تحدثت الأكاديمية بسمة قضماني في شهادتها عن الصديق، الكاتب والباحث، سلام الكواكبي، في هذا الملف الذي أردناه تكريما له، عن قدرته الهائلة على بناء الصداقات، وهي محقّة في ذلك بشكل كبير. وتعود قدرته تلك إلى صفات كثيرة تميّزه عن سواه من الفاعلين والمثقفين، لعل أهمها برأيي: الانتماء للناس والبشر والحياة. وهذا الانتماء لا يقوم به إلا مثقف يدرك أن المعنى الحقيقي للثقافة لا يكمن في الكتب وحدها، فتلك الأخيرة لا معنى لها إن لم تكن لخير الناس وأمل الناس بغد أفضل، ما يعطي للثقافة معناها الحقيقي والعميق. وإلى هذا الصنف من المثقفين ينتمي سلام الكواكبي، الذي لم تسمح له ثقافته الجلوس في برج عاج ليتأمل الناس منه، بل خالطهم وتعرّف إليهم وانتمى لأوجاعهم، مادّا جسور صداقته بتواضع جم لجميع من يكون أهلا لها.
كثيرا، ما تلقيت رسالة قصيرة أدخلت البهجة إلى قلبي. "أنا في بيروت"، "أنا في برلين". عبارة تكفي لأن يترك المرء أشغاله التي لا تنتهي ليتزوّد بالحياة والدفء و"الكثير من الأسرار" عن أحوالنا نحن السوريين. في أخر لقاء لنا في برلين، وفيما نحن نأكل في أحد المطاعم التركية، قاده الحديث إلى حلب وشوارعها، طيبة أهلها وشغفهم بالطعام الذي يشكل ثقافة بحد ذاتها. خلف حديثه، لمحت غصصا كثيرة عن مدينة مفقودة، مدينة سعيت في هذا الحوار معه لأن نستعيد شيئا منها، بلسان أحد محبيها، وأحد أحفاد عائلة سكنتها منذ قرون عديدة.
السؤال الأول: منذ فترة، كتبت على صفحتك على الفيسبوك، بوستات عن أحداث جرت معك في مدينة حلب. حدثنا أولا عن حلب، ماذا تعنيه لك هذه المدينة؟ كيف تنظر لها اليوم؟ حدثنا أيضا عن طفولتك في هذه المدينة؟ ما الذي تتذكره اليوم وتفتقده بشدة منها وأنت في باريس؟
بالفعل، فهي من سلسلة طويلة سأنشرها في كتاب تحت عنوان "حلب في ذاكرتي"، وهي لا تحمل حتى الآن إلا الجوانب المؤلمة والسلبية التي كانت المدينة وما زالت ذاخرة بها وتستعيدها ذاكرتي بشيء من الكوميديا السوداء، بانتظار أن أتمكن يوما، ربما، من الوصول إلى بعض الإيجابيات التي ربما أفتقدها اليوم.
إن علاقتي بالمدينة متناقضة منذ الطفولة التي عرفّتني على المدينة وأهلها من خلال عائلتي التي استقرت فيها منذ منتصف القرن الخامس عشر ميلادي. وساهمت التربية المنزلية، كما انخراط أهلي وأعمامي في العمل العام وفي الهم السياسي المحلي منذ الاستقلال، في تعزيز ارتباط عاطفي قوي بالمدينة وحمولتها التاريخية، خصوصا مع وجود المدرسة الكواكبية وجامع الكواكبي الذي أمر بإشادته، قانصوه الغوري، تخليدا لمؤسس الأسرة محمد أبو يحيى الكواكبي.
وفي المقابل، الوعي السياسي والإنساني المبكر الناجم عن الجو المنزلي، سبّب لي تعباً مستمراً في جو رافق سني مراهقتي وشبابي، جو مليء بالممنوعات وبالخوف وبالثقل الأمنوقراطي. وقد أوصلني هذا الشعور إلى أن ألوم الناس على صمتهم وأحملهم مسؤولية ما يحصل لهم في فترة معينة من شبابي. فانعزلت عن الشارع وغصت في القراءة والكتابة التي أنقذتني نسبياً من الوقوع في الإحباط الذي لا تحمد عقباه.
