاها من مراحل، صادقة بعفويتها، ولن يستطيع النظام إنكار قوّتها بمطالبها العادلة، وتفاجئه بعفويّة التجمعات، والتنسيق بينها. وذاك الامتداد العفوي ليشمل في الأشهر الأولى جميع الأرض السوريّة.
بعد الأشهر الأولى من انطلاق الثورة، انهمرت على الشعب السوري خيبات الأمل. تعدّدت مصادرها، ولكن أشدّها كانت من فئة مثقفي الثورة، أو المدّعين بأنّهم كذلك. والذين كان يُعوّل عليهم في إسباغ الوعي على تحرّكهم الشعبي بتبيان أسبابه ودوافعه، وبالتالي إيجاد الأرضيّة النظريّة الصلبة لمشروعيّة المطالبات، وصولًا لإحداث التغيير.
ملحمة الحزن الكامن فينا
08 نيسان 2021
جرى إطلاق رؤى غير واضحة أحدثت تذبذبات في المشهد السوري، كطرح أنّ البداية كانت من الريف الذي كان يعاني أهله بشكل حقيقي من الظلم وإلغاء الحقوق، بمقابل تمتّع أهل المدينة بحقوق أكثر! وربما الإشارة إلى أنّ تحرّك أهل المدينة ما هو إلّا إسقاطٌ لمدّ الربيع العربي في البلدان الأخرى، ومحاولة التمثّل بها بدون النظر لخصوصيّة الوضع السوري. أو القول إنّ الثورة انطلقت من المساجد في تصنيف يلقي الاتهام على التحرّك ككلّ، بأن له طابعًا اسلامويًّا، ومراهنة بعض المثقفين على مجموعات يُفترض أنّها معارضة للنظام، بينما خدمت بقائه، وأكّدت زعمه بمحاربته متطرّفين وإرهابيين سواء باتفاقات ضمنيّة معه، أو بمساهمته الفعليّة بتوسّعها ومنحها زخمًا لا يُستهان به كجيش الإسلام الذي دعا النظام لإطلاق مفهوم الحاضنة الشعبيّة للتمرّد وتبرير قتل المدنيين بالقوّة المفرطة وصولًا للكيماوي.
لن ينسى من كان في البدايات عفويّة التحرّك، بساطة الاتجاه للهدف الطبيعي في التغيير والمطالبة بتحقيق العدل ورفع الظلم وتسلّط النظام بشتّى فروعه الأمنيّة. كان الوعي الشعبي كبيرًا في تجاوز أيّ خلافات واختلافات من أيّ نوع أو جهة. هذا الوعي الذي لم يستطع مثقفو الثورة مجاراته أو التماهي معه بدون تحورات أو مداورات كانت نتيجتها، ذاك الفصل الرهيب بين ثورة الشعب وعدد لا يُستهان به من مثقفيه.
توالت الأحداث بشكل مروّع، وتداخلت الروايات بشكل مبهم وسط ادعاءات الأطراف والاتهامات المتبادلة بارتكاب أفعال خارجة عن المألوف في جرميتها. إنّ مصلحة النظام تقتضي أن تكون الصور واهية تتردّد بين أهميّة وجوده كناظم للحياة العامة، وإن كان بأسلوب البطش الشديد، وبين جماعات تعلن معارضتها للنظام لكنها تنحو باتجاه أسلوب البطش ذاته. هذا الإيهام بأنّ استبدال النظام بآخر له نفس الصفات والأسلوب الذي هو أشدّ وطأة لاستبدال القانون الناظم بالعقيدة، أو القوميّة، أو حتى الطائفيّة، وكذلك من خلال تجريم متابعة أيّ جهة اعلاميًّا والكترونيًّا لا تتوافق مع النظام، بحيث يكفي مقطع فيديو في موبايل أحدهم لمظاهرة أو أيّ مشهد له صلة بالحراك ليصبح صاحب الهاتف متّهمًا، ويستحق صنوف التعذيب اللا نهائيّة -غالبًا الموت- جعل هذا للمعلومات الكاذبة والمضلّلة التي يلقيها النظام ويردّدها، صدىً لدى الناس وان كان جزئيًا، لكنها بالتأكيد تسببت بتشوّهات لمجرى الأحداث والحقائق.
يحتاج سرد الذاكرة السوريّة للإغراق في التفاصيل، تلك الأحداث اليوميّة التي، وبالرغم من قساوتها وثقلها في الذاكرة، الّا أن نسيانها وتغطيتها هو ما تسعى إليه السلطة.
