"بينما كنتُ أنا من يغطي الحدث، صرت حدثًا وخبرًا من بين الأخبار التي يفترض أن أكون ناقلها"، "أبحث عن عمل إضافي مع عملي في المجال الصحفي"، عبارات سمعتُها كثيرًا منذ السنة الماضية، خلال أحاديث مع ناشطين/ات إعلاميين في شمال وشمال غرب سوريا، فالكثير منهم عاش لحظات النزوح، بعضهم ترك مهنته مجبرًا وآخرون استطاعوا الحفاظ على معداتهم الصحفيّة والهروب بها من مناطقهم إلى أحد المخيمات، فيما لجأ الكثيرون لمهنٍ أخرى حتى يستطيعوا العيش!
راما (اسم مستعار) صحافيّة عملت مراسلة لعدّة وسائل إعلام سوريّة في شمال وغرب سوريا، تبدأ بالحديث عن تجربتها لحكاية ما انحكت: "كانت تجربة النزوح قاسية، خاصة أنّني مسؤولة عن نفسي وعن أهلي".
في عام 2019 بدأ النظام السوري تصعيده الأكبر على المناطق الخارجة عن سيطرته في شمال غرب سوريا، فسيطر على ريف حماة الشمالي وأجزاء واسعة من ريف إدلب الجنوبي، منها مدينة كفرنبل، التي تنحدر منها راما وعاشت حياتها فيها، فاضطرت للنزوح عام 2019 إلى مدينة إدلب.
هذه الظروف فرضت صعوبات كثيرة وجديدة عليها، "أصعب لحظة أعيشها حين لا يكفيني راتبي الشهري، أعمل وأقدّم كل شيء، وفي النهاية لا يكفي راتبي أجرة بيت أحيانًا. حاليًا اضطررت لترك عملي، شعرت بأنّني قد أصبحت مستهلكة في المجال الإعلامي، ناهيك عن الاستغلال بالأجر الذي يتعرّض له أغلب مراسلي الشمال السوري".
تحت سلطة "حكومة الإنقاذ" التابعة لهيئة تحرير الشام، من الصعب جدًا عمل النساء في الصحافة، رغم وجود الكثيرات مثل راما. هنّ يصطدمن بواقع يفرض عليهنّ صعوبات في التنقل والحركة، وإيجاد فرص عمل، على عكس الصحافيين الشباب، وإن كان الطرفان لهما حدود في حريّة التعبير والعمل الحرّ في المنطقة بطبيعة الحال.
شذى (اسم مستعار) صحافيًة تنشط في المنطقة، تؤكد لحكاية ما انحكت أنّها لا تتحرك بحريّة خلال عملها، موضحة كيف تتعامل مع المواقف الصعبة: "في إحدى المرات كنتُ أصوّر في شوارع إدلب، فجأة تعرّض لي عناصر من النصرة، وبدؤوا التحقيق معي، اضطررت للكذب عليهم، وأخبرتهم أنّني أصور الفساتين المعروضة في أحد المحال لصديقتي، أخذوا هاتفي الجوال، هنا شعرت أنّها النهاية، لكن الحمد لله اكتفوا بحذف الصور ولم يفتًشوا كلّ الهاتف".
تؤكد شذى أنّها لم تخبرهم عن عملها الصحفي، خاصة وأنّها بحكم الملاحقة من قبل جبهة النصرة، بعدما نشرت تحقيقًا استقصائيًا وثّق انتهاكاتهم حول الاستيلاء على بيوت الناس (فضّلنا عدم وضع رابط التحقيق كي لا نعرّض الصحيفة لأيّة مخاطر).
هل هناك تقصير من الأطراف التي يفترض أن تكون مسؤولة!
الصحفي السوري عبد العزيز العذاب، رئيس نادي الصحفيين السوريين في تركيا، يتابع قضايا وشؤون الصحفيين/ات بشكل مكثّف.
يقول العذاب لحكاية ما انحكت إنّ "قضايا الزميلات الصحفيات تشكّل المشكلة الأكبر، فقضايا التحرّش على سبيل المثال لا الحصر وهو الانتهاك الأكبر بحقهن داخل بعض المؤسسات لا يمكن حلّها لأنّنا حتى لو امتلكنا التشريع (وهو غير موجود) لا نملك الشكوى لأنّ الزميلات يفضلن الصمت والانسحاب (الاستقالة) لأسباب كثيرة أقلّها ضغط المجتمع".