ومع مرور السنين، تمكنت من تغيير هذه الصورة غير العادلة وساعدني في ذلك دخولي مرحلة العمل والاحتكاك بالناس من كل الفئات الاجتماعية والعمرية. كما أنّ السنوات الست التي أمضيتها في إدارة المعهد الفرنسي والنشاطات العلمية والثقافية التي استطعت من خلاله أن أنفذها، مكنتني من استعادة الثقة والتعامل مع المسألة بفلسفة مختلفة. أما اليوم، وبعد أن شهدت حلب ما شهدته من أمل وألم وهزيمة، فأصدقك القول بأنني أجوب أزقتها كل ليلة وأستعيد تفاصيل وجوه ناس لم أنساها، وإن لم أكن قد كلمتها يوماً، وعندما أستيقظ صباحاً، لا أتمكن من مشاهدة ما آلت اليه المدينة وناسها وأحمي نفسي المضطربة من متابعة دمار أوابدها ومجتمعها. ولا أعرف فعلاً، حتى ولو تمكنت من ذلك يوما، إن كان بإمكاني أن أعود إليها لأراها مشوّهة. ربما تعتريني الرغبة بالاحتفاظ بوجهها الجميل وروحها الهادئة وروائحها المتنوعة في زاوية من ذاكرتي حتى الممات دون أن أصطدم بالواقع المؤلم.
وأفتقد الكثير من حلب في حياتي الباريسية، وجزء من ذلك التواصل الإنساني الدائم مع الناس. أتذكر بشوق فوضاها وتصنّع بعض طبقاتها وتحيات قصابي سوق العتمة الذي كنت أمر به يوميا للوصول إلى مكتبي كما أرغفة الخبز المنشورة على أرض قذرة، أمضي ساعات أحاول إقناع ناشريها بسوء اختيارهم. أفتقد لسهرات الأصدقاء الذين كانوا يؤنبونني دائما حينما أتطرق للأوضاع السياسية ليس خوفاً مني، بل خوفاً عليّ. أفتقد مسيري الصامت في أوقات إفطار رمضان حيث لا صوت يعلو على ضوضاء الصحون والملاعق القادمة من نوافذ البيوت. أفتقد وجوه من أحببت ولا أعرف حتى الآن أين صاروا. وفي المحصلة، لا أفتقد فقط ما هو جميل، بل ما هو غير جميل أيضاً.
السؤال الثاني: أيضا كتبت عن احتكاكك بعنصر الأمن حين كنت تدير المركز الثقافي الفرنسي (صحّح لي حال كان هناك أي خطأ) في حلب. حدثنا أولا، عن إشكاليات إدارة مؤسسة ثقافية في ظل الاستبداد، وعن ضغوط العمل في هكذا ظرف؟ وعن الآليات التي يتبعها الاستبداد لمنع تلك المؤسسات من العمل؟ وعن دور عنصر الأمن هنا؟ من جهة أخرى، كان ثمة "ظرافة/ نكتة/ مفارقة" ما في حديثك عن عنصر الأمن هذا، مفارقة تكثّف ربما جوهر الاستبداد، في عنصر الأمن هذا الذي نسخر منه ومن جهله، ولكننا نخافه أيضا، وكأننا أمام صورة مصغّرة وكاريكاتورية عن الاستبداد، حدثنا عن هذا "العنصر" كتجلّي للاستبداد وضحية له في آن.
