أعلنت منظمة الصحة العالميّة عبر حسابها على موقع تويتر يوم الجمعة الماضي انتخاب سوريا لتكون عضوًا في المجلس التنفيذي للمنظمة، ويمثل سوريا في المجلس التنفيذي، وحسب الموقع الإلكتروني للمنظمة، وزير الصحة السوري، حسن الغباش، وهو يشغل منصب وزير الصحة منذ آب 2020، وكان قبلها نقيبًا لأطباء دمشق، ويحق له تبعًا للنظام الداخلي لمنظمة الصحة العالميّة أن يقوم بتعيين بدلاء للنيابة عنه، وأن يعين مستشارين ليقوموا بمساندته في مهامه، ويذكر في هذا السياق أنّ الغباش موضوع على قائمة العقوبات البريطانيّة منذ شهر آذار 2021، وعلى قائمة العقوبات المفروضة من الاتحاد الأوروبي منذ تشرين الثاني 2020.
يمثّل المجلس التنفيذي الذراع المشرف على تنفيذ سياسات منظمة الصحة العالميّة، فهو الجهة المسؤولة عن متابعة السياسات التي يعتمدها المجلس العام، وتتألف بنية الحوكمة في المنظمة من مجلس عام، ومجلس تنفيذي، ومدير عام ومكاتب اقليميّة ولجان تقنيّة، وهذه البنية تعطي صلاحيات واسعة للمجلس التنفيذي فهو المسؤول عن تنفيذ سياسات المنظمة، وله صلاحيات التعامل مع الاستجابات الطارئة وتشكيل صندوق لكلّ منها، وإقرار الميزانيّة التي يقدمها المدير العام قبل تقديمها للجمعيّة العامة لمنظمة الصحة أو ما يعرف باسم المجلس العام، كما أنّ من صلاحيات المجلس التنفيذي ترشيح المدير العام، وتحديد مكان وزمان انعقاد الجلسات الخاصة وغيرها الكثير. يتألف المجلس من 34 دولة تتوزع بطريقة تحقق توازنًا إقليميًا بين الدول الـ194 الأعضاء، و تكون عضويّة كلّ منهم لمدة 3 سنوات.
الحكومة السوريّة وتاريخ طويل لفساد متأصل
تمتلك سوريا كحكومة تاريخًا طويلًا في إفساد واستخدام وكالات الأمم المتحدة وتسييس عملها بدءًا من تقييم الاحتياجات والتخطيط وتخصيص التمويلات والتعاقد مع المنفذين والتوظيف، وعمليات الشراء والتنفيذ وصولًا إلى المراقبة والتقييم.
وقد استخدمت الحكومة السوريّة ولمرات متكررة وكالات الأمم المتحدة وتمويلها في تجاوز العقوبات المفروضة من قبل الولايات المتحدة الأمريكيّة والاتحاد الأوروبي على عدّة شركات و شخصيّات سوريّة مقرّبة من النظام السوري، حيث كانت هذه العقود تبرم لمصلحة المقربين للنظام، فمثلًا تجاوزت العقود بين الأمم المتحدة وشركة سيرياتل المملوكة من رامي مخلوف ابن خال بشار الأسد 700 ألف دولار أمريكي، كما أنّ وكالات الأمم المتحدة أنفقت في فندق الـ"فور سيزونز" في دمشق الذي تملك ثلثه وزارة السياحة السوريّة ما يزيد عن 12 مليون دولار خلال عامي 2014-2015 فقط، عدا عن عشرات العقود لتمويل منظمات تتستر بتقديم المساعدات الإنسانيّة كجمعية البستان التي تتبع رامي مخلوف والأمانة السوريّة للتنميّة التي ترأسها أسماء الأسد.
تمتلك سوريا كحكومة تاريخًا طويلًا في إفساد واستخدام وكالات الأمم المتحدة وتسييس عملها بدءًا من تقييم الاحتياجات والتخطيط وتخصيص التمويلات والتعاقد مع المنفذين والتوظيف، وعمليات الشراء والتنفيذ وصولًا إلى المراقبة والتقييم.
