حكاية حيوانات دمشق الضّالة

"هي أيضًا تستحق الحياة، مثلي.. مثلنا جميعًا"


ما الذي يحدث للحيوانات الشاردة في زمن الحرب وخلال الأزمات الاقتصاديّة التي تعصف بالبلدان، فتجعل حياة البشر أقرب إلى المستحيل. في هذا التحقيق يبحث الصحافي السوري بشّار يوسف في أحوال الكلاب والقطط الشاردة، التي هربت من القصف والموت في الغوطتين الشرقيّة والغربيّة ومدينة دمشق، وفي التعامل الحكومي معها، وفي العقبات التي تواجه من يحاول إنقاذها.

25 أيار 2021

بشار يوسف

كاتب وصحفي سوري، حائز على ماجستير في العلوم السياسية من فرنسا

تزامنًا مع تصاعد وتيرة الأعمال العسكريّة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري منذ عام 2012، وتحديدًا في الغوطتين الشرقيّة والغربيّة، قُتل وأُصيب عدد غير محدّد من الكلاب والقطط نتيجة لعمليات القصف العشوائيّة، في حين نجح المئات منها في النزوح نحو مدينة دمشق وضواحيها بحثًا عن الغذاء والأمان. بدأ الناس يتحدثون عن "مشكلة الكلاب والقطط الشاردة"، حيث تزايدت آنذاك شكاوى سكان تلك المناطق من تجمع الكلاب والقطط حول حاويات القمامة ليلًا، متهمين إيّاها بنقل الأمراض.

أظهرت بعض الكلاب والقطط شراسة غير معهودة، وتمّ تسجيل عدد من الحوادث التي هُوجم فيها أشخاص في مناطق سكنيّة، وفي مناطق مختلفة من البلاد، ما أثار حالة من الذعر بين السكّان، وأرجع كثير من شهود العيان لحكاية ما انحكت هذا السلوك إلى تعوّد تلك الحيوانات على نهش الجثث البشريّة التي لم يتسنَّ لسكان المناطق المحاصرة دفنها.

إبادة جماعية تحت مظلة "القانون"

لاحقًا نفّذت السلطات السوريّة بشكل متكرّر حملات مُنظّمة لقتل الكلاب والقطط الشاردة، ففي أيار 2017 على سبيل المثال، أعلنت محافظة دمشق أنّها قضت على أكثر من 800 كلب شارد خلال أربعة أشهر، مستخدمة في ذلك الطلقات الناريّة ورمي رؤوس الدجاج المسممة بالقرب من حاويات القمامة.

المحافظة بررت ذلك بعدم توفر اللقاحات اللازمة لمعالجة الأشخاص الذين يتعرضون للعضّ من داء الكَلَب بسبب العقوبات الغربية المفروضة على النظام السوري.

خبز بايت وإعانة... عن أحوال رمضان في دمشق

03 أيار 2021
"هذي البلاد باتت ضيّقة حتى الاختناق وقاسيّة كلقمة خبز يابسة عافتها حتى الطيور الجائعة" يقول أحدهم. بات جليًّا أنّ الحياة الشاميّة قد بلغت درجة من الصعوبة لم تعد قابلة للاحتمال....

في نيسان 2018 تناقلت وسائل إعلام محليّة اتهامات لمحافظة دمشق بقتل 22 كلبًا في مناطق متفرقة باستخدام سُم اللانيت، وهو مبيد حشري يستخدم في الحقول الزراعيّة لكنه شديد الخطورة على الإنسان والحيوان إذا ما تمّ استخدامه بصورة خاطئة.

تقول رشا لحكاية ما انحكت، (26 سنة، تقيم في بلدة جرمانا) إنّ وضع الطعام المسموم أدى إلى انتشار جثث عشرات القطط والكلاب في الشوارع وتفسخها، وذلك كان كفيلًا بتفشي الروائح الكريهة والأوبئة أكثر من ذي قبل. "الحيوانات التي لم يقتلها السُم أُصيبت بالسُعار ما جعلها أكثر عنفًا"  تضيف رشا.

حسب شهادات بعض السكان، تواصلت معهم حكاية ما انحكت، انتشرت أنواع جديدة من القوارض نتيجة للإجراءات الحكوميّة، مثلما حصل في حيّ برزة وفي ضاحية قدسيا. كما أنّ تسميم الكلاب المسعورة أدى، بحسب تلك الشهادات، إلى "انتقال داء الكلب عن طريق الذباب والديدان إلى الإنسان وحيوانات أخرى".

