حملوا مفاتيح بيوتهم المستباحة

من حكايات الشتات الفلسطيني


يُقال: حين تنتهي الحكاية، يكون الموت قد نال من شخصياتها، أو أنّ المعنى قد اكتمل بإطار محدّد المعالم.

10 حزيران 2021

سعيد سامر بلبيسي

حقوقي فلسطيني.

كنتُ أُمعن النظر، مذ كنت طفلًا، في تلك الأيقونة الخشبيّة التي تحمل شكلًا شبه مثلث معلقة على حائط بيتنا في دمشق، أتصورها في كلمات جدي الذي كان يعمل سائقًا لسيارة نقل بضائع بين المدن الفلسطينيّة. لم يكن يُكثر الكلام عن فلسطين، فما أن يبدأ الحديث حتى تنتابه غصّة ويرسل نظره بعيدًا، وكأنّ مشاهد الماضي تتشكّل في الأفق البعيد.

أصرّيت مرة أن يتحدّث بتفصيل أكثر، انفعل معلنًا انتهاء الحديث: "كانت حياةً عاديّة والجميع منشغل بأشغاله".

أحيانًا كانت تفلت منه جملٌ في وصف الأحداث هناك؛ تحدّث مرّة عن مضايقات الجنود الإنجليز للسكان وأعمالهم وحياتهم. فأثناء رحلة كان يقوم بها بين حيفا والقدس، ولأنّه كان ينقل الصحف في سيارة مع زميل له، أطلق الجنود عليهما النار، فأسرعا بالهرب من وابل الرصاص في استهداف صريح لما يحملانه من صحف تصدر يوميًّا.

دمشق، المدينة المفقودة

10 أيار 2021
تتوارى دمشق في مشاهد الموت المدقع المترامي في العيون، موت يصيب النظرات والزفرات المختنقة في بحثها عن الخلاص. ذاك الرعب الكامن في زواياها وطرقاتها، لكأنّ الناس هناك يمشون في ضباب...

كانت الصحف تلك تمثّل مظهرًا ثقافيًّا ووطنيًّا مهمًّا في حياة الفلسطينيين قبل عام 1948، حيث نشرت الكثير حول مخططات الاستيطان والاستيلاء على أراضي الفلسطينيين، ودور الانتداب البريطاني في النكبة، والتحذير الدائم من عصابات صهيونيّة تتضخّم بالتدريب والتسليح والتمويل تحت ظلّ الانتداب.

أظنّ أنّ جدي كان مسالمًا، بالرغم من مقتل والده ووالدته في أوائل عشرينيات القرن الماضي، حين احتل الإنجليز فلسطين، وكان حينها طفلًا. قبلها قتل الأتراك العثمانيون جدّه في حروب 1916. رعته دار أيتام في حيفا، وأغلب الظن أنّها كانت تتبع الكنيسة هناك، وحين أصبح الأولاد  في سن المراهقة، أُخرجوا من الدار ليعملوا أو يسافروا أو يُتركوا لمصير مجهول. كان يقرأ كثيرًا، يقلّب صفحات الصحف يوميًّا وكأنّه يبحث عن شيء ما مفقود. 

مات والدي حيث كان يعمل في الكويت. كان عمري ثلاث سنوات. انتقلنا بعدها للعيش في بيت جدّي في دمشق، بيت صغير وسط المدينة.

كان في بيت جدّي بناته الست، إحداهن أمي، وولدان وجدتي، ثمّ أنا وإخوتي الأربعة، قبل انتقالنا إلى بيت مستقل مع والدتي بالقرب من بيت جدّي. لم نبتعد كثيرًا.

راقبت جدي طويلًا، تعلّمت منه لغة الصمت الذي ترافقه تلك النظرة التائهة في فراغ ما. صرتُ أبحث في الغرفة نفسها التي يجلس فيها جدّي عمّا يسترعي الانتباه. لا شيء يشدّ نظري سوى ذاك الشكل المعلّق على الحائط الذي يبدو أحيانًا شبهًا بالمثلث، وأحيانًا كشجرة، أو ربما كانسان حنى ظهره قليلًا.

