هذا المقال جزء من سلسلة مقالات عن التصوير العربي والمصورين/ات العرب/ات، بتمويل من مؤسسة فريدريش ناومان من أجل الحرية، من إعداد المصوّر مظفّر سلمان.
"إزاء قضيّة كهذه، لا يُمكن لأحد أن يكون صادقًا بكلّ ما للكلمة من معنى. من الصعب التأكد من حدث معيّن ما لم يره المرء بأم عينيه، فكل كاتب ينحاز إلى طرف معيّن، سواء عن قصد أو غير قصد. لا أعلم إن سبق وذكرت في كتابي أهميّة الحذر من تحيّزي وأخطائي في نقل الحقيقة والتشوّه الذي تسبّبت به لا محالة لعدم رؤيتي سوى زاوية واحدة من الأحداث".
جورج أورويل، الحنين إلى كاتالونيا، 1938.
أثناء سيري في جبال ألبيريني (البرانس، ألبرينو) الممتدة على طول الحدود الإسبانيّة الفرنسيهة، وحيث كنتُ على وشك الدخول إلى طريق ترابي صغير في قرية كاتالونيّة تدعى La Vajol، رأيت شخصًا يرتدي خوذة على دراجة ناريّة يتجه نحوي ببطء. السؤال الأول الذي تبادر إلى ذهني، كوني غريب في مكان بعيد، هو ما إذا كان واضحًا أنّني أجنبي. لا شك أنّ ما فضحني هو ارتباكي النابع من رائحة ملابسي الكريهة وحقيبة ظهري المليئة بالبقع المتسخة وكاميرا النيجاتيف البلاستيكيّة الرخيصة. وإذا به يسألني بالأسبانية: " Hola, de dónde eres"
"مرحبا، من أين أنت؟"
بالنسبة لي، الإجابة على هذا السؤال أبعد ما تكون عن البساطة، وتحمل من التعقيدات التي قد تجبرني على شرح أمور أُخرى رُبطت أو مرتبطة بالمكان الذي أتيت منه، إضافة إلى أنّني لا أفهم ضرورة معرفة من أين يأتي شخص ما، أو الإضافة التي قد تقدّمها الجنسيّة والهويّة للحديث.
لعلّه مفهوم الانتماء الطبيعي، أو حاجتنا البشريّة لأن نكون عضوًا مقبولًا في مجموعة معيّنة. إنّ الانتماء أو عدم الانتماء تجربة جدّ ذاتيّة مشبعة بأنفسنا ومحيطنا.
تكمن مشكلة الانتماء في أنّه يُصنّفنا ضمن هوية معيّنة، فيجرّدنا من أيّ قدرة على دحض تلك التسمية. على سبيل المثال، رهاب الأجانب، والاستبداد، والحرب، وأزمات اللاجئين هي علامات خفيّة قد تُظهر وتُفرض نفسها عند إجابتنا عن سؤال مثل "من أين أنت؟"، لتحمل إجابة مثل "سوريا" (من حيث أنا) تعريفات غير مرئيّة تتجسّد لا إراديًا داخل مَن ينتمون منّا إلى ذلك المكان.
يتجلّى الانتماء وعدم الانتماء على عدّة أصعدة أخرى. على سبيل المثال، تميز وكالات الأنباء الدوليّة بين الصور التي تلتقط في "الشرق" والغرب" فتراها تنشر صورًا لجثث دمويّة سقطت في صراع ما في الشرق الأوسط وأفغانستان وأفريقيا. ثم ترى وكالات الأنباء نفسها تخفي (أو لا تُظهر) جثث قتلى سقطوا في هجوم إرهابي في أوروبا مثلًا. المشكلة ليست الأداة، أيّ التصوير في هذه الحالة، إنّما هو الكيان الذي يستطيع تحديد سبل التمثيل وفقًا لـ، أولًا: مُثل دعائية معينة تتبع ما يتوقعه أو يحتاجه مستهلك وسائل الإعلام، ثانيًا: المكان الذي تنتمي إليه تلك الصور الدمويّة.
عندما يعرّف شخص ما عن نفسه على أنه مصوّر أو رسام أو كاتب، أو عندما يعرّف محيطه عنه على أنّه مصوّر أو رسام أو كاتب، فهذا يعني أنّ هذا الشخص ينتمي إلى فئة المصورين والرسامين والكتّاب. أمّا إذا استعمل هذا الشخص لاحقًا إطارًا جماليًا أو فنيًا آخرًا، فيصعُب في بعض الأحيان على الآخرين تقبّل هذا المنظور الجديد ودخول الشخص منطقة انتماء أخرى، فيرجحُ محاكمة الانتماء الجديد على الجودة أو الحرفيّة التي قد يقدّمها هذا الشخص في مساعيه الجديدة.
ولأنّ مفهوم الانتماء شخصي بكلّ ما للكلمة من معنى، وجدتُ نفسي أعتمد على عدم الانتماء والترحّل كوسيلة لتجنب أيّ هويّة أو تصنيف. تجوّلت على طول الحدود بين فرنسا وإسبانيا، مستمتعًا بعدم ملاحظة أيّ قيود للزمان والمكان، وحتى متحررًا من استخدام جماليّة فنيّة معينة.
على الرغم من أنّ أورويل كان يُعتبر متطوّعًا أجنبيًا في الحرب، إلّا أنّه تمتّع بفهم عميق للصراع الإسباني. ليس فقط لأنّه قاتل مع ميليشيا حزب العمال الوحدوي الماركسي، ولكن بسبب تفاعله اليومي مع أدق التفاصيل.
في مرحلة ما، صادفت مذكرات جورج أورويل بعنوان "الحنين إلى كاتالونيا"، وهي تسلط الضوء على تفاصيل يوميّة لنضال الجمهوريين ذوو الميول اليساريّة، الموالون للجمهوريّة الإسبانيّة الثانية التي ناهضت الفاشيّة المتمثلة بالجنرال فرانكو وحلفائه خلال الحرب الأهليّة الإسبانيّة. أمّا تجاربه الشخصيّة وملاحظاته مع الثوّار الجمهوريين فقد لفتت انتباهي إلى التقاطعات الموجودة بين الثورة السوريّة والحرب الأهليّة الإسبانيّة.
على الرغم من أنّ أورويل كان يُعتبر متطوّعًا أجنبيًا في الحرب، إلّا أنّه تمتّع بفهم عميق للصراع الإسباني. ليس فقط لأنّه قاتل مع ميليشيا حزب العمال الوحدوي الماركسي، ولكن بسبب تفاعله اليومي مع أدق التفاصيل، بدءًا من انطباعه الأول لدى وصوله إلى برشلونة وانتهاءً به في الخطوط الأماميّة لأرغون (منطقة في شمال إسبانيا).
ما إن قرأتُ مذكراته حتى انتابني شعور قوي بأنّ أورويل كان يسير في سوريا وليس في إسبانيا. فطريقته الشعريّة في سرد الخصوصيات كافة عكست فترة عسكرة الثورة السوريّة في حلب، وليس فقط في برشلونة. أعادني الكتاب إلى أرشيفي الفوتوغرافي المهجور. حينذاك، كنتُ قد قاطعت التصوير وجمالياته كي أمنع نفسي من الغرق في بحر ممزوج بين الحنين والألم، أو لأنّني كنتُ أتجاهل حقيقة عدم قدرتي على التقاط أو مشاهدة الصور.
لكن بعد ذلك بدأتُ في جمع نصوص أورويل والصور التي التقطتها في حلب بين عامي 2012/2014. فأسقط المزج بين الاثنين مفهوم النطاق الإقليمي* عن فكرة الانتماء. المزج ما بين وصف أورويل لنضال الشعب الإسباني في شوارع كاتالونيا وصوري أعاد إحياء النضال الشعبي في حلب. فجأة تحولت حلب إلى برشلونة وأصبحت برشلونة حلب، وأصبح كلّ ما يتعلق بالانتماء ملتبسًا.
"من أين أنت؟"
كرّر سائق الدراجة الناريّة السؤال لي بالإنجليزيّة هذه المرة إذ لاحظ أنّني لا أفهم الإسبانيّة.
- "أنا هولندي". ارتأيتُ أنّ هذه الإجابة قد تسمح لي بمواصلة طريقي بسلام.