فشل حكومي في التعامل مع المشكلة

يتلخّص النهج الذي تمّ اتباعه في التعامل مع الحيوانات الشاردة في تصريح أدلى به مدير الشؤون الصحيّة في محافظة دمشق، ماهر ريّا، في شهر أيار من العام 2018 لإحدى الإذاعات المحليّة، عندما شدد على أنّ عمل المحافظة هو "إنهاء مشكلة الكلاب الشاردة وليس معالجتها"، وهذا ما قد يُفسر رفض المحافظة والبلديات الاستجابة للمبادرات التي أطلقتها الجمعيات المهتمة بحقوق الحيوانات لإيجاد حلول بديلة، متعذرة بارتفاع تكاليفها وعدم إمكانية تطبيقها.

ذات النهج استمر حينما أصدرت هيئة إدارة العمليات في القيادة العامة للجيش السوري في الثاني والعشرين من شهر نيسان 2019 تعميمًا يُطلب فيه من جميع قادة الوحدات العسكريّة تشكيل فرق عمل مجهزة بالأسلحة الحربيّة أو أسلحة الصيد والقيام بحملة إبادة للكلاب الشاردة، مرجعة ذلك إلى ازدياد حوادث تعرض الجنود للعض من قبلها في ظلّ ارتفاع تكاليف استيراد اللقاحات، فضلًا عن اتهام الكلاب بأنّها "السبب الأول لداء الليشمانيا"، خلافًا لما أوردته منظمة الصحة العالميّة، والتي ذكرت أنّ مرض الليشمانيا لا ينتقل إلى الإنسان عن طريق التعامل مع الكلاب أو مع القطط المُصابة به، وإنّما عن طريق "ذبابة الرمل".

مصدر الصورة صحيفة "عنب بلدي"

قانون العقوبات والعنف المجتمعي

الربط الخاطئ بين الحيوانات الأليفة وانتشار الأمراض، مثل ما حدث بعد انتشار فيروس كوفيد-19، سمح بحدوث ارتفاع ملحوظ في حالات الاعتداء التي تتعرض لها الحيوانات من قبل الأطفال، ليتشكل "ما يُمكن أن يكون متواليّة من العنف والساديّة وصولًا إلى ارتكاب الجرائم"، بحسب مسؤولة الجمعيّة السوريّة لإنقاذ الحيوانات، آني أورفلي.

أورفلي أضافت لحكاية ما انحكت أنّ "الكلاب الضالّة تتعرض بشكل متكرر للتعنيف الذي يصل في بعض الأحيان إلى حدّ التسبب بموتها أو جعلها عاجزة، وخاصة من قبل الأطفال، ما يدفع الكلاب إلى اتباع آليّة عدائيّة للدفاع عن نفسها".

هذا وتعتبر أورفلي أنّ "الإساءة للحيوانات الضالّة يعرّض الناس لخطر أكبر بكثير من عدم التعامل معها" مشيرةً إلى أن القانون رقم 29 لعام 2006 الخاص بحماية الثروة الحيوانيّة لا يشمل الحيوانات الضالة، لكنها لفتت في المقابل إلى زيادة ملحوظة في تعلق الأطفال بالحيوانات الأليفة والاعتناء بها.  

كوفيد ١٩ يكشف واقع الحوكمة الحقيقية في سوريا

28 تشرين الأول 2020
بنظر السوريين في طول البلاد وعرضها، يبقى الانهيار الاقتصادي وتراجع قيمة العملة السورية المشكلة الأكبر والأهم، ليغلب الخوف من الفاقة والجوع القدرة على الالتزام بإجراءات التباعد الاجتماعي والعزل لمواجهة كورونا...

وضّح قانون العقوبات السوري في المادة 728 جرم الاعتداء على الحيوان، والتي تقول في نصّها إنّ "من أقدر قصدًا غير مضطر على قتل حيوان جر أو حمل أو ركوب أو مواش من مختلف الأنواع، تخص غيره يعاقب بالحبس التكديري إذا وقع الجرم في ما هو جار على ملك الفاعل أو بأجاراته أو حيازته بأيّ صفة كانت من الأراضي أو الاسطبلات أو الحظائر أو الأبنيّة وما يتبعها. ويعاقب بالحبس حتى ستة أشهر إذا وقع الجرم في مكان جار على ملك صاحب الحيوان، أو بأجاراته، أو حيازته بأي صفة كانت، وبالحبس من خمسة عشر يومًا إلى شهرين إذا ارتكب الجرم في مكان آخر. وإذا قتل بالتسميم أحد الحيوانات المذكورة أعلاه كانت العقوبة في كلّ حال الحبس من ثلاثة أشهر إلى سنتين".