أبعد من ذلك فقد تدخّلت الأجهزة الأمنيّة ووزارات النظام السوري في عمليات التوظيف، وقد وُجّهت انتقادات واسعة للمنظمة الأمميّة في عام 2016 بسبب تعيين شكريّة المقداد زوجة فيصل المقداد ضمن كوادر منظمة الصحة العالميّة حين كان زوجها نائبًا لوزير الخارجية وكان هو الشخص الذي يفاوض ممثل الأمم المتحدة لإقرار خطة الاستجابة الإنسانيّة السنويّة في سوريا.
في عام 2013 شكّلت الحكومة السوريّة ما عُرف باللجنة العليا للإغاثة التي ضمّت عضويّة عدة وزراء بينهم وزير الشؤون الاجتماعيّة والعمل ووزير الصحة، الذي أصبح اليوم بصفته الرسميّة يمثل سوريا في المجلس التنفيذي، وقد تدخلت هذه اللجنة في تصميم البرامج الإنسانيّة، وفي تنفيذها بما يشمل وصول القوافل الإنسانيّة.
يذكر أنّ نسبة الوصول لم تتجاوز 10% في عام 2015 حيث تجاهلت الحكومة السورية 75% من الطلبات، ورفضت 15%، وحتى العشرة بالمئة المتبقية والتي وافق النظام على دخولها لم تنج من التدخل، فقد سُحب من القوافل الإنسانيّة وبشكل متكرر الكثير من المواد الإغاثيّة، عدا عن وصول مواد منتهية الصلاحيّة أو غير ضروريّة للمنطقة المستهدفة. يُذكر أن تدخل الحكومة السوريّة يبدأ في مكتب وزير الخارجية وينتهي عند أصغر عنصر أمني على نقاط التفتيش التي تعبرها هذه القوافل.
في الوثيقة الموجودة في هذه الصورة، يظهر طلب تسهيل وصول قافلة من اللجنة العليا للإغاثة في نهاية عام 2017 ممهور بتوقيع وختم وزير الصحة وختم الهلال الأحمر وبتمويل من منظمة الصحة العالميّة ليصل إلى عنصر أمن عسكري فيقوم بسحب مواد معينة من القافلة رغم موافقة وزير صحة حكومته عليها، و بالنظر إلى المواد المسحوبة نرى أن جميعها مواد طبيّة لا يمكن استخدامها في تصنيع أي شيء قد يثير أي قلق.
في الشهر الثالث من عام 2018 دخلت قافلة مساعدات إلى الغوطة الشرقيّة وقبل انتهاء تفريغ القافلة اتصل ممثل عن الجيش الروسي وأمر القافلة بالخروج خلال ساعة وبالفعل خرجت القافلة قبل تفريغ تسع شحنات منها على الرغم من أنّ القافلة كان يرأسها علي الزعتري ممثل الأمم المتحدة المقيم في دمشق وهو أعلى منصب أممي في سوريا.
يمكن ذكر عشرات الأمثلة عن فساد و إفساد وتسييس مساعدات الأمم المتحدة، وأذكر في مقابلة مع أحد العاملين في الاستجابة الصحيّة في دمشق أنه ذكر لي استخدام تمويل خصصته منظمة الصحة العالمية لترميم المرافق الصحية التي دُمرت نتيجة القصف بناء على تقييم شمل مناطق متعددة استعادها النظام كحلب الشرقيّة والغوطة الشرقيّة ولكن الموافقات الحكوميّة بالتنفيذ لم تصل، وكان على منظمة الصحة التنفيذ قبل انتهاء عقود التمويل، وكان عليها أيضًا الاستماع لتوجيهات وزارة الصحة السوريّة التي وُجهت لدعم مستشفيات في حمص وحماه التي كانت تشكل الخطوط الخلفيّة في معارك جيش النظام في إدلب عام 2019، حتى وصل الحال لتمويل مركز صحي على الحدود اللبنانيّة يقوم بفرز وتبريد الحالات تحضيرًا لنقلها اتجاه لبنان من جرحى حزب الله، ونذكر كذلك أنّ منظمة الصحة العالميّة موّلت وزارة الدفاع السوريّة بما يزيد عن خمسة ملايين دولار من خلال بنك الدم، الذي يتبع في سوريا وزارة الدفاع لا وزارة الصحة.
