سيرة ذاتيّة للناجين

عن محو الوجود السابق بعد عبور الحدود


كيف يعيش اللاجئون السوريون كبار السن في برلين؟ أولئك الذين قطعوا سنوات عمرهم الستين وأصبحوا فجأة لاجئين في بلاد غريبة لا يعرفون عاداتها ولا يعرفون لغتها ولا يعرفون كيف يتفاعلون مع محيطهم بعد أن أُبعدوا قسرًا عن مسقط رأسهم. تبحث هذه المادة في حكاياتهم وتحكي بأصواتهم، لأنّه "عندما يغادر المرء بلده ليس فقط الدمع ما ينزل من عيونه" مثلما تقول خميسة في هذه الحكاية.

15 نيسان 2022

وداد نبي

وداد نبي شاعرة وكاتبة كردية سورية، مقيمة في برلين. صدر لها كتابين، "الموت كما لوكان خردة" عن دار بيت المواطن بيروت، و"ظهيرة حب ظهيرة حرب" عن دار كوبيا في حلب. تكتب في الصحافة العربية.

نشر هذا النص للمرة الأولى باللغة الألمانيّة ضمن  أنطولوجيا أصدرها مهرجان برلين الدولي للأدب

 

في العام 2016، وبخطىً ثقيلة ومتردّدة خطت أمي الستينيّة أولى خطواتها على درج كهربائي في منفاها البرليني، كادت تفقد توازنها، نظرت إليها سيّدة ألمانيّة بشفقة، كانت أمي كنبتةٍ غريبة رمتها الريح في هذه البلاد. ذلك الدرج الكهربائي كان أوّل اختبارات المنفى واللجوء لأمّي ولمن من هم في مثل عمرها وحالتها. أمسكتُ ذراعها كما لو كانت طفلًا يتعلّم المشي، ربّما هذا تمامًا ما فعلته هي قبل ثلاثة وثلاثين عامًا حين علّمتني المشي في مسقط رأسي، كوباني، إلّا أنّنا الآن نتبادل الأدوار في المنفى، وكلتانا تؤديان دورًا جديداً كلّيًا علينا، دورًا صعبًا للغاية في سيرتنا الذاتيّة الجديدة: دور اللاجئة.

تجارب مختلفة

"عندما يكون ما بقي للوصول إلى سن تقاعد الإنسان أقل من عقد ستكون أيّ بداية صفريّة عبئًا، يُضاف إلى روحه المثقلة أصلًا". تكتب لي أمل سراج (63 عامًا) عبر تطبيق الواتسآب وهي ممرضة وصلت إلى ألمانيا في العام 2015 مع ابنتها عن طريق البحر، وتقيم في برلين. تضيف: "عندما أتواجد في الفصل لتعلّم اللغة، وأجد نفسي مع فئة عمريّة شابّة وأكثر قدرة على التعلم والتفاعل، أصاب بالإحباط والتراجع وانعدام الثقة والكفاءة".

لطالما ركّزت وسائل الإعلام على اللاجئين الشباب أو الأطفال، وعلى طرق إدماجهم في المجتمعات الجديدة، لكن نادرًا ما كنتُ أقرأ أو أشاهد تقارير عن هذه الفئة العمريّة، أي من تتراوح أعمارهم ما بين الخمسين والسبعين، هذه الفئة التي تبدو بداياتها الجديدة مثل تعلّم المشي من جديد على أرضٍ صخريّة وعرة. لكنّهم رغم وعورة الحياة الجديدة يحاولون وسط كلّ هذه الفوضى، إعادة ترتيب حياتهم، وإجادة طريقة تأقلم مع الولادة الجديدة الصعبة. لكن ليست كلّ البدايات الجديدة هي عبءٌ إضافي، مثلما تؤكد فدوى (60 عامًا) وهي موظفة لجأت إلى برلين منذ سنوات: "خسرتُ بيتي الذي اشتريته مع زوجي بعد سنوات طويلة من التعب والشقاء والحلم، وحين تمكّنت من الحلم في بيتي، هربنا منه، ووجدت نفسي في هذا البلد. البداية كانت صعبة للغاية، لكن فرص العمل التطوعي كانت متاحة، لذا أعمل الآن في مركز للعمل التطوعي وروضة للأطفال، أشعر أنّني كلّما قدّمت شيئًا في هذا البلد حصلت على المقابل… حين أمشي في الشارع اليوم أشعر أنّ الأصوات ليست غريبة وكذلك الوجوه ليست غريبة، لكنّني بذلت الكثير من الجهد وحاولت بكلّ الوسائل لأعوّد نفسي على الحياة الجديدة".