ربما بسبب مشاركتي في تأسيس المركز الثقافي الفرنسي في حلب سنة 1989 وقبل سفري للدراسة العليا في فرنسا هو الذي جعل الأمور تختلط. أما في سنة 2000 فقد أسست وأدرت لست سنوات المعهد الفرنسي للشرق الأدنى وهو مؤسسة بحثية مقرها الدمشقي الرئيسي تأسس سنة 1920 وكان اسمه المعهد الفرنسي للدراسات العربية في دمشق. وفي الحالتين هما مؤسسات ثقافية وعلمية حاولت من خلال عملي فيهما أن أخدم الثقافة والعلم في حلب. فالمدينة أُفقٍرت ثقافياً مع استتباب الاستبداد وهيمنة ثقافة الخوف. المراكز الثقافية سُخّفَتْ ولم يكن فيها معاهد بحثية عدا معهد التراث في جامعتها الذي انحصرت أعماله في اجترار الماضي التليد والابتعاد عن الحاضر المتفجر. تمتعت في عملي في المعهد الفرنسي بدرجة من المرونة النسبية دون أن أتمتع بالحرية المنتظرة. وقد عانيت كثيراً من البيروقراطية الأمنية التي كانت تراقب الشاردة والواردة. وكان من المفروض أن أطلب تصريحات متعددة من الأجهزة المتعددة والمتنافسة لإقامة أي نشاط علمي أو ثقافي. وعلى الرغم من هذه العقبات المتعبة نفسياً على الأقل، فقد كنت أتعامل مع الأمر وكأنه مسلّم به. وقد مررت بتجارب عديدة للحوارات العبثية مع ممثلي الأجهزة حول النشاطات الثقافية التي كان جُلّهم لا يعرف عنها أو عن حقولها شيئاً. ولمنع أي نشاط، من النادر أن يصلك الأمر مكتوبا لكن الطريقة الأسهل هي تأخير الإجابة بالموافقة، فتعدل عن إقامة النشاط ولا تستطيع اتهام الجهة بالرفض لأن الموافقة ستصلك حتما بعد مرور أيام على موعد النشاط. كما أنني كنت أتردّد في إقامة نشاطات ذات حمولة فكرية ثرية لمعرفتي بأن مثل هذه النشاطات تغيظهم حتما وسيضعون العوائق لمنعها أو لإثارة التساؤلات حولها وجرّي إلى حوارات غير متكافئة حول ضرورتها كما حصل معي عند دعوة الراحل نصر حامد أبو زيد والراحل محمد أركون.
سلام الكواكبي: كل ليلة أجوب أزقة حلب وأستعيد تفاصيل وجوه ناس لم أنساها، وإن لم أكن قد كلمتها يوماً، وعندما أستيقظ صباحاً، لا أتمكن من مشاهدة ما آلت اليه المدينة وناسها وأحمي نفسي المضطربة من متابعة دمار أوابدها ومجتمعها
كانت البيروقراطية الأمنية تسعى قصداً لأن يكون العنصر المكلف بالمتابعة الميدانية للنشاطات هو من أدنى الدرجات التعليمية ومن أجهل العناصر ثقافيا وفنيا، وبالتالي، فأسئلته الكافكاوية مقصود بها أن تُخرجك عن طورك وأن تحرّضك على السلبية بحيث تفكر عشرات المرات بالتحضير لنشاط أو الدعوة لمحاضرة. بالمقابل، توطدت لدي درجة من التعاطف الغريب مع بعض هاته العناصر، وأذكر خصوصاً واحداً منهم أتمنى أن يكون بخير، وكان يحضر جميع النشاطات ويطلب مني بخجل وحياء تلخيصا شفهيا قبل أو بعد النشاط وهو يتعرّق وينظر في الأرض وأظنه مسكيناً لا حول له ولا قوة و"كتان" يركض وراء لقمة العيش. كما أنني حاولت الاستفادة من الوقت الطويل الذي أضيّعه في اللقاءات مع العناصر لأقلب الحوار إلى استنطاق من طرفي حول عملهم. ومتى تطرقت معهم إلى ظروفهم المعيشية، ثق بأنك ستحصل على مادة أنتروبولوجية شديدة الثراء. لديهم هموم لا يمكن للفساد المحدود الذي يمارسونه أن يسدّ ثغراتها في نفسياتهم وفي يومياتهم. ولقد تبيّن لي، من خلال تدرّج الاستجوابات، بأن العنصر البسيط الذي يحضر نشاطاً ما، لا أهمية تذكر له في سلسلة المهام، إلا أن يكون مزعجاً وملحاحاً. وعند الانتقال، إن عظمت المسألة، إلى الطابق الأعلى، فمن المؤكد بأنك ستقع على عناصر أكثر أهمية والحذر من كل كلمة واجب أمامهم، فهم معتادون أن يرسلوا الأبرياء إلى الظلام، فما بالك بمن يحمل مشروعا فكرياً أو يحاول.
