(تنشر هذه المادة بالتعاون بين موقع حكاية ما انحكت ومجلة دار الصادرة باللغتين العربيّة النرويجيّة)
على الرغم من أنّ ولادة الأجهزة الأمنيّة في سوريا جاء عقب استقلال سوريا في منتصف القرن الماضي، من خلال ما يسمى "المكتب الثاني"، إلّا أنّ معظم الأجهزة الأمنيّة تمّ تأسيسها عقب استلام حزب البعث الحكم في سوريا عام 1963، وإعلان حالة الطوارئ في 8 آذار 1963.
ازدادت وحشيّة هذه الأجهزة وتغلغلها في كافة مفاصل الحياة اليوميّة للسوريين في الفترة التي تلت استلام عائلة الأسد الحكم في سوريا، عقب انقلاب حافظ الأسد عام 1970، حيث لعبت دورًا كبيرًا في تثبيت النظام الحاكم لعدّة عقود، وكان دورها أساسيًا وواضحًا في عدةّ أحداث خلال تاريخ سوريا الحديث، من خلال القمع وارتكاب الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ولعلّ أبرزها مجزرة مدينة حماة 1982، وما يحدث منذ اندلاع الثورة السوريّة ضدّ النظام الحاكم في عام 2011. فما هي هذه الأجهزة؟ وما هو دورها في تحويل سوريا إلى "جمهورية الخوف"، لأبنائها السوريين، ولكلّ من يطأ أرضها أو يعيش في دول مجاورة لها؟
ستتناول هذه المقالة سياسة النظام والأجهزة الأمنيّة ودورها في التحكم بالحياة اليوميّة في سوريا.
سياسة النظام القائم في التعامل مع الأجهزة الأمنيّة
كانت سياسة الأب حافظ الأسد تقوم على حكم البلاد بقبضة أمنيّة قويّة، وأن تتدخل في كافة مفاصل حياة السوريين والمقيمين فيها، حتى في دول الجوار، كما حدث لدى تدخله في لبنان والأردن والعراق، وحتى في الشأن الفلسطيني. لتحقيق هذه السياسة قام الأسد الأب بإعطاء الأجهزة الأمنيّة صلاحيات واسعة، لكنه جعل مقاليد قوة هذه الأجهزة بيده حتى لا تشكل تحالف قوى قد يواجهه في المستقبل، لذلك كانت التغييرات في الأجهزة الأمنيّة والمناصب تجري بشكل دائم، وفي نفس الوقت كان حافظ الأسد يمنع الاجتماعات الثنائيّة بين قادة هذه الأجهزة ويجعلها تتنافس فيما بينها في سبيل نيل رضاه. وكان يبطش بكلّ من يتجرأ على تحديه أو أن يشاركه في الحكم، وأكبر مثال على ذلك عندما طرد شقيقه "رفعت" من سوريا في الثمانينيات.
انطلاقًا من هذه السياسة عمل حافظ الأسد على إيجاد عدّة أجهزة تتضمن في هيكلها البنيوي عدّة فروع، ممّا يساعده على توزيع السلطات بين القيادات الأمنيّة وبذلك يضمن إضعافهم أمامه والتنافس فيما بينهم.
أهم ما يميّز هذه الأجهزة بالإضافة إلى وحشيتها غير المحدودة، إحاطتها بهالة من الغموض والسريّة، كي يصعب الحصول على معلومات رسميّة منشورة وفق الأصول عن هذه الأجهزة، فكان كلّ ما هو منشور أو معروف هي تسريبات تمّت من قبل أشخاص ينتمون لهذه الأجهزة وانشقوا عنها لأسباب وأهداف مختلفة.
حين استلم بشار الأسد الحكم في العام 2000، عمل على الإطاحة بما يُسمى بالحرس القديم، الذي ساعد والده على الاستبداد بالحكم في سوريا لعقود، وذلك لشعوره بالخوف من قوة رجالات هذا الحرس.