جمعة عبد القادر (74 عامًا)، هو مدرس متقاعد للّغة العربية، يقيم أيضًا في برلين منذ العام 2015 بعد رحلة هروب ولجوء طويلة. يقول لي إنه لديه رغبة ملحّة بالعودة إلى وطنه "لكن حين يصبح بلدًا حرًّا ويتغير النظام إلى نظام ديمقراطي حرّ ويرحل النظام الديكتاتوري".

أُمّي الحلبيّة

كانت أمّي في مدينة كبيرة كحلب ورغم أمّيتها وعدم قدرتها على الكتابة والقراءة بالعربيّة، قادرة على أن تتجوّل في كلّ شارع وزاوية، في كلّ حيّ ومتجر في المدينة دون أن تضيع، دون أن تتّصل بنا لتسألنا كيف تعود، كما باتت تفعل بعد أن وصلت برلين.

كانت العرائس الصغيرات يأتين من القرية لتصحبهن أمي إلى سوق المدينة القديم، السوق الذي سيضعن فيه بسهولة بسبب تداخله وترابطه بشبكة معقدة من المداخل والأزقة لولا أمي التي كانت تقودهن إلى قلب المدينة، عبر أزقتها ودروبها المتداخلة كانت المدينة واضحةً لها مثل كفّ يدها.

حين يصير الواتسآب بيتًا

28 كانون الثاني 2022
كما تركت الحرب السوريّة أثرها على كل شيء، فعلت كذلك مع عائلة الدندشي التي اضطر قسم كبير من أفرادها لترك البلاد، بعضهم هاجر بعد العام 2011، والبعض الأخر وجد طريقه...

كانت تجيد قراءة مدينة حلب دون حاجة إلى أبجديّة، كانت أقدامها وذاكرتها وذكرياتها من يقودها إلى كلّ متاجر الذهب والقماش، حيث تساوم في السعر حتّى النفس الأخير، لم تكن اللغة في ذلك الوقت حاجزًا إسمنتيًا يقف بينها وبين الباعة، لم تكن اللغة غولًا يكاد يبتلعها كما يحدث مع اللغة الألمانيّة. كانت تعرف كلّ أنواع الأقمشة وأسعارها من ساتان ومخمل وجورجيت وأطلس ودامسكو وبروكار مُقصّب، ذاك الذي يحيكونه لخياطة القفطان الكرديّ وثوبه بأرخص الأسعار. كانت تتبضع حاجيات البيت  وتعود رفقة النساء وهن شديدات الإعجاب بقريبتهن التي تحفظ شوارع وأزقّة مدينة حلب الكبيرة عن ظهر غيب. إعجاب يسوده حسدٌ مبطّن على ذهنٍ صافٍ متماهٍ مع حلب، المدينة الكبيرة التي تحلم كلّ نساء القرية بالقدوم إليها وشراء حاجياتهن من أسواقها القديمة.

تحوّلت أُمّي الحلبيّة إلى لاجئة في برلين، كيانٍ عديم الأهمية وغريب عن كلّ المشهد الذي يحيط بها حين بلغت الستين. عندما وصلت إلى برلين كانت مثل طفل ضائع. صارت تحتاج إلينا إذا ما أرادت شراء حاجيات البيت، لا تستطيع زيارة طبيب دون أن يرافقها أحدٌ منّا، لا تجيد لغة الجيران والمتاجر والحافلات، فقدت فجأة في البلد الجديد كلّ قوّتها واستقلاليتها وخبراتها ومعرفتها وأصبحت مجرّد عالة على أولادها. لقد اقتُلعت من جذورها بسبب حرب لم تخترها، وهجرة فُرضت عليها. 

لكن أُمّي، في الحقيقة، لم تصل أبدًا إلى برلين، فذاكرتها وعقلها ليسا هنا. هي بكلّ عوالمها وذكرياتها في حلب ومسقط رأسها. بقيت أمي تسحب معها جذورها بطرق اللجوء، حتى وصلت بها إلى بيتها الجديد في برلين، خائفة دائمًا من أن تقطعها، لذا لا تزال ترويها بأحلامها. كلّ أحلامها متمحورة حول قريتها وحلب أثناء الحرب. ليس هناك أحلام عن بيتها وعن حياتها الجديدة في برلين، وكأنّها بذلك تقاوم الواقع والحرب والنسيان.

السيرة الذاتيّة للاجئين

تحكي لي المُمرّضة أمل (63 عامًا) عن أحلامها: "ما من نمط ثابت لأحلامي، كثيرًا ما أستيقظ في غرفتي هنا ببرلين، في حين يكون دماغي متأهّبًا للذهاب إلى عملي في حلب. يبدو لي أنّ ذكرياتي قد أُنجزت في بلدي، وما بقي هو محاولةٌ للتكيّف مع المكان الجديد".