السؤال الثالث: ولدت في عائلة تعود جذورها إلى المفكر الكبير عبد الرحمن الكواكبي. كيف كان أثر ذلك عليك على المستوى الثقافي والفكري؟ ماذا تعلمت منه؟ هل ساهمت كتاباته في أن تكون بوصلة لك؟ أم كان ثمة تمرّد في علاقتك معه؟ نوع من "قتل الأب"؟
هو جد والدي، وأنا عرفته من أقاصيص ابنته عفيفة التي ناهز عمرها القرن ونيف مما سمح لي بأن أُبحر خلال طفولتي في ذكرياتها التي كانت تحفر في عقلي وقلبي. وقد تأثرت بالكواكبي الجد كثيراً، وهذا حمل أحد الأصدقاء على انتقادي واعتبار تمسكي بفكره أو تردادي لأقواله هو نوع من الوقوف على الأطلال العائلية، وربما عنى بأنني مُقلُّ الإنتاج وأعوّض عنه بالاستعادات شبه اليومية. ربما "صديقي" هذا كان محقّاً، ولكنني لن أتوانى عن الاستمرار في هذا النهج لقناعتي بأن ما قاله الكواكبي منذ 120 سنة ما زال واقعاً نعيشه في يومنا هذا، وهو الذي كان يتوقع أن ينساه الناس بعد سنوات قليلة، مستنداً إلى تفاؤله بهبّة المجتمع نحو التغيير الذي لم يحصل. كما أنني لمست جهلا شبه كامل بأقواله وبفكره. عدا عن وقوع الكثيرين من أنصاف المثقفين في حقل التجريم والتخوين والاتهامات التي تليق بأصحاب المؤامرة لتعرية فكره من أيّة حمولة. ولقد تعلمت منه كره الاستبداد بكافة أشكاله وليس فقط السياسي. وبالتالي، توقفت عند بعد أساسي في نصوصه وهو يرتبط بالتحليل النفسي العميق لطباع المستبدين وأسراء الاستبداد. وهنا أتوقف عند توصيف أعتبره مهماً ومتميّزاً للدكتور عزمي بشارة الذي اعتبر بأن الكواكبي هو من اخترع "التويتر"، وهو يقصد أنّ أقواله تحمل في كلمات قليلة فكرة وإسقاط، ويكفي النص على عبارة من عباراته لفهم المقصد. تغريدات الكواكبي إذاً صقلت اهتماماتي بالعلوم السياسية التي درستها ليس سعياً للعمل في الحقل البحثي فحسب، بل لكي أحاول ان أسهم بتواضع بما يمكن أن يكون وسيلة للخلاص من الاستبدادات.
المدينة أُفقٍرت ثقافياً مع استتباب الاستبداد وهيمنة ثقافة الخوف
ولاستكمال الجواب على سؤالك، فأنا لم "أقتل الأب" لأنني لم أجد أية حاجة إلى ذلك. بل على العكس، فقد سعيت إلى الاستفاضة في التقرّب من فكره والاستزادة من فلسفته والكلام والكتابة عنه. بالمقابل، لم يمنعني هذا الموقف المنحاز من أن أنتقد بعض النصوص جزئياً، على الرغم من أنني أعتبر بأنها لم يكن بالإمكان أن تكون أحسن مما كان، إن نظرنا إلى الحقبة التي خُطّت خلالها.
السؤال الرابع: نعرف أن أحد أدوات الاستبداد العمل على تهميش الشخصيات الوطنية والفكرية التي كانت معروفة ولديها حضور قوي في الشارع السوري وفي أذهان الناس، بحيث يصبح التاريخ يبدأ معه وينتهي معه. وإلى جانب هذا التهميش المعنوي، عانى أحفاد هذه الشخصية أو تلك من التهميش والحصار أيضا، إلا إذا كانوا جزءا من النظام. حدثنا عن تجربة عائلتك في هذا السياق؟ إلى أي حد عمل النظام على تهميش إرث الكواكبي الفكري أولا، وكيف انعكس ذلك على العائلة ثانيا؟ ووكيف واجهت وقاومت العائلة هذه المحاولات؟
الاستبداد يهمّش الذاكرة وكل ما لا يرتبط به من المثقفين أو يدين له بالولاء والخضوع. وقد غابت أسماء شخصيات فكرية وسياسية عدة من كتب التعليم ومن الخطاب الثقافي الذي مورست بحقه كل أساليب التأطير والاستقطاب. والكواكبي لم يكن في منأى عن هذه السياسات إلا أنه تميّز في ذات الوقت باستغلال اسمه لغايات في نفس يعقوب. وأذكر أنني شاركت لمرة واحدة في اجتماع لجنة تحضيرية للاحتفال بذكراه، جمع مسؤولين حزبيين وثقافيين وانحصر الاهتمام بنوع وسعر الحقيبة التي ستوّزع على المشاركين في الندوة، كما الإصرار على دفع مبلغ كبير جدا لنحات مقابل إقامة تمثال نصفي في حين تم رفض عرض نحات أرميني لتقديم هدية مجانية لمدينة حلب لتمثال من صنعه عن الكواكبي. وكان الخطاب الرسمي واضحاً في ضرورة التركيز على كتاب "أم القرى" وعدم الاهتمام بكتاب "طبائع الاستبداد".
