حين كنّا صغارًا، لم تكن المرويات عن "سفر برلك" أو عن الذين هاجروا من قريتنا في زمن بعيد هربًا من الجوع وبحثًا عن حياة جديدة، أكثر من حكاية نسمعها من الجدات والأجداد. لم يكن الجوع والتهجير والفقر الذي يسعى الكبار لإفهامنا إياه من خلال الحكاية، يستوقف أخيلتنا ويثيرها. كنّا مأخوذين بالحكاية كتسلية ومتعة تُروى من فم الجدات والأمهات أكثر ممّا هي فاجعة تشعرنا بالتعاطف مع أحوال أولئك الذين قادهم حظهم السيء إلى رحلة السفربرلك أو إلى الهجرة نحو بلاد بعيدة، على نحو ما فعل أحد أجدادي.
اليوم، حين أستعيد ذكرى تلك الأيام البعيدة ونحن نجلس بجانب الجدّة أو الأم قرب مدفأة الحطب، أتذكر بكاء جدتي وهي تحكي عن هجرة هذا الجد إلى "أمركا": "كان حسن ديبو زينة الشباب، أختو بتعشقه من جماله، شهم ورجال..."، ثم تتابع كيف اضطر إلى الهجرة بسبب الجوع والفقر و"نق الزوجة النكديّة.. طفشتوا ولهيك هاجر على أمركا مع اللي هاجروا. ومن يومها ما سمعنا عنه خبر... أحيانا كانت تجي منو مكاتيب.. بس ولاد الحرام كانوا يسرقوها". وحين نسألها: "مين ولاد الحرام هدول؟". تصمت الجدّة وكأنّ هناك ما لا يصح قوله لنا، نحن الصغار.
أتذكر أيضًا أنّنا، كأطفال، كنّا مشغولين بأمر واحد، نكرّر ونعيد الأسئلة عنه مرارًا. كانت أسئلتنا لها، من نوع: أين هو؟ هل عاد؟ في أي بلد يعيش؟ هل لديه أولاد؟ ألم تبحثوا عنه؟ هل أصبح غنيًا؟
حين تعجز الجّدة عن الإجابة وتملّ من أسئلتنا تلك، نشحذ أخيلتنا ونحاول الإجابة عنها عبر البحث على الخريطة في كتاب الجغرافيا عن موقع "أمركا" كما تلفظها جدتي دون أن تعرفها أو تعرف موقعها، فكندا والولايات المتحدة الأمريكيّة والأرجنتين والبرازيل وتشيلي وفنزويلا... كلّها أمركا. وحين نعجز بدورنا عن تحديد موقع هذه "الأمركا"، كنّا نهرب نحو أحلام تُرضي أخيلة طفولتنا: ماذا لو ظهر أولاده فجأة، وكان معهم الكثير من المال؟ ماذا لو وصلتنا رسالة تقول أنّنا ورثنا أموال كثيرة من جدنا هذا؟ ماذا سنفعل بها؟
هكذا، كنت كثيرًا ما أحلم بأنّني فجأة ورثت الكثير من الأموال من هذا الجد وحققت كلّ ما أريده، لكن في الأحلام فقط.
بعد تقدمي في السن وسفري إلى دمشق واختلاطي بالكثير من البشر خارج إطار قريتي الضيّق، سأكتشف وجود الكثير من الأجداد السوريين ممن سلكوا هذا الطريق، سافروا ولم يعودوا أبدًا.
أحيانًا كان يظهر أحدهم فجأة، بعد خمسين عامًا باحثًا عن قريته ومكانه الأول. أعرف قصة أحدهم، عاد بعد خمسين عامًا من البرازيل إلى قريته في الساحل السوري، بنى فيها بيتًا، وحين انتهى من بنائه مات فيه بعد أشهر. هل عاد ليموت فقط؟ غريبة علاقة الإنسان مع موطنه ومكان ولادته، يقضي فترة شبابه مقاتلًا للخروج منه ثم يعود بملء إرادته ليموت ويدفن تحت تربته، ملوّعًا بالحنين وذكريات الطفولة.
عبارة "هل عاد ليموت؟"، تذكرني الآن، بنهاية فيلم "الليل الطويل" لحاتم علي، حيث خرج السجين السياسي الذي قضى سنوات طويلة في المعتقل، ليموت تحت شجرة في قريته. هل الغربة هي سجن من نوع آخر؟
بعد تقدمي في السن وسفري إلى دمشق واختلاطي بالكثير من البشر خارج إطار قريتي الضيّق، سأكتشف وجود الكثير من الأجداد السوريين ممن سلكوا هذا الطريق، سافروا ولم يعودوا أبدًا.