كانت الصحف تلك تمثّل مظهرًا ثقافيًّا ووطنيًّا مهمًّا في حياة الفلسطينيين قبل عام 1948، حيث نشرت الكثير حول مخططات الاستيطان والاستيلاء على أراضي الفلسطينيين، ودور الانتداب البريطاني في النكبة، والتحذير الدائم من عصابات صهيونيّة تتضخّم بالتدريب والتسليح والتمويل تحت ظلّ الانتداب.

كانت عينا جدي تركضان بجنون متتبعتين الكلمات المرصوفة في الجرائد، تبحثان عن خبر ما، وأحيانًا كنتُ أعطيه أقلام التخطيط ليرسم كلمات جميلة، فقد كان خطّاطًا معروفًا للكثيرين. هكذا كانت علاقتي به، متسّمة بأواصر غريبة. كنت أحاول كثيرًا فهم ضبابِ أفكارٍ وذكرياتٍ تلفّ عالمه، كنتُ أحاول سبر أغواره والغوص فيما لا يٌُقال، كنت أبحث في عالمه، مبيحًا لنفسي كلّ الاحتمالات، وفاتحًا أبواب الأحلام والتهيؤات على آخرها.

حين مات في أواسط الثمانينات، تأملتُ هيئته الأخيرة فيما تطوف بي مشاعر عدم التصديق. تمّ الأمر بأن غُسّل ودُفن في مقبرة الشيخ رسلان وسط دمشق قريبًا من الباب الشرقي القديم للمدينة. كان المكان مكتظًّا بأحباء جاؤوا لتوديعه.

أتذكّر جيّدًا مبلغ الألم الظاهر على وجهه. كانت يداه تقبضان على شيء ما، مشدودتان فوق صدره. في تلك اللحظة، اختفى جميع مَن حولي، كنّا وحدنا في غرفة غسل الموتى كما كنّا في تلك الغرفة في بيته، أتابع صمته وذاك الرحيل في نظراته إلى عوالم مُشكّلة من اللوعة والألم. لا، لم أجزم موته، بل على العكس كنت متأكدًا من وجوده…

من حلب إلى بيروت، مدن تحترق وأزهار للقاتل

22 شباط 2021
عبر أحداث حقيقية، عاش بعضها وكان شاهدًا على بعضها الآخر، يروي المخرج السوري "عروة المقداد" ذاكرة مثقلة بالأحلام المجهَضة والآمال المهزومة كنتاج لحياة عاشها بين ثورتين (الثورة السورية وثورة ١٧...

كبرتُ، وبدأتْ زوايا وانحناءات ذاك الشكل الذي يشبه المثلث تتكامل في هيئة وطن، يمتدّ ليمثّل الدنيا والعالم في تخيّلات وأحلام لا ينقطع حبل أفكارها. عرفت حكاية أبي وما يلفّها من نقصان وانقطاعات تدلّ على تمرّد وهروب متتالي من عائلة تتناهى القسوة فيها وتتمثّل في علاقة الإخوة لإثبات سيطرة عائليّة تمتزج بمرتبة شرفيّة مغرقة بمجهوليّة طاعة عمياء للكبير منهم.

ينحدر أبي من منطقة باب العامود في القدس (أو باب دمشق كما يُسمى في أحيان أخرى) وله إخوة غير أشقاء ووالد طاعن في السن مات حين كان أبي صغيرًا، فاستأثر العم والأخ الأكبر في كيل صنوف الشدّة عليه صغيرًا فهرب الى حيفا. ودائمًا ما كانوا يُرسلون في البحث عنه، فكان يتنقّل من هنا إلى هناك بين المدن والبلدات الفلسطينيّة حتى وصل إلى عمّان ليستقر، ثمّ إلى دمشق، وبعدها ليعمل في الكويت كالكثير من الفلسطينيين الباحثين عن عمل واستقرار.

كان مثل الجميع، بفارق أنّه لم يستطع  تحمّل فكرة بقائه في نفس المكان فترة طويلة، وهو الذي اعتاد الترحال. فقام بمراسلة شركة في فلوريدا وأرسلوا إليه مخططات المنزل الذي سيسكنه والعمل وتفاصيل كثيرة، لكنه مات قبل اكتمال رحلته.

لم تكن علاقتنا مع أهل والدي جيّدة بسبب تفرّقهم في بقاع كثيرة، حتى أنّني قد رأيتُ بعضهم لمرة أو اثنتين فقط.

عدوى ذاك التمرّد الذي اتّصف فيه والدي الناتج عن طريقة معاملتهم له، أصابت والدتي التي عرفت طبعهم وسلوكهم مع والدي فيما سبق، لذلم حاولت إبعادنا بقدر ما تستطيع عن الاتصال بهم. وقد حاولوا إقناعها حين كنّا صغارًا بأن يرجعونا إلى مسقط رأسنا في القدس، ولكن عبثًا حاولوا.

بدأت ملامح ذلك المجسّم الذي كان معلّقًا تتضّح بشكل ضبابي ومتخيّل، لكنه حقيقيّ في تغلغله في تفاصيل حياتي، فوَسَمَها باللجوء، وغطّى أركانها وملأ زواياها بغصات لا أتبيّنها تمامًا، وكأنّ الذكريات تنتقل عبر الهواء، في القصص التي نسمعها صغارًا ويتردّد صداها في دواخلنا لتبني عالمًا مفقودًا من الاطمئنان.

يتداخل واقع ما نعيشه من مهاترات يوميّة، وذاك الحلم البعيد الذي نرسمه في النظرات، الذي وبالرغم من بعده لكنّنا نحسه متغلغلًا في أعصابنا أو متحقّقًا في هفواتنا. نهرع لهذا الفقدان الذي يملؤنا ونركض في مساحات من الانتظار والترقّب كأنّ مشهد جدّي وفي يديه الصحيفة يبدو واضحًا هنا، يبحث فيها بلهفة من أضاع حرزًا ثمينًا علّه ببحثه ذاك يتحقّق قدر مفاجئ ما، ربما آمن به.

استحالت هذه الدنيا أمامي كتلك الصحيفة والنظرة البعيدة، وكلّما كبرت أكثر، ارتسم ذاك الحلم في بلاد بفقدانها. نتحسّس أجسادنا لنعي ما فقدناه تمامًا. أعي رويدًا، رويدًا رسومًا تخلقها العينان، تتجاوز الأمكنة والهواء، تتسرّب الى مسافات تنسلّ إلى ما لانهاية، هناك... في روح هائمة تتلوّن بالغضّات والحسرة. صارت البلاد كلّها... صحيفة. 

بدأت ملامح ذلك المجسّم الذي كان معلّقًا تتضّح بشكل ضبابي ومتخيّل، لكنه حقيقيّ في تغلغله في تفاصيل حياتي، فوَسَمَها باللجوء، وغطّى أركانها وملأ زواياها بغصات لا أتبيّنها تمامًا.

تبدو الحياة عبارة عن إسقاطات، أو امعانًا في متناقضات، ربما كي نعي جدوى الأشياء، أن نمتلك موقفًا منها وخلالها. نحن عبارة عن تناثر أفكار وذكريات هنا وهناك، ذاك الشّتات الذي يُشاء له أن يكون على الحياد، أن يكون عدمًا بلا جسد. مجرّد روح هائمة تهرب من ظلم هنا، وقسوة هناك لتجد كيانها عبر ذاك الترحال الممضّ في سباق لا ينتهي مع توزّع مساحات القنوط واليأس. هو إغراق المعنى الفردي الكامن، في الكلّ، لتسبغ على الحياة سمة اعتياد ووتيرة جمعيّة. لذا كانت حكمة انتظار القدر مستحقة لمن راكم أحلامه حطامًا وندمًا.

نمضي سريعًا في هذا الشّتات، نهرب من قيد الوصف، الإمعان في استمرار الحكاية، ذاك السّرد الذي يحبس المعنى في كلمات. 

الجسد بين الذاكرة والحدث

04 كانون الثاني 2021
تتنقل الكاتبة في ذاكرتها، فقد جعلها الحجر الصحي والانعزال عن العالم تتذكر بعض تفاصيل حياتها السابقة قبل اللجوء إلى ألمانيا، حيث كان والدها معتقلًا سياسيًا في سجون نظام الأسد. تسرد...

هو يرخي معناه على البلاد والأشياء، يعمّق فيها انحيازها، لا يمكن أن تكون جاثمة على طرفي نقيض مهما حاولنا تأويلها. هي معركة انعكاس الفوضى التي تملأنا بصورة تمرّد في مواجهة الموت المتربّص في السكون، لا.. لا توجد صورة واحدة لهذا الاضطراب المتجسّد بعدم اكتمال المعنى، في تبدّله وتحركه، بإمعان طغيانه في المشاهد المتلاحقة بهيئة ذات الهروب، والرحيل المتواصل الزاخر بالفقدان، برغم تسرّبه تلك النظرات الهائمة بحثًا ولوعة.