كلّ من سمعتهم وتحدثت معهم من أجل كتابة هذه الحكاية، وبشكلٍ عام خلال سنوات عملي في الكتابة، كانت طرق تعبيرهم عن مشاعرهم لما عاشوه ويعيشونه تختلف من شخص إلى آخر، كلّ منهم يتعامل مع مأساة حياته/ا بأسلوبٍ مغاير، وأصبح جليًّا لي أنّ إطلاق مصطلح لاجئين على كلّ هؤلاء البشر المختلفين برؤاهم وأحلامهم وقصصهم الشخصيّة نوعٌ من الاختزال، اختزال لهوياتهم ووجودهم.

ربّما كان ينبغي أن يكون عنوان هذه الحكاية "السيرة الذاتيّة للاجئين"، فهكذا اسم يناسب وسائل الإعلام والسياسة العالميّة التي تتحدّث عن هؤلاء الناس ككتلةٍ بشريّة واحدة متجانسة تحت مسمّى واحد: "لاجئون".

ما إن تنتهي رحلة الهروب، ويصل هؤلاء الناجون إلى أوروبا أو إلى أيّ بلد آمن، حتّى تبدأ رحلة هروبٍ أخرى أطول من الأولى، وهي رحلة الهروب من التصنيف والتنميط الجاهز في هويّة اللاجئ. أنت تبقى/ين لاجئاً/ة، سواء أكنت تتحدّث/ين لغة البلد الجديد أم لا، سواء كتبت الشعر وفزت بجوائز، أو كنت طبّاخًا/ةً أو حدّادًا/ةً أ، طبيبًا/ة، سواء عملت في السياسة أو بعت الأثاث المستعمل على عربة في أحد أسواق برلين، أو كنت متسولًا/ةً تحت إحدى جسورها، تحيط بك روائح البول والبيرة والكحول، نعت اللاجئ/ة لطخةٌ على جبينك ستكافح/ين طوال سنواتك الباقية للهروب من قفص الاتهام باللجوء.

لا أعرف حقًا لماذا ينبغي أن نستمرّ بإطلاق تسميةٍ على ملايين البشر الذين يرفضونها، ويشعرون أنّها إهانة، إهانة يوميّة تسجّل في تقاريرهم وسجلاتهم وحياتهم وهويتهم وعملهم ومستقبلهم وسيرتهم الذاتيّة. تقول فدوى: "كلمة اللجوء مزعجة جدًا، لكنّها مع الأسف واقعنا الذي لا مفرّ منه".

بعد أن تقطع/ين الحدود، عليك أن تعوّد/ي نفسك على وضعك الجديد، لم تعد/تعودي الشخص الذي كنته قبل دقائق من قطعك للحدود، الحدود نقطة مفصليّة للغاية في حياة اللاجئ/ة، ليس لأنّها تعني في لحظة من اللحظات النجاة من الموت، بل لأنّها بطريقة ما تغيّر هويته ورؤية الآخرين له/ا طوال سنوات عمره/ا الباقية. الجميع سوف يرونك فقط بهيئة اللاجئ/ة، سوف يتمّ نسف حياتك القديمة ما إن تخطو/ي هذه الخطوات القليلة، لا يهم ماذا ترتدي، لا يهم اسمك، أحلامك، خساراتك، هويتك وسيرتك الذاتيّة، فلكلّ اللاجئين/ات سيرة ذاتيّة واحدة، يحتفظ بها العالم في سجلاته وفي قنواته التلفزيونيّة وفي صحافته وفي كتبه وفي مخيّلة الشعراء والمؤلفين.

فرط نشاط في الذاكرة

"ليس النسيان ما سنعانيه نحن الذين نجونا، بل فرط الذاكرة؛ مشاهد الدمار الواسعة، والخاليّة من الأهل والأحبّة والأصدقاء، لست أدري إن كانت صورة مثل هذه مشجعة للعودة . عملتُ طوال حياتي كممرضة، فهل أستطيع تعلم مهنة جديدة الآن وأكمل بها مسيرتي هنا، لا أعتقد ذلك، ولا أريد". تردّ أمل على سؤالي بخصوص إمكانيّة البدء من جديد في ألمانيا.

تؤكّد خميسة (47 عامًا)، التي تقيم في برلين مع أولادها الثلاثة، كلام أمل: "في بلدي لم أذهب يومًا إلى المدرسة، كنتُ أعمل في الأرض، لا أعرف كيف اكتب اسمي، كيف أمسك القلم، كيف أبدأ في هذا البلد. حاولت لمدة عام ونصف تعلّم اللغة الألمانية، لكنني لم أنجح، فشلت".