الجرائم ضدّ حق الصحة
بالنظر إلى المسؤوليّة الجنائيّة نرى أنّ الحكومة السورية مسؤولة مع حليفها الروسي عن أكثر من 90% من الضربات على المرافق الصحيّة التي وصلت إلى 599 ضربة كان آخرها في آذار الفائت على مشفى الأتارب في ريف حلب الغربي، كما أنّه وخلال عشر سنوات قُتل في سوريا ما يزيد عن 930 شخصًا من العاملين و العاملات في القطاع الصحي، من بينهم 185 قتلوا تحت التعذيب في سجون النظام السوري.
حاولت المنظمات غير الحكوميّة البحث عن حلول للضغط على النظام السوري وحلفائه للحدّ من الضربات على المستشفيات، وأصدرت العديد من التقارير عن هذه الضربات وعن حلول بديلة كتحصين المرافق الصحيّة وبناءها تحت الأرض واستخدام أجهزة إنذار من الضربات الجويّة، وحتى لجأت إلى مشاركة إحداثيّات المرافق الصحيّة من خلال آليّة تحييد المرافق الإنسانيّة التابع لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانيّة، إلّا أنّ النظام السوري كان يطور آلته التدميريّة ويستخدم قصف المرافق الصحيّة في كلّ حملة عسكريّة، حتى أنّه استخدم الأسلحة الكيماويّة عدّة مرات ضدّ مرافق صحيّة. وفي ذاكرتي دائمًا صورة مقتل الدكتور علي درويش الذي قضى بعد استهداف المشفى التي يعمل بها في ريف حماه الشمالي في آذار 2017 بعبوة محمّلة بغاز الكلور.
إضافة إلى ذلك فقد استخدم النظام السوري المساعدات الإنسانيّة كسلاح حرب، واستخدم نفوذه لمنع وصول المساعدات لمناطق محددة وتوجيهها نحو مناطق أخرى، وقد وُثقت مئات الوفيات بسبب حرمان المناطق المعارضة من المساعدات الإنسانيّة،فمثلًا في بلدة مضايا وحدها وُثقت 86 حالة وفاة متعلقة بالحصار خلال ستة أشهر فقط من حصار المدينة.
نظام صحي مسيس، منهك بسبب سياسات الحكومة السورية
كان النظام الصحي في سوريا قبل عام 2011 منهكًا بالفساد ولكن كان يعوض ذلك دائمًا غنى سوريا بالكوادر الصحيّة، والدواء المحلي الذي كان يغطي 95% من الاحتياجات. هذه الكوادر هاجرت الآن فقد غادر سوريا ما يزيد عن 70% من أطبائها و طبيباتها وأصبح معدل ساعات العمل للعاملين في القطاع الصحي 80 ساعة في الأسبوع وخاصة للاختصاصات النادرة وأصبح هناك طبيب واحد لكلّ 10 آلاف نسمة و تراجع معدل العمر في سوريا من 70 عامًا في عام 2010 إلى 55 عامًا الآن.
استخدم النظام السوري المساعدات الإنسانيّة كسلاح حرب، واستخدم نفوذه لمنع وصول المساعدات لمناطق محددة وتوجيهها نحو مناطق أخرى.