أعرف قصة عائلة أخرى، وصلتها بعد عقود طويلة رسالة من الأب الذي هاجر إلى فنزويلا واختفت أخباره: "لا حس وخبر"، لتشقى الزوجة وحدها مع العائلة وتراكم الخيبات، ليس من فقر الحال وحده، بقدر ما هو من الهجران ونظرات الشفقة أيضًا.
حين وصلت الرسالة، تشاور الأبناء والبنات الذين أصبحوا شبانًا وشايات وأزواجًا وزوجات بدورهم، فيما عليهم أن يفعلوا بها: هل يفتحوا لأبيهم باب العودة أم يغلقوا هذا الباب الذي كانوا قد نسوا وجوده ورتبوا حياتهم بناءً على غيابه؟
بعد حيرة وتداول، قرّروا أن يخبروا أمهم بأمر الرسالة وأن يلتزموا بقرارها مهما كان. كان رأيهم يقول إنّها حصدت ثمن غيابه وهجرانه أكثر من الآخرين، لذا فهي وحدها من يقرّر إن كان من الممكن مسامحته وفتح باب العودة له، أم لا.
بعد أن سلّموا الرسالة إلى الأم، قالوا لها: أنت من يقرّر إن كنا سنقرؤها أم لا. وبعد طول تفكير، قرّرت الأم تمزيق الرسالة أمامهم دون قراءتها. كانت مساحة الجرح والهجران في قلب الأم لم تزل مفتوحة، أكبر من قدرتها على نسيان سنوات النسيان والإهمال من زوج لم يفكر حتى بإخبار عائلته إن كان حيًّا أو ميتًا. لا شكّ أنّ للأم كلّ المبررات لتفعل ما فعلت، لكني مذ سمعت الحكاية من صديقي، وأنا أفكر بهذه الرسالة: ماذا كتب فيها؟ كيف برّر غيابه؟ أيّة حياة عاشها؟ ما الذي أراد قوله...
تكوّن لدي فضول غريب لم يزل قائمًا حتى اللحظة، فضول لم أفهم سره، لمعرفة سر الحكاية التي ضاعت إلى الأبد مع تمزيق الأم لتلك الرسالة.
من جهة أخرى، طالما كنت أفكر بها أيضًا: هل ندمت الأم حين اختلت بنفسها لأنّها مزّقت الرسالة؟ ألم تحترق بنيران فضولها؟ هل شكّل وجود أبنائها ضغطًا على قرارها، أم أنّ كل هذا لم يحصل لأنّ مشاعرها تجاهه كانت قد ماتت منذ زمن بعيد، مذ فقدت الأمل بعودته، وتحوّل مكانه في قلبها إلى مساحة فارغة تختصر عمرًا من الذلّ والهوان وانسحاق الكرامة؟
فيما كنت أفكر بكلّ هذا، كنت أيضًا أستعيد التفكير بجدي الغائب والضائع في هذا العالم، فهذا لم يرسل أيّة رسالة، لم يصلنا منه شيء، لم يعرف أحدنا عنه شيء ما. رغم أنّ جدتي كانت تقول لنا في طفولتنا أنّه كان يرسل "المكاتيب التي يسرقها الآخرون"، لم يثبت عمليًا أنّه أرسل أيّة رسالة، أو أنّ هذا ليس مؤكدًا على الأقل بعد كلّ هذه السنوات. حين أعدت الاتصال بأهلي للاستفسار عن هذه المعلومة، استغربوا من اهتمامي بشخص مفقود منذ أكثر من قرن، رغم أنّه ليس جدي بالمعنى المباشر للكلمة، بل هو أخو جدي.
تكوّن لدي فضول غريب لم يزل قائمًا حتى اللحظة، فضول لم أفهم سره، لمعرفة سر الحكاية التي ضاعت إلى الأبد مع تمزيق الأم لتلك الرسالة.