رغم اختلاف المستوى التعليمي والثقافي بين أمل وخميسة، إلا أنّهما وجدتا صعوبة في خلق بدايات جديدة، لم يعد عندهما الرغبة الكافية بالعمل عليها بعد كلّ ما حدث لهما.

تقول جليلة أم وجدة (65 عامًا) حين وصلنا برلين شعرتُ، كما لو أنّنا ابتلعنا الرمل شهورًا طويلة، بين طرقات التهريب ومخيم إيدوميني المذل.

أعادني كلام جليلة إلى تجربتي الشخصيّة، فلا يمكن للهاربة قسرًا من بلادها أن تنسى الإهانات التي تعرضت لها خلال رحلة لجوئها. أذكر كيف تمّ حشري مع عشرات الهاربين في شاحنة تصلح لركوب البهائم، وتمّ إغلاقها كليًا، وسارت بنا في منتصف الليل، كنّا محشورين ومتلاصقين مثل الأشياء القديمة المتهالكة التي كانت عائلتي تخزنها في عليّة بيتنا في حلب. حين بكى طفل صغير، صرخ بنا المهرب بقسوة أن يتم إخراسه والأفضل أن نخرس جميعًا، وإلّا رمى بنا هنا على قارعة الطريق، ليقبض علينا البوليس التركي. حاولت المرأة التي كانت قريبة مني إخراس طفلها بوضع يدها على فمه، حين لم ينجح ذلك همست له عن الحلوى والشوكولا التي ستمنحه إياها حين نصل، في تلك اللحظة بكيت لأنّني ظننتُ أنّني هربت من بلدي لأنّ كرامتي لم تكن مصانه فيه، لأنّني كنت أشعر بعدم الأمان. كيف أوصلت نفسي لمكان آخر، أعاني فيه من ذات الإهانة بحجة النجاة بنفسي؟

حين يصل الهارب-الناجي إلى برّ الأمان، لا يتوقف المجتمع الجديد والإعلام الرسمي عن تحديد معالم هويته الجديدة باللجوء. تتعمق وتتجذر الإهانة في هويته الجديدة، يصبح شخصًا "غير منتمي". والمشكلة أنّ أولاد الهاربين أو اللاجئين أيضًا يكتسبون هذه الصفة بالولادة بسبب لون بشرتهم ولكناتهم وأسمائهم.

عرفتُ شابة في مكان عملي، ألمانيّة وولدت في برلين، أخبرتني أنّها أثناء دراستها خلال مدرستين، كان يتم تصنيفها تلقائيًا في مجموعة الطلاب المهاجرين، وذلك بسبب لون شعرها وملامحها، لأنّها من أم إيطاليّة وأب إيراني.

"يعني إذا قعدت أحكي معك بتنحل مشكلتي؟"

30 حزيران 2020
كيف يتعامل السوريون مع أمراضهم النفسية؟ هل يعترفون بها؟ هل يذهبون إلى الطبيب؟ هل يعرفون أسبابها؟ هل كلها ناجمة عن "صدمة ما بعد الحرب" أم هناك أسباب أخرى؟ هل تصل...

إنّ ما تعاني أمل، ومثلها جليلة وخميسة وجمعة عبد القادر وفدوى وسليمان، ومعظم الذين تحدّثت إليهم، يعانيه قسمٌ كبير من اللاجئين السوريين وغيرهم من الذي هُجّروا من بلادهم بسبب الحرب والديكتاتوريّة. هم تجاوزوا بالفعل تلك المرحلة التي يمكن فيها البدء من جديد، لكن لم يبق من سيرتهم الذاتيّة القديمة شيءٌ يُذكر سوى سيرتهم الجديدة الموصومة بلطخة اللجوء.

حين أتخيّل شكلًا يمكن لكلمة المنفى أو الهجرة القسريّة أن تمثلهما، أفكر على الفور بدموع كلّ الأشخاص اللاجئين الذين قابلتهم في حياتي، أثناء هروبي، في الطرق البريّة وفي الشاحنات والغابات والبحر والمخيمات، وفي برلين وغيرها من المدن الألمانيّة اثناء قراءات لي، الدموع الحارة التي تطفح من عيونهم حين تذكر لهم أو تحكي عن مكانهم القديم، عن سيرتهم الأولى التي تعبوا لعقود وهم يكتبونها بالتعب والحلم والصعوبات والدموع. قد يكون لمتحف المنفى شكلًا سائلًا وليس صلبًا كما يريدون بناءه في برلين، من الدموع المضاءة بالذكريات، دموعي ودموع أمي وعائلتي وأصدقائي والأشخاص الذين قابلتهم خلال هذه المقابلات، والتي لم تذرف بسبب رغبتهم بالتماهي بالقوة، أو لأنّ ما تمّ فقدانه لم يعد من الممكن استعادته ولو بدموع العالم أجمعها.