وفي واقعة أخرى، أرادت العائلة أن تقدّم المدرسة الكواكبية الموجودة في المدينة القديمة لتصير متحفاً للفكر النهضوي باسم الكواكبي. وقد تقدّمت مؤسسة ألمانية بعرض تقديم تكاليف المشروع. وعند زيارة محافظ المدينة لأخذ موافقته، أجاب بجهل تام: "أرجوكم لا تفتحوا مثل هذه الأبواب، فغداً ستأتيني كل عائلات المدينة لفتح متحف لجدها". ومع الانفتاح الوهمي الذي جرى في بداية سنوات الالفية الثالثة، أقام مثقفون حلبيون منتدى للحوار تحت تسمية "منتدى الكواكبي للحوار الديمقراطي" وقد دُعيت لألقي كلمة العائلة في افتتاحه، إلا أن الأمن زارني في البيت قبل أن أغادره واستمرت الزيارة مع أسئلة فارغة حتى تأكدوا عبر الهاتف بأنّ الاحتفال قد انفضّ. وأخيراً، أقمت سنة 2002 مؤتمراً علمياً في المعهد الفرنسي في حلب بمناسبة مرور مئة عام على مقتله بحضور عدد كبير من أهم المتخصصين العرب والفرنسيين، وقد تلت أيام المؤتمر الثلاثة، فترة امتدت إلى شهر، قمت خلالها بتلبية عدّة دعوات للتحقيق حول هذا "الحدث الجلل" في فروع أمنية مختلفة وفي مكتب المحافظ ومكتب أمين فرع الحزب الحاكم.
السؤال الخامس: من خلال متابعة نشاطاتك وعملك، يظهر لي دوما أن نشاطك موزع بين أمرين، الأول: هو الإنتاج الثقافي من أبحاث ومقالات ودراسات، والثاني هو الإدارة لمؤسسات بحثية رصينة آخرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في باريس. أين يجد سلام الكواكبي نفسه؟ أي العملين أحب إليك؟ أم كلاهما يكمل الآخر؟
نشاطي الأساسي هو البحث العلمي في مجال العلوم السياسية والعلاقات الدولية، وأستمتع بالكتابة وبالمحاضرة في هذين الحقلين. بالمقابل، فمنذ خروجي إلى الحياة العملية، استلمت، إضافة إلى نشاطي البحثي، مهام متنوعة لإدارة مؤسسات ثقافية وعلمية. فالبداية كانت مع المركز الثقافي الفرنسي في حلب قبل سفري للدراسة ومن ثم عملت أثناء تواجدي في فرنسا كباحث مشارك في العديد من المراكز الأكاديمية الأوروبية، وبعد عودتي إلى سوريا أسست فرع حلب للمعهد الفرنسي. وفي فرنسا من جديد تعاونت مع الدكتورة بسمة قضماني في إطلاق وإدارة مبادرة الإصلاح العربي قبل أن أُطلق المشروع الذي أعتبره تتويجاً لمساري العلمي والإداري، وهو تأسيس وإدارة فرع باريس من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، حيث انتميت إلى مشروع فكري قبل أن أنتمي إلى مؤسسة عريقة وذات ثراء أكاديمي، جعل منها في مقرها الرئيسي وفروعها الخمسة تحتل المرتبة الأولى بين المراكز البحثية في المنطقة العربية على الأقل. ومن خلال تجربتي في الإدارة والاستمرار في البحث العلمي، أجد تكاملاً، في حالتي على الأقل، بين المهمتين وأجد أن المسار المتوازي والمتوازن بينهما هو ثراء ومتعة.