تركيبة الأجهزة الأمنيّة
تمّ تشكيل بنية الأجهزة بطريقة تجعل تسلسلها الهرمي ينتهي في قبضة رئيس البلاد، بما أنّه القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة، فهذا يعني أن كلّ الأجهزة الأمنية التابعة للجيش ستتبع له حكمًا. ولأنْه رئيس المجلس الأعلى للقضاء فهو يستطيع حمايتها من الملاحقة القضائيّة، ومن المؤكد أنّ صلاحياته في إصدار المراسيم التشريعيّة تعطيه القدرة على إحداث هذه الأجهزة وتعيين أفرادها ونقلهم وعزلهم وضمان إفلاتهم من العقاب. بذلك يشرف رأس النظام على هذه الأجهزة بشكل مباشر أو من خلال مكتب الأمن الوطني.
تتألف أجهزة الأمن والمخابرات السوريّة من أربعة إدارات، تسمى شُعب، وهي شعبة الأمن العسكري، وشعبة أمن الدولة، وشعبة المخابرات الجويّة، وشعبة الأمن السياسي. تختلف صلاحيات كلّ منها، ومهامها، وأفرادها، ولها قيادتها الخاصة بحيث تعمل بشكل مستقل عن الفروع (الشعب) الأخرى -وفق استراتيجيّة حافظ الأسد للسيطرة على هذه الأجهزة ومنعها من تشكيل تحالف ضده- كما ذكرنا آنفًا.
يقع المقر الرئيسي لكلّ شعبة (جهاز) في العاصمة دمشق، وتتبع لها عشرات الفروع في العديد من المدن والمناطق السوريّة، ويحمل كلّ فرع من الفروع الأمنيّة رقمًا يميزها عن البقيّة.
أهم ما يميّز هذه الأجهزة بالإضافة إلى وحشيتها غير المحدودة، إحاطتها بهالة من الغموض والسريّة، كي يصعب الحصول على معلومات رسميّة منشورة وفق الأصول عن هذه الأجهزة.
أولاً: مكتب الأمن الوطني
تأسس هذا المكتب عام 1966، تحت مسمى "مكتب الأمن القومي"، وكان يتبع سابقًا القيادة القطريّة لحزب البعث العربي الاشتراكي، والذي وصل إلى الحكم في سوريا عقب الانقلاب العسكري عام 1963. واحتفظ بهذا المسمى حتى عام 2012، حيث تمّ تعديله عقب تفجير "خلية الأزمة"، فصار يُعرف بمكتب الأمن الوطني ويتبع للرئيس السوري مباشرة.
مهمة هذا المكتب حاليًا هي قيادة وتوجيه بقيّة الأجهزة الأمنيّة والتنسيق بينها وصلة وصل إضافية بينها وبين الرئيس.
ثانيًا٬ إدارة المخابرات العامة
في عام 1969 صدر القانون رقم 14 القاضي بإحداث إدارة أمن الدولة وقانون التنظيمات الداخليّة لإدارة أمن الدولة. ويقع مقر الإدارة الرئيسي في المنطقة المتعارف عليها بالمربع الأمني في العاصمة دمشق، وتتألف البنية الهيكليّة في هذه الإدارة من إثني عشر فرعًا مركزيًا وتأخذ أرقامًا ثلاثيّة، وتتبع لها عدّة فروع في كلّ محافظة ومدينة سوريّة.
يتم اختيار ضباطها وعناصرها من وزارتي الدفاع والداخلية، أمّا من هم في الرتب الأقل، فهم غالبًا من المتطوعين المدنيين، أو ممن يؤدون الخدمة العسكريّة الإلزاميّة وتم فرزهم إلى هذه الإدارة. أهم الفروع المتمركزة في العاصمة دمشق والتابعة لهذه الإدارة هي:
- فرع المعلومات (255): يختص بمراقبة من ينشطون في الأحزاب والشؤون الدينيّة والإعلاميّة.
- فرع التحقيق (285): يقوم بالتحقيق في التقارير المحالة من بقيّة فروع إدارة المخابرات العامة من كلّ المحافظات.
- فرع مكافحة الارهاب (295): مهمته الرئيسيّة هي عمليات المداهمة والاغتيالات ومكافحة الإرهاب، بالإضافة إلى تدريب المتطوعين لصالح فروع الإدارة.
- فرع مكافحة التجسس (300): مهمته متابعة الأجانب والمواطنين والمؤسسات الحكوميّة والخاصة والسياسيين والأحزاب التي تتواصل مع جهات خارجيّة.
- الفرع الخارجي (279): يُشرف على عمل عناصر المخابرات في السفارات وخارج البلاد، ومراقبة المغتربين.