هنا… هناك

تقول أمل: "أحيانًا أشعر بالاختناق من المواقف الإيجابيّة التي أكون فيها، إحساسي أنّني نجوت، إحساسي بالأمان، الشعور بالرضا. الخ. كلّ هذا يشعرني أحيانًا بالأسى وكأنّ لي توأمًا لصيقًا تركته في بلدي يعاني الخوف والرعب والجوع والضياع".

حين أسمع التسجيلات الصوتيّة أو أقرأ رسائلهم أو أتذكر المحادثات المباشرة التي أجريتها مع هؤلاء الناس لأجل كتابة هذه الحكاية، أشعر بالاختناق مثل أمل، ويغدو الأمر غريبًا ومتداخلًا، فحين تكونين أنت الكاتبة واللاجئة، يتداخل الخاص بالعام، تشعرين في لحظة ما أنّ المشاركين يتحدثون باسمك أيضًا، فأحيانا تختلط دموعي بدموعهم، ذكرياتهم مع ذكرياتي آمالهم مع آمالي.

"عندما يغادر المرء بلده ليس فقط الدمع ما ينزل من عيونه، حتى الآن، ورغم أنّني غادرت سورية منذ تسع سنوات، فإنّني أشاهد في أحلامي دومًا صراخ أمي وبكاءها حين غادرت مع أولادي" تحكي لي خميسة.

جمعة عبد القادر (79 عامًا) وهو مدرس متقاعد للغة العربية يقول لي: "كنت في الرابعة والسبعين حين وصلت لألمانيا، البدايات كانت صعبة جدًا، شعرت أنّني اقتُلعت من جذوري، من أرضي، وقرّرت عدّة مرات العودة، لكن الحرب والأوضاع منعتني من ذلك. لكن الآن تعودت تمامًا على العيش والانسجام هنا".

فيما يعاني سليمان (62 عامًا) من عدم يقين مسار رحلته، إلى أين ستنتهي؟ هل سيموت هنا أم في وطنه؟ هل سيتم طرده وعائلته مرة أخرى بسبب مخاوفه من تصاعد اليمين في ألمانيا؟ لا يكفّ كلّ يوم من التفكير باحتماليّة أن تقرر ألمانيا إعادة اللاجئين السوريين كما فعلت سابقًا مع البوسنيين في التسعينيات، هذا الرعب يعيشه يوميًا ولا يستطيع التخلص منه رغم أنّ كلّ أفراد عائلته يدرسون ويعملون.

الألم هو في حالة المؤقت، المواطن المستقر بشكل مؤقت، سرعان ما سيقلب المراكب مرة أخرى. هذا الألم هو ما يجعل فكرة الاندماج أحيانًا وهمًا. لا أعرف إن كان يُمكن أن نسمي أولئك الأشخاص "لاجئين"، فهم لم يصلوا بعد، ما زالوا هاربين في دواخلهم، خائفين وغير مستقرين. لا يتوقفون عن متابعة نشرات الأخبار القادمة من بلدانهم، لا يتوقفون عن تتبع سير الحياة هناك، عن السؤال عن سعر الدولار والمنتجات الغذائيّة التي ترتفع باستمرار، يعرفون كلّ شيء عن أزمة الكهرباء والبنزين والغاز، ويشعرون بالأمان في دواخلهم لأنّهم اليوم في ألمانيا بأمان، لكن ما الذي يدفعهم لكلّ هذه المتابعة، هل هو الشعور بالذنب لأنّهم نجوا؟ يبدو أنّ غياب الوطن يخلق فراغًا في الهويّة، ويتحوّل لمشكلة وجوديّة.

تكتب لي أمل: "ليتني أستطيع ألّا أفعل ذلك، لأنّ كلّ الأخبار التي تأتي من هناك مؤلمة وحارقة وموجعة ورغم هذا أنا أعرف ثمن ربطة الخبز والسكر والبطاطا في سوريا، وكم طفلًا هناك بلا مدرسة وكم من الأطفال محرومون من اللعب وكم طفلًا شوّهته الحرب وكم طفلًا يعمل ليعيل أسرة وكم طفلًا يأكل من حاوية القمامة. قائمة الهول هذه طويلة".

في هذا السياق تقول فدوى (55 عامًا)، وقد كانت موظفة في مؤسسة ما في سوريّة قبل اللجوء: "أحيانًا أصحو في منتصف نومي كي أتابع الاخبار الجديدة التي ترد من سوريا".

