"العم أبو علي" تلك عبارة تسمعها على ألسنة سوريين كثر، وحين تُنطق، فهي حتمًا تشير إلى اسم واحد لا سواه، إنّه المناضل والسجين السياسي، محمد الصالح، المعروف بين الجميع باسم "أبو علي صالح".
الملفت في حالة أبو علي، على خلاف معارضين وسياسيين كثر، أنّه حاضر ومعروف بين أجيال متعدّدة من السوريين، بعضهم بعمر أبنائه وأحفاده ربّما، ما يدفعنا للسؤال: كيف ومتى تمكّن هذا الرجل من أن يكون صديقًا لكلّ هؤلاء؟ ربّما يكون السر في كلمة "الشارع" التي تحيل بدورها إلى كلمة الفاعل السياسي/ الاجتماعي الذي يجسّده أبو علي خير تجسيد. فهو، وعلى خلاف كثيرين أيضًا، لا تراه إلّا في الشارع ومع الناس، ينتقل من حيّ إلى حيّ، ومن بيت إلى لقاء سياسي، ومن الأخير إلى عمله الذي يكسب منه لقمة عيشه.
هذا الحضور اليومي بكلّ ما فيه من انغماس في مشكلات الناس وقضاياهم، قرّبه من عنصر الشباب وجعله أكثر فهمًا لاحتياجات البسطاء والفقراء والمعدمين، الذين يشكّلون هاجسه الأساسي، سواء بالمعنى الإنساني أو السياسي، كيف لا وهو القائل في هذا الحوار: "المنعطف الحقيقي في التعامل مع المحيط حدث حين كنت في العاشرة من عمري، عندما عاد والدي من سفره وعلم أنّ عائلة من القرية ليس لديها ما تأكله حين قالت أمي إنّ بيت (....) قد ناموا بلا عشاء. غضب والدي كثيرًا وأنّبني بكلمات قاسية، ثمّ قال: كيف استطعت النوم ورفقاتك جوعانين؟ هذه العبارة جعلتني دائمًا لا أملك المال، لأنّني سأجد دائمًا مكان له غير جيوبي".
ربّما، تكون هذه الحادثة قد حفرت قدر أبو علي وسيّرت مجرى حياته، لا ليكون جيبه خاليًا من المال فحسب، بل لتدفعه في الطريق الذي سلكه ودفع ثمنه أعوامًا طويلة من عمره في مقارعة الدكتاتوريّة، لأنّ الدفاع عن الفقراء، يعني فيما يعنيه مواجهة ناهبي لقمة عيشهم، هؤلاء الذين لا يزالون يتحكمون بمستقبل البلاد والعباد.
هنا في هذا الملف الصغير، والذي أردناه تكريمًا لأبي علي، يروي لنا في حواره معنا نتفًا من حياته التي يصعب اختصارها في سطور قليلة، بدءًا من طفولته إلى حياته في مدينة حمص وحالها الحزين اليوم إلى ما تركته فيه سنوات الاعتقال من أسئلة وقلق وأرق لا يزول، كما نقرأ عنه من بعض رفاق ورفيقات دربه والشباب الذين احتكوا به وعملوا معه وتعلّموا منه.
أبو علي، تعيش في حمص منذ زمن بعيد، ماذا تعني حمص لك؟ حدثنا عن حمص اليوم؟ كيف تراها؟ كيف أهلها؟ أزقتها؟ أحياؤها؟ ثورتها المغدورة؟ ماذا بقي من الثورة في أذهان الناس؟ واقعها المعيشي؟
أعيش في مدينة حمص منذ عمر السابعة عشر وحتى الآن، ولم أغادرها إلّا مُكرهًا. في حمص تعرّفت على المختلف، وفيها تعرّفت على السينما والنادي السينمائي، وفي حمص أيضًا تعرّفت على المسرح وتعرّفت على الأحزاب الشيوعيّة والإسلاميّة والمذاهب الإسلاميّة والطوائف المسيحيّة، وفي حمص بدأت التعرّف عن قرب على أشياء سمعت عنها.