- الفرع الفني (280): مهمته هي عمليات التنصت والتشويش ومراقبة البريد والإنترنت.
- الفرع الداخلي (251): مهمته إجراء دراسات عن المسؤولين الحكوميين والنقابات والتجار والصناعيين والجامعات والأحزاب. وتجري حاليًا في المحكمة الإقليميّة في مدينة كوبلنز الألمانيّة محاكمة رئيس قسم التحقيق في هذا الفرع، بعد أن أُصدر الحكم على أحد عناصر صف الضباط أمام نفس المحكمة في العام الفائت.
- فرع التدريب (290): يقوم بتدريب عناصر الإدارة فيما يتعلق بالعلوم الأمنيّة والإداريّة والتقنيّة والفنيّة.
- الفرع الاقتصادي (260): يتابع القضايا الاقتصاديّة والشركات الخاصة والمؤسسات العامة.
- الفرع (111): ينظّم كافة الملفات التي يُشرف عليها مباشرة مدير الإدارة، ويتدخل بكافة ملفات الفروع.
وفي عام 2007 صدر المرسوم التشريعي رقم 16 القاضي بإحداث المعهد العالي للعلوم الأمنيّة بغرض تدريب المندوبين الأمنيين للدورات الأمنيّة المكثفة.
ثالثًا: إدارة الأمن السياسي
تتبع نظرياً وزارة الداخليّة، مقرها في دمشق، ولها فروع في المحافظات في دمشق وحدها يوجد عدّة فروع، مثل فرع التحقيق وفرع الجبّة. وفرع خاص بالأحزاب السياسيّة، وآخر بشؤون الطلبة، وفرع المدينة، وفرع المراقبة والملاحقة، وفرع المهام الخاصة، وفرع التحقيق، وفرع المعلومات، وفرع الأحزاب، وفرع الأجانب والعرب.
رابعًا: إدارة المخابرات الجويّة
يقع مقرها الرئيسي في الآمريّة، بجانب رئاسة الأركان القريبة من ساحة الأمويين ، كما توجد لها عدّة فروع في دمشق، واحد في باب توما، وآخر في منطقة العباسيين، وفرع في مطار دمشق، وآخر في مطار المزة، كما لها فروع وأقسام في كلّ محافظة ومدينة سوريّة، وفي جميع المطارات المدنيّة والعسكريّة. ولها عدّة مهام أهمها: حماية سلاح الجو السوري، والطائرة الرئاسيّة، وأمن الرئيس داخل سوريا وخارجها، بالإضافة إلى أمن المطارات، ومراقبة ضباط وأفراد القوى الجويّة والدفاع الجوي. وهناك عدة فروع تابعة لهذه الإدارة تتموضع في دمشق، أهمها:
- قسم المراقبة الموضوعيّة: مهمته مراقبة الاتصالات الهاتفيّة والبريد وشركات الاتصالات.
- فرع التحقيق: يقع ضمن مطار المزة العسكري وتتبع له عدّة أقسام، كالمداهمة، وجلب المطلوبين، وقسم الدراسات.
- الفرع الإداري: مهمته تعيين العاملين في الإدارة ومراقبتهم.
- فرع المعلومات: يتألف من عدّة أقسام مختصة بجمع المعلومات والقيام بالدراسات الخاصة بالأحزاب والطلاب والدفاع الجوي والقوى الجويّة والمدنيين ووسائل الإعلام.
- فرع المطار: يهتم بالأمن الشخصي الخارجي للرئيس لدى السفر وطائرته االرئاسيّة والمطار الرئاسي.
- فرع الأمن الجوي: وهو مسؤول عن الطيران الحربي ومطاراته.
هناك أيضًا فرع العمليات الداخليّة والخارجيّة، وفرع العمليات الخاصة، والفرع الفني. هذا الجهاز ساهم في مجزرة حماة 1982، وهو مسؤول عن العديد من المجازر بعد الثورة السورية في 2011، واعتقال وإخفاء المعارضين السياسيين واغتيالهم.
تتألف أجهزة الأمن والمخابرات السوريّة من أربعة إدارات، تسمى شُعب، وهي شعبة الأمن العسكري، وشعبة أمن الدولة، وشعبة المخابرات الجويّة، وشعبة الأمن السياسي.
