النص الأصلي لهذا المقال، نشر أولا باللغة الإنجليزية، يوم الجمعة الموافق 14 يناير/ كانون الثاني 2022، في موقع Just Security، على الرابط التالي، وحكاية ما انحكت تعيد نشره بعد موافقة مشكورة من الموقع والدكتور كلاوس كريس.
تمت ترجمة هذا النص من قبل الباحثة المختصة في القانون الجنائي الدولي في جامعة كولونيا، الدكتورة عنان الشيخ حيدر.
أدانت المحكمة الإقليمية العليا، في مدينة كوبلنز الألمانية، يوم الخميس [13 كانون الثاني/ يناير]، ضابط مخابراتٍ سوريًّا، سابقًا، بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وحكمت عليه بالسجن المؤبد. وجدت المحكمة أن المتهم مسؤول عن المشاركة في ارتكاب جريمة قتل 27 شخصًا، وعن حرمانٍ من الحرية وتعذيبٍ لأكثر من 4000 شخصٍ. وقد ارتُكِبت جميع تلك الأفعال، بين نيسان/ أبريل 2011 وأيلول/ سبتمبر 2012، كجزءٍ من هجومٍ منهجيٍّ واسع النطاق ضد السكان المدنيين في سوريا. وكانت محكمة كوبلنز قد وجدت، مسبقًا، في شباط/ فبراير من العام الماضي، متهمًا سوريًّا من رتبةٍ متدنيةٍ، مذنبًا بالمساعدة في ارتكاب أعمال تعذيبٍ وسجنٍ متعددةٍ، تم ارتكابها كجزءٍ من الهجوم المنهجي وواسع النطاق ذاته، في عام 2011.
في حكمها الأول، قضت محكمة كوبلنز بأنه، منذ نهاية نيسان/ أبريل 2011، على الأقل، قامت قوات الأمن السورية، عمومًا، والعديد من أجهزتها الاستخبارية، خصوصًا، بتنفيذ حملة قتلٍ واحتجازٍ تعسفيٍّ وتعذيبٍ ضد أعضاءٍ، فعليين أو مزعومين، في حركة معارضةٍ سلميةٍ لنظام الأسد. بالإضافة إلى ذلك، قررت المحكمة أن هذه الحملة نُفِّذت وفقًا لسياسة القضاء على الاحتجاج السلمي المتنامي بسرعةٍ، ولترهيب السكان السوريين، لمنع الاحتجاجات المحتملة في المستقبل. ووجدت المحكمة أن هذه السياسة كانت سياسة قيادة الدولة في سوريا، أي حكومة الرئيس بشار الأسد. إلى جانب ألمانيا، رُفِعت دعاوى جنائيةٌ على جرائم، بموجب القانون الدولي، في بعض البلدان الأخرى، وربما كانت السويد هي المثال الأبرز، في هذا الخصوص. لكن، على حد علمي، فإن حكمي محكمة كوبلنز لهما قصب السبق في التوصُّل إلى نتيجةٍ، في شأن الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت وفقًا لسياسة الحكومة السورية، كنتيجة محاكمةٍ جنائيةٍ، وبناءً على أخذٍ وتقييمٍ لمجموعةٍ واسعةٍ من الأدلة. تم الإعلان عن كلا الحكمين، في جلسة محاكمةٍ علنيةٍ، ولما يصبحا نهائيين، بعد.
كانت إجراءات قضية كوبلنز ممكنةً، لأن المشتبه بهم لم يتمتعوا بالحصانة، على الرغم من أنهم قاموا بأفعالهم، بصفتهم الرسمية
يمكن المحاججة بأن حكم يوم الخميس هو أهم مثالٍ، حتى الآن، على تطبيق مدونة قانون الجرائم بموجب القانون الدولي في ألمانيا. تحتوي هذه المدونة، التي دخلت حيز التنفيذ في عام 2002، على تقنينٍ شاملٍ للجرائم بموجب القانون الدولي العرفي، وتسمح للمدعي العام الاتحادي في ألمانيا بتفعيل الولاية القضائية العالمية لألمانيا على الجرائم الدولية المرتكبة في الخارج، حيثما كان ذلك ممكنًا عمليًّا. هذه السلطة القضائية هي التي مكّنت خبراء القانون الجنائي الدولي، في مكتب المدعي العام الاتحادي الألماني، من فتح تحقيقاتٍ، على نطاقٍ أوسع، في الجرائم التي يُزعم ارتكابها في سوريا، في وقتٍ مبكرٍ من أيلول/ سبتمبر 2011. بناءً على ذلك، كان المدعي العام الاتحادي الألماني ووكالة الشرطة الفيدرالية الألمانية على أهبة الاستعداد، عندما وصل المتهمون إلى ألمانيا، بعد عدة سنوات. وعلاوةً على سلطة الولاية القضائية العالمية، كانت إجراءات قضية كوبلنز ممكنةً، لأن المشتبه بهم لم يتمتعوا بالحصانة، على الرغم من أنهم قاموا بأفعالهم، بصفتهم الرسمية. وتجدر الإشارة، في هذا السياق، إلى أنه قبل شهرٍ واحدٍ، فقط، من صدور الحكم الأول في قضية كوبلنز، أكدت محكمة العدل الفيدرالية الألمانية، في حكمٍ تاريخيٍّ، مبدأ عدم إمكانية تطبيق "الحصانة الوظيفية"، في الإجراءات المتعلقة بجرائم الحرب، أو بعض الجرائم الأخرى التي تهم المجتمع الدولي، بوصفه كلًّا. ويتعلق ذلك الحكم بمسؤولي الدولة ذوي المراتب الدنيا، على الأقل.
يوفر حكما كوبلنز قدرًا من العدالة لسوريا. ومع ذلك، فهو ليس أكثر من إجراءٍ صغيرٍ، بالنظر إلى الألم الذي لا يوصف الذي عانى، وما زال يعاني منه، العديد من الضحايا السوريين. ومن الآن فصاعدًا، من المأمول أن تبدأ الإجراءات الجنائية الوطنية في بلدانٍ خارج ألمانيا والسويد، حيثما كانت جاريةً بالفعل، وأن تُقام، إذا كان الأمر ضروريًّا أو مفيدًا، بدعمٍ من الآلية الدولية المحايدة والمستقلة التي أنشأتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، للمساعدة في التحقيق مع الأشخاص المسؤولين عن أخطر الجرائم المرتكبة، في الجمهورية العربية السورية منذ آذار/ مارس 2011، بموجب القانون الدولي، وفي مقاضاة هؤلاء الأشخاص. وينبغي ألا ننسى إمكانية إحالة مجلس الأمن النزاع السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية التي يمكنها، إذا دعمت الإرادة السياسية مثل هذا الإجراء، أن تسهم، إسهامًا كبيرًا، في الجهود المبذولة لتحقيق العدالة لسوريا، بطريقةٍ أكثر شمولاً.