حمص اليوم مريضة، التنقّل في شوارعها يُشعرك بالمرض الذي أنهكها، الشوارع التي مرّت عليها الحرب تُعطيك صورة عن حالنا جميعًا، البناءُ مدمّر، ولكن مع ذلك ترى ضوءًا خافتًا وغسيلًا نظيفًا على حبل غسيل في محاولة لصنع حياة ما، ثمّة نوع من التحدّي للبقاء. ترى وأنت تتجوّل فيها أحياء عديدة فارغة، فتسأل نفسك: أين كلّ هؤلاء؟ وهل سيعودون يومًا؟
في الدوائر العقاريّة تجد شخصًا واحدًا باقيًا من أسرة كبيرة، يحاول إتمام المعاملات مع كلّ التعقيد ووجوب حصول الموافقات الأمنيّة، سكان هذه المدينة لا يختلفون عن غيرهم، فيهم كلّ شيء من المجتمع السوري. يقول الكثيرون منهم لن نستطيع أن ننسى ما حصل، وكلّ منهم يحمّل المذهب المغاير سبب ما حصل ويترك السياسة والسياسيين جانبًا، وآخر يشتم السياسيين جميعهم، والذين أوصلوا سوريا إلى هنا، وثالث يشتم قادة المعارضة الهزيلة التي تصدّرت المشهد، وهناك شريحة مسيّسة تتكلم بشكل سياسي مختلف، ولكنهم قلّة وتأثيرهم محدود. رغم كلّ شيء بقيت الخيوط متصلة بين تجار المدينة أكثر من بقية الشرائح.
فرج بيرقدار: أشعر وكأنّني نسيت الضحك
14 كانون الثاني 2022
الشيء الوحيد المشترك أنّك تشتم السياسيين وتسمع "آمين" من الجميع، ويبدو أنّ في ضمير كلّ شخص ثمّة سياسي معيّن يوّجه إصبع اللعن إليه! يتذكر الجميع "سنوات الحرب"، لم أسمع "سنوات الثورة" إلّا نادرًا، هذه الكلمة أفتقدها. كلّ اللوم يوجّه إلى قادتها، حتى من أكثر الناس تأييدًا لها سابقًا، من لم يصبحوا موالاة أبدًا، ولكن يزعجهم سلوك القادة. ثمّة حزن كبير على الشباب الضحيّة. نحن هنا ننتظر شيئًا واحدًا هو نهاية تلك الحرب كما ينتظر السجين الخروج من السجن، وربّما لا يعرف إلى أين؟ المهم الخلاص ممّا نحن فيه.
نسأل: أين هي الصفحة الأخيرة؟
في الوقت الذي هاجر فيه أغلب رفاق دربك نحو المنفى، بقيت في حمص. لماذا؟ وماذا يعني الوطن لك اليوم؟ وكيف تقرأ هذه الهجرة القسريّة للسوريين اليوم؟
لم أغادر لأسباب كثيرة، أهمها أنّني أحبّ أن أشارك في صنع مستقبلي ومستقبل أحفادي. لم أحبّ يومًا العيش في بناء جاهز وتمّ تجهيزه من قبل آخرين، أتمنى أن أستطيع التدرّج بتجربتي، لا العيش في مكان جاهز دفع آخرون ثمن بنائه.
الكثيرون كان لهم رأي آخر وغادروا سوريا، ربّما كانت الرغبة بالحياة، حيث أنّ وجودهم كان مهدّدا، فاضطروا للهرب ولم يذهبوا ترفًا ولا رغبة بالهجرة. ربّما لو شعرت بالخطر على حياتي كنتُ فعلتها، كما حصل معي عندما اعتقل صديقي عدي رجب وتوفي على إثر ذلك. حينها فكرت كثيرًا بالرحيل، ثمّ توقفت وقرّرت البقاء.
وجود أولادي وأحفادي في سوريا هو السبب الأساسي، فهم الوطن الذي نسعى لأن يكون جميلًا في عيونهم. الوطن هو المكان الذي نعيش فيه، ولنا فيه حقوق حتى لو كانت مستلبة. الآن، يبقى العمل على الحصول عليها.