خامسًا: إدارة الاستخبارات العسكريّة
كان يطلق عليها وعلى فروعها في المحافظات في خمسينيّات القرن الماضي اسم "الشعبة الثانية"، واشتهرت هذه الشعبة خلال تلك الحقبة، ولها عدّة فروع تتمركز في دمشق، مع فروع في كلّ المحافظات، وأهم هذه الفروع وأكبرها هو فرع فلسطين (الفرع 235) الذي تمّ تأسيسه بغرض مراقبة الأفراد والمنظمات والأحزاب السياسيّة والفصائل العسكريّة الفلسطينيّة المتواجدة على الأراضي السوريّة وفي دول الجوار وغيرها، ولاحقًا توسعت مهامه ليشمل السوريين والجنسيّات الأخرى.
وهناك فروع أخرى تتبع هذه الإدارة منها: فرع التحقيق العسكري (248)، الفرع الإداري (291)، فرع شؤون الضباط (293) ومهمته مراقبة الضبّاط، فرع أمن القوات (294)، الفرع الفني (211) ومهمته مراقبة الإنترنت، فرع الاتصالات (225)، فرع اللاسلكي (237)، فرع سريّة المداهمة والاقتحام (215)، فرع الدوريات (216)، فرع المنطقة (227)، فرع الجبهة–سعسع (220).
بعد انطلاق الثورة الشعبيّة 2011، تمّ تشكيل ما يسمى بخلية إدارة الأزمة وضمت وزيري الدفاع والداخليّة، ورئيس الأركان، بالإضافة إلى رؤساء الأجهزة الأمنيّة، واستمرت في عملها حتى التفجير الذي أطاح بعدد كبير منهم في 18\7\2012. كان دورها التنسيق فيما بينها ورفع تقارير عن الأوضاع الأمنيّة لرأس النظام، وتنسيق العمل فيما بين الأجهزة الأمنيّة.
الدور الروسي في تركيبة الأجهزة الأمنيّة
تلعب روسيا دورًا كبيرًا في التأثير على التركيبة الأمنيّة للنظام السوري، وخاصة مذ أصبح التدخل الروسي في سوريا أكثر علنيّة ووضوحًا على الأرض في سوريا، ولا سيما بعد توقيع الاتفاقيّة غير المعلنة بين النظامين السوري والروسي في عام 2015، والتي أعطت الصلاحيات الواسعة لروسيا لتولي جزء كبير من المهام عوضًا عن الحكومة السوريّة.
سياسيًا تدعم روسيا الحكومة السوريّة في المفاوضات مع المعارضة، واقتصاديًا تتحكم روسيا بالعديد من الموارد الاقتصاديّة في البلاد، كإدارة المرافئ وتشغيل المعامل والسيطرة على الثروات الباطنيّة.
أمّا في القطاع الأمني، فمنذ بداية التدخل الروسي العسكري العلني في سوريا، جرّبت روسيا ما يزيد عن ثلاثمئة وعشرين نوع من الأسلحة الجديدة في سوريا، وقامت بنشر عناصر الشرطة العسكريّة في الأراضي السوريّة، وشكّلت ما يسمى بـ"الفيلق الخامس-اقتحام".
سياسيًا تدعم روسيا الحكومة السوريّة في المفاوضات مع المعارضة، واقتصاديًا تتحكم روسيا بالعديد من الموارد الاقتصاديّة في البلاد.
وحيث أنّ الأجهزة الأمنيّة هي اللاعب الأساسي ولها اليد الطولى في سوريا، قامت روسيا بالتدخل فيها ووضعها تحت إشرافها، فبدأت تتدخل في التعيينات والتغييرات في المناصب داخل هذه الاجهزة، ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل تعداها إلى الإشراف على إعادة الهيكلة داخل هذه الأجهزة وإحداث فروع أمنيّة جديدة تضمن تمكينها من السيطرة وتنفيذ السياسة الروسيّة في سوريا. ففي عام 2019 عملت روسيا على إحداث عدّة فروع أمنية جديدة منها:
- فرع أمن المنشآت (الفرع 108): يتبع إدارة أمن الدولة، ويتضمن عدّة أقسام ويتبع له مفارز في كافة المدن السوريّة، وتكمن مهمته الأساسيّة في تأمين الحماية للمواقع والمؤسسات والمنشآت.