السؤال السادس: على الصعيد الشخصي: ما الذي تبقى من سوريا لك؟ كيف تنظر لها اليوم؟
السؤال يمكن أن يُختصر، ويصبح: ماذا تبقى من سوريا؟ وأنا بألم شديد، أعتقد بأن الكثير قد دُمّر، ليس على المستوى المادي فحسب، والذي يمكن إعادة إعماره بتوّفر المادة لذلك، ولكن على الصعيد الاجتماعي والأخلاقي والإنساني، وهو ما يحتاج لأجيال مع سياسة تربوية مثالية لا أعتقد بإمكانية توفرها في الفترة القادمة القريبة على الأقل، لإعادة إعماره وإعادة الحياة إليه.
لقد مر السوريون على امتداد العشرية الماضية في ثلاثة مراحل، أوجزها بالتالي: مرحلة إدارة الأمل التي لم تدم وحفلت بتظاهرات سلمية ونضال مدني، ومرحلة إدارة الألم التي تلتها إثر لجوء السلطات إلى العنف الأعمى تجاه الاحتجاجات ووقوع آلاف الضحايا وتشريد الملايين وخراب البصرة، وأخيرا، مرحلة إدارة الهزيمة، والتي أعتقد أننا على أبوابها وهي لا تعني القبول بالهزيمة، إنما تعني كيفية إدارة المرحلة للخروج كطائر العنقاء من بين الرماد.
شهادات عن سلام الكواكبي:
عملنا أنا وسلام معاً لفترة تتجاوز العشر سنوات. لذلك من المفروض أن أتحدّث عمّا يربطني به من علاقة زمالة في العمل إلا أنني دائماً أفكر فيه كصديق أولاً.
لقد خضنا مع بعض تجربة تطوير مؤسسة بحثية كانت فريدة من نوعها في ذلك الوقت هي "مبادرة الإصلاح العربي"، وعملنا معاً على بنائها حسب رؤية كنّا متفقين تماماً عليها، وهي أن تكون المبادرة في خدمة المجتمعات العربية. كانت مغامرة تحتاج إلى هذا النوع من التوافق والتضامن والعمل المشترك اليومي لكي تزدهر.
سلام يجسد بالنسبة لي سوريا الأصيلة التي عرفت شيئاً منها حينما كنت أعيش فيها، سوريا المفكرين العظماء والشخصيات النبيلة لأنه يقرأ كل المؤلفين ويعلم كيف يتحدث عنهم ليحيي ذاكرتهم. وعلى الرغم من كل أعمال الهدم التي قام بها النظام للمجتمع السوري الأصيل، ولتاريخنا، وثقافتنا، وهويتنا، يحمل سلام بشكل طبيعي وبأناقة، ذاكرة الأشياء الجميلة. كان حضوره وعملنا المشترك جنباً الى جنب يعطيني شيء من الطمأنينة في وقت تضاعفت فيه من حولنا مآسي الشعوب العربية واحداً تلو الآخر، وخاصة تراجيديا شعبنا في سوريا.
كان يدخل إلى مكتبي مرة أو مرتين على الأقل في اليوم ليخبرني بآخر خبر كارثي ووجهه مكتئب وكأنه يبحث عن إجابة مني تطمئنه.
لقد طمأننا بعضنا عبر هذه السنوات الطويلة وأستطيع أن أقول الشاقة، وعرفنا أنه يمكننا أن نعتمد على بعضنا البعض مهما حدث، لأننا نتشاطر نفس القيم ونفس الأولويات.
حينما كان لدي فترة ولو وجيزة للقراءة، أسأله: ماذا يجب أن أقرأ؟ أو أنا على ثقة بأنه سيعلم تماماً ما هو الكتاب الذي سيروق لي. أو كان هو يَجْلبُ لي كتاب دون أن أطلبه منه وكنت أعلم أن لديه سبب معيّن لاقتراحه علي.
