(هذه المادة من الجزء الثاني من ملف "أصوات كويرية". بإداة وإشراف المحرّر الضيف، فادي صالح، ويمكن قراءة النسخة الانكليزية من المقال على هذا الرابط)
هل سمعتم بـ"أنور البابا"؟
تكهنًا، لن يعرف أغلبية السوريين عمّن نتحدث، أو لن يتمكنوا من تحديد هويّة الممثل المذكور بدقّة رغم أنّ اسمه قد يبدو مألوفًا للسمع. يحدث ذلك رغم أنّنا دأبنا على متابعة إنتاجات الدراما المحليّة، وصار عندنا نجومنا الذين نتابعهم ونلاحق أخبارهم بنهم؟ كيف لم نسمع بـ"أنور البابا"؟!
هل يكون السبب "أم كامل"، التي احتلت المساحة الأوسع من الذاكرة وحقّقت تواجدًا أكثر وضوحًا في الوجدان السوريّ الجمعيّ، والتي سيومئ الكثيرون برؤوسهم إيجابًا مبتسمين لدى سماعهم اسمها.
إذا كنتم من مواليد عقد التسعينيات وما بعده، تمييزكم لأيٍّ من الإسمين حدثٌ يقارب الإعجاز لندرته!
فمن يكون "أنور البابا"، ومن هي "أم كامل"؟
كدهشة أرخميدس!
كان يومًا عاديًا ذلك الذي لمحت فيه "أم كامل" للمرة الأولى، إلا أنّ هذه اللحظة التي حملت سحرًا لم أكتشفه إلّا لاحقًا لا تزال محفورةً في ذاكرتي، وتعود إلى ماضٍ غابر ينتمي إلى الثمانينيّات السوريّة على الأغلب. عقدٌ كانت سمته العقوبات الاقتصاديّة الخانقة التي تلت مجزرة حماة وحملاتٍ من الاعتقالات التعسفيّة، طالت كلّ من قال "لا" على امتداد مساحة الوطن. في الثمانينيات طمس الأجواء صمتٌ كئيب، ترعرعت وسطه وأبناء جيلي، نشقّ طريقًا نحو مستقبلٍ بلا ملامح.
عبر شاشة المحطة التلفزيونيّة الرسميّة اليتيمة آنذاك، كنت أتابع للمرة الأولى الإعادة المليون ربما لمسلسل من إنتاج عام 1968، حمل عنوان "حمام الهنا". عملٌ جماهيري نال شعبيّةً واسعة، وجمع شخصياتٍ راسخة في ذاكرة السوريين مثل: "غوار الطوشة"، "حسني البورظان"، "أبو صياح"، "ياسين بقوش"، و.... "أم كامل"!!
في تلك الحلقة بالذات ظهرت "أم كامل" كبصّارةٍ تحتال على كلّ من يطرق بابها طالبًا المساعدة من الجنّ الذين تدّعي أنّها سخرتهم في خدمتها. سيّدةٌ دمشقية اللكنة، تقليديّة اللباس يغطي رأسها منديل، تتأمل زوارها من وراء نظّارتها الطبيّة، وصاحبة لسانٍ يقطر سخريّة لاذعة. وعلى الرغم من قصر مدّة المشهد نسبيًا إلّا أن ثوانٍ قلائل كانت كافيةً كي تستولي هذه المرأة الاستثنائيّة على كلّ انتباه، فأطلقت ضحكاتي كلّما أدلت بدلوها.
ومن عمق انغماسي في العالم القابع خلف الشاشة، أتى صوت والدي مباغتًا يعيدني إلى غرفة الجلوس قائلًا بحياديّةٍ مطلقة: "إنت بتعرف إنو إم كامل رجّال؟".
