منذ حصول آية أبو ضاهر على حق اللجوء في الدنمارك في العام 2015، فعلت أكثر مما هو مُتوقّع منها: تعلمت اللغة الدنماركيّة وكسبت الكثير من الأصدقاء الدنماركيين، وكانت على بعد ثلاثة أشهر فقط من تخرجها من المدرسة الثانويّة، بهدف الالتحاق بالجامعة.
عندما انتشرت الأخبار المُتعلّقة بحرمان الطالبة البالغة من العمر تسعة عشر عامًا من تمديد تصريح إقامتها، حصل احتجاج عام، حيث كتب زملاؤها في الفصل رسالة مفتوحة إلى وزير الهجرة، كما ظهرت مديرة مدرستها في التلفزيون الوطني، مساندة لها ومدافعة عن حق الطالبة في البقاء في الدنمارك.
سرعان ما ظهرت قصص مشابهة، مثل حكايات فايزة وأكرم وغالية وهبة وآخرين كُثر، واحتلت عناوين الأخبار العالميّة، حيث أصبحت الدنمارك أول دولة أوروبيّة تلغي تصريحات الإقامة لطالبي اللجوء من السوريين، على الرغم من تحذيرات الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ومنظمة العفو الدوليّة.
لكن، كيف وصلنا إلى "هنا"؟ الإجابة المختصرة والأكثر شيوعًا هي أنّ السلطات الدنماركيّة قد نشرت تقريرًا في العام 2019، اعتبرت فيه دمشق مدينةً "آمنة" بما يكفي كي يعود السوريون إليها، إذا لم يكونوا مهدّدين بشكل شخصي من نظام الأسد. بناءً على استنتاجات هذا التقرير، ألغت دائرة الهجرة الدنماركيّة تصاريح إقامة 94 سوريًا على الأقل، كلّهم من محافظتي دمشق وريف دمشق. بعضهم ما زال ينتظر نتيجة طلب الاستئناف الذي تقدموا به، فيما تلقى 34 منهم على الأقل قرار رفضهم النهائي. ومن المُتوقّع أن تتم إعادة تقييم ما لا يقل عن خمسمئة حالة أخرى لسوريين قادمين من دمشق وريفها، خلال هذا العام.
قد تبدو سياسة الدنمارك صادمة، إلّا أنّ هذا لم يحصل بشكل مُفاجئ، بل يمكن القول إنّ قرار إلغاء تصاريح الإقامة قد جاء نتيجة لأكثر من ست سنوات من سياسات اللجوء التقييديّة المُتزايدة، والتي أدت ببطء، لكن بثبات، إلى تآكل حقوق الأشخاص الذين حصلوا على الحماية في الدنمارك.
من أجل الوصول إلى جوهر هذه القضية، نحتاج إلى العودة إلى ما هو أبعد من تقرير عام 2019، وصولًا إلى العام 2014، قبل أن يصل، ما سُميّ بـ"أزمة اللاجئين" في أوروبا إلى ذروته. فمع ملاحظة ازدياد عدد طالبي اللجوء من سوريا، اقترحت الحكومة الاشتراكيّة الديمقراطيّة السابقة اعتماد "وضع الحماية المؤقتة"، والمعروفة في قانون الأجانب الدنماركي بالمادة رقم (7.3).
اعتمد البرلمان الدنماركي في العام 2015، هذا النوع من الإقامات، الذي يُمنح عادة للأشخاص الذين تنبع حاجتهم إلى الحماية الدوليّة بسبب "وضعهم الخطير للغاية" في بلدهم الأصلي. حتى قبل تقديم هذا المُقترح، كان أولئك الأشخاص مؤهلين للحصول على الحماية العاديّة (المادة 7.2)، والتي قدّمت في ذلك الوقت خمس سنوات من الحماية على قدم المُساواة مع الحماية الممنوحة للأشخاص المُعرّضين للاضطهاد الشخصي (المادة 7.1).
كان الهدف من اقتراح (المادة 7.3) هو تسهيل إعادة هؤلاء الأشخاص في أسرع وقت ممكن، بعد انتهاء الحرب. من أجل هذا السبب، كان يتم منح الإقامات لمدة عام واحد فقط في كلّ مرة. كانت الرسالة واضحة: السوريين الذين هربوا بسبب "الوضع العام" في البلاد، يجب ألّا يخططوا لمستقبل دائم في الدنمارك. هذا النوع من الحماية هو ما كانت تتمتع به آية أبو ضاهر والعديد من السوريين الذين تمّت إلغاء تصاريح إقاماتهم مؤخرًا.
قرار إلغاء تصاريح الإقامة ليس له علاقة بما إذا كانت دمشق آمنة، بل يتعلق أكثر بكيفيّة تعريف "الأمان" في المقام الأول.
ما يُمكن أن يكون الأكثر أهميّة في قرار إلغاء تصاريح إقامة الدمشقيين اليوم هو الملاحظات المكتوبة التي رافقت قانون 2015. فبالإشارة إلى الحكم الصادر عن المحكمة الأوروبيّة لحقوق الإنسان في العام 2011، فإنّ هذه الملاحظات تنص على إنّه يُمكن إلغاء تصريح الإقامة بناء على الوضع العام في البلد الأصلي، فيما إذا تحسّن "حتى لو ظلّ الوضع خطيرًا وهشًّا ولا يُمكن التنبؤ به".
كما تبيّن، فإنّ قرار إلغاء تصاريح الإقامة ليس له علاقة بما إذا كانت دمشق آمنة، بل يتعلق أكثر بكيفيّة تعريف "الأمان" في المقام الأول. وهاكم هذا الأمر: العائق الذي يواجه السلطات الدنماركيّة هو ببساطة أقل بكثير من العوائق التي تواجه الكثيرين عندما يتعلق الأمر بعودة اللاجئين.
لهذا السبب، عندما تؤكد رئيسة الوزراء الدنماركيّة "ميته فريدريكسين" أنّ قرارات إلغاء تصاريح الإقامة "منطقيّة" فإنّها، في الواقع، على حق. إنّها منطقيّة وقانونيّة لأنّها تستند إلى تشريعات تمّ وضعها منذ البداية، من أجل الوصول إلى قرارات اليوم.
قانون وضع الحماية المؤقت كان مجرد بداية.
في السنوات التي تلت سنة 2015، استمرت الحكومة اليمينيّة اللاحقة في هذا الاتجاه، حيث نفّذت مجموعة واسعة من سياسات الهجرة المُقيِّدة. ومع تولي "إنغر ستويبيرغ"، التي تشتهر بمشاعرها المعاديّة للهجرة والمعاديّة للإسلام، منصب وزيرة الهجرة، قامت الحكومة بتقييد حق لم شمل العائلة، وقصّرت من طول مُدَد تصاريح الإقامة الأخرى وجعلت الحصول على إقامة دائمة شبه مستحيل، بغض النظر عن الجنسيّة، وهذه أمثلة قليلة فقط.
هذه التغييرات ترسّخت في نهاية العام 2019، مع اعتماد ما سُميّ بـ"التحوّل النوعي"، وهو مجموعة من التعديلات على قانون الأجانب التي غيّرت سياسة اللجوء الدنماركيّة من خلال استبدال هدف الاندماج الكلّي الصريح بالتركيز على الإقامات المؤقتة، والترحيل في نهاية المطاف
بالنسبة إلى آية أبو ضاهر والآخرين، فإنّ هذه السياسة تعني عدم أهمية تمكّنهم من اللغة الدنماركيّة عن عدمها، وعدم أهميّة مستوى التعليم الذي يحققونه، وعدم أهميّة عدد الأصدقاء الدنماركيين لديهم أو عدد منظمات المجتمع المدني التي ينشطون فيها. جهود اندماجهم في المجتمع الدنماركي لن تُكافأ بتصريح إقامة.
قد تبدو فكرة الحماية المؤقتة منطقيّة على الورق لدى البعض، لكن الواقع مختلف تمامًا. إنّ معظم الحروب تدوم لأكثر من عام واحد، أو خمس أعوام في حالتنا هذه، ونتيجة لذلك فإنّ الإحساس المؤقت الذي تغلغل في كلّ جوانب سياسة اللجوء الدنماركيّة منذ العام 2015، قد ترك اللاجئين في حالة من الخوف المستمر وعدم اليقين بشأن مستقبلهم لفترة غير محدّدة من الوقت. بالنسبة لبعض أصدقائي السوريين في الدنمارك، تمثّل قرارات إلغاء التصاريح تتويجًا لست سنوات من الاختناق البطيء والحرب النفسيّة.
لكن، إذا ما أردنا تغيير أيّ شيء، فعلينا أن نفهم أنّ هناك الكثير من التعقيدات، أكثر من أن نجيب بنعم أم لا حول ما إذا كانت دمشق "مدينة آمنة". نحن بحاجة إلى فهم ما نواجهه.
بالإضافة إلى ذلك، هي حرب لا تنتهي بإلغاء التصاريح. مثلها مثل باقي دول الاتحاد الأوروبي، لن تتعاون الحكومة الدنماركيّة مع نظام الأسد بشأن عمليات الإعادة القسريّة على المدى المنظور. بدلًا من ذلك، تعتمد السلطات على ما يُسمى بـ"الإجراءات التحفيزيّة" للضغط على السوريين من أجل عودة "طوعيّة". هذا يعني أنّ هؤلاء الأشخاص سينتهي بهم المطاف في مراكز الترحيل القاتمة لسنوات، إن لم نقل لعقود، محاصرين بين دولة سوف تقتلهم إذا ما عادوا، وأخرى سوف تقتلهم إذا ما بقوا، وإن كان ذلك بشكل أبطأ.
ومع ذلك، داخل مجتمع السوريين وحلفائهم، يختلط الشعور المُتزايد باليأس والغضب ببصيص عابرٍ من الأمل، إذ يبدو أنّ قصصًا مثل قصة آية أبو ضاهر وقصص الآخرين المُشابهة قد عملت كنداء إيقاظ.
أثناء متابعتي لموقع فيسبوك في الأيام الأخيرة، بتُّ أرى صور أصدقائي الشخصيّة محاطة بإطار أحمر وأزرق يقول "أوقفوا عمليات ترحيل السوريين". لقد انفجر عدد كبير من مجموعات الفيسبوك الجديدة التي تدعم السوريين، وارتفع عدد توقيعات عريضة التماس لسياسة لجوء أكثر إنسانيّة من ألفي توقيع إلى أكثر من ثلاثين ألف توقيع خلال أسابيع.
يبدو أن شيئًا ما قد تغيّر، وأعتقد أنّ هناك دفعًا للتراجع عن هذه السياسات في الوقت الحالي. لكن، إذا ما أردنا تغيير أيّ شيء، فعلينا أن نفهم أنّ هناك الكثير من التعقيدات، أكثر من أن نجيب بنعم أم لا حول ما إذا كانت دمشق "مدينة آمنة". نحن بحاجة إلى فهم ما نواجهه.