- الفرع (24): يتبع إدارة المخابرات الجويّة، ومهمته مراقبة حركة التنقل من وإلى سوريا.
- فرع الأمن الرقمي: يتبع شعبة الأمن السياسي بإشراف روسي مباشر.
الإفلات من العقاب
حتى يضمن النظام الحاكم في سوريا استمراريته وإحكام قبضته على مقاليد الحكم بأكملها، قام بكلّ ما يلزمه لإضعاف سيادة القانون، واستقلاليّة القضاء، فحكم سوريا لمدة عقود عن طريق قانون الطوارئ، حيث يتمتع الحكم العرفي بصلاحيات واسعة عن طريق توقيف المواطنين واعتقالهم لفترات مفتوحة المدة، ومن كان محظوظًا في البقاء على قيد الحياة تتم إحالته إلى إحدى المحاكم الاستثنائيّة التعسفيّة، كمحاكم الميدان العسكريّة، أو محكمة أمن الدولة، أو محكمة قضايا الإرهاب، وقد أحدثها النظام، كإحدى أشكال ممارساته الأمنيّة للحكم وإضعاف المعارضين.
في المقابل، قام النظام بحماية معاونيه في الأجهزة الأمنيّة من خلال عدّة ممارسات تضمن إفلاتهم من العقاب، فأطلق العنان لوحشيّة الأجهزة الأمنيّة للتوغل في الحياة اليوميّة للسوريين على كافة الأصعدة، بالإضافة للعديد من المزايا والمغريات الماديّة لأولئك الأفراد وعائلاتهم.
وتمثلت حمايته لهم في عدّة أشكال: الشكل المباشر من خلال سلطته بإصدار مراسيم وقوانين تضمن إفلات أفراد هذه الأجهزة من الملاحقة القضائيّة لدى إرتكابهم الانتهاكات والجرائم خلال عملهم. وعلى رأس هذه النصوص القانونيّة يأتي الدستور السوري، حيث لا يجوز محاكمة رئيس الجمهورية إلّا بجرم الخيانة العظمى. وحتى لا يترك النظام أيّ أمر لأيّ اجتهاد قضائي أو لصدفة قرار قضائي يقترب من محاسبته، أو من ملاحقة أحد قادة الأجهزة الأمنيّة قضائيًا، وضع الأسد نفسه على رأس الهرم القضائي من خلال رئاسته لمجلس القضاء الأعلى، وبذلك أضحى يتمتع بالقوة والسلطة في التحكم بالسلطة القضائيّة أيضًا، ويضاف إلى ذلك سلطته في اختيار القضاة وتعيينهم بناء على توصيات الأجهزة الأمنيّة. وفوق كل ذلك لا يمكن تجاهل صلاحياته في منح العفو الخاص لمن يمكن إدانته قضائيًا.
في تاريخ 28/3/1968 صدر مرسوم إحداث إدارة المخابرات العامة وتضمّن نصه عدم نشره، حيث جاء في المادة 30 منه: "لا يُنشر هذا المرسوم، ويُعمل به اعتبارًا من تاريخ صدوره".
فيما نصت المادة 16 منه على منح العاملين في إدارة المخابرات العامة حصانة ضد الملاحقة القانونيّة تجاه الجرائم التي يرتكبونها أثناء تأديتهم لعملهم، إلّا بإذن خاص من مدير إدارة المخابرات: "لا يجوز ملاحقة أيّ من العاملين في الإدارة عن الجرائم التي يرتكبونها أثناء تنفيذ المهمات المحددة الموكولة إليهم أو في معرض قيامهم بها، إلّا بموجب أمر ملاحقة يصدر عن المدير".
كذلك كان الحال بالنسبة لعدم النشر وإعطاء العناصر الأمنية الحصانة الدائمة، في المرسوم التشريعي 549 تاريخ 25/5/1969، المُسمى قانون التنظيمات الداخليةّ لإدارة أمن الدولة، نصّت المادة 74 منه: "لا يجوز ملاحقة أيّ من العاملين في إدارة أمن الدولة أو المنتدبين أو المعارين إليها أو المتعاقدين معها مباشرة أمام القضاء، في الجرائم الناشئة عن الوظيفة، أو في معرض قيامه بها قبل إحالته على مجلس التأديب في الإدارة واستصدار أمر ملاحقة من قبل المدير".