أمعنت النظر مجدّدًا غير مصدّق، فكيف تكون هذه الخالة رجلًا؟! كلّ ما رأيت، كان سيدةً حقيقةً جدًا إلى درجة أنّك تكاد تقسم بأنّك لمحتها في مكانٍ ما سابقًا مراتٍ ومرات على شكل جارةٍ، جدّةٍ أو حتى عابرة سبيل!
حريصًا على إتمام المعلومة الثقافيّة والفنيّة كعادته، أردف أبي مستدركًا : "إسمه أنور البابا.. ممثل".
دهشتي ضاهت في روعتها دهشة أرخميدس يوم خرج من حوض الاستحمام عاريًا إلى الشوارع يصيح "وجدتها.. وجدتها". ومع أنّي لم أكن في ذلك الحين قد ميّزت اختلافي عن الآخرين بعد، فهمت ماهيّة ميولي الجنسيّة، أو حتى أدركت معنى الجنس ووجوده أصلًا، غمرني هذا الحدث بسعادةٍ مفرطة! ذكرٌ وأنثى في كيانٍ واحد، نقطةً مضيئة ألهبت مخيّلتي في حقبةٍ سبقت استخدام أيٍّ من حروف الأبجديّة الكثيرة للمّ شتات عالمٍ ملوّن في مجتمعٍ واحدٍ تحت لواءٍ من قوس قزح.
العودة إلى البداية
ولد "أنور البابا" في دمشق عام 1915، وتوفي فيها يوم 19 يناير العام 1992. والده المطرب "حسني البابا". ويُقال إنّ عمه هو الخطاط العربي الشهير "محمد حسني" والد الفنانتين "سعاد حسني" و"نجاة الصغيرة".
اضطر صغيرًا إلى ترك المدرسة في المرحلة الإعداديّة قبل أن ينال شهادته لفقر الحال، وليعمل بعدها مدة ثلاث سنواتٍ في صناعة النسيج قبل حصوله على وظيفةٍ متواضعة في رئاسة مجلس الوزراء.
في عام 1937 بدأ ممارسة هوايته في التمثيل، فقدم المسرحيّات الصغيرة في بعض البيوت ومناسبات الأفراح، وتدرّج منها إلى المشاركة في عروضٍ أكبر في الأرياف قبل أن يدفعه عشقه للفنّ إلى استخدام مرتبه الشخصيّ في تمويل فرقة مسرحيّة أسسها للهواة، ضمّت 15 ممثلًا.
في العام 1947 داهم سوريا وباء الكوليرا، ولندرة انخراط النساء في عالم مهنة التمثيل "سيئة السمعة" آنذاك، تطوّع "أنور البابا" للقيام بأداء الدور النسائيّ في مسرحيّةٍ إذاعية للتوعية حول المرض وطرق الوقاية منه. هكذا، ومن رحم زمن الكوليرا ولدت "أم كامل" لتحظى بحبٍّ وإعجابٍ جماهيريّ كبيرين، دفعا بـ"البابا" إلى تقمّص هذه الشخصية ليذيع صيتها محليًا وعربيًا منذ ذلك الحين وعبر مختلف الوسائط: الإذاعة، المسرح، السينما ولاحقًا التلفزيون.
من الطرائف التي ترتبط بـ"أم كامل"، أنّها وقد ذهبت لإحياء مجموعة من الحفلات على مسارح القاهرة عام 1959 أيام جمهورية الوحدة التي قامت بين سوريا ومصر، استظرفها الكوميديان المصري "حسن فايق" ووقع في غرامها، حتى أنّه طلب من بعض الفنانين السوريين أن يتوسطوا له حتى تقبل الزواج منه. واستمر "فايق" دون كللٍ أو ملل في مطاردتها ومحاصرتها إلى أن كشفت له عن هويتها الحقيقيّة كرجل.
وقفت "أم كامل" إلى جانب نخبةٍ من نجوم العالم العربي تلفزيونيًا وسينمائيًا، كـ"دريد لحام" في سوريا، و"اسماعيل يس" في مصر، وصارت نجمةً من نجوم الصفّ الأول.