اشترط قانون العقوبات السوري في نصّه أن تكون المعاقبة على جرم قتل المواشي وحيوانات الجرّ والركوب فقط وأن تكون تلك الحيوانات مملوكة لشخص ما، سُمي "صاحب الحيوان"، وبذلك يكون قتل الحيوانات الشاردة من كلاب وقطط وغيرها، غير متضمن في قانون العقوبات، لذلك تنتشر ألعاب مثل رمي الكلاب بالحجارة أو شنق القطط، والتي يمارسها الأطفال دون وجود رادع اجتماعي أو قانوني. هذا السلوك تنامى بشدّة مع تكرار مشاهد العنف خلال تسع سنوات من الحرب. 

(نعتذر عن نشر بعض الصور المُتعلقة بتعذيب وقتل الحيوانات، وذلك لفظاعتها)

من جانبها، أكّدت مديرة الفريق السوري لحماية الحيوانات، هنادي المحتسب، لحكاية ما انحكت على ضرورة إصدار قوانين لحماية الحيوانات بالتنسيق مع جميع الأطراف المعنية، تزامنًا مع إطلاق حملات توعية تستهدف بشكل خاص طلاب المدارس، منوهة إلى أنّ "كلّ المحاولات السابقة تمّ تجاهلها تحت مبررات ترتبط بحالة الحرب التي تعيشها البلاد وما يرافقها من ظروف اجتماعيّة واقتصاديّة".

محاولات إنقاذ وعقبات بالجملة

في فترتين متقاربتين، وبجهود فرديّة، قامت مجموعتان من الأصدقاء بإنشاء ما بات يعرف اليوم بالجمعيّة السوريّة لإنقاذ الحيوانات (SARA)، والفريق السوري لحماية الحيوانات (STAR)، وبمرور الوقت، أصبح هذان الملجآن الجهتين الوحيدتين المُرخّص لهما بالعمل في هذا المجال من قبل الحكومة السوريّة، ويتابع منشوراتهما على منصات التواصل الاجتماعي الآلاف من المتابعين في سوريا وخارجها، إلى جانب بعض المبادرات الفرديّة التي تعمل على نطاق أضيق في محافظات أخرى، كاللاذقية وحلب.

انطلقت فكرة الفريق السوري لحماية الحيوانات خلال عام 2016 بعد إنقاذ 86 كلبًا من ضحايا حملات التسميم والقتل بالرصاص ووضعهم في مزرعة صغيرة في منطقة جرمانا، لكن بعضها لم ينج بسبب نقص الأدويّة وعدم توفر الإمكانيّات لدى المجموعة.

خلافًا لصعوبة الاستمرار في العمل، خاصة وأن لا حلول تلوح في الأفق لمنح الحيوانات التي تمّ إنقاذها فرصة جديدة للحياة، إذ تراجعت نسبة تبني الكلاب والقطط بشكل كبير نتيجة للظروف الاقتصاديّة

لاحقًا نُقلت الكلاب مع كلاب وقطط أُخرى إلى منطقة صحنايا، حيث حصلت المجموعة بصعوبة على رخصة للعمل من وزارة الشؤون الاجتماعيّة والعمل، ولكن قرب الملجأ من المعارك في مدينة داريا، اضطرهم إلى الانتقال مجددًا إلى بلدة الصبّورة، ليتم تحويل مساحة ثلاث دونمات من الأرض إلى ملجأ يضم حاليًا حوالي 1500 كلب وقطة، بينها عدد كبير من ذوي الإعاقات. 

في ظروف مشابهة، تأسست الجمعيّة السوريّة لحماية الحيوانات بعدما فقدت القدرة على إيداع الكلاب التي تمّ إنقاذها في المزارع الخاصة، فأنشأت ملجأ على طريق مطار دمشق الدولي، وعلى الرغم من حصول الجمعيّة على رخصة للعمل قبل أكثر من سنتين ونصف، إلّا أنّ الملجأ كان مُهدّدًا بالإغلاق بسبب مشاكل تتعلق بالأرض، ما وضع ما يقارب 3500 كلبًا ونحو 400 قطة وعددًا آخر من الحمير والحيوانات العاشبة أمام مصير مجهول.