بعد الحرب وقبلها

"بعد الحرب" جملةٌ تكررت على لسان قسم كبير من الألمانيين/ات الذين أقابلهم/ن في مكان عملي، مواطنون تجاوزوا الثمانين. تبدو جملة قبل الحرب وبعد الحرب لجيل الأبناء والأحفاد غريبة وفي غير مكانها، حتى أنّ إحداهن قالت لي بابتسامة يشوبها الاعتذار: "والدي لديه تاريخٌ مفصلي، قبل الحرب وبعدها". حينها، فكّرتُ أنّ هؤلاء الأشخاص عاشوا السلام أكثر بكثير من الحرب، فقد مضى أكثر من سبعين عامًا على الحرب، ولكنّها ما تزال حاضرةً وبقوّة في ذاكرة كلّ أولئك المسنيين/ات الألمان. ومع تكرار تلك العبارات على لسانهم، صرت أدرك أنّ هذه الحرب وما خلفته من هجرة وهروب ستكون الحدث الأبرز في حياة أبناء جيلنا وسترافقنا في شيخوختنا. ذاكرتي اختارت صورًا لتحتفي بها في أحلامي، وهي صور قوافل اللاجئين الذين كنت أراهم في طريق هروبي: لاجئون على الأرض، لاجئون متمسكين بالقطارات على الحدود الصربيّة، لاجئون يقفون بذلٍّ وانكسار أمام حرس الحدود والأسلاك الشائكة، لاجئون أمام الأبواب والمكاتب في انتظار ورقةٍ قانونيّة تسمح لهم بمواصلة رحلة الذلّ تلك.

أحياناً أراقبُ أمي وهي تقبّل وجه ابنة أخي المقيم في حلب على هاتفها المحمول بينما هي تتحدّث معها عبرَ محادثة فيديو. ولدت الطفلة خلال رحلة هجرة أمي، لم ترها ولم تحضنها. أوصت متجرًا على الانترنت بشراء هدية عيد ميلاد لحفيدتها لإيصالها إلى حلب حيث تقطن. غرباء أوصلوا الهدية إلى بيت أخي في حلب، فيما كانت تراقبهم عبر شاشة هاتفها وتتحسّر. 

تعيش أمي وآلاف النساء والرجال الذين في عمرها هذه المشاهدات على هواتفهم المحمولة، هدايا عبر القارات تصل من خلال أيدٍ غريبة لأيدي الأحفاد الجُدد الذين لم يسعفهم الحظ لرؤيتهم. إنّهم مثل أشجار يابسة تحاول مدّ جذورها إلى المكان الأوّل الذي عرفوه.

تحسدني أمي لأنّ لديّ جارات ألمانيات أعطيهن في كلّ حين طبقًا يحوي بعض الطعام الذي أصنعه، فهي لا تستطيع فعل ذلك مع جيرانها الألمان الذين لا تعرف لغتهم ولا يعرفون لغتها. الرغبة بالعطاء والتواصل مع الآخر بدون لغة تتحوّل إلى حسرة مبتورة.

"يوميًا أخشى أن أصحو على خبر موت والدتي البعيدة. إنّ الهجرة القسرية قديمة، قدم الحضارة الإنسانية، وللأسف تتكرّر بطريقة تدعو للأسى على الذاكرة الإنسانيّة التي لا تتعلم أبدًا من قسوة تجاربها" تقول أمل.

اللاجئون في الإعلام

معظم اللاجئين يبقون عالقين في المخيمات ومدن دول الجوار بسبب عدم تمكنّهم من الدفع للمهربين والوسطاء، حتى اللجوء يحمل في داخله تقسيمات طبقية هائلة، فالفرد القادر على دفع بضع آلاف من الدولارات يمكنه أن يصبح لاجئًا عابرًا للقارات، والذي يدفع ليتمكن من عبور البحر بقارب مع مجموعة صغيرة يختلف عن ذاك الذي يدفع ليعبر من خلال قارب مطاطي مع أكثر من ٤٠ شخصًا.

كوير سوري في نويكولن البرلينيّة

25 آذار 2022
في رحلته المستمرة، يحكي لنا عمر في هذا النص عن رحلاته المتعدّدة، على مستوى الجسد والفكر واكتشافه لهويته الجنسيّة التي لم يكن يعرف عنها أيّ شيء في سوريا، إذ احتاج...

المؤسف أنّ الإعلام الغربي لا يركز على اللاجئين العالقين في المخيمات وهم القسم الأكبر، إنّه يتحدّث فقط عن اللاجئين الذين وصلوا وأصبحوا بلغاتهم الغريبة وثيابهم ولكناتهم عبئًا ولعنة على "تجانس الثقافة الأوروبيّة".