"أم كامل".. المحور والأساس
أدرك تمامًا واقع أداء ممثلين ذكور لأدوار سيدات، ومن باب الكوميديا حصرًا، وإنّ هذه الاستعارة حصلت بالفعل مرارًا وتكرارًا منذ زمن الإغريق ومسرح شكسبير، كما أنّنا شهدنا عربيًا الكثير، فمن "ياسين بقوش"، "أبو عنتر" رمز الفحولة، مرورًا بعملاق الكوميديا في مصر"اسماعيل يس"، إلى "محمد هنيدي"، والقائمة تطول.
إلّا أن "أم كامل" تبقى حالة مختلفة تمامًا وذات تميّزٍ تام، لأنّها صارت الشخصيّة الرئيسيّة، المحور والأساس، تُقرأ في أفيشات الأفلام، تيترات المسلسلات وعلى بوابات المسارح اسمها فقط: "أم كامل"، دون أيّ ذكرٍ لـ"أنور البابا" ممثلًا لهذا الدور.
"أم كامل" سابقةٌ استثنائيّة! أن يُحتفى بأنثى تلبّست رجلًا في مجتمعٍ حرص بإصرارٍ منقطع النظير على التنكيل بالمثليين والمثليات، المتشبهين بالنساء أو بالرجال، بالعابرين والعابرات، وطبّق أقسى العقوبات والأحكام عليهم اجتماعيًا، دينيًا وحتى قانونيًا. كيف أفلتت "أم كامل" من كلّ هذا الأسى، ووجدت طريقها إلى قلوب الناس؟ كيف بسطت سطوتها هكذا وابتلعت خالقها ليصير طيّ النسيان، في حين بقي اسمها نارًا على علم في مجتمعٍ أقسى من الصخر على كلّ من قد يجرؤ على كسر القواعد والمألوف؟
أغوص اليوم عائدًا إلى ذاكرتي البعيدة وأستوعب دور "أم كامل" وأثره. حطمّ هذا الحضور بدايةً كلّ معنىً عن النمطيّة الجنسانيّة "الكلاسيكيّة" السامّة التي عشت في مجتمعٍ آمن بها وتنفسّها، فالإنسان إما ذكرٌ أو أنثى ولا ثالث لهما. وبهذا غاب كلّ احتمالٍ لأن يسكن أي طيفٍ ظلاميٍّ متخلفٌ رأسي، وأطلقتني "أم كامل" حرًّا من قيودٍ ظالمة، فلا حاجة لي أن أكون أحد خيارين، بل بإمكاني أن أكون كلاهما معًا، أو حتى أن أكون خيارًا جديدًا أعلنه هويتي، فأنا "من أكون" وأنا "ما لا أكون".
قد يبدو أني أُلبس "أم كامل" معانٍ وتأويلاتٍ أكبر بكثير مما تحمله في واقع الأمر. فبمشاهدة ما شاركت فيه من أعمال، سيبدو واضحًا أنّها لا تحقّق بالمعنى الحقيقيّ ما يمكن تسميته تمثيلًا كويريًا. حيث لا يتطرّق أيّ من أعمالها على الإطلاق إلى مناقشة قضايا الجندر والجنسانيّة، إلّا فيما يتعلّق بحقوق المرأة ودورها التنموي أحيانًا. ولكن لا بدّ من تسليط الضوء على هذه الظاهرة وفق نظرةٍ أكثر شموليّة، لأنّ في وجودها بحدّ ذاته تجاوزٌ واضح للمفاهيم النمطيّة والبالية المتعلقة بالجندر والجنسانيّة، وكسرٌ لقيود اجتماعيّة لا تزال حتى اليوم صارمةً تدير حياة الجميع وترسم خطوطها ومساراتها.
حكايتنا التي لم تُحكى بعد!