عادت الأسئلة لتغزو رأسي: لم فعل ذلك؟ لِمَ لَمْ يُرسل رسالة واحدة على الأقل كما فعل الرجل السابق؟ هل أرسلها وضاعت أو سُرقت كما كانت تقول جدتي؟ هل نسي قريته، مكانه الأول؟ هل يمكن للمرء أصلًا أن ينسى ماء ومكان ولادته؟ كيف كانت حياته في الغربة؟ في أي بلد هو الآن؟ هل له أحفاد؟ هل حاول البحث ولم يهتدِ لكيفيّة الوصول إلينا؟ هل حاول أحفاده ذلك؟
في عام 1994 زار الرئيس الأرجنتيني، ذو الأصول السوريّة (مدينة يبرود)، كارلوس منعم، سوريا. وبسبب من أصوله السوريّة، جرى له استقبال رسمي وشعبي كبير وحاشد في مسقط رأسه. حينها جاء معه وفد كبير من أبناء وأحفاد المغتربين للتواصل مع عائلاتهم في الوطن الأم. أتذكر جيدًا الآن، بعد عودة الرئيس الأرجنتيني مع الوفد المرافق له، هناك من قال في قريتنا إنّ البعض ممن جاؤوا معه، كانوا يبحثون عن أقاربهم في سوريا. حينها شهقت عمتي وقالت: ماذا لو كان ابن حسن ديبو بينهم؟ أتذكر أن الأمر، بقي حديث العائلة لعدّة أيام، يتحسرون لمعرفتهم بالأمر بعد عودة الوفد إلى الأرجنتين، فلربما كان معهم…
لكن طالما هم يبحثون عن أصولهم، لِمَ لَمْ نفكر نحن أيضًا بالبحث والسؤال عنهم؟ لِمَ لَمْ نفعل هذا حقًا؟
في كتابه "بدايات" يتحدث الكاتب والروائي الشهير، أمين معلوف، عن قصة عائلته التي توزعت في كافة أنحاء المعمورة. وبحثًا عن أبناء العائلة التي هاجرت قبل عقود طويلة من لبنان، وصل إلى كوبا حيث التقى بأحد أبناء العائلة، دون أن يكون بينهم أيّة لغة مشتركة، سوى الحنين والدم والدموع.
إذ أستعيد رحلة أمين معلوف التي رواها في كتابه، أتذكر أنّ البحث عن مفقود ضائع في هذا العالم الواسع، يحتاج تفرّغًا ويُسرًا ماديًا لم يكن متوفرًا في العائلة التي طالما كان البحث عن لقمة خبزها يستنزف جلّ وقتها. كما يتطلب شبكة علاقات واتصالات لم تكن تتوفر لأهل القرى الذين يعيشون بمعزل عن العالم قياسًا بالمدن القريبة منهم في نفس البلد، فما بالك بمدن في بلدان تقع في أقصى المعمورة؟
لم يكن أمام هذه العائلات إلّا حفظ أسمائهم من النسيان عبر تذكرهم في الحكايات التي ورثناها، وهذا ما فعلته الجدّة التي طالما كانت دموعها توقف الحكاية، وهي ترثي أحوالهم وفقرهم والغربة التي يعيشون فيها.
هل يكون الفقر الذي عاشوه بدورهم في الغربة، هو ما أعاقهم عن التفرّغ لرحلة العودة ووصل ما انقطع؟ هل فشلوا في تأمين حياة كريمة كان السبب في ذلك؟ هل خجلوا من عودتهم بعد سنوات وعقود بأيدي فارغة وفقر أشدّ هولًا ممّا هربوا منه، فواصلوا الهروب إلى الأمام؟
هذه الهجرات المتلاحقة، شكّلت وعلى امتداد سنوات طويلة، نوعًا من مجتمعات سوريّة في المهجر، يمكن أن نطلق عليها اسم "سوريّات صغرى".
أتذكر الآن أيضًا أحد الرجال الذين هاجروا في ثمانينيات القرن الماضي للعمل في ليبيا، قدّم استقالته من العمل وذهب، ثم غابت أخباره لمدة اثنتي عشر عامًا تقريبًا، لم يتواصل خلالها مع عائلته أبدًا، ولم يرسل لهم أيّ مبلغ مالي. كان السبب في ذلك، فشله في تأمين حياة كريمة له ولعائلته، فكان يواصل الهرب إلى الأمام، متفائلًا بغد أفضل. وعندما لم يأتِ هذا "الغد الأفضل" ووصل إلى قاع كأس اليأس، تجرّأ وتواصل مع عائلته لإخبارهم بالحقيقة كاملة، وعلى إثرها عاد إلى سوريا واستعاد عمله الذي كان له قبل الهجرة، وكأنّ اثني عشر عامًا من العمر لم تكن إلا هباءً منثورًا!
يقدّم لنا أدب المهجر، فرصة جيدة ووافرة لمعرفة كم من الأسى والفقر والجوع والتعب لاقى المهاجرون الأوائل إلى تلك البلدان، حيث اضطروا للعمل كبائعين جوالين أو في قطاف المواسم أو حراثة الأرض وكلّ الأعمال المهنيّة واليدويّة التي أتيحت لهم. حينها تخيّلت جدي هذا، يحمل كلّ فجر بقجة على ظهره أو يجرّ أمامه أحد العربات وهو يسير في شوارع الأرجنتين أو البرازيل، بحثًا عن رزق قال عنه الشاعر المهجري، إلياس فرحات، في قصيدة عنوانها "حياة مشقات"
فَلاَ تَسْأَلُوا عَنِّي وَحَظِّـي فَإِنَّنَـا
لأَمْثَالِ أَهْلِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ مَضْرَبُ
طَوَى الدَّهْرُ مِنْ عُمْرِي ثَلاثِينَ حِجَّةً
طَوَيْتُ بِهَا الأَصْقَاعَ أَسْعَى وَأَدْأَبُ
أُغَرِّبُ خَلْفَ الرِّزْقِ وَهْوَ مُشَـرِّقٌ
وَأُقْسِمُ لَوْ شَرَّقْـتُ كَانَ يُغَـرِّبُ
لاحقًا حاولت الرواية أيضًا أن تصف هذه الملاحم الكفاحيّة لأولئك الذين هاجروا بحثًا عن لقمة خبز في عالم بائس وضيق، كما فعلت رواية "أميركا" للروائي اللبناني، ربيع جابر.
هذه الهجرات المتلاحقة، شكّلت وعلى امتداد سنوات طويلة، نوعًا من مجتمعات سوريّة في المهجر، يمكن أن نطلق عليها اسم "سوريّات صغرى". واليوم مع اضطرار السوريين للهجرة والهرب من الموت مرة أخرى، بدأت تتشكل أيضًا "سوريات صغرى" جديدة في العالم. وفي إطار عملنا الصحفي والبحثي، لرواية حكاية السوريين والسوريات في كلّ مكان في العالم، تعثرنا بتلك "السوريات الصغرى" التي بناها أجدادنا الأوائل، وبدأنا البحث عمّا يربطها من خيوط وتشابكات عثرنا على بعضها من خلال البحث، وجاءنا بعضها من خلال الصدفة، حين تلقينا دعوة شراكة من موقع أرجنتيني، يطلب ترجمة قصصًا ومقالات من سوريا وعنها، ننشرها في موقعنا. بعد أن قام الزميل دلير يوسف بالاجتماع معهم، حكى لنا أنّ أحدهم من أصول سوريّة. كانت ردّة فعلي الأولى: تخيّل يطلع قريب أو حفيد لجدي الذي هاجر قبل قرن؟
خاب أملي حين قال لي إنّ جذوره تعود إلى منطقة القلمون التي هاجر كثير من أبنائها أيضًا نحو الأميركيتين في زمن مضى، وأنّه يعمل الآن بدوره للعثور على عائلته في سوريا، الأمر الذي أحيا الأمل عندي، بأنّني قد أعثر يومًا ما على آثار هذا الجدّ الضائع في هذا العالم منذ أكثر من مئة عام.
اليوم أدرك أن جدتي وهي تروي لنا الحكاية، لم تكن تروي، بقدر ما كانت تحفظ اسمه من النسيان، وبقدر ما كانت تنقل لنا "أمانة"، تقول كلماتها ألا ننسى روح هذا الجدّ الضائع، أن نبحث عنه، أو أن نشعل شمعة لروحه وذكراه كلّما مرّ في بالنا، كي يظل مرتبطًا بطريقة ما بالأرض التي رحل عنها ولم تسمح له الظروف بوضع رأسه على أحجارها وتحت زيتونها.
لهذا، نعمل في هذا الملف (سوريات صغرى)، على البحث عن تلك السوريات الصغرى في العالم، تلك التي تشكّلت منذ زمن مضى، وعن تلك التي تتشكل الآن، علّ الحكاية تكون منقذًا من التيه والضياع، وإن لم تفعل نأمل تكون عزاءًا طيبًا لأولئك الذين رحلوا، ولأولئك الذين ما زالوا يبحثون عن جذورهم. أليس العالم مجرّد حكاية غير منتهية، حكاية نكتب فصولها ونحن نعيشها يومًا بيوم؟