السؤال عن الدور الذي تلعبه أمريكا والدول الأوروبيّة في تنامي هذه الهجرات لا يطرح غالبًا في الإعلام، إنّه سؤال غير محبوب، الجميع يريدون الحديث عن الجانب الإنساني للدول التي استقبلت عددًا من اللاجئين ووفرت لهم حياةً آمنة وتعليمًا جيّدًا، لكن لا أحد يريد البحث في الأسباب التي دعتهم للهجرة، إنّها الأنظمة الديكتاتورية التي تحكم تلك البلدان بالطبع، لكن من يدعم هذه الأنظمة للبقاء في سدّة الحكم؟ ومن يصدّر السلاح لتلك الأنظمة كي تستقوي بها على شعوبها حين تنتفض ضدّ الاستبداد بسبب عدم تكافؤ الفرص وغياب الحريّات؟ من يعقد الصفقات التجاريّة مع ميليشيات في ليبيا كي تحاصر اللاجئين في مخيّمات أقل ما يقال عنها أنّها نموذج آخر لسفن بيع العبيد في القرن الثامن عشر؟

حلّ مشكلة اللاجئين يتزامن مع مراجعات ضروريّة لسياسات الدول الأوروبيّة والولايات المتحدة في كيفيّة تعاطيها ودعمها للأنظمة الديكتاتوريّة في الشرق الأوسط وفي دول إفريقيّة وغيرها من البلدان.

موضوع اللاجئين الذي نقرأ عنه كلّ يوم في الصحافة ونشاهده في قنوات التلفزة ونكتب عنه مثل هذه الحكايات، هو موضوع القرن الحادي والعشرين. هؤلاء الكائنات التي تخرّب حياة واستقرار الدول التي يدخلونها عنوةً، دون أن يوقفهم شيء، لا البحر ولا الغرق، لا الاختناق في الشاحنات ولا المهربون الذين يتاجرون بهم. إنّهم قوافل جرادٍ لا شيء يوقفها، حتى أنّه بات يقام لهم معارض، لصورهم ولأشيائهم وحقائبهم وللوثائق الثبوتيّة التي كانت بحوزتهم حين غرقوا في البحر أو حين اختنقوا في الشاحنات، تُرسم لهم جداريات وتُصوّر أفلام سينما عن قصصهم، لكنّهم في كلّ ما يحدث، ورغم كلّ الأضواء الذي تبث حولهم، لا يزالون يظهرون كسيرة ذاتية لكتلة بشريّة واحدة، لا اختلاف بينهم، لأنّه قد تمّ تشيئهم، وأُطلق عليهم نعت "لاجئين". هكذا بجرّة قلم تشطب السيرة الذاتيّة للفرد، فهذه المعارض شيَّأت اللاجئين دون قصد. حين تقيم معرضًا لهم، فأنت تشيئهم بالضرورة، ينقصهم فقط متحف يعرض آلامهم ودموعهم.

في الطرف المقابل هناك محاولات مستميتة لتحويل اللاجئين إلى أبطال، فتجد في الصحافة أخبارًا من قبيل "لاجئون ينقذون نساء أوروبيات من اللصوص والمعتدين"، أو "لاجئون يعيدون المبالغ المالية الكبيرة التي يجدونها في الشوارع والمحطات".

في الحقيقة هم أفراد عاديون، مثل أيّ مواطن ألماني أو فرنسي أو أمريكي، لكنّ ظروف بلدانهم حوّلتهم لهذا الشكل المرعب من البؤس، فهم في لحظة ما فقدوا كلّ شيء، لذا يحاولون البدء من الصفر.

في معظم القراءات والفعاليات الأدبيّة التي شاركت فيها، كنت أشعر بنفسي مثل حشرة من حشرات التجارب، يسلط علينا الضوء لكن بهدف إظهارنا للجمهور، لأنّنا في العمق لسنا سوى كائنات هاربة من الموت والحرب وتستحق المشاهدة لا الإصغاء.

كيف نشعر؟ كيف نتفاعل مع الحب والكتابة والثقافة؟ قسم كبير من الجمهور لم يكن يصدّق أنّ اللاجئين لهم كيان وهويّة إنسانيّة مثلهم، وفي الواقع كانت هويّتنا قد تغيّرت في نظر العالم كلّه بمجرّد أن قطعنا الحدود وأصبحنا لاجئين.

بحماس ولهجة شبه يقينيّة قال لي سليمان (62 عامًا): "لن أستطيع الاندماج في هذا البلد، رغم كلّ الحفاوة التي استُقبلنا بها، تخيّلي لو أنّي أذهب لحلاق الماني، وأريد قصّ شعري، فإنني لن أستطيع أن أشرح له كيف يحلق شعري، شيءٌ بسيط كهذا أنا غير قادر على إنجازه لوحدي، فما بالك ببقيّة تفاصيل الحياة، أشعر بيأس أنّ العمر قد ذهب، وليست هناك فائدة بعد الآن".

