ما دفعني إلى كتابة هذا المقال هو تبرير شدّة إعجابي بالمجموعة القصصيّة “تلّة يسكنها الأعداء” للكاتبة فدوى العبود، الصادرة حديثًا عن دار خطوط وظلال. ذكرت في مرة سابقة أنّني رأيت في هذا العمل بيكيت وكافكا، فتهامس البعض بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ممن لم يقرأ العمل بعد: لربّما هي مبالغة. ولأنّني أملك من الإصرار ما يكفي لأكون كرديًا، ولأنّ العمل حقيقة كما وصفت، شرعت في الدفاع عن موقفي. تقول العبود في أول قصة من قصص المجموعة "التبرير يدفع الناس لارتكاب الحماقات (كتابة الشعر، الغناء والحبّ وكّل أشكال الوجود)"، بدوري اندفعت لحماقة كتابة مقال تفصيلي، قد يبدو مضحكًا بالنسبة لناقد أكاديمي أو حتى لقارئ. لا بأس، بذلك أكون أكثر اتساقًا مع الخلاصة التي وصلت إليها "البكاءة" -إحدى شخصيّات المجموعة- في نهاية العمل، إذ رفضت طلب الأستاذ في تصحيح أخطائها، فيسألها عن سبب عودتها إذًا؟ تجيب "للضحك". اضحكوا يا رفاق.
سأنطلق من السؤال المباشر: ما المبهر في هذا العمل؟ كما هو الحال مع كلّ عمل رفيع، تتمكن الشخصيات فيه من خلال تجاوبهم مع التباسات الحياة المعطاة وطريقة تفاعلهم مع الذوات الأخرى في تقديم أفكار فلسفيّة واسعة ومُعقّدة: أزمة الوجود، الفشل كنسق حياة، الخيال، الضحك. سأحاول هنا شرح ما أمكن لي منها. اضحكوا يا رفاق.
تقول إيلينكا زوبانغ "إنّ من علامات عظمة نص ما، أن تخطر على بال المرء كلّ ضروب الأفكار (الإضافيّة) أثناء قراءته له"، وفيما يأتي عرض لبعض الأفكار من هذا النص اللا نهائي، الذي وقعت فيه كما وقع بورخيس في كتاب الألف.
تخرج الذات إلى النطاق البين-ذاتي لتكتشف نفسها، فالآخر هو المرآة التي يرى فيها المرء نفسه. الآخر ليس منفردًا بل هو مجموعة يبحث فيها المرء عن نفسه في المجتمع، وهو الحيز الذي يسميه هيغل "الروح"، ويطلق عليه لاكان "الآخر الكبير أو النظام الرمزي". بكلمات لاكان تبحث الأنا عن "القبول الكامل للذات من الذات الأخرى" وهذا ينطبق على الفرد في كلّ مرحلة من حياته، لكن أهم تلك المراحل هي التي في الطفولة. لكن ماذا لو كان الآخر عدائيًا، كما هو الحال في "تلة يسكنها الأعداء"، حيث تقابل الطفلة نبذًا من أصدقائها الذين لم يدعوها إلى عيد الميلاد، ويبعدها الجار بقرصة أذن وتغلق عليها الأم النافذة، ويتربص بها قناص؟ حينها تفشل مرحلة تكوين الأنا، ولا تسطيع أن تصبح فردًا، وتدخل في أزمة وجوديّة تدفعها إلى دخول غرفة جدتها -التي حاولت قبلها أن تقاوم المخرز بالتحديق فيه وعاشت بقيّة حياتها بعينين مجوّفتين- لتسألها عن سبب وجودها؟
في مملكة الأعداء العنفية، يُنقص من كلّ فرد منّا على حدا أو قد ينقل الجميع إلى عالم الموت.
"كلهم يبدأون بهذه المسرحية ثم ينتهون هامدين معنا!"
يخبرنا هايدغر: حتى تكون موجودًا عليك أن تقبل ذاتك، ولا يمكن لهذا أن يحدث إلّا بعد أن تنشأ علاقة حقيقية للأنا مع الموت. مهما اختلفنا مع فلسفة هايدغر، لا يمكننا ألّا نُسحر بفكرة اختبار الحياة من خلال قبول الانتهاء الذاتي، (نسيان الموت والتفكير بالحياة كما ينصحنا سيبنوزا، فكرة لطيفة لكن لا تبدو مقنعة). أن تصبح موجودًا عليك أن تتخلص من خوفك من الموت. أن تتخيل موتك عند مواجهتك لوحشة الوجود، خاصة في مكان مثل التلّة. واجهت البطلة حقيقة موتها وتقابل قاتلها ذا الكتف الجوفاء، الكتف التي لا يمكن للملائكة الوقوف عليها.
تتكرّر حالة الإنسان ذي التجويف في النصوص؛ عيون الجدة، الجندي القاتل، الفتاة التي تبحث عن وجهها، سهام والفراغ برأسها، وأخرى فقدت صوتها. في كلّ جريمة هناك تجويف، فراغ في تكوين القاتل والمقتول. فالكاتبة، وهذا ما اعتقده، ترى أنّ المسؤول عن كلّ هذا هو النظام الرمزي، وفي أماكن محدّدة يتمثل أو يُصدر النظام نفسه من الآخر الكبير، الذي يدفع الأفراد إلى الفعل، دون فهم سبب أفعالهم، ودون دوافع حقيقيّة للأفراد -هكذا تعمل الأيديولوجيا-. التجويف، إذًا، هو هذا النقص في الوعي، بينما الواعي الوحيد هو النظام الرمزي والآخر الكبير. يبدو أنّ العبود تمتلك ما يكفي من الصفات المعنويّة والوجدانيّة، كما الفلاسفة الإنجليز، الذين لم يتقبلوا فكرة وجود بشر ينقصهم كليًا الشعور بالتعاطف مع أبناء جنسهم، على الأقل على مستوى الشخصيّات التي قدمتها في نصوصها، فلا وجود لشخصيّة تقتل من أجل القتل أو لأنّها تستمتع بذلك، تلك المتعة الوحشيّة برؤية الدم والقتل والمِحن لدى الآخرين، لا وجود للشخص الدموي الذي في نصوص دو ساد وحسن بلاسم "معرض الجثث" الذي قدّم شخصيات تتغذى على الموت وتتلذّذ (اللذّة الفاحشة ـ لاكان) في مصائب الآخرين.
حتى اللذة الجسديّة لا وجود لها في التلّة، فالآخر الكبير أمر بإزالة أيّ شكل من أشكال الرغبة، قدر الفرد هناك أن يعيش النقص الذي لا شفاء منه "نقص الكينونة". لا مجال لتحقيق رغبة في محاكاة الآخرين، ولا الرغبة في استعادة السيطرة على حياتهم، ولا رغبة جنسيّة مسموحة، فلا يجب أن يكون هناك أيّ معنى وتسليّة لحياة الأفراد. فقد بتر الآخر الكبير ألسنة الناس وأشياء أخرى لا أستطيع ذكرها. الجميع في محكمة كافكاويّة لا نهائيّة، لا يعرف فيها أحد ذنبه، ولا يُسمح لهم العيش وفق ما يرغبون، حتى بعد موتهم يريد الآخر الكبير أن يتأكد، فيسأل:
ـ "كيف ضيعت حياتك يا حلوتي؟
ـ كما أردتم لي يا أبي .."
ما الطرق التي تتبعها الشخصيات في تحمل العيش على التلة؟
هناك طريقتان تتكرّران في النصوص، لا بدّ أن أشير إلى أنّهما ليستا الوحيدتين بأيّ حال من الأحوال. لنتحدث عن الأولى، النجاح بالفشل.
تكشف أغلب شخصيات فدوى العبود عن حس عالٍ بالفشل، فالشخصيات تمر بالفشل لكنها لا تتوقف عن المحاولة. بإصرار بعد كلّ محاولة يزداد لديهم عدد المشكلات التي عليهم حلّها، إلى أن يتدخل الآخر الكبير وينهي كلّ شيء بضربة فأس.
في "قصاصات منتهية الصلاحيّة" تفشل الفتاة في كتابة موضوع. تطلب مزيدًا من الوقت "هل تنتظرني يا أستاذ؟ ـ أنتظرك منذ دهر" فيزداد عدد المواضيع التي عليها كتابتها وتفشل فيها جميعًا، كلّ مرة بطريقة أفضل. قد نقوم بتأويل القصة على أنّها سعي إلى الكمال "... تكتبين موضوع التعبير الخارق ذات يوم!" كمال هايدغر الذي كان يزدري العادي وتكرار ما كتب سابقًا "لا بّد أنّهم كتبوا كلّ شيء يا أستاذ". إذا توقفنا هنا يكون التفسير صحيحًا، لكن غالبًا من يفكر بالكمال يكون النجاح حاضرًا بقوة في ذهنه ـ كما هو حال هايدغرـ لكن الطفلة لا تبحث عن النجاح، والعادي لا بأس به بالنسبة لها، ما تطلبه هو المزيد من الوقت والمزيد من المعرفة "يجب أن أعرف هذا الوطن"، فعملية التعلّم عندها هي انتقال من شكل للوعي إلى آخر، وفي كلّ مرة تفشل في الوصول إلى ذلك الوعي الذي ُيمكنها من الإنتاج "هذه الورقة العاشرة، ولم أستطع كتابة عبارة واحدة"، وكلّ عملية تفكير تفتح مزيدًا من المشكلات.