تركها ورميها لمن استلبها يقوّي الجريمة. الوطن هو الشجرة التي زرعتها وأستظلّ بها. هناك من يريد اقتلاع الشجرة وهناك من يريد الاستحواذ على ظلّها، والكثيرون يغادرون نحو الشمس متخليّن عن حقهم في الظل. والتخلّي ليس طوعًا، إنّما خوفًا من العاقبة، لم نعرف نحن السوريون الدفاع عن ظلّ شجرتنا، حاولت كلّ مجموعة طرد الأخرى من الظلّ، عوضًا عن الاحتماء معًا في الظلّ.
هذه المنطقة ورثت كلّ قوانين تكريس الظلم، وبكلّ حال عند وجود بعض العدل سيجف مستنقع الطائفيّة، وهناك أمثلة بسيطة جدًا من الحياة نراها كلّ يوم.
في عملي أتحرّك في أغلب المناطق التي يمكن الوصول إليها مع معاناة شديدة على الحواجز حتى استسلمت أخيرًا للأمر الواقع المتمثل بدفع الأتاوة للحواجز. أريد شراء وقتي ووقت من أعمل لهم. كلّ شيء معنا من بضاعة يدخل بشكل نظامي تمامًا مع بيان جمركي وفاتورة، ولكن الحواجز لا يهمها سوى المبلغ الذي ستحصل عليه.
الجميع بدون استثناء ممن ألتقي بهم بحكم عملي وتجوالي غير راضين، ولكن تجد من يقول ليس هناك أفضل ممّا كان، ويحملّون ذلك إلى سبب مغاير، وعندما أتحدث معهم بعمق أكثر عن الأسباب، ينظر الجميع إلى بعضهم وقد يقول أحدهم: "من تجرّأ على أقل من ذلك اختفى". ما زال الرعب يتصاعد بين الناس، بسبب الثمن الذي يمكن أن يدفعوه مقابل كلمة يدافعون بها عن حقهم. هناك رغبة، ويأس من عودة سوريا كما كانت جغرافيًا، وهناك سؤال دائم: هل تعود؟
الناس ينتظرون شيئًا مجهولًا من السماء.
قضيت ردحًا طويلًا من عمرك في المعتقل، لن يكون سؤالي عن المعتقل بحدّ ذاته، بل عمّا تركه المعتقل فيك بعد كلّ هذه السنوات؟ هل ما زلت تشعر بوطأته وثقل زمنه عليك؟
دخلت المعتقل مرارًا وخرجت منه، لكنّه أبى أن يخرج مني، فهو يشبه الجرح العميق الذي يُبقي علامة على الجسد ويوّرثها أحيانًا. المعتقل يترك جرحًا على الروح أخاف أن يرثها الأولاد والأحفاد. ترك المعتقل الكثير من الأشياء، أهمها أنّني أستطيع العيش مع كلّ أصناف البشر حتى من أختلف معهم جوهريًا في النظرة إلى الحياة.
تعاطفنا كثيرًا مع المعتقلين منذ بدايات شبابنا ولكن تعاطفنا الآن مختلف كليًا معهم بعد معاناتنا. لا يمكن أن يقارن من خاض التجربة بمن بقي بعيدًا، لست أنا محمد قبل وبعد الاعتقال، لم أستطع أن أعود كما كنت، هناك أشياء تهزّ الضمير ويمكن أن تُحيي الضمير الذي مات.
تخرج معك من المعتقل آلاف الحكايات التي تخص من عشت معهم. حكايات تتشكّل معك لآلام البشر حولك، ليس التعذيب أشدّه بل حرمانك من حقك بهذه الحياة لأنّك مختلف مع منظومة الحكم. هكذا ببساطة يأتي من يأخذ حقك بالحريّة، وتجد فوق ذلك من يصفّق له.
في الوقت الطويل بالمعتقل، تفكّر مليًا بهذا المصفّق للقوي الذي يسطو على حقوق البشر، وتجد من يؤّيد بهذه الطريقة التي تجعله يشرعن هضم حقوقهم. بكيت بحرقة، وأنا أرى كيف يفقد المعتقل إنسانيته، وهو لا يرى سوى أنّه يهجم على الطعام ككلّ الكائنات الأخرى، وأستطيع أن أبكي الآن، وأنا أصيغ المشهد من جديد. كنت أتمنى دائمًا أن يكون لديّ الوقت الكافي لأدوّن الحكايات التي سمعتها أو شاهدتها، التفاصيل الصغيرة يجب رسمها بالكلمات بعناية لينتقل وقعها تمامًا للمتلقي. يحتاج الموضوع سردًا خاصًا.