صار تأييد النظام شرطًا للبقاء على قيد الحياة في مراكز المدن وأماكن سيطرته، وكذلك معارضته في الأماكن الأخرى. خيار الحياد والوقوف على الأحداث وتبيان الحقائق غير وارد أبدًا بالنسبة للأطراف. كان الوعي الطبيعي والعفوي لدى الأغلبيّة برفض النظام، وتلك المعارضة المصطنعة، والتي ركبت موجة الحراك، يوجهها النظام تارة وإن بشكل غير مباشر، وبعض القوى الإقليميّة التي لها مصالح بعداوتها معه تارة أخرى.
نامي هذا الوعي يضع النظام في موقع المساءلة، وهو من الخطورة الكبيرة لاستمرار آلة البطش التي ينتهجها والتي هي ضرورة لبقائه. كان غياث مطر أنموذج الثورة الأسمى، وصورتها الراقية في تضافر كلّ فئات الشعب، حتى الجيش والأمن والشرطة لمواجهة النظام، عبّر عن وحدة وطنيّة واجبة لتحقيق التغيير والمواجهة، لذلك كان وجوده ووعيه أشدّ خطورة ممن حمل السلاح. ولا تنتهي سلسلة الاغتيال لمن كان بخطورة الوعي الذي يمثّله غياث مرورًا برزان زيتونة ورفاقها والدكتور عدنان وهبي، ولا تنتهي القائمة أبدًا. كما ازداد التضليل والكذب والادعاءات والتي وقف في وسطها الشعب السوري وحيدًا يسيطر عليه الخوف.
من حلب إلى بيروت، مدن تحترق وأزهار للقاتل
22 شباط 2021
يحتاج سرد الذاكرة السوريّة للإغراق في التفاصيل، تلك الأحداث اليوميّة التي، وبالرغم من قساوتها وثقلها في الذاكرة، الّا أن نسيانها وتغطيتها هو ما تسعى إليه السلطة. الإصرار أن تكون ذاكرة الخوف هي البديل عنها،بالرغم من محاولة تمييع ذلك الأساس، ما قامت عليه الثورة وتحركها بمطالب الحريّة والكرامة والتغيير تحت ارهاب السلطة من جوع واعتقال وتصفية، وتكريس فكرة انتصار السلطة بشكل فجّ، لا يحتمل لديه أيّ إنكار.
فكرة التمرّد والثورة أعملت في جسم السلطة التغيير، لا بل أثخنته بالكثير من الاحتمالات بالنسبة لبقائه واستمراره في الحكم. وبالرغم من تسييده الخوف ليشمل المجتمع السوري كلّه، الا أنّه يصيبه أولًا. هو في مأزق عميق في كيفيّة استمرّار بثّ الرعب بين الناس ليبقوا صاغرين، وفي تفشّي هذا الرعب في أوصاله نفسه. فمن الوارد جدًّا تمرّد الناس لدى أيّ انزياح لقوّة بطشه، الذين من الطبيعي أن يتواجدوا في منطقة رماديّة تحت ظلّ السلطة، وإمكانية انتقالهم بسلاسة ووضوح للتمرّد والمطالبة. وكذلك لا ثقة ثابتة لأحد من أتباعه، فلا حصانة لهم ولا اطمئنان، وبهذا تكثر الاغتيالات والحوادث الغامضة، وحتى الإخفاء لشخصيات تُعدّ من الدعائم الأساسيّة للسلطة. وبهذا فقد لوسائله نفسها في نشر سطوته.
يستمرّ تخبّط النظام السوري، بهدف الاستمرار في السلطة بأيّ وسيلة، حيث لا يجد لنفسه موقعًا آخر بين الناس والمجتمع. هو تجسيد لفكرة الانزواء خارجًا عن الجسم الوطني، حتّى أنه ليس فقط بعيد كلّ البعد عن نسيج مجتمعه و"مواطنيه"، بل يتّخذهم أعداءًا يُرهبهم ويقتلهم ويعتقلهم، وصولًا إلى تجويعهم. هو من الغرابة عن المجتمع السوري بحيث أنّه من البديهي لفظه خارجًا، بعد أن اتضح أنّه لم يكن يومًا سوى ذاك الهلام الرمادي الذي يحاول أن يحجب الحياة الطبيعية عن الناس فيه.