هذا تبسيط لبداية الإخراج الهيغلي الذي قدّمه بيكيت بشكل طريف "هل فشلت؟ ... حاول مجددًا، وافشل مجددًا، ولكن أفشل بصورة أفضل" فلا يجري الأمر في القصص مجرى سهلًا -الانتقال من مشكلة إلى حل، وحل أفضل- بل الحال هنا ينتج المزيد من المشكلات والانفصام والسلب، فتخوض الشخصيات غمار مشكلات الحياة على أشدّها، بشكلٍ لا متناه، لتُسمى القصاصة بـ"مشكلة المشاكل".
هناك أيضًا، سهام التي لا تتوقف عن الركض. تفشل في الوصول إلى أيّ مكان، إلى أن يوقفها رجل السلحفاة، ويلحقها الآخر الكبير وبيده الفأس.
كذلك، المرأة التي فشلت في الزواج وتخوض معركة ضدّ النظام الرمزي إلى أن ينحني ظهرها وتتحول إلى فزاعة لأهل الحيّ، "إنّها تعدّ طعامها بشكل جيد، لكنها تلتهم القليل منه وتلقي بالباقي للطيور فتأكله القطط. تلقيه لأعلى فيسقط أرضًا".
الطريقة الثانية، هيمنة الخيال.
كلّ فعل كتابة هو عملية ابتكار لموضوع أو فكرة أو طريقة لمعالجة الواقع وذلك بإعمال العقل أو الخيال. وكلّ أدب عظيم هو بمعنى من المعاني تمثيل للواقع وتعالٍ عليه، فلا يمكن للأدب أن يكون مجرد عملية توثيق. ففي كلّ فن عظيم شيء متجاوز يصبح باقيًا وعالميًا. كما أنّ كلّ عمل من أعمال الخيال ينبغي أن تكون له فلسفة، وكلّ فلسفة ينبغي أن تكون عملًا فنيًا. هذه الطريقة في التجاوز لم تقتصر فقط على تقنية الكاتبة في قصّها، إذ انتقل الحال إلى شخصياتها الغريبة والمفعمة بالتهديد، ذلك الحس في التخييل (يقول الأب لأولاده: " هيا يا شباب، فلماذا مُنحنا الخيال إذًا؟") فتراه لا يكتفي بعينين وقدمين للعيش بل يميل إلى السرد، "فتحت كلّ حكاية هناك بذرة يمكن إضافة حبكات أخرى فوقه" والخيال كشكل من أشكال الانتصار وتجاوز المشهد العام.
"فأرض الخيال بقعة آمنة كما تعرفون".
تجاوز المأساة
قد تُصنّف هذه المجموعة على أنّها نص ما بعد حداثي لما يحتويه من استحضار وتناص لأعمال أدبيّة أخرى، كما أنّ النص لا يشرح نفسه بسهولة فهو مقدّم بطريقة شبكيّة وهذيانيّة، والشخصيات تقيّد ويضيق عليها لكنها تظهر وتختفي عدّة مرات وفي قصص مختلفة، تُشعر القارئ كما لو أنّه قد وقع في مصيدة عنكبوت. لكن المشهد يتغير في القسم الأخير من الكتاب، فالشخصيات تعود لتمسك زمام حياتها وتتجمع في وحدة تقدّم من خلالها الكاتبة طريقة لتسمو تلك الشخصيات إلى مستوى أعلى، عن طريق تقديم حل وحيد مُلزم لكلّ المشكلات التي أثارها العمل، حل يدفع النص دفعًا نحو تفاؤل ميتافيزيقي، ولا تترك للقارئ خيارًا سوى الانحياز، بشكل طقوسي، لذلك الحل. هذا ما يجعل المجموعة نصًا "بعد ما بعد حداثي".
تجدر الإشارة إلى أنّ الحل الذي تقدمه العبود هو "الضحك"، على أنّه نمط من أنماط التضامن بين الناس، طريقة لتجاوز الأنا لأزمتها بعد أن كشفت عن وطأة "عار الوجود"، تُطهّر الذات وتمكّنها من إعادة التأمل بما مرت به وفتح "جميع الأقفال" أمام نفسها. الضحك لتجريد الأخ الكبير من سلطته، لتصغير حجمه إلى حجم فرخ بط يركض خلف الأفراد ويصيح: كا...كا...كا.
لنضحك يا رفاق.