- ملامحك ليست هولنديّة، من أين أنت في الأصل؟. سأل بابتسامة وديّة.
- أنا سوري.
فتحَ عينيه بدهشة ودعاني للّحاق به. بعد خمس دقائق من المشي، أشار إلى طريق وأوضح: "هذا الطريق يؤدي إلى La Jonquera عبر جبال البيرينيه. في عام 1939 كان ممرًا عبر من خلاله أكثر من 500 ألف لاجئ إسباني إلى فرنسا، مثل حَلَبٍكُم!" ومن دون إعطائي فرصة لاستيعاب مفاجأة سماع كلمة حلب، فإذا به يشير إلى مبنى قديم مؤلف من ثلاثة طوابق مكملًا: "كان مناصرو فرانكو على بعد يومين تقريبًا من هزيمة الجمهوريين إلى الأبد بينما كان آخر رئيس للجمهوريّة، مانويل أزانيا، يحصي الشاحنات هنا قبل التوجه إلى المنفى. كانت كلّ شاحنة من تلك الشاحنات تقوم بإخلاء لوحات من متحف برادو، فضلًا عن مجوهرات ومقتنيات قيّمة للدولة مخبّأة في منجم للطَلْق (أو التلك وهو معدن يتكون من سليكات المغنسيوم المهدرجة) بعيد في هذه المنطقة. وبعد عام واحد، تمّ إرسال المقتنيات كافة سرًا لتكون في أمان مع عصبة الأمم وبعيدًا عن قبضة فرانكو".
فقدت شعور عدم الانتماء والغموض وأدركت أنّ من المستحيل عدم الانتماء. اكتشفتُ أنّني أنتمي إلى عدم الانتماء.
وعندما رأيت رسومات ملونة على الحائط بألوان العلم الجمهوري الأحمر والأصفر والوردي، وبجانب العلم العبارة الكاتالونية التالية: "Visca la Republica"، لم أستطع عدم مقاطعته، فسألته: "ماذا تعني هذه العبارة؟"
ابتسم وأجاب: "Visca la Republica, viva la Republica، عاشت الجمهوريّة" وأردف بابتسامة "وجميع الأحرار في جميع أنحاء العالم".
انتابني شعور غريب. لم أعد أعلم ما إذا كان سائق الدراجة سوريًا أم كاتالونيًا أم إسبانيًا. فقدت شعور عدم الانتماء والغموض وأدركت أنّ من المستحيل عدم الانتماء. اكتشفتُ أنّني أنتمي إلى عدم الانتماء. ما فعله هذا الشخص في مثل هذه المحادثة البديهيّة هو بالضبط ما فعلته أنا بكتاب أورويل منذ ثلاث سنوات. على الرغم من هويته ومن أين أتى، كان الانتماء يحمل المعنى نفسه بالنسبة له، سواء أكان ضد الفاشيّة أو الديكتاتوريّة، وسواء في الماضي أو في الحاضر، وسواء في إسبانيا أو في سوريا. في الوقت الذي كشف فيه سائق الدراجة الناريّة عن انتمائي لكتالونيا شعرت بدوري بحنينه لحلب.
مزيج الصور والنصوص أدناه هو جزء من عمل بعنوان "الحنين إلى حلب". الصور (2012-2014) موّضحة بمقتطفات من مذكرات جورج أورويل بعنوان" الحنين إلى كاتالونيا".
" كان شابًا قاسي المظهر في الخامسة أو السادسة والعشرين من عمره، اتسم كتفاه بالجمود والصلابة. لا أعلم أيّ ملامح من وجهه حرّكتني بهذه الطريقة. وجهه وجه رجل قادر على ارتكاب جريمة قتل والتضحية بحياته من أجل صديق. إنّه نوع الوجه الذي تتوقعه في أتباع اللا سلطوية.
غريبة هي العاطفة التي يمكن أن تشعر بها تجاه شخص لا تعرفه! كان الأمر كما لو أنّ روحه وروحي قد نجحتا مؤقتًا في سدّ هوّة اللغة والتقاليد لتلتقيا في حميميّة مطلقة. وحبّذا لو بادلني الشعور ذاته. لكنني سرعان ما أدركت أيضًا أنّه للحفاظ على انطباعي الأوّل عنه، لم يكن عليّ أن أعاود رؤيته؛ وغني عن القول إنني لم أرَه مجدّدًا".