تحت سلطة "حكومة الإنقاذ" التابعة لهيئة تحرير الشام، من الصعب جدًا عمل النساء في الصحافة، رغم وجود الكثيرات مثل راما. هنّ يصطدمن بواقع يفرض عليهنّ صعوبات في التنقل والحركة، وإيجاد فرص عمل.
وبحسب العذاب، يوجد تقصير واضح من "حكومة الإنقاذ" و"الحكومة السورية المؤقتة" في سن تشريعات ناظمة للعمل الصحفي داخل سوريا حسب تعبيره، قائلًا خلال حديثه إنّ "الوسائل العاملة خارج سوريا بلا تراخيص، بعيدة عن أيّ مساءلة حتى في ظل قوانين الدول المقيمة عليها لأنّها لا تشملها. ما يربط الصحفي والإعلامي السوري بمؤسسته هو السلطة الأخلاقيّة فقط، وفي حال فقدها من أيّ طرف تقع الكارثة وهذا ما نحن فيه".
الفلافل تساعد الصحفي!
حمزة عبد (اسم مستعار لأسباب أمنيّة) مقيم في شمال غرب سوريا، يعمل مراسلًا ومتعاونًا مع عدّة وكالات ووسائل إعلام محليّة وعالميّة، عاش تجربة النزوح حين أجبر على مغادرة داريا بريف دمشق عام 2016، ووصل إلى محافظة إدلب.
"كانت هذه الفترة صعبة، خاصة أنّني وصلت إدلب ولم أكن أعرف ماذا أفعل، تركت دراستي من الصف العاشر الثانوي، ولا يوجد مورد كافٍ لأبدأ عملًا" يقول حمزة لحكاية ما انحكت، ويضيف: "خلال فترة النزوح لم أستطع أخذ أيّ شيء معي من داريا".
بعد وصوله لشمال غرب سوريا بدأ العمل في الإعلام، ثمّ الدراسة بالمعهد التقني للإعلام التابع لجامعة إدلب، وحاول خلال الفترات الماضية السفر لتركيا لكنه لم يستطع، مصطدمًا بواقع صعب، يقول لحكاية ما انحكت إنّ "العمل الإعلامي قد أصبح ضيّقًا في الفترة الأخيرة، بسبب كثرة الإعلاميين والصحفيين المتواجدين في إدلب، كلّ الإعلاميين الذين كانوا في دمشق وحلب وريف إدلب الجنوبي وتهجروا أصبحوا هنا، كما أنّ القنوات حجّمت عملنا بسبب أنّ الملف السوري لم يعد أولويّة لديها". يختم حديثه قائلًا: "حاليًا لديّ عمل إضافي مع الإعلام، أعمل في محل لبيع الفلافل".
التهجير أصبح عادة لدى البعض
"بدايةً، أنا معتاد على التهجير، تهجرت عدّة مرات، من حمص إلى حلب، ثمّ من حلب إلى إدلب، عشت سنتين في ريف إدلب الجنوبي، وكان التهجير الأخير صعبًا جدًا، كنتُ أمام تحدٍ كبير، بين أن أقوم بتغطية القصف والمجازر في ريف إدلب الجنوبي وريف حماة الشمالي، وبين أن أنزح وأنقل أغراضي" يتحدث أنور الحمصي، مراسل صحفي في شمال غرب سوريا حاليًا، لحكاية ما انحكت.
بسبب هذه التجارب القاسية، زادت المصاريف بشكل كبير على الحمصي، فاضطر مؤخرًا للعمل في التجارة بالمعدات الالكترونيّة، مع عمله الإعلامي، ليستطيع تأمين حياة كريمة له ولعائلته حسب وصفه.
حول أوضاع العاملين بالمجال الإعلامي في المنطقة يقول إنّ "المدخول الذي يجنيه الإعلامي في الفترة الأخيرة، أيّ منذ سنتين، لا يتوافق مع المصروف، هو بحاجة مصروف أجرة المنزل، ومصاريف تنقّل خلال عمله في التغطيات، إضافة إلى أنّ المعدات غالية جدًا، ومن الممكن في أيّ لحظة أن تتعطل، لذلك وبسبب الضغط عليّ، قمت مع أحد أصدقائي بالبدء بمشروع تجاري".
منطقة مكتظة وخطرة للعمل
تعتبر مناطق شمال غرب سوريا مناطق خارجة عن سيطرة النظام السوري، وقد أصبحت مع مرور السنوات مكانًا لتجمّع المهجّرين من المناطق السوريّة الأخرى التي خضعت لاتفاقيات تسوية (تهجير) مع النظام، ويتجمع في هذه المنطقة حاليًا حوالي 4 ملايين و24 ألف نسمة بحسب مركز جسور للدراسات، وتتصدر قائمة أكثر المناطق السوريّة التي تشهد حركة نزوح داخلي كثيفة بحسب "مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الانسانية OCHA".