وقد شهد السوق الصيدلاني انخفاضًا حادًا في تواجد الأدوية حيث تعمل المعامل الدوائيّة بـ5% من استطاعتها فقط، عدا ذلك تعمل فقط 64 % من المستشفيات السوريّة، و 52% من مرافق الرعاية الصحيّة الأوليّة، و يتوقف الباقي عن العمل إمّا بسبب تدميره أو بسبب توقف التمويل وعدم قدرة الحكومة على الاستجابة، وهناك مناطق كثيرة كالغوطة الشرقيّة ومنطقة حلب الشرقيّة استعادها النظام من المعارضة فمنع دخول المنظمات غير الحكوميّة إليها ولم يقم هو بتخديمها. ما زالت، على سبيل المثال، مدينة دوما في منطقة الغوطة الشرقية بعد 3 سنوات من سيطرة النظام السوري عليها بدون أي رعاية صحيّة حكوميّة حتى اليوم.
كما أن وزارة الصحة السوريّة اعتمدت سياسة تحويل المستشفيات العامة الكبرى إلى هيئات مستقلة تحصل على رسوم مقابل الخدمات الصحيّة التي تقدمها منذ عام 2012 و هذا ترك منطقة مثل دمشق العاصمة التي تأوي ما يقارب 4 ملايين نسمة بمستشفى مجاني وحيد وهو مستشفى ابن النفيس.
الاستجابة لكوفيد-19
في بداية عام 2021 صرّحت نقابة أطباء سوريا عن وفاة 130 طبيبًا وطبيبة نتيجة إصابتهم بفيروس كورونا، لكن أثبتت عدّة تقارير أنّ النظام السوري يستخدم وباء كورونا للتغطية عن عمليات القتل تحت التعذيب لبعض الأطباء المعتقلين. هذا الرقم مخيف حقًا ويدل على نقص أدوات ووسائل الحماية والوقاية لدى الكوادر الطبيّة نفسها.
من المعروف أيضًا أنّه بإمكان السوريين الحصول على تقرير تحليل سلبي تجاه فيروس كورونا لقاء بضع مئات من الدولارات في حال اضطروا للسفر أو لأداء أيّ معاملة تحتاج تقريرًا سلبيًا، وقد تلاعبت الحكومة السوريّة بالأرقام وتركت مواطنيها يموتون في مواجهة الوباء وأنكرت حجم الكارثة، وتعاملت مع الوباء بطريقة أمنيّة تشابه تعاملها مع كلّ الملفات.
خلال عشر سنوات أظهرت الحكومة السوريّة إمكانيتها في استخدام أيّ شيء بما فيه المساعدات الإنسانيّة، وحياة العاملين في القطاع الصحي، وصحة مواطنيها، ونظامها الصحي، وبنيتها التحتيّة، ومواردها اللوجستيّة مقابل تحقيق انتصارات عسكريّة وسياسيّة أولًا وانتفاع البنيّة المافيويّة للمقربين من رأس النظام بشار الأسد وعائلته ثانيًا، هذه الحكومة اليوم ستُمثَّل من خلال وزير صحتها في المجلس التنفيذي لمنظمة الصحة العالميّة، والتي بدورها لم تبد مناعة أو حصانة ضدّ الفساد والتسييس وعسكرة المساعدات، مما يعطي أنموذجًا لباقي الدول عمّا يمكن أن تقوم به من تدخلات في المساعدات ومن ثم بدلًا من معاقبتها بأبسط الوسائل وهي المقاطعة، تكافأ بوضعها بين صنّاع القرار. إن أعضاء الجمعية العامة لمنظمة الصحة العالميّة لم يختاروا حكومة مجرمة فحسب بل اختاروا أنموذجًا برع في هدم نظامه الصحي وتهجير كوادره وإضعاف استجابته، والتلاعب بموارده حتى أعاد النظام الصحي في بلده عشرات السنين نحو الوراء خلال بضع سنوات ليتبوأ مقاعد قياديّة في صفوف المنظمة الدوليّة المسؤولة عن سياسات العالم الصحيّة.