في استبدال البلاد بالأحلام التي تمتدّ وتطغى على ما سواها، تنضح فينا فنصير وطنًا متنقّلًا. تمتد الحكايات المتخيّلة لتنال من كلّ ما نمر به، تحوّر الأشياء لتجعلها جزءًا منها، لتصبح بضعة أسطر أخرى في متنها، وتستمرّ. يتّسع الوطن بما يلزمه لتكتمل الصورة: بيوت وأشجار وأوانٍ ومقاعد، ومفتاح.

أغلب من يعيش واقعًا أصمًا يغطيه بأحلام الحقيقة الوحيدة المتيقّن منها. حملوا مفاتيح بيوتهم المستباحة، قابضين عليها كمن يمسك الأمل بالعودة إلى جذر الحكاية. يُعلّق ذاك الوطن في المكان الأبرز من البيت لئلا ننسى، وكذلك المفتاح. نستعد حين النظر اليهما لأن نشرّع أبواب الحنين على آخرها.

المفتاح هو الوسيلة التي نخطو عبرها الحدود، كلّ تلك القيود. الكثير منا مات وذاك المفتاح معه، لم يفارقه طيلة حياته وكأنه استحال جزءًا من الجسد يشدّ عليه كملاذ كلّما اضطرب حوله التيه والسراب. 

لكلّ فلسطيني حكاية شتات، تميل قليلًا للغروب في مهاترات تدور حول وجوده، محاولةً صهره في محيط البؤس والاستسلام لقدر لا مناص منه، ثم لا يلبث أن ينفض عنه غبار الاضطرار. ينتفض، يتحرك، بحركات هوجاء أحيانًا قد تبدو بلا معنى ولا هدف، ساعيّة إلى التمرّد ومحاولة النيل من ذكرياته المتركّزة أحيانًا في الهواء، في تلك الخريطة المعلّقة أمام عينيه، يقلّب تضاريسها التي لاتنتهي وكأنّ العالم تجمّع فيها، كلّ الأفكار والحياة التي تدور رحاها في جنات وأنهار، ومعارك الآلهة الأولى بين نور وظلام، وصنوف الإفك والعته الكامن في وعد إلهي بعث للحياة تشويهًا نال بامتداد قتامته كلّ البدايات الكامنة في تجليّات مناحي الحياة المختلفة.

يُقال: حين تنتهي الحكاية، يكون الموت قد نال من شخصياتها، أو أنّ المعنى قد اكتمل بإطار محدّد المعالم.

مقالات متعلقة

عن باسل شحادة وعلاقتي معه

28 أيار 2021
هذان الشيئان سيربطاني بباسل ما حييت: الفيلم، ويوم مقتله الذي يصادف يوم عيد ميلادي، لكن ما يربطني به أكثر هو إيمان عميق بالحريّة وبالفن وبالكرامة الإنسانيّة وبالعدالة، إيمان لا حياد...
ملحمة الحزن الكامن فينا

08 نيسان 2021
تتسع الذاكرة لتكوّن هذا العالم، لتسكن تفاصيله، كلّ مدينة وكلّ شارع مررنا به في هروبنا. توسمنا في هذا الهروب الخلاص.. عبثًا. الذاكرة تمعن في حفر المشاهد أمامنا، لتصبح شواهد عليها.
من "روضة" دمشق إلى "آينشتاين" برلين.. خفقة قلب

20 آب 2020
"لا تقترب المدن من قلبي ويصبح لها مساحة خاصة به، ما لم أجد فيها مكانا يألفه القلب، وهذا المكان ليس إلا المقهى. إذ لا أعتبر المدينة "مدينتي" ما لم يكن...
رحلة الزيت والشتاء

06 تشرين الثاني 2020
لا يمكن لأي نص يتحدث عن عفرين، وإن كان موضوعه الزيت وأشجار الزيتون وطقوس مواسم القطاف، أن يتجاهل احتلال المدينة الذي يستفز الحاضر، مثلما يوقظ الذاكرة ويتسلّح بها. ولهذا، هذه...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد