"روحي لبيتك وإجلي الجليات أحسنلك من هي الحركات".
"روحي ارقصي به المسرح… ضبّي حالك بهل الشوارع".
"يمكنها المتابعة فلديها ساقان جميلتان وجسم يتناسق بحركاته مع النغم.. حبذا لو ترينا أجزاء أخرى من جسدها ليستقيم رأينا بها خسئت فيفي عبده فابنة قامشلي غلبتها".
"تضربي إنتي ويلي بيعمل معك مقابلة، إذا ذهب الحياء حلّ البلاء، هاد ثمن الحرية".
هذه بعض التعليقات التي كتبت حول قيام الفنانة الشابة، نازك العلي، بالرقص في شوارع مدينة القامشلي، رغبة منها بمواجهة الآثار التي تركتها الحرب وفيروس كورونا في نفوس الناس وأرواحهم، علّ الرقص يخفّف من أثار الوحدة والجوع والفقر واليأس الذي يثقل على صدور السوريين والسوريات.
هي أرادت الرقص كي تملأ "الأحياء والشوارع والحارات الفارغة في ظلّ هذه الحرب والأوبئة بالحياة، من أجل مواجهة هذه الظروف بشتى أشكالها وبطرق مختلفة، لأنّ هذه الطرق تجعلنا سعداء بنسيان تحديات الحياة وجعل المصاعب سهلة" كما تقول لحكاية ما انحكت.
الفتاة التي أرادت هزيمة كورونا بالغناء، بعد أن اضطرت بسببه للتوقف عن الرقص الذي تحبّه حوالي سبعة أشهر، لم تتوقع أن تكون ردّة فعل الناس على رقصها أسوأ من أثر كورونا عليها، أو بموازاته ربما. فما الحكاية؟
أغرمت العلي برقص الباليه حتى قبل أن تعرف اسمه، "كنت بعمل كتير حركات بس ما كنت بعرف أنو هي رقصة الباليه". تتابع قائلة لحكاية ما انحكت إنّها ترقص رقصات عديدة منذ صغرها، وإنّ بداية مشوارها كان من خلال الرقص الكرديّ الفلكلوري، حيث كانت تبحث عن مراكز لتدريب الرقص في القامشلي لكنها لم تجد، لذلك قرّرت السفر إلى دمشق بهدف دراسة الكيمياء في الجامعة، ولعلّها تجد مركزًا لتتعلم الرقص. و"بعد سنة كاملة بالصدفة تعرفت على شخص عن طريق الإنترنت، دلّني على فرقة كرديّة للرقص اسمها آشتي (السلام)، وبعدين انتسبت لفرقة رقص الباليه وقدمت كتير عروض".
لكن بعد أن بدأ فيروس كورونا الذي تصفه لنا بأنّه "خراب نظامي عن جد"، يفرض إيقاعه على حياة الناس وتحركاتهم في سوريا، وجدت العلي نفسها بعيدة عن الرقص حوالي سبعة أشهر، حيث كانت حينها في دمشق، لذا قرّرت العودة إلى القامشلي لتضيف شيئًا جديدًا من خلال رقصها في شوارع مدينتها، وكي تعبّر عن الصراع الذي تعيشه، لتجد نفسها بين براثن النقد الاجتماعي القاسي والتنمّر على وسائل التواصل الاجتماعي، والذي كان ما ورد في بداية هذه المادة عينة منه.
لكن لم يكن ردود الأفعال سلبيّة بمجملها، فالبعض أبدى موقفًا مدافعًا ومُشجعًا. يقول سامر حنا لحكاية ما انحكت، وهو مقيم في القامشلي ويعمل في قناة تلفزيونيّة، أنّه يرى من خلال نازك منطلق جديد لتغيير العادات والتقاليد عبر إرسال رسالة من خلال موهبتها، ويضيف: "هي فتاة تمتلك روح الشباب في جيل جديد يختلف كليًّا عن الأجيال السابقة، وتنشر ثقافة رقص الباليه في مجتمع يعتبر الرقص في الشارع من المحرمات".