كما أنّه ومنذ غياب "أم كامل" وحتى اليوم لم يحاول أو يتمكن أحدهم من ملء الفراغ الذي خلّفته مجددًا، فلا شخصيات مماثلة محبّبة، وكلُّ تمثيلٍ إعلاميٍّ لمجتمع الميم-عين، فنيًّا كان أم استقصائيًّا، لم يتجاوز حدود السطح. فهو دائمًا حلبة لنقاش إن كان وجودنا يجوز أم لا يجوز، جينيٌّ أم مكتسب، مقبولٌ أم مرفوض... الخ، من شتى أنواع الأضداد التي تستمر في تمزيق عالمك وبعثرته ليتحول إلى أحجيّةٍ وطلسم.
الجميع يتحدث عنك وليس إليك، يحكي حكايته معك متجاهلًا حكايتك أنت. حتى في الدراما التلفزيونيّة، وقد كتبت فيها وغيري بضعة أعمالٍ سلّطنا فيها الضوء على شخصياتٍ من مجتمع الميم-عين، تناولناها مواربةً نناور مقصّ الرقيب، فشلت هذه الشخصيّات في أن تتحوّل إلى ثوابت أو نقاط علام أو حتى إلى محاور للنقاش بين الناس، لتمرّ في المحصلة مرور الكرام أمام جمهورٍ لم يعرها اهتمامًا أو يستشعر أزماتها الوجوديّة الخانقة. وتتسّع رقعة الإنتاج، تتعاظم تكلفته، وتغصّ الأرض بالمحطات التلفزيونيّة والمنصات الرقميّة، أمّا النتيجة فواحدة: أرى نفسي عبر الشاشات العربية متهمًّا، ضحيّة، نكتة، جريمةً وإثمًا.
مرّةٌ واحدة هي تلك التي حملت في جنباتها شيئًا من الصدق والعذوبة، على شكل رجلٍ في زيّ امرأةٍ أحبها الجميع وبادلوها أشد الاحترام، ضحكوا معها وليس عليها، عشقوها حتى أضحت حقيقةً، سواءً كان ذلك عن قصدٍ أو من دونه.
تزوج "أنور البابا" من الأديبة "اعتدال رافع" ورزق بابنتين. لن أدخل في جدل إن كان مثليًا تزوج تحت ضغطٍ اجتماعيّ، أو أنّ أداءه لشخصيّة "أم كامل" كان متنفسًا له ليعبّر عن مكنوناتٍ دفينة أو مجرد نتيجةٍ لتلافي أزمة عدم وجود ممثلةٍ للقيام بأداء الدور. كلّ هذا غير مهمّ ولا بأمرٍ جلّل، وهوية أيًّا كان/ت الجنسيّة ليست أصلًا مساحةً عامة للنقاش والتحليل!
كلّ ما يهمّ أنّ "أم كامل"، ودون درايةٍ منها، لما أطلّت عليّ في يومٍ عاديّ عبر شاشة التلفاز في الثمانينيات تحوّلت قديسةً في خيالي، أسعفتني في وحدتي وعزلتي، غرست لمجرّد وجودها بذرةً أزهرت غابةً من الصلابة والقوّة، استظلّيت في فيئها سنواتٍ خلال استراحاتي من مواجهة سخطٍ وغباءٍ غير مبررين، تصدّيا كلّ يومٍ لمن وما أريد أن أكون.
"أم كامل" جزءٌ من ثورةٍ مستمرة، نكافح فيها علّنا نتمكن يومًا من الصياح عاليًا قائلين "نحن هنا". ثورةٌ تجمع مهمّشين أعرف بعضهم ولم ألتق بالملايين منهم، ولكنّنا في كلّ خطوة نتجرّع معًا مرّ التجربة ونرتشف عسلها. عائلةٌ واحدة مهما تنوّعت إثنياتنا، دياناتنا، طوائفنا، لغاتنا ومرجعياتنا، باقون بألواننا وضحكاتنا وخيباتنا.
شكرًا أم كامل.