يرى البعض أنّ سوريا قد غرقت في الطائفيّة والانقسام، وأنّ الفجوات أصبحت واسعة وكبيرة بين المكونات الاجتماعيّة. كونك عملت سابقًا، وعلى الأرض، على منع الصدام الطائفي في حمص، كيف تنظر إلى هذا الأمر؟
سوريا تسبح داخل بحر ساكن من الطائفيّة وهو بحر غير عميق. كانت تحاول السباحة والخروج، ولكن توجيه بعض الصرف الصحي لهذا البحر الساكن لإغراقها، هو الذي حدث. القراءات الطائفيّة للحدث هي جداول إضافيّة زادت من عمق الماء، والتجفيف أصبح صعبًا ويحتاج إلى تقنيين مهرة للتجفيف، أو يمكن القول أنّ تخفيف تلك المياه الآسنة وقطع الطريق يحتاج إلى قوانين ودولة لكلّ السوريين.
هذه المنطقة ورثت كلّ قوانين تكريس الظلم، وبكلّ حال عند وجود بعض العدل سيجف مستنقع الطائفيّة، وهناك أمثلة بسيطة جدًا من الحياة نراها كلّ يوم.
لن أنسى ما حصل معي يومًا في مديريّة زراعة حمص، ففي العام 2014 عندما تقدّم مني بضعة أشخاص ليصافحوني بحرارة وهم يقولون: أتينا لنشكرك على تربيتك، ابنتك كانت مديرتنا، لم يكن بينهم شخص من مذهبها ولم يعن لهم ذلك شيئًا، وابنتي ليست استثناء. في كلّ مناحي الحياة نحتاج إلى دولة وقوانين فوق الجميع، نحتاج إلى بعض العدل.
ليس سهلًا تجاوز ما أسمعه من كلام، تنفيذه خطير عندما يكون لقائله قوة. العبارة التي أسمعها تقول إنّنا لن نستطيع أن ننسى، والشتيمة التي تطال كلّ العلويين وتلك التي تطال كلّ السنة أسمعها كثيرًا وكثيرًا جدًا. لكن حتى هؤلاء وتوريثهم للشتيمة والكراهية سيتخلّى عنها الأبناء وهم يشربون من مناهلَ أكثر صفاء وغير ملوثة. لكن وجود التلوّث في كلّ مكان لن يغيره كأس واحد لماء نظيفة.
لماذا برأيك وصلت سوريا إلى هنا؟ لماذا فشلت المعارضة في أن تعبّد طريق السوريين نحو دولة القانون؟ وهل هو خطأ المعارضة فقط؟ أي بمعنى آخر: ما هي الأسباب التي أوصلتنا إلى عنق الزجاجة الذي نرقد فيه اليوم برأيك؟
الفشل الذي حصل للحراك الثوري في سوريا يتحمله اليسار السوري الذي حاول أن يكون في المقدمة. وكما أرى، إنّ التيار الديني أصبح من الماضي ولا يمكن أن أضع يدي في يد الماضي وأنظر إلى الخلف وأنا أنشد المستقبل. ثمّة فرق كبير وكبير جدًا، بين القول إنّ هناك تيار سياسي ديني ومعرفة كيفيّة التعامل معه، والقول بالتحالف معه.
لا أستطيع تحميل الإسلام السياسي الفشل لأنّه كان واضحًا منذ البداية، هو لم يعترض على الظلم وإنّما اعترض على الظالم، وهذا جوهر المشكلة بين فهمين، وتتبّع تلك الخطوات قادة الفكر في سوريا، ليتماهوا مع هذا الطرح بمقولات أشدّ فتكًا بالمجتمع السوري.
برهان غليون كان المثال الأبرز في مقابلته الأولى على قناة الجزيرة بعد تعيينه رئيسًا للمجلس الوطني، حيث دكّ مسامير الشقاق الطائفيّة، والمقابلة موجودة على موقع الجزيرة لمن يريد الاستماع. التصحّر السياسي الذي تكلّم عنه الكثير من المعارضين على إنّه من صنع النظام، وتلك حقيقة، ولكن الريّ لا يتم بالمياه المالحة.