المدخول الذي يجنيه الإعلامي في الفترة الأخيرة، أيّ منذ سنتين، لا يتوافق مع المصروف، هو بحاجة مصروف أجرة المنزل، ومصاريف تنقّل خلال عمله في التغطيات، إضافة إلى أنّ المعدات غالية جدًا، ومن الممكن في أيّ لحظة أن تتعطل.
هذه الأوضاع فرضت ظروفًا صعبة على مختلف المهن، منها الصحافة، لكن الكثير من العاملين في هذا المجال آثروا الاستمرار، كالذين ذكرناهم مسبقًا في التحقيق، وكذا عبد الرزاق الشامي، الذي يعمل في المجال منذ بدء الثورة السوريّة عام 2011.
"عملت في الصحافة كناشط منذ انطلاق الثورة لتوثيق المظاهرات، نزحت من حيّ جوبر الدمشقي إلى الغوطة الشرقيّة بعد تعرض منزلنا للقصف عام 2012. بعد مجزرة الكيماوي 2013 خرجت من الغوطة نحو مضايا، تمّ فُرض الحصار عليها وعلى بقّين والزبداني، وشهدت حملة عسكريّة انتهت بمجاعة وتهجيرنا إلى الشمال السوري" يسرد الشامي لحكاية ما انحكت أبرز أحداث حياته خلال السنوات الأخيرة.
خلال سرده يتذكر واحدة من أصعب اللحظات التي عاشها في فترات التهجير، شارحًا، أن القصف بالبراميل يعتبر أقل سوءًا من الجوع، "شعور صعب أن ترى أهلك والأطفال يموتون من الجوع، ولا تستطيع تقديم شيء".
مع وصوله لشمال سوريا، استمر بعمله الإعلامي، وعمل مراسلًا لعدّة وكالات ومحطات تلفزيونيّة، ولكن بسبب صعوبة الظروف، لجأ مثل أنور وحمزة، لعمل آخر.
استغلال وضعف المطالبة بالحقوق!
ليست الهجرة إلى أعمال ومهن أخرى هي المشكلة الوحيدة التي يعاني منها الصحفيون، فهناك أيضا الخوف من الاعتقال والتهديدات المستمرة وعدم القدرة على الاستقرار في مكان واحد في منطقة متغيّرة على الدوام.
ثمّة جهات عالميّة وسوريّة معنية بشؤون الصحفيين، منها مراسلون بلا حدود، المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، رابطة الصحفيين السوريين، ميثاق شرف الإعلاميين السوريين، نادي الصحفيين السوريين وجهات أخرى، تدعم الصحفيين/ات وفق إمكاناتها، لكن حتى اللحظة، لا يوجد كيان قادر مثلًا على الضغط على وسائل الإعلام المحليّة وغيرها في حال حدوث انتهاكات إلا فيما ندر، ولهذا أسباب كثيرة، منهًا أيضًا عدم دراية بعض الصحفيين بهذه الجهات وبحقوقهم.
إباء منذر، منسقة الدعم في البيت الصحفي في المركز السوري للإعلام وحريّة التعبير، تقول لحكاية ما انحكت: "هناك حاجة بكلّ تأكيد لوجود نقابات وهيئات تعمل على مساندة الإعلاميين/ات في حال وجود أي نزاع حقوقي، وتفعيل دور الهيئات الموجودة بصورة أفضل". تضيف منذر خلال حديثها "لكن من ناحية أخرى غياب الصيغ التعاقديّة، وعدم حفظ الصحفيين/ات لحقوقهم/نّ يجعل فرص التدخل محدودة، فكلّ طرف من الأطراف سيكون لديه مبرراته أو روايته طالما لا يوجد نص مكتوب. خاصّة في ظلّ غياب سيادة القانون وانعدام استقلاليّة القضاء في مناطق سيطرة سلطات الأمر الواقع على الوضع واستمرار الصراع".
"النصيحة الأهم والتي تمتدّ على كامل الجغرافيا السوريّة هي حماية الحقوق بالتعاقد، الذي يضمن لكلّ طرف ما له وما عليه من التزامات، بالإضافة الى ضرورة امتلاك الأدوات الصحفيّة المهنيّة لأنهّا تساعد الصحفيين/ات على حماية حقوقهم/ن" تقول إباء منذر.
تلك النصيحة، تتماشى مع سياق ما أكمله الصحفي عبد العزيز العزاب خلال حديثه لحكاية ما انحكت، "عدد وسائل الإعلام العاملة في شمال غرب سوريا قليل جدًا، بعض المسؤوليّة تأتي على الصحفيين والإعلاميين العاملين هناك مع مؤسسات مقيمة خارج سوريا، وهذا الأمر يجعلها خارج نطاق المساءلة، هذا إذا علمنا أن عددًا لا بأس به من المؤسسات المقيمة في تركيا (على سبيل المثال) غير مرخصة، حتى العاملون فيها والمقيمون في تركيا لا يستطيعون الحصول على حقوقهم قانونيًا حين يكون هناك حق، فلا قوانين ناظمة بين الصحفيين ومؤسساتهم".
قلّة الخبرة القانونيّة!
قصص كثيرة حدثت وتحدث، مع العاملين والعاملات بالمجال الإعلامي في هذه المنطقة، لكنهم يبقون، بمعظمهم، متمسكين بحقهم في نقل وتوثيق الصورة ومتابعة العمل وفق الإمكانات المتاحة، ورغم غياب ثقافة العقود الواضحة في العمل لدى عدد كبير من وسائل الإعلام المحليّة وغيرها!
"شعور صعب أن ترى أهلك والأطفال يموتون من الجوع، ولا تستطيع تقديم شيء".
تجدر الإشارة هنا إلى الكثير من المبادئ التي يجب على الصحفيين/ات العاملين في مناطق خطرة كسوريا، الالتزام بها، والعديد من الحقوق لهم على المؤسسات التي يعملون معها بعقود ثابتة أو بمجال "الفري لانس"، فسوريا تحتل المركز 173 عالميًا على سلم حريّة الصحافة وفق تصنيف مراسلون بلا حدود.
ترى إباء منذر أنّ المشكلة ليست مرتبطة فقط بمنطقة شمال غرب سوريا، "أعتقد أنّها اتسعت خلال العشر سنوات الماضية مع ظهور حالة المواطن الصحفي، التي نشأت في ظروف فرضتها سيطرة الحكومة السوريّة على الإعلام ومنع الصحافة المستقلة من العمل، كما شرط الحرب القائم، حيث مثّل المواطن الصحفي المصدر شبه الوحيد للمعلومة، ووسائل الإعلام بحاجته نتيجة تخوفها من إرسال المراسلين المدربين للتغطية في أماكن النزاع، حيث شكّلت سوريا المكان الأكثر خطرًا على الصحفيين لسنوات".
بحسب منذر، لم يكن المواطن الصحي يمتلك أدواته الصحفيّة المحترفة بعد، حيث بدأ يكتسب مهاراته وأدواته وخبراته في العمل مع تراكم تجربته خلال سنوات الحرب، مؤكدة لحكاية ما انحكت أنّ "لم يكن هناك اهتمام كافٍ من قبل وسائل الإعلام في تمايز الخبرة والمهارة الصحفيّة، لذلك لم يكن بمقدور الناشط وضع شروط تعاقديّة محدّدة لوجود خيارات أخرى متاحة للوسيلة الإعلاميّة، والأهم، قد يكون نقص خبرة المواطن الصحفي بحقوقه وواجباته".
بالتالي وانطلاقًا من هنا، ربما يجب على الصحفيين والمواطنين الصحفيين العاملين في شمال غرب سوريا، متابعة قضايا الحقوق والواجبات، ومواكبة أكبر قدر من الاحترافيّة، فمثلًا لا حصرًا، أطلق "تحالف ثقافة السلامة ( A Culture of Safety (ACOS" مبادئ مهمة عام 2015 للعمل الصحفي في المناطق الخطرة، وهي ما يجب على العاملين في هذه المهنة في مناطق شمال سوريا الاطلاع عليها.
مستمرون!
مع هذه الصعوبات والتحديات، ما زلنا نسمع أقوالًا تشبه ما قالته الصحافيّة شذى لنا: "أحمد ربّي كلّما خرجت من المنزل لأعمل على تحقيق أو أجمع صور ومعلومات، وأعود بخير دون أن ألاقي عناصر الجبهة، لا أعرف إلى متى سأستمر في عملي الصحفي خفيّة وبحذر في مكان يعج بعناصر النصرة المتشدّدة، لكن رغم كلّ شيء أنا مستمرة حتى الآن".