يشجع "حنا" راقصة الباليه، لأنّها تمتلك الشجاعة في كسر القيود ولا تبالي بالنقد السلبي والتنمر، ويختتم بتوجيه سؤال لنا: "من الأجمل يا حكاية ما انحكت؟ منظر امرأة تشحذ في الشوارع أم أنثى لديها موهبة أحبّت أن تظهرها للناس؟".
بدورها، عبّرت الصحفية نارين يوسف، عن غضبها من كم التعليقات السلبية التي انهالت على نازك العلي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، معتبرة أنّ هذه الفتاة مفتاح لطريق كسر العادات والتقاليد التي تكبّل المرأة الشرقيّة، وأنّها، وعبر جرأتها، ستُمكّن أخريات من التعبير عن شخصياتهن، وأنّ نازك تملك الكثير من الشجاعة، خاصة بعد تعرّضها للتنمر وعودتها إلى الشارع لترقص من جديد.
فيما تصف، جاني محمد، وهي إداريّة في إحدى المؤسسات المدنيّة في القامشلي، نازك العلي بـ"الفتاة الجريئة التي كسرت الروتين والرتابة الساكنة في مجتمعاتنا وهي أرادت أن توصل من خلال هذه اللوحات التي تعرضها رسالة بأنّ ما تعوّدنا عليه يوميًا ليس الصحيح، بل إنّ الصحيح والخاطئ أمران نسبيّان يتغيران حسب الظروف والوقت".
"رقصتي صدمتهم.. لكن أحبّ أن أكون كما أريد لا كما يريدون"
عن ردود فعل الشارع والتنمر الذي تعرّضت له إلكترونيًا تقول نازك العلي لحكاية ما انحكت: "بعد رقصي في الشارع، نسبة كبيرة جدًا من الناس قدموا الدعم لي، أمّا البقية في الحقيقة أغلب نقدهم كان على طريقة لبسي وليس على الرقص".
لاحظت راقصة الباليه أثناء رقصها في الشارع، أنّ المارة مندهشون من وجود شابة ترقص في الشارع حافية القدمين لأول مرة، واختلفت آراء الناس، لتوضح هي وجهة نظرها لنا: "هذا الاختلاف هو جزء من حياتنا، فهناك أشخاص سلبيين وهناك إيجابين وداعمين لنا، ولا يجب أن نتأثر بالسلبيّات بل علينا أخذها كدافع للتقدم، وأن نرى أنفسنا كما نحب وليس كما يحب الناس، فلنكن كما نريد".
إنّ الأطفال يتعرّضون من عمر سنة لسبع سنوات إلى حوالي 250 ألف كلمة سلبيّة، وإنّ هذا المجتمع لا يتقبّل الأشياء الجديدة بسرعة.
لمعرفة دوافع النقد السلبي من المجتمع وتأثيره على نازك العلي، يقول المستشار الأكاديمي الدولي في مجال التنمية البشريّة شكري يوسف، لحكاية ما انحكت، إنّ "فكرة مشاهدة راقصة باليه في الشارع غريبة في المجتمع الشرقي "السلبي"، لذلك يتكوّن النقد والذي سيوثر سلبيًا على هذه الفتاة بـ"التأكيد".
يضيف يوسف، إنّ الأطفال يتعرّضون من عمر سنة لسبع سنوات إلى حوالي 250 ألف كلمة سلبيّة، وإنّ هذا المجتمع لا يتقبّل الأشياء الجديدة بسرعة حتى تصبح مألوفة، والإنسان الناجح برأيه، يعاديه الآخرون بسبب ردود الأفعال السلبيّة، ويشير إلى أنّ نازك العلي حتى تصل إلى مرحلة تقبّل كلّ هذا النقد من المجتمع ستتعذب كثيرًا، لذلك يتطلب الأمر منها التعوّد والاهتمام بالعمل والنجاح عبر تشجيع أهلها وأصدقائها.
ويلفت الأكاديمي إلى ضرورة التعرف على القدرات اللا محدودة عند الإنسان، فهو رأى هذه الشابة وهي تقف على أصابع قدميها، "وكلغة جسد هذا الأمر صعب جدًا ولم يأت من فراغ بل يلزمه طاقة وقدرة عبر الممارسة وتطوير الذات".
"حياتنا متعلقة بالحظ وبالرقص أحوّل الحرب إلى سلام"
تحاول نازك أن تنتصر على الحرب بالرقص، "ما بعرف قديش صرلها الحرب بس تربينا فيها وصارت عاديّة، نحنا بالبروفات أو بالجامعة بتنزل قذائف علينا، وإنت وحظك" تقول لحكاية ما انحكت.
تحاول إخراج الثورة من أعماقها وكأنّها ترغب في تجسيد حركة باليه عبر أطرافها لتثور على كل معاناتها فتعبر عنها بقولها، إنّ جميع عروضها ولوحاتها في مدينة القامشلي تتحدث عن الصراع الذي يعيشه بلدها ساعيّة لتحويلها إلى سلامٍ تعتبره رسالتها، ومثال على ذلك ما قدمته من لوحة في الحيّ الغربي من القامشلي.
تضيف خلال حديثها، "كان عندي شعور إنه ما بدي ارقص هنيك لأنه رفقاتي استشهدوا فيها، عنجد كتير كنت مزعوجة، بس رحت عملت لوحة بتعبّر عن معاناة الأشخاص اللي شو صار فيهم هداك اليوم".
وبحسب العلي، فإنّ رقصة الباليه هذه، هي عبارة عن عدد من الحركات التي تشكل لوحة ما، فلا يمكنها أن تعبّر عن السلام بحركة عكس ذلك، وتشير إلى حركة في إحدى صورها إلى أنّها تعبّر عن الأوضاع التي تعيشها حاليًا في سوريا، وتجسّد الوجع في أعماق الإنسان في سوريا.
"الشام هي الحياة.. والسفر مريح لأنّني أتعرض هنا إلى النقد"
تتنقل نازك (حتى في ظلّ تفشي فيروس كورونا) من مدينة إلى أُخرى في محاولة لاستكشاف الاختلاف بين المدن السوريّة، فهي تستمد من بعضها طاقة لتكمل طريقها وتأخذ من أخرى أفكارًا تجسّدها بحركات رشيقة.
وتقول إنّها في زيارتها لمدينة حمص، والتي كانت في أغلبها خرابًا، قدّمت لوحة تدل على ذلك الخراب. وفي دمشق لفتت إلى أنّها قدمت لوحة تدل على الحياة: "الشام هي الحياة، بيتوفر فيها كلّ شيء وكلّ أنواع الرقص".
تشير "العلي إلى "أنّ سفرها بين القامشلي ودمشق يسبّب لها عائقًا كبيرًا بسبب التكلفة الباهظة لتذكرة الطيران وترى هذه التكلفة دمارًا لها ولكلّ الطلاب، وتختم حديثها في هذا الأمر بتنهيدة: "ما بعرف شو بدي قول".
بعد لحظات صمت تكمل الشابة العشرينيّة قولها، إنّه في السابق سنحت لها فرصة السفر للخارج لكنها رفضتها من أجل دراستها، ومن ثمّ تقول نادمةً: "لو كنت بعرف إنه الدراسة رح تكون بسوريا هيك، كنت رح سافر، والطلعة لبرا رح تكون مريحة لإلي، لأنو هون بتعرض للنقد"، لكنها تؤكد على بقائها في القامشلي من أجل الرقص رغم أنّها تمارس هذه الهواية بمفردها، وتستشهد بمثل: "اليد الواحدة لا تصفق"، لذلك فهي تتمنى أن تخصص جامعات "روجآفا" أقسامًا لتدريس المسرح والتمثيل وفن الرقص.
وعن دمجها بين الدراسة والفن وعن احتمال تعارضهما، تقول إنّ "الكثير من الناس يقولون إن من يدرس لا يستطيع ممارسة هواياته، هذا غير صحيح فهناك الكثير من المهندسين والدكاترة يمارسون هواياتهم". وهذا ما ينطبق عليها، فرغم دراستها في كلية العلوم، فرع الكيمياء، فهي ترقص وتمثل وتعزف آلة الكمان، ساعية نحو مستقبل تصفه بـ"المجهول"، لكنها تحاول دائمًا أن يكون حاضرها أفضل، لأنّ من يملك "الشغف"، حسب قولها، يستطيع الوصول إلى هدفه.