"لم يكن ما حدث في إسبانيا مجرّد حرب أهليّة، بل كان بداية ثورة. هذه هي الحقيقة التي واكبت الصحافة المناهضة للفاشيّة خارج إسبانيا على التعتيم عليها لتصوّر القضيّة على أنْها «الفاشيّة مقابل الديمقراطيّة» فتخفي الجانب الثوري قدر الإمكان".
"... في ظل بهجة الشوارع البادية، وأعلامها متعدّدة الألوان، وملصقاتها الدعائيّة، والحشود المتجمعة، كان هناك شعور مرعب لا لبس فيه بالتنافس السياسي والكراهيّة. كان الناس من جميع أطياف الرأي يقولون على نحو ينذر بالخطر: "المتاعب تلوح في الأفق". كان الخطر واضحًا وبسيطًا...".
"في صباحنا الثالث في ألكوبير، وصلت البنادق. كان الرقيب ذو الوجه الأصفر الداكن الخشن يوزعها في إسطبل البغال. أصبتُ بالفزع عند رؤية الشيء الذي قدموه إليّ. كان صدئًا، وكان الترباس صلبًا، والواقي الخشبي منقسمًا. نظرة واحدة إلى فوهة البندقيّة، أظهرت لي تآكلها، وأنّ الصلاة من أجلها لن تنفع."
"مجد الحرب، بكلّ تأكيد! جميع الجنود في الحرب مقمّلون، على الأقل حين يكون الطقس دافئًا بدرجة كافية. الرجال الذين قاتلوا في فيردان وواترلو وفلودين وسنلاك وتيرموبيلي، كلّ واحد منهم لديه قمل يزحف فوق خصيتيه".
"كانت القنبلة المُستخدمة في ذلك الوقت شيئًا مخيفًا، وقد عُرفت باسم قنبلة FAI، وقد صنعها الأناركيون في الأيام الأولى للحرب. كانت مبنية على أساس قنبلة ميلز، لكن هنا قد تمّ تعليق الرافعة بواسطة شريط لاصق وليس بواسطة الدبوس مثل قنبلة ميلز. تنزع الشريط وتتخلص من القنبلة بأقصى سرعة ممكنة. لقد قيل إنّ هذه القنابل محايدة. إنّها تقتل الرجل الذي تلقى عليه، والرجل الذي يلقيها."
"قلت إننا سنكون على ما يرام ما دام لدينا بعض السجائر. قلت ذلك على سبيل المزاح. وإذا بماكنير يأتي بعد نصف ساعة ومعه علبتَي Lucky Strikes. تحدّى الشوارع الحالكة التي تجوبها الدوريات الأناركيّة، والتي أوقفته مرتين وهدّدته مصوّبة المسدس نحوه وفحصت أوراقه.
لن أنسى هذا العمل البطولي الصغير. لن أنسى فرحتنا بالسجائر".
"ليس جميلًا أن ترى صبيًا إسبانيًا في الخامسة عشرة من عمره محمّلًا على نقالة، بوجه أبيض مذهول يطلّ من بين بطانيات، ثمّ أن تفكر في أشخاص أنيقين في لندن وباريس يكتبون منشورات تثبت أنّ هذا الفتى فاشي مموّه. من أفظع سمات الحرب أنّ الدعاية الحربيّة، الصراخ والأكاذيب والكراهيّة، تنبع دائمًا ممن لا يقاتلون".
"أسجّل هذا، على الرغم من أنه قد يبدو تافهًا، لأنّه نوعًا ما نموذجي لإسبانيا- لومضات الشهامة التي تحصل عليها من الإسبان في أسوأ الظروف. لدي أكثر الذكريات سوءًا عن إسبانيا، لكن لدي عدد قليل من الذكريات السيئة عن الإسبان".
*ملاحظة المؤلف: مفهوم خلع الإقليميّة يعكس فصل الممارسات الاجتماعيّة أو السياسيّة أو الثقافيّة عن أماكنها الأصلية وسكانها.