سلام يعتبر الصداقة قيمة رئيسية ويعطيها دائماً الأولوية في تعامله مع الآخرين. وبينما كنت أنا أعمل على بناء علاقات مهنية مع الباحثين، كنت دائماً معجبة بقدرته على تأسيس علاقات ودّْ تتميز بالدفء. فهو يعطي الوقت اللازم لبناء هذه العلاقات، ويعتمد هذا البعد الشخصي الذي ينشئ، ترابط مميّز مع الباحثين والمفكرين والصحفيين الذين تعاونوا مع المبادرة وأصبحوا له من الأصدقاء، بالإضافة إلى علاقات الزمالة. بهذه الموهبة الطبيعية بنى سلام دائرة من الأصدقاء حول المبادرة وشبكة ثقة من مختلف البلدان العربية والأوروبية استمرت بعد أن غادر المبادرة إلى يومنا هذا.
من النادر أن يكون هناك لفيف من الأصحاب اجتمعوا على شأن ثقافي أو سياسي إلا ويكون سلام كواكبي حاضرا بيننا بشخصه أو ذكره أو آرائه.
سلام كواكبي باحث مجتهد لا يتوقف عن الجري اللاهث وراء الأحداث والوقائع والإصدارات الجديدة، هو مهتم بالشأن السياسي وبكثافة، لكنه ليس بسياسي، وحاضر في الشأن السوري منذ بواكير الإرهاصات التي سبقت الثورة، وله حضوره الإعلامي الكثيف، لكنه ليس بالإعلامي، هو باحث متنوع الاتجاهات والاهتمامات. ولطالما سألت نفسي ماذا لو قرّر سلام كواكبي التخلّي عن هذا كله والتركيز على محورين أو ثلاثة، وكان له فيهم شأن المتخصصين، لكنه ليس خياراً يمكن الاستجابة له كما أرجح، بل هو جزء صميم من طبيعة التكوين الشخصية لدى البعض وسلام واحد منهم، فهو لا يني يلتقي الكثيرين كل أسبوع من مثقفين وسياسيين وإعلاميين، يمد الجسور ويعزّز الشبكات ويغتني بتلك الحوارات.
في مغتربه في فرنسا منذ ما يزيد عن عشرين سنة، استطاع سلام كواكبي توسيع شبكته الواسعة أصلاً من العلاقات التي تشتبك بها الرموز الثقافية والسياسية والإعلامية من شتى المشارب العربية والأوربية.
له مواقف صارمة تتجاوز حدود الديبلوماسية، ممن ينحازون إلى صفوف الأنظمة القمعية، وكأنه ما يزال حارس نهج جده "عبد الرحمن كواكبي" وهذا مما يحمد له.
الأهم أن سلام كواكبي وبنشاطه المحموم وعلاقاته الكثيفة والممتدة استطاع فتح بوابات متنوعة ساهمت في تشكيل اتجاهات من الشباب السوري الذين كان لهم دور مهم في تشكيل المشهد الشبابي السوري والعديد من مؤسسات المجتمع المدني، كما كان له الفضل في المشاركة في تأسيس العديد من الاتجاهات والنشاطات التي أثمرت اليوم نتاجا شبابيا يشكل جزءً من خارطة الأمل لدينا نحن السوريين.
الأمر الذي يحزنني كثيراً أن سلام كواكبي في هذا الضجيج والنشاط الذي لا يهدأ، أهمل غير جاهل اهتمامه بصحته الجسدية، الأمر الذي حصد من جراءه معاناة يومية مع الألم، وهو إلى اليوم لا يقبل أن يعيد ترتيب الأولويات ليمنح نفسه بعضا من الراحة.
أتمنى دائما من صديقي سلام أن يوقف لعام واحد على الأقل جميع نشاطاته وأسفاره، ويعكف على كتابة تجربته الغنية التي تحوي الكثير من المشاركات والتجارب والحوارات، إضافة لقدر كبير، كما أحسب، من الأحاديث الخاصة مع رجال كان لهم دور في صناعة القرارات أوروبيا وعربيا، لما تحويه تلك الأحاديث من طرائف وحقائق لم تتناولها وسائل الإعلام أبدا.