عامل مشترك آخر يجمع بين المبادرتين، هو غياب الدعم الحكومي وصعوبة الحصول على التبرعات من المجتمع المحلي الفقير، بينما حدّت العقوبات الاقتصاديّة المفروضة على سوريا من إمكانيّة البحث عن دعم أجنبي. وفي ظلّ نقص الموارد الماديّة والبشريّة، يستقبل الملجآن بمرور الوقت أعداد متزايدة من الكلاب والقطط، سواءً بسبب العمليات العسكريّة، أم موجات الهجرة والتهجير، ما يُجبر كثيرين على التخلي عن حيواناتهم، وهذا يضع القائمين على الملجئين أمام مسؤوليّة أخلاقيّة تمنعهم من التوقف. 

خلافًا لصعوبة الاستمرار في العمل، خاصة وأن لا حلول تلوح في الأفق لمنح الحيوانات التي تمّ إنقاذها فرصة جديدة للحياة، إذ تراجعت نسبة تبني الكلاب والقطط بشكل كبير نتيجة للظروف الاقتصاديّة، كما توقفت عمليات التبني إلى الخارج بسبب العقوبات من ناحية وبسبب الإجراءات التي اتخذتها معظم الدول في مواجهة تفشي وباء كوفيد-19 من ناحية أخرى لا يرغب أحد "تقريبًا" في تبنيّ الكلاب والقطط البلديّة التي تمثّل النسبة الأكبر من الحيوانات الموجودة في الملجئين، وذلك حسب ما قاله القائمون عليهما لحكاية ما انحكت.

محاولة لمّ الشمل

"ليس من المستبعد أن تكون نهاية أيّ من تلك الكلاب والقطط أسوأ ممّا حصل لها حتى الآن، تمامًا مثل أيّ شيء آخر في سوريا" تقول يارا (30 سنة، مقيمة في فرنسا) لحكاية ما انحكت، والتي تحاول منذ وصولها إلى بلاد اللجوء قبل أكثر من سنتين إيجاد طريقة لإخراج كلبتها "إيما" من سوريا.

لم تخف يارا غضبها ممّا تتعرض له من استهزاء، يصل في بعض الأحيان حدّ التنمر، لمجرد طرح تساؤل في المجموعات التي أنشأها السوريون على مواقع التواصل الاجتماعي حول طريقة لإنقاذ كلبتها ذات السنوات الخمس.

تضيف يارا لحكاية ما انحكت: "عاملتها كابنتي، وأريد منحها أكثر، وأخشى أن يضطر أهلي بسبب تدهور الظروف المعيشيّة وتقدمهم في العمر إلى وضعها في ملجأ ما أو أن يتبناها من قد يسيء معاملتها. هي أيضًا تستحق الحياة، مثلي.. مثلنا جميعًا". 

مقالات متعلقة

"محمية ابن هانئ" البحرية في اللاذقية تصارع وحوش البر

04 تموز 2020
من المفترض أن تتمتع أي محمية (كما يدل اسمها) بحماية سلطات الدولة التي أحدثتها، إلا أنّ هذا لا ينطبق على محمية ابن هانىء في مدينة اللاذقية، مع وجود ذوي نفوذ،...
مكب نفايات "البصة"

28 أيلول 2019
تحوّلت قصة مكب البصة للنفايات (على بعد حوالي 15 كم عن مركز اللاذقية بمساحة 100 هكتار حالياً) إلى واحدة من أشهر قصص فشل الإدارات المتعاقبة في المدينة على مدار عقود...
النزوح والبيئة... دروس من سوريا والشرق الأوسط

23 تموز 2018
يستعرض هذا المقال تأثير النزاع في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على الصحة البيئية للنازحين الذين يعيشون في المخيمات والأحياء العشوائية ورفاههم، نظراً للممارسات الملوّثة وظروف الحياة الخطيرة وغياب البدائل....
الجفاف.. ليس المشكلة البيئية الوحيدة في سوريا قبل ٢٠١١

24 تشرين الأول 2017
تظهر صورة مأخوذة من قمرٍ صناعي للحدود بين سورية وتركيا، فرقا مذهلا في كثافة اللون، كما لو أنّ شخصاً ما استخدم ممحاة على الجانب السوري ليمحي اللون بعض الشيء. فعلى...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد