نشر هذا النص للمرة الأولى باللغة الإنجليزيّة، وقد أجريت على نسخته العربية تعديلات كبيرة وأدخلت إضافات جديدة لدواعي تحريريّة.
توفي والدي أحمد أديب شعار فجأة في كاليفورنيا عام 2018. كان قد غادر سوريا للمرة الأخيرة قبل أربع سنوات، عبر تركيا. لم أره منذ عام 2014، لكنه ترك وراءه مخطوط كتاب اللغة العربيّة عن التراث الاجتماعي والاقتصادي في حلب أسماه "ملامح وصور من حلب التراث"، وهو مجموعة من العادات والصفات الحلبيّة التي جمعها من معايشاته ومما وُصف له.
في كتابه، قام والدي بفهرسة الملاحظات التي قام بها خلال حياته في المدينة القديمة في حلب، والروايات التي جمعها على مدار 25 عامًا قبل وفاته. تعكس التقاليد التي وثّقها في المقام الأول، الحياة في حلب طوال القرن العشرين، لا سيما منذ سنة ميلاده، 1950. كان والدي عضوًا في مجلس إدارة أقدم جمعية تعنى بالتراث في حلب، جمعية العاديات (تأسست عام 1924). في العقدين الأخيرين، قدّم والدي مقتطفات من مشروع كتابه كمحاضرات في الجمعيّة وأماكن أخرى. مع انتشار موقع فيسبوك في سوريا منذ عام 2009، نشر مقاطع من الكتاب كمنشورات جذبت انتباه وتفاعل الناس في حلب.
أنا واحد من عدد قليل من أفراد عائلة وأصدقاء والدي الذين يقومون الآن بتحرير كتابه لإعداده للنشر. بينما أشق طريقي من خلال كتاباته، أوقفني أحد التقاليد التي وصفها.
كان لدى الأمهات في حلب تعويذة لإطلاق العنان لأصوات الأطفال الذين يعانون من تأخر في النطق. كتب والدي في "ملامح وصور من حلب التراث": "إذا تأخر طفل في النطق تأخذه أمه إلى أحد العاملين في الجامع الأموي الذي يحتفظ بمفتاح باب حجرة ضريح سيدنا زكريا، حيث يدخل المفتاح في فم الطفل ويدوّره كأنه يفتح الباب، مقابل مبلغ زهيد، زاعمًا أنّه يُطلق لسان الطفل. ومن الممكن أن تُحل المشكلة بطريقة ثانية: يوضع في ذيل گلابيّة أحد المراهقين (من المقربين العائلة) شويّة أكلات وحلويات ويجلس على باب جامع الحارة، رابطًا إصبعًا من القدم الأول بخيط مع إصبع من القدم الثانية. وعند خروج المصلين من الجامع يكرّر الصياح: فك شكيلو (شكالو) وخود اللي بديلو. وأول من يفك الخيط بين الإصبعين يأخذ الأكلات بأمل أن يبدأ الطفل قريبًا بالنطق".
الشكال ("شْكيل" باللفظ الحلبي) هو العقدة، و"اللي بديلو" هو ما في ذيل الگلّابيّة. بذا تعني العبارة: فُكّ رباطه أو عقدته وخذ ما بذيله. ترد في موسوعة حلب المقارِنة لمحمد خيرالدين الأسدي (ج1، ص65) نسخة مشابهة من هذا التقليد، يُقام لمساعدة الطفل المتأخر بالمشي حيث تُوضع الأكلات والحلويات في ذيل گلابيّة الطفل نفسه، وليس قريبه الشاب.
اليوم هناك حوالي مئة ألف سوريّ مغيّبين في أقبية النظام ولم تُسمَع أصواتهم منذ ما يقارب العقد. قامت منظمات حقوقية سورية ودولية بعمل جبّار في عدّ وتوثيق أسماء المعتقلين. تمّت محاكمة العديد من كبار المسؤولين الحكوميين في الخارج حضورًا أو غيابيًا. لكن يبدو أنّ لا شيء يضع ما يكفي من الضغط أو الحافز على الحكومة لتأمين الحريّة المفقودة للمعتقلين السوريين. ربما يمكننا تكييف إحدى الطقوس المذكورة في كتاب والدي لتحريرهم. ولكنه من الصعب جدًا استعادة من هم قابعين في شبكة سجون الحكومة السوريّة الواسعة. في معظم الأحيان تبقى أيّ معلومة عن أماكن تواجدهم، أو إذا كانوا أحياء أم أموات، سرًّا.
فقط منذ 2011، تمّ اعتقال وتغييب أكثر من 100 ألف سوري، غالبيتهم العظمى من قبل نظام الأسد. عشرات الآلاف ممن نجوا من التعذيب حتى الموت في أقبية المخابرات، تم إعدامهم سرًّا في السجون سيئة السمعة، كسجن صيدنايا.
خارج السجون، السوريون ليسوا أحرارًا أيضًا. لبُرهة، أنهت انتفاضة 2011 عقودًا من قمع الخطاب. لكن السوريين دفعوا ثمنًا باهظًا لانتفاضتهم وظلّوا حبيسي الخوف على أحبائهم وعدم اليقين بشأن مصيرهم ومصير البلاد. نحن مكمّمون من قبل مافيا تعرف أنّ الاحتكار للمجال السياسي في سوريا وحده هو الذي يضمن لهذه المافيا استمراريتها.
في عام 2011، كان لدى السوريين أمل (على الأقل لبضعة أشهر) في أن يصبحوا أحرارًا، إن لم يكن بمفردهم، فعبر تبني العالم لنضالهم. بدلًا من ذلك، انقسم ردّ فعل العالم بين الاستمرار في دعم النظام والانتهازية واللامبالاة، وفي أحسن الأحوال، التظاهر بعدم الفهم. أو لعله كان مجرد عدم انتباه؟
الكتابة وحدها لا تكفي
الكتابة والحديث عن المحنة السوريّة لا يكفي. نحن بحاجة إلى مزيد من التفاعل الشخصي المباشر. لا أعرف مدى فاعليّة طريقة الأمهات الحلبيات قديمًا في إنطاق أطفالهن "مشكولي اللسان" عن طريق فتح أفواههم بالمفاتيح أو فكّ أصابع أقدامهم المعقودة مقابل الحلويات، لكن بالنظر إلى أنّ كلّ شيء آخر قد فشل، ماذا علينا أن نخسر في تجربة الشيء نفسه للمغيّبين السوريين؟
يمكن للسوريين الذين لا يعيشون تحت حبل مشنقة الحكومة السوريّة أو الذين لم يخشوا التحدّث من الخارج، أن يتبنوا صِيَغ مختلفة مما يلي: تنظيم اعتصامات أو مظاهرات عامة كأفراد أو مجموعات من اثنين أو أكثر. يمكن لكلّ مشارك أن يمثل معتقلًا محدّدًا أو جميع المعتقلين في سوريا. أين يجب أن يتم ذلك؟ لا يهم البلد أو المكان، لكن إذا أردنا أن نتعلم من أسلافنا، فعلينا أن نفعل ذلك في أماكن ذات تجمّعات كبيرة أو أهميّة ثقافيّة، من أماكن العبادة إلى الجامعات ودور الأوبرا وقاعات الحفلات الموسيقيّة.
للبقاء مخلصًا للطقوس الأصلية، اتبع الوصفة المذكورة في موسوعة حلب المقارِنة واملأ سلة بـ"شوية زبيبات أو زعرورات". إذا تعذّر عليك إيجاد الزعرور في مكان سكنك، املأها بما يأكله الأطفال حولك: في ألمانيا املأ السلة بحلوى Pick Up! أو شوكولاتة ميلكا، أو احصل على بعض بطاطا ديربي السوريّة أو معمول بالتمر من محلات السوبر ماركت العربيّة على طول شارع زونينآليه Sonnenallee في برلين. في المجر، حيث عشت لعدّة سنوات، هناك بسكويت Balaton أو Túró Rudi، أو ربّما يكفي البعض من أوريوس، مارس، تويكس، أو سنكرز.
إحمل لافتة تذكُر فيها وضع المغيبين في السجون السوريّة وأعدادهم وأسماء بعضهم. اربط إبهامَي قدميك مع بعضهما برباط الحذاء. وتماشيًا مع صيحات أخ أو قريب مشكول اللسان في طقوس حلب القديمة، نادي بإحدى العبارات التي تعبر بأفضل شكل عن سبب إعطائك الحلوى للغرباء في المقام الأول. أقترح العبارات التالية وكتبت ترجمة بالإنكليزية للعبارات الفصحى، سعيت فيها بقدر الإمكان للمحافظة على السجع الموجود في العبارة الحلبيّة:
فكّ اشكيلو وخود اللي بديلو
فُكّوا عقدتهم وخذوا بنصيبكم
Untie their knot and take your lot
حرّروهم وخذوا أُجرتكم
Set them free and take your fee
حرّروهم وخذوا تحلايتكم
Set them free and take this treat
ثم انخرط في محادثة حول المعتقلين السوريين مع المارة الفضوليين. اجعل أحدهم يلتقط الصور وشاركها عبر منصات مختلفة مع شرح دافعك.
بدأت كتابة هذا المقال باللغة الإنجليزيّة في عام 2019، قبل اندلاع وباء كورونا، ولكني أكملتها وأرسلتها للنشر في العام 2021. مع هذا الوباء، يجد المحتجزون في جميع أنحاء العالم أنفسهم الآن في وضع أكثر ضعفًا. يعاني المعتقلون في سوريا من ظروف أصعب بشكل خاص بسبب التعذيب والحرمان المتعمّد من الرعاية الطبيّة والاكتظاظ.
خارج السجون، قد يكون علينا الآن مراعاة قواعد التباعد الجسدي. ومع ذلك، لا يمكننا البقاء مكتوفي الأيدي حتى ينتهي الوباء. إنّ الظروف الظالمة والهمجية التي يُخضع لها المعتقلون السوريون تعرّضهم لخطر المرض بشكل متزايد وتزيد من الحاجة إلى تدخلنا.
منذ اندلاع الوباء، بدأت في كوبلنتس بألمانيا محاكمات ضابطين متهمين بتعذيب معتقلين وارتكاب جرائم حرب في سوريا. حُكم على أحدهم بالسجن أربع سنوات ونصف لدوره في جرائم ضد الإنسانيّة. تمّ إطلاق العديد من الحملات عبر الإنترنت للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين. في حال تواجد الوباء وقيود التباعد الاجتماعي، يمكن تعديل عرض (flash mob) من الأسلوب الذي أقترحه إلى عمل عبر الإنترنت يحافظ، كما العمل الجسدي، على عنصر المفاجأة ويفعّل التضامن الاجتماعي. يمكن أن يأخذ التدخل الصغير عبر الإنترنت شكل تقديم مذكرة مدتها دقيقة واحدة عن المعتقلين السوريين إلى المنظمات الأكاديميّة ومنظمات حقوق الإنسان، ربّما ليتم قراءتها بصوت عالٍ في بداية مؤتمراتهم واجتماعاتهم.
كان عمري 10 سنوات في عام 1996 عندما انتقلت مع عائلتي من منطقة الحمدانيّة في غرب حلب إلى حيّ قاضي عسكر في حلب القديمة، حيث عشت إلى أن غادرتُ سوريا في عام 2012. لم أرَ تقليد "فك شكيلو" يمارس في أيّ من جزء المدينة، لكن ذات مرّة استوقفت جارتنا في قاضي عسكر، أخي الأصغر، كرم، في الحارة وطلبت منه فك ربطة على إبهامَي قدم طفلها الذي تأخر نطقه.
عاد أخي إلى المنزل مذهولًا من الطلب متعجبًا كيف انتهى به الأمر بكنز من الحلوى. ربّما كان التقليد وقتها على وشك الاندثار، ولكن بعد أكثر من عقدين من الزمن أشعُر أن حاجتنا له لم تندثر بعد.
إهداء إلى وفا مصطفى وعائلتها، لنضالهم من أجل إطلاق سراح والدها علي مصطفى المُغيّب قسرًا من قبل النظام السوري منذ عام 2013؛ وإلى والدي الراحل. وأنا ممتن لكرم وأولغا وبين ومحرّري حكاية ما انحكت على تعليقاتهم التي أغنت النسختين الإنجليزية والعربية.
تأمل عائلتي في نشر كتاب والدي "ملامح وصور من حلب التراث" قريبًا.