دخلت المعتقل مرارًا وخرجت منه، لكنّه أبى أن يخرج مني، فهو يشبه الجرح العميق الذي يُبقي علامة على الجسد.
لا خير في قوة سياسيّة معارضة لا تعرف الظروف الموضوعيّة لكلّ عمل وتعرف عواقبه. السياسة هي أن تعرف قدرتك في سبيل الوصول إلى الهدف وليس التضحية بمؤمنين بالهدف، إن أصبنا أكلنا وإن خسرنا يكون هؤلاء الأنقياء المؤمنين بالهدف هم الضحية.
لم يتصدّر المشهد السياسي شخص قدّم خطابًا وطنيًا لكلّ السوريين، وبقي موجودًا، إمّا تم تغييبه أو اغتياله أو محاولة إزاحته إعلاميًا. الكثير من الأشخاص الطائفيين تصدّروا المشهد وأصبحوا رموزًا، وحتى بعض الأسماء المحسوبة على العلمانيّة قدّموا خطابًا طائفيًا سيئًا، تمّت ترجمته بالدم على الأرض. ببساطة شديدة عندما نعادي منظومة طائفيّة ولا نخلق بديلًا نقيضًا لن يقبلنا أحد.
لو طلبت منك الآن العودة إلى طفولتك: ما الذي تتذكره من ذاك الطفل الذي كنته؟ حدثنا عن هذا الطفل؟ كيف نشأ؟ من أثر به؟ أيّة تربة ركضت على ترابها؟ أيّة مؤثرات لعبت (ولا تزال ربّما) دورًا في أن تسلك الدرب الذي سارت عليه حياتك؟
أتذكر أنّني ابن رجل الدين الذي كان أوّل معلم في تلك القرية (المبعوجة\ ريف سلمية)، وتلامذته كانوا كلّ أبناء القرية بكلّ مذاهبها. تعلّمت القرآن مع تعلّمي الكلام، وقد طُلب مني إتمامه غيبًا حين أكون قد أكملتُ الرابعة عشر من عمري، لكنّني توقفت حين كنتُ في الثانية عشرة من العمر وتوجهت الى قراءة الأدب. وصل إلى يدي كتاب "المسألة اليهوديّة" لماركس وأعجبني رأيه باليهود جدًا. بحثتُ عن الكاتب وقرأتُ ما استطعت له، لأنّ هذا الكيان الموجود في فلسطين، والذي يمثل اليهوديّة في مخيلتي، أيّ الباطل والعدوان، لذلك سأكون سعيدًا بالعثور على توصيف له يناسب مفهومي.
المنعطف الحقيقي في التعامل مع المحيط حدث حين كنت في العاشرة من عمري، عندما عاد والدي من سفره وعلم أنّ عائلة من القرية ليس لديها ما تأكله حين قالت أمي إنّ بيت (....) قد ناموا بلا عشاء. غضب والدي كثيرًا وأنّبني بكلمات قاسية، ثمّ قال: كيف استطعت النوم ورفقاتك جوعانين؟ هذه العبارة جعلتني دائمًا لا أملك المال، لأنّني سأجد دائمًا مكان له غير جيوبي.
أحبُّ دائمًا التوجه الى تلك القرية، أحبّ كلّ منتجاتها، فحتى نسمتها مختلفة.
شهادات عن محمد الصالح
تعود علاقتي بأسرة أبي علي إلى نهاية الثمانينات، حيث كنت مع دلال زوجته (أو أم علي كما اعتدنا على تسميتها) في السجن, في فرع فلسطين. قضينا الفترة كلّها معًا حتى تاريخ خروجنا في أيلول 1990، واستمرت علاقتي بالأسرة في حمص. أطفالنا تربوا سوّية. تعرفت عليه حال خروجه من السجن، وبدأت علاقة أسريّة وطيدة، استمرت حتى الآن رغم البعد.
يتميز أبو علي بقدرته على العطاء، وذلك بغض النظر عن التقائه مع الآخرين فكريًا أو سياسيًا، فالذي يحدّد عطاءه أمران فقط، حاجة الآخرين، وإمكانياته التي يحاول تجاوزها دومًا. هذا ما جعل منه دومًا شخصيّة جامعة، يجتمع عندها الخصوم، فالكل يحبّه ويحترمه. لم تغيّر الحرب السوريّة في السنين الأخيرة شيئًا من هذا.
في عام 2013، وقبل مغادرتي سوريا كانت حمص مقسّمة بشكل واضح، وكانت الحركة بين الأحياء صعبة جدًا. حينها كنتُ أزور حمص دون سيارتي، فكنتُ أواجه مشكلة في الحركة، خصوصًا أنّني أنتمي لأسرة مركبة الانتماء. وفي ظلّ تصاعد تشنج طائفي لعب عليه النظام السوري، وزاده فيما بعد الخطاب المعارض تأجّجًا، كنتُ ألجأ لأبي علي، فهو كما قلت شخصيّة جامعة، وذلك يجعله في موقع الترحيب أينما ذهب، إذ طالما عمل على المصالحة الأهليّة عبر مجموعة أهليّة حاولت رأب الصدع.
تحتاج سوريا الآن ومستقبلًا شخصيّة كشخصيته، شخصيّة تتميز بانتمائها السوري العابر للخلافات وللطوائف، شخصيّة محبّة ومعطاءة، تدرك اختلافها مع الآخرين، ولكن لا تحوّله إلى خلاف. شخصيّة ديمقراطيّة تقبل الآخر المختلف، وتدرك حقه بالوجود طالما احترم حق الآخرين. لن نستطيع الخروج من هذا التشظّي المجتمعي الذي أوصلتنا إليه السنين الطويلة الماضية، إلّا بالتجمّع حول شخصيّات كهذه، وبمساعدتها على رأب الصدع.
سمعت عن العم أبو علي صالح لأوّل مرة من الراحلة فدوى سليمان ومن محمد ديبو، عندما كانت الأحلام ببناء سوريا حرّة وديمقراطيّة تبدو ممكنة التحقيق. بعدها توالت الحكايات من أصدقاء كانوا في حمص في أقسى أشهر حصارها عن "العم" الذي يعمل ليلًا نهارًا ليؤمن حياةً كريمة لعائلته التي شملت أيضًا عوائل الفقراء والأطفال المحاصرين في حمص.
تربّى في بيتٍ متمرَس بالعمل السياسي والقيم الاشتراكيّة التي دفعته للانضمام إلى حزب العمل الشيوعي ليُعتقل بعدها في العام 1988 إثر الحملة الشرسة من قبل النظام السوري ضدّ أعضاء الحزب وغيره من التيارات المعارضة، ليمضي نحو اثنتي عشر سنة في سجن صيدنايا حيث أمضى سنوات الاعتقال في عقد حلقات النقاش والقراءة. بعد خروجه من السجن في آذار من العام 2000 حاول تأسيس تجمع في حمص في العام 2006 لم يُكتب له الاستمرار. وبعد الانتفاضة السورية اعتُقل ثلاث مرات بذرائع مختلفة، كتمويل الإرهاب، الأمر الذي أدى إلى تضرّر عمله وتعرّضه للمضايقات المستمرة وتقييد حركته.
بدأ تواصلي مع "العم" أبو علي منذ العام 2013 ويكفي أن تتواصل معه لمرّة واحدة حتى تشعر أنّه عمك الكبير بكرمه وحكمته وغيرته، ولطالما أدهشني بهدوئه وذاكرته ودقة شهاداته في زمنٍ سيطرت فيه قوة السرديّة ورغبة جمهورها بتصديقها على حساب الحقيقة والرغبة بفهم وتحليل وضبط العنف الذي وصل إلى حدّ استهداف الجار لجاره.
خلال دراستي للماجستير وبعدها الدكتوراه في العلوم السياسيّة في الولايات المتحدة كنت أقرأ معظم ما كُتب حول تفاصيل أحداث العنف الطائفيّة المتبادلة بين أحياء حمص التي شملت الاختطاف والقتل والتهديد والاغتيالات والإشاعات، انتهاءًا بقيام النظام السوري بارتكاب مجزرة الساعة في 18 نيسان 2011 وقصف أحياء الخالدية وبابا عمرو في شباط العام 2012. كما أجريت العديد من اللقاءات مع سوريين شهدوا تلك المرحلة، لكن أدق الشهادات وأكثرها شموليّةً كانت عبر العم أبو علي الذي كان شاهدًا على مرحلة تاريخيّة دمويّة فقد خلالها أحبةً وأصدقاء وشهد دمار أجزاء كبيرة من مدينته. وعندما بدأ الاستهداف والخطف على الهويّة وجد نفسه بسبب علاقاته الاجتماعيّة والسياسيّة مع كافة الأطراف المتنازعة في حمص يقوم بدور الوسيط المحلي فأسهم بتحرير العديد من المدنيين معرّضًا حياته في أحيانٍ كثيرة للخطر. شهادات العم أبو علي توّفر سياقًا لا غنى عنه لفهم آليات العنف والعسكرة والتطييف المحلي وتُصحّح العديد من السرديّات المهيمنة والمؤدلجة، كما تتيح لنا توثيق الشروط التي تنتج العنف على أساس الخلفية الدينيّة أو الطائفيّة وظروف تسيس الهويّات المحليّة والدينيّة، فالتعدديّة الدينيّة أو الطائفيّة أو الإثنيّة ليست بحدّ ذاتها سببًا "طبيعيًا" لاندلاع العنف في مكان وزمان ما، وإنّما تمظهر العنف بهذا الشكل قد يرتبط بعوامل أخرى (طبقيّة، سياسات نيوليبراليّة تهميشيّة، انهيار الشبكات المحليّة، عنف الأجهزة الأمنيّة، تشابك وتناقض مصالح الفاعلين المحليين مع مستثمرين في الصراع، وغيرها). علمّني العم أبو علي أنّ الارتباط بين الفكر والممارسة لا يكون معزولًا عن الناس العاديين، وأنّ سرد الحكاية والشهادة مسؤوليّة أخلاقيّة وتاريخيّة وطمس ما لا يُناسب سرديات أحد الأطراف يجعل الشاهد أو الراوي مشاركًا في الجريمة ويعيق أيّ أمل في المستقبل بالعدالة والمساءلة وإعادة بناء مجتمعنا الدامي مهما طال الزمن. قاوم العم أبو علي كلّ إغراءات الهجرة ومنظمات المجتمع المدني ولم ينجر إلى التقسيمات الجديدة بين سوريي الداخل وسوريي الخارج، وآمل أن يذكر السوريون، وخاصة في حمص دور هذا الإنسان النبيل.
ورثَ أبو علي صالح الدين عن أبيه، كقيمٍ أخلاقيّة للطائفة العلويّة ولبقيّة الناس، ولكنه اتبع عقله ورأى الواقع جيدًا، وانتمى قبل عقودٍ إلى أخطر تنظيم يساري، حزب العمل الشيوعي، واعتقل وسجن لسنوات بسبب ذلك.
مع ذلك، وبعكس رفاق كثيرين، قرّروا الهجرة إلى الخارج في ظلّ المأساة المفتوحة في سوريا منذ 2011، قرّر هو البقاء، وأين؟ في مدينة حمص، تلك المدينة التي تأزمت أوضاعها بشكل حاد في عامي 2011، و2012، حيث شهدت أحداث قتل، واختطاف وقتل على الهويّة الدينيّة ومجازر وتدمير لبعض أحيائها وحصار لبعضها، وهناك التجييش الطائفي، ومع ذلك لم يغادر. بل وحاول جاهدًا، هو وآخرين أيضًا غادروا المنظور الديني منذ عقود، تجسير الهوة بين طوائف المدينة، ولجم الطائفيّة والتطييف، والمساهمة في إطلاق سراح المختطفين؛ آخرون كثر، اعتزلوا في بيوتهم خشية الاعتقال أو الخطف أو القتل، وهذا حقهم أيضًا.
هذا ليس أمرًا بسيطًا، حيث أنّ كلّ فئة تريدك ضمن جماعتها، وإلّا فأنت خائن لطائفتك. صمد الرجل، وعوقب بالاعتقال بعد العام 2011 أيضًا، ومع ذلك، ظلَّ يسعى لطيِّ الانقسامات الأهليّة في المدينة.
أستغرب بشدّة كيف لم يغادر حمص إلى دمشق مثلًا؛ ففي العاصمة يضيع المرء نسبيًا، ولا يُحاسب على طائفته، وكذلك هناك العلاقات المفتوحة. ظلَّ في حمص، وكلّ من بقي في تلك المدينة، وامتلك أفكارًا وطنيّة ويساريّة وحداثيّة بالعموم، عانى الأمرين. لم يركن، وأكرّر، كما آخرين، إلى الإحباط والعزلة، بل وأسّس مع أولاده، وأخرين مؤسسة تهتم بالطاقة الشمسيّة، ويعمل ويؤمن احتياجاته منها.
تجاوز الستين، ومع ذلك تجده يتنقل بين المدن والبلدات بحثًا عن رزقه، وبمثابرة مستمرة. ظلَّ، كما كان معارضًا للنظام. لم يتغيّر من أمره شيء، وقد جعلت المأساة السوريّة منه إحدى الشخصيات الأساسيّة في مدينته حالما تبدأ المرحلة الانتقاليّة، والبحث عن شخصيات وطنيّة تجاوزت الانقسامات الأهليّة، ولم تشارك بالشحن الطائفي، ومن أجل السلم الأهلي.
هذا ما أراه بهذا الرجل، الذي أصبح جدًّا منذ أعوام واقتربَ من الشيخوخة، فهل تتغيّر البلاد وتنتهي المأساة، ويصبح حرًّا؟ ربّما، وربّما يتأخر الأمر.
دائمًا ما تكون شهادة الابن بأبيه مجروحة، فهو يحلم دائمًا أن يكون مثل والده.
لا تختزن ذاكرتي صورًا له في طفولتي، فقد كنت صغيرًا عند تخفيه ثمّ اعتقاله، إذ تبدأ ذكرياتي معه على شبك سجن صيدنايا مع ابتسامته الدائمة وسؤاله باهتمام عن أمور لم أكن أدرك معناها تمامًا، مثل سؤاله لوالدتي في إحدى الزيارات: كيف يُحاكم عليٌّ الأمور؟
عندما خرج من السجن كنت شابًا، فأصبحنا صديقين نستطيع التحدث في كلّ شيء، كما أنّه دخل معترك الحياة والعمل بسرعة مذهلة، وفوجئت بكم العلاقات التي يمتلكها من قبل الاعتقال واستطاع إحيائها، كما فوجئت بكم الاحترام الكبير من جميع الناس، حتى من يختلفون معه بالرأي حدّ التناقض أحيانًا.
كان يحاول، ولا يزال، أن يعمل بشكل يومي ليؤمن لنا كلّ أسباب الراحة والأمان الممكنة، ونحن نشعر بذلك تمامًا اليوم، حتى بتنا نعتمد عليه في كلّ شيء وهذا حقيقة شيء سلبي، لأنّ ما حدث في العام 2015، عند اعتقاله للمرة الثانية واختفائه لمدة 60 يومًا، كان من أصعب ما مررت به في حياتي. لقد شلّت حياتنا تقريبًا، وأجمل ساعة كانت عند اتصاله في يوم رأس السنة من سجن عدرا ليخبرني أنّه خسر الكثير من الوزن، ولم يعد بحاجة لريجيم أم علي، فهو يمازحني ويطمئنني عليه وهو في السجن.
سأقول في النهاية، هو إنسان بالدرجة الأولى، بكلّ ما تحمل كلمة إنسانيّة من معنى، معطاء لا يعرف حدودًا للعطاء صاحب كلمة شجاعة جدًا، شجاعة حدّ التهور(طبعًا في رأينا، نحن عائلته، لأنّنا نخاف أن نفقده مجدّدًا).
أحاول أن أكون مثله في كثير من الأحيان، أو أن يقول لي البعض إنّني أشبهه في بعض التصرفات، هذا يسعدني لكنّني أعرف تمامًا أنّه يسبقني بأشواط كثيرة لا يمكنني اللحاق بها.