وامتدت الحصانة القضائيّة بعد العام 2015 إلى الحلفاء الروس المتواجدين على الأراضي السوريّة، وذلك بموجب الاتفاقيّة غير المعلنة الموقعة بين النظام السوري والروسي.
ونصت المادة 101 منه على: "لا يُنشر هذا المرسوم، ويعتبر نافذًا من تاريخ نفاذ المرسوم (14) تاريخ 15/1/ 1969".
في عام 2008 صدر المرسوم التشريعي رقم 69 الذي منع ملاحقة المنتمين لأجهزة الأمن الداخلي، أو الأمن السياسي، أو الجمارك، إلّا بقرار من القائد العام للجيش والقوات المسلحة.
بعد انطلاق الثورة الشعبيّة في العام 2011، استمرت ضمانات الإفلات من العقاب في التوسّع، من خلال استمرار إصدار مثل هذه التشريعات والقوانين والقرارات التنظيميّة والإداريّة، ففي سبيل إعطاء شرعيّة لاعتقالات العناصر الأمنيّة للمواطنين، قام النظام بإضفاء صفة الضابطة العدليّة على هذه العناصر بحجة إجراء تحقيقات وفق قانون أصول المحاكمات الجزائيّة، وذلك من خلال المرسوم التشريعي رقم (55) لعام 2011، الذي نصت المادة الأولى منه على أن: "تضاف إلى المادة 17 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الفقرة التالية: 3- تختص الضابطة العدليّة أو المفوضون بمهامها باستقصاء الجرائم المنصوص عليها في المواد من 260 حتى 339 والمواد 221 و388 و392 و393 من قانون العقوبات وجمع أدلتها والاستماع إلى المشتبه بهم فيها على ألا تتجاوز مدة التحفّظ عليهم سبعة أيام قابلة للتجديد من النائب العام وفقًا لمعطيات كلّ ملف على حدة وعلى ألا تزيد هذه المدة على ستين يومًا".
وامتدت الحصانة القضائيّة بعد العام 2015 إلى الحلفاء الروس المتواجدين على الأراضي السوريّة، وذلك بموجب الاتفاقيّة غير المعلنة الموقعة بين النظام السوري والروسي.
ممارسات الأجهزة الأمنيّة
تعتمد هذه الأجهزة في سياستها على عدّة تقنيات، منها: الترغيب، والترهيب، والخوف، والتعتيم، وطمس أيّة وثائق رسميّة تدل على تأسيسها، ووجودها، وسياساتها، وخططها، وتركيبتها، وأنشطتها، لذلك يصعب الحصول على معلومات، أو وثائق رسميّة عن تأسيسها، أو عن طبيعة عملها، أو أفردها، فمن تستطيع استمالته يتم عرض المكافآت والمناصب والتسهيلات له، وعلى النقيض من ذلك يكون مصير من يُعارض فيتم التعامل معه، ما بين المضايقات، والمراقبة والتعرض للعائلة، وحظر السفر، والإبلاغ عن أفراد العائلة والأصدقاء، والاعتقال التعسفي، والقتل، والتعذيب، والحرمان من المحاكمات العادلة.
تحدثت العديد من التقارير الحقوقيّة للمنظمات المحليّة والدوليّة، عن أبرز الأدوات لتنفيذ هذه السياسة، حيث يبرز التعذيب، والقتل خارج إطار القانون، والإخفاء القسري، والاعتقال التعسفي، والحرمان من معايير المحاكمات العادلة، والعنف الجنسي، وهي ترقى لتشكل جرائم دوليّة (جرائم ضد الإنسانيّة وجرائم حرب)، فيتعرض السوريون لكل أشكال العذاب هذه منذ استلام النظام القائم الحكم في سوريا، وكانت ترتفع وتيرته لتظهر علنًا في بعض الحالات، كما حصل في مجزرة مدينة حماة عام 1982 والتي تمّ تدمير ما يقارب ثلثي المدينة فيها خلال أقل من شهر واحد، واختفت عائلات بأكملها وغطت جثث الضحايا فيها جميع أحياء المدينة، ولا يمكن حتى اليوم إحصاء عدد القتلى، أو المختفين قسريًا من الرجال والنساء والأطفال والكهول.
بعد انطلاق الثورة الشعبيّة في العام 2011، استمر النظام في ممارساته من خلال أجهزته الأمنيّة، والجيش، والميليشيات التي أحدثها أو أحضرها من حلفائه الخارجيين كالميليشيات العراقية والإيرانية واللبنانية وغيرها.
الوحيد الذي تغيّر بعد عام 2011، أنّ النظام لم يستطع السيطرة على تدفق المعلومات وكشف الحقيقة بسبب التطور التقني في عالم المعلوماتيّة ووسائل التواصل الاجتماعي، لكنه استفاد من هذا التدفّق ليكوّن أداة جديدة لمراقبة الأفراد والمنظمات داخل سوريا، أو تلك التي تتعاون في الشأن السوري. على سبيل المثال، قبل عام 2011 كانت مواقع التواصل الاجتماعي في سوريا كتويتر وفيس بوك محظورة، وبعد 2011 سمحت الأجهزة الأمنيّة بها في سبيل مراقبة الناشطين، بالتعاون مع الخبرات الروسيّة والإيرانيّة في هذا المجال.
رغم كلّ الاحتياطات والإجراءات التي اتبعتها الأجهزة الأمنيّة، فقد تمّ اختراقها من خلال تسريب معلومات وأدلّة ووثائق كشفت لحد هام البنية الهيكليّة لهذه الأجهزة وومارساتها مع المدنيين، ومن هذه الممارسات التي حظرها حتى الدستور السوري: التعذيب الوحشي، والقتل خارج إطار القانون، والتجويع، والحرمان من مياه الشرب والرعاية الصحيّة، والإخفاء القسري، في قائمة تكاد لا تنتهي من أساليب العقاب الوحشيّة، وهذا ما أثبتته صور المصور العسكري المنشق "قيصر"، الذي سرّب مع صديقه "سامي" عشرات آلاف الصور لآلاف الضحايا، حيث تظهر على أجسادهم الهزيلة أكثر علامات التعذيب وحشيّة والتي لم تحتويها حتى صور الهولوكوست، ناهيك عن أبسط الحقوق في التواصل مع العائلة، أو الوكلاء القانونين.
التدخل في الحياة اليوميّة يتناول كلّ مفاصلها، فأيّ تجمعات واجتماعات تخضع للرقابة، سواء كانت داخل سوريا أو خارجها فيما يتعلق بالمعارضين، بغض النظر إذا كانت أنشطة فنيّة كالحفلات مثلًا، أو ثقافيّة كالأمسيات الأدبيّة وندوات المفكرين والأدباء، أو اجتماعيّة كحفلات الزفاف، أو حتى ممارسة الطقوس الدينية كالذهاب إلى أماكن العبادة أو انتقاء وتعيين رجال الدين. يمتد هذا التدخل إلى حقوق أخرى، كـحظر السفر دون الحصول على موافقة أمنيّة، ناهيكم عن قمع حريّة التعبير.
الملخّص
منذ استلام النظام الحاكم، وعلى رأسه عائلة الأسد، لزمام السلطة قبل ما يزيد على نصف قرن، كان ديدنه في حكم البلاد يقوم على الترهيب والعنف من خلال أذرعه الأمنيّة، التي كانت وفية لهذه العائلة، ومارست ولا تزال قمعًا لكلّ الحريات، وانتهاكًا لكل الحقوق، وبطشًا بكلّ الأصوات المناهضة. لذلك لا أفق في أي تغيير نحو الديمقراطيّة وإطلاق الحريّات، بوجود هذا النظام المتشبث بالسلطة بقوة مساعديه الأمنيين.
لا توجد حتى فرصة لإصلاح الأجهزة الأمنيّة، حيث تلوّثت أيادي أغلب أفرادها بدماء السوريين على مدار عشرات السنين.
يجب أن يترافق التغيير مع تحقيق العدالة لكلّ ضحايا انتهاكات هذه الأجهزة بتوجيه من النظام الحاكم، وسيتم ذلك فقط من خلال تطبيق العدالة الجنائيّة والاجتماعيّة في آن واحد، وإصلاح المؤسسات وتعديل القوانين والدستور وجعل الاتفاقيات الدوليّة لحقوق الإنسان تسمو على أيّة تشريعات محليّة.