الحقيقة التي لا يمكن إخفاؤها أن سلام كواكبي بالرغم من كل الأسفار والتجارب والاغتراب، إلا أنه لم يستطع تجاوز روح الطفل الثاوي في قلبه، والذي لم يبلغ العاشرة من عمره بعد.
ما يزال لدى الصديق سلام كواكبي الكثير من الأشياء والأسرار التي تنتظر البوح أو النشر، أمنيتي أن يكون هذا الوقت قريباً.
كانت الفاتحة ابتسامة على غير انتظار أطلَّ بها عليَّ وجهٌ كنتُ أراه لأول مرة، لكني أعرف اسم صاحبه: سلام كواكبي. بدت لي ابتسامة حميمة، عفوية، تكاد تقول الرجل وتسِمُ علاقة الصداقة التي ولدت بيننا، في نظري على الأقل، عند تلك اللحظة.
كان ذلك قبل ما يقارب ستة عشر عامًا تقريبًا في قاعة المجلس الأعلى بمعهد العالم العربي بمناسبة ندوة كان يشارك بها مع زملائه ذات يوم خميس. وعلى غير اتفاق مسبق، وجدتنا اعتبارًا من عام 2011، أصدقاء في العالم الأزرق الافتراضي، يتابع كل منّا نشاط الآخر، ضمن عروة وثقى تجسَّدت في ثورة الشباب السوري من أجل استعادة الحرية والكرامة.
ستمضي مع ذلك سنوات عدة قبل أن يفضي اجتماعنا الا فتراضي، أخيرًا، إلى اللقاء معًا وجهًا لوجه في مقهى باريسي. وكنت، على غرار لقاءات استثنائية أخرى لي فيما مضى أتمثلني حاسدًا نفسي، على أنني في حضرة حفيد المفكر السوري/ العربي الأكبر: عبد الرحمن الكواكبي.
وشأن جدّه، صاحب "طبائع الاستبداد"، نذر قلمه منذ شهر آذار 2011، لثورة كان يعيش انتظارها كل يوم منذ أن عاد بعد دراساته العلوم السياسية في فرنسا إلى مدينته حلب كي يدير فيها المعهد الفرنسي للشرق الأدنى، ويواجه يوميًا ضروب الرقابة التي كان يمارسها "الضمير" الذي أسندت إليه مهمة رقابة الفكر من قبل "القائد المؤسس"، الضمير المُجسَّدٌ في مختلف الدوائر الأمنية المنتشرة في طول سورية وعرضها.
في باريس، على إثر استقراره فيها آنئذ بعد مغادرته مدينته وبلده، كان، وهو يكتب بصورة شبه يومية حول كل ما يتعلق بالحدث السوري ويشارك في الندوات والمؤتمرات التي تقدم الثورة السورية وثوارها ومناضليها ويقدّم ويحلّل بإحاطة وشمول مجريات ما أطلق عليه يومئذ "المقتلة السورية"، لا يتوقف عن النشاط في كل موقع وفي كل ميدان مشاركًا في النضال ضد النظام الاستبدادي، بدءًا من تأسيسه في نهاية عام 2013 المبادرة الإنسانية الإغاثية "من أجل سورية جديدة" لدعم المبادرات المدنية داخل سورية أو من خلال تواجده في إدارات جمعيات ومؤسسات اختصّت بالحدث السوري ثقافيًا أو اجتماعيًا. كما لو أنه يكرّر على طريقته مسيرة جدّه عبد الرحمن الكواكبي الذي لم يكتف بالعمل على ترجمة كتابه "طبائع الاستبداد" إلى الفرنسية، بل سيعيد التذكير بتفاصيله عبر نثرها يوميًا على صفحته في الفيسبوك، وهو يبيّن لنا إلى أي حدٍّ لا يزال هذا المفكر الكبير يعيش بيننا، وكم أنّ نصوصه لم تفقد ذرة من حيويتها وصلاحيتها رغم مرور قرن ونيِّفٍ على كتابتها.
كلما قرأت هذه المقتطفات أتذكر الابتسامة التي واجهني بها قبل أن يلتقي بي. وكلما تذكرت هذه الابتسامة أعيد في خاطري صوغ جملة قالها لي صديق ذات يوم: "السوري ــ عضد ــ لأخيه السوري".