أكّدت فدوى: "كلمة اللاجئ مزعجة جدًا بالنسبة لي، لكنّه واقعنا، نحن لاجئون في بلاد غريبة، والاندماج هو أن نتبادل ثقافاتنا، وليس فقط الأخذ من الآخر، يمكن لنا أن نتأقلم مع الواقع الجديد أمّا الاندماج فهو صعبٌ لمن هم في عمرنا".

من الرسائل التي وصلتني، ورغم اختلاف كلّ حالة عن الأخرى، يتّضح لي جليًا أنّ وضع الهاربين في ألمانيا وتحديدًا في مدينةٍ كبرلين أفضل من غيرها من المدن والدول الأوروبيّة، لكنّهم، اللاجئين، كانوا يُفضلون لو أنّهم أكملوا سنواتهم الباقية في بلدانهم تلك التي ولدوا فيها ولمست أقدامهم ترابها حين تعلموا المشي، وأنّ هذه التجارب القاسية تتكرر على مدار التاريخ، ولا يكون الحلّ إلا بالوقوف معًا ضد الحروب والصراعات وبدعم الأنظمة الديمقراطيّة في تلك البلدان والتوقّف عن دعم الأنظمة الديكتاتوريّة، والأهم التوقف عن تصدير الأسلحة لتلك الأنظمة، وبالطبع البدء بمحو كلمة "اللاجئين" من اللغة أثناء التعامل معهم. يجب أن يتم استبدالها بكلمة أخرى، كلمة تحمل دلالات لغويّة ونفسيّة أقلّ وطأة وشعورًا بالمهانة. كلمة اللاجئ تبقى مثل لعنةٍ معلّقة في عنق صاحبها.

الفتاة الأرمنيّة الصهباء "خانم" الهاربة من مذابح الأرمن عام 1915 والتي تزوجها عم أمي وأنجبت منه أطفالًا وأسسّت عائلةً وبيتًا، وعاشت قرابة خمسين عامًا في قرية والدتي في كوباني، كانت تردّد حتى شيخوختها تراتيل دينيّة مسيحيّة، وحين كان يسألها أحد سكان القرية عن تمسكها بمسيحيّتها وتراتيلها، كانت تجيب بلكنتها الكرديّة المُكسّرة "welat sherine - الوطن غال".

لم يكن تمسّكها بالتراتيل والدين إلّا نوعًا من أنواع الحنين للطقوس الاجتماعيّة والحياتيّة الراسخة في ذاكرتها والمرتبطة بمسقط رأسها الذي هُجّرت منه بقسوة ووحشيّة.

لم تكن تفهم أمي والعديد من قريباتي ذلك الحنين الغريب لدى خانم بعد عيشها أكثر من خمسين عامًا في قريتنا، لكن وبعد قرابة مئة عام من تجربة الهروب التي خاضتها المرأة الأرمنيّة، وبعد أن تحولت أمي أيضًا للاجئة وهاربة في العام 2016 فهمَت تمامًا ما معنى عبارة خانم الأرمنيّة "الوطن غال"، فالذكريات لا تُستبدل ولا تُسقط حقّها بالاعتراف بعد مرور الزمن  كما يحدث اليوم مع الحروب والمذابح.

مقالات متعلقة

النسخة الفرنسيّة مني

06 نيسان 2022
بعد كتابتها عشرات الروايات باللغة العربيّة، والتي تُرجمت إلى لغات متعدّدة، خاضت الكاتبة والروائيّة مها حسن، تجربتها الكتابيّة الأولى باللغة الفرنسيّة. تكتب في هذا النص الذاتي عن تجربتها تلك، عن...
أنديّة سوريّة في ساو باولو

15 آذار 2022
على بعد آلاف الأميال عن الوطن تأسّس في مدينة ساو باولو البرازيليّة عددٌ من النوادي الاجتماعيّة، منها "نادي زحلة" و"نادي حمص"، اللذيّن تأسّسا على أيدي مهاجرين سعوا وعملوا لإبقاء الوطن...
من سوريا العثمانيّة إلى الأرجنتين

16 آب 2021
في بيروت، في العام 1913، تسلّل جدّي الأكبر إلى سفينة متجهة نحو الأرجنتين. السنوات والعقود التي تلت ذلك التاريخ هي تاريخ عائلتي، وكذلك جزء من قصة العرب الأرجنتينيين.
في أحوال "منفانا"

25 حزيران 2021
من يعيش المنفى حقًا، ذلك المواطن الذي يعيش اليوم في دكتاتوريّة الأسد أو دكتاتوريّة كوريا الشماليّة أم نحن الذين نعيش في "المنافي"؟ وما هو المنفى أساسًا؟ بل ما هو الوطن؟...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد