معادلة العقد الاجتماعي الاستبدادي في سوريا، الأزمة المستمرة


لم يعد السكوت عن المشاركة السياسيّة مقابل التنمية الاقتصاديّة والمكاسب الاجتماعيّة قائمًا في سوريا اليوم كما كان الحال خلال عقود ما قبل الثورة، لأنّ العقد الاجتماعي الاستبدادي للنظام يقوم اليوم على معادلة السكوت عن المشاركة السياسيّة أو حتى الشكوى من الأوضاع، مقابل السماح بالبقاء على قيد الحياة. هنا مادة موسّعة عن "العقد الاجتماعي الاستبدادي" الذي أقامه نظام البعث مع الشعب السوري قبل الثورة، مادة تحكي تاريخ هذا العقد ومحطاته والتحولات التي جرت عليه، وصولًا إلى انتهائه عام 2011، لنكون أمام سؤال: أيّ عقد يمكن أن يسود في المستقبل، سواء بقي النظام أم رحل؟

09 أيلول 2022

خلدون أمين

باحث سوري متخصص في الاقتصاد السياسي، وله عدد من الأبحاث في الاقتصاد السوري.

استمر حكم النظام السوري أربعين عاماً قبل أن تندلع شرارة احتجاجات، سرعان ما عمّت البلاد بعد أن طغى النظام بعنفه ضد المحتجين وصمّ أذنيه عن مطالبهم، وتحولت ما بدأت كاحتجاجات تطالب بالإصلاح إلى إعلانٍ عن فقدان النظام لشرعية حكمه ومطلباً برحيله. لكن، إن كان توّسع الاحتجاجات، جاء بعد أن فاض كأس صبر السوريين بعنف النظام، فما الذي أشعل شرارة الاحتجاجات أوّل مرة؟ بكلمات أخرى: ما الذي تغيّر في علاقة السوريين بحاكمهم حتى بات الشعور الجمعي لدى السوريين مهيّئاً للمطالبة بإنهاء تلك العلاقة، وطي صفحة حكم الأسد؟

يقولو حرّاس الغابات إنّ الشرارة التي تأتي بنيرانها على الغابات، لا تحدث في الغالب بفعل فاعل، بل بعقب سيجارة، أي أنّ الشرارة لا تشعل النيران إلا بتوفر الظروف الملائمة، فليست الشرارة إلا مصادفة، وعلاقة السوريين بالنظام الحاكم، هي صيرورة وصلت إلى لحظة مكنت فيه احتجاجات آذار 2011 من التحوّل إلى شرارة تُشعل نيران الثورة. تلك العلاقة التي بدأت بفرض النظام لعقد اجتماعي استبدادي يقوم على تقديم السلطة للمنافع الاجتماعية والتنموية مقابل تنازل الشعب عن المشاركة السیاسیة.

تحكي السطور الآتية سيرة العقد الاجتماعي الاستبدادي في سوريا؛ كيف أوجده النظام؟ وكيف سعى إلى خلق التوازن في طرفي معادلة عقده الاجتماعي؟ ولماذا يمكن اعتبار أنّ للقطاع العام دوراً رئيسياً في تلك المعادلة؟ وما هي التحديثات السلطوية التي جرت على ذلك العقد في عهد الأسد الابن منذ توليه السلطة، وخلال سنوات الثورة السورية؟

مؤسّسي القطاع العام اللیبرالیین

تأسّس القطاع العام في سوریا عبر ثلاثة مسارات متتابعة، ارتبط كل منھا بتطوّر الأوضاع السیاسیة في البلاد. انطلق المسار الأول مع استقلال سوریا عام 1946 في ظلّ حكم البرجوازیة الوطنیة التي كانت تحمل فكراً تنمویاً یقوم على لیبرالیة اقتصادیة تتوافق مع الحفاظ على الإنتاج الصناعي الناشئ في البلاد، حیث عملت الحكومات السوریة المتعاقبة بین عامي 1946 و1956 على تأمیم قطاعي النقل والطاقة الذین كانا ملكاً للشركات الفرنسیة، وانتزاع السلطة النقدیة من فرنسا بإلغاء صلاحیات "بنك سوریة ولبنان"، وتأسیس مصرف سوریا المركزي عام 1956.

كما أسّست لعدد من المشاریع والمنشآت العامة الھامة، منھا مصفاة بانیاس ومشروع توسیع مرفأ اللاذقیة إلى جانب استصلاح أكثر من ملیوني ھكتار ورفع مستوى التحدیث في أدوات العمل الزراعي(1). یعود السبب الذي دفع البرجوازیة الوطنیة لاتّخاذ قرارات التأمیم إلى طبیعتھا الصناعیة التي فرضت علیھا السیطرة على المرافق العامة والسلطة النقدیة، ومن الأمثلة الأخرى التي تشیر إلى طبیعتھا الصناعیة، ھو إلغاؤھا الوحدة الجمركیة مع لبنان عام 1950 على اعتبار أن اقتصاد الأخیر یعتمد على حریة التجارة الخارجیة وھو ما كان لیضرّ القطاع الصناعي السوري.

اشتراكیة ناصر السلطویة

وقع حكم البرجوازیة الوطنیة في سوریا طوال فترة الخمسینات بین ضغطین؛ داخلي تمثّل بالاستیاء الشعبي في أوساط العمال والفلاحین من تردّي الأوضاع المعیشیة التي كانت لتضفي الشرعیة لانقلاب یأتي تحت یافطة الاشتراكیة، وخارجي سببه مواقفھا الوطنیة الرافضة للانخراط في المشاریع الأمريكية التي كادت أن تطیح بھا بانقلاب(2) مدعوم أميركياً عام 1957.

في ظلّ ھذه الظروف الصعبة اختارت حكومة شكري القوتلي اللجوء إلى مصر طلباً للوحدة دون أن تدرك أنها تأخذ معها البرجوازية الوطنية إلى حتفها. تصاعد ارتیاح البرجوازیة الوطنیة لنظام الحكم الجدید بسبب قانون العمل الذي أُصدره النظام الجديد، حيث زاود لجھة التضییق على النشاط السیاسي والنقابي للعمال على القانون السابق لعھده، إذ منعت بموجبه نقابات العمال القیام بأيّ إضراب أو التحریض على نظام الحكم أو المناداة بأسلوب إنتاج آخر. باختصار، كان فحواه واضحاً، استمرار علاقات الإنتاج الرأسمالیة(3). كما اطمأنّت البرجوازیة الوطنیة لوضعھا، مع ازدياد اضطھاد عبد الناصر للیساریین، فازدادت استثماراتھا ومنشآتها الجدیدة في السنة الأخيرة من عھد الوحدة(4).

محاولة لفك "شيفرة" الاتفاق النفطي بين الإدارة الذاتية وشركة "دلتا" الأمريكية (جزء 1)

12 تموز 2021
مرّ عام كامل على الإعلان عن اتفاقٍ نفطي بين شركة دلتا الأمريكية والإدارة الذاتية (الكردية) في شمال شرق سوريا، ذهبت خلاله إدارة ترامب الراعية للاتفاق وجاءت إدارة جديدة أبطلته مؤخراً....
محاولة لفك "شيفرة" الاتفاق النفطي بين الإدارة الذاتية وشركة "دلتا" الأمريكية (جزء 2)

19 تموز 2021
مرّ عام كامل على الإعلان عن اتفاقٍ نفطي بين شركة دلتا الأمريكية والإدارة الذاتية (الكردية) في شمال شرق سوريا، ذهبت خلاله إدارة ترامب الراعية للاتفاق وجاءت إدارة جديدة أبطلته مؤخراً....

إلا أن النظام الناصري لم یركن للوضع السیاسي، لیس بسبب تمدّد نفوذ البرجوازیة الوطنیة في الإقلیمین الجنوبي والشمالي فحسب، بل أیضاً بسبب الاستیاء الشعبي من القمع السیاسي وتردي الأوضاع الاقتصادیة، فقدّم لهم المنافع الاقتصادية والاجتماعية، بديلاً عن الحريات السياسية، وكان بذلك مؤسّساً للعقد الاجتماعي الاستبدادي، الذي تجلّى في سوریا، كما في مصر، بجملة من مراسیم التأمیم أحالت ملكیة أكبر 15 شركة صناعیة في سوریا، وجمیع المصارف، إلى الملكیة العامة.

تكریس العقد الاجتماعي الاستبدادي

خاض البعث بعد انقلابه في آذار 1963 صراعاً سریعاً وغیر متكافئ مع البرجوازیة الوطنیة التي طالبت المنقلبین بالمشاركة في الحكم، واستخدمت للضغط علیھم سلاح الإضراب والامتناع عن الاستثمار، فكان رد سلطة البعث حزمة من قرارات التأمیم، انتزعت بموجبھا سلاح البرجوازیة الوطنیة وملكيتها لأكبر 216 منشأة صناعیة، بلغ حجم رأسمالھا مجتمعة نحو 440 ملیون ل س(5)، تقدّر قیمتھا الدولاریة الیوم بأكثر من ملیار دولار أمریكي. بذلك انتقلت إلى ید البعثیین جمیع المنشآت الصناعیة الكبیرة والمتوسطة, ولم یتبق للقطاع الخاص سوى المنشآت الصغیرة والحرفية، التي مُنعت بموجب القانون 29 عام 1965 من العمل في 143 فرعاً صناعیاً، وھو ما صعّد مخاوف أصحاب الأعمال ودفعھم إلى الامتناع عن توسیع أعمالهم والإبقاء على منشآتھم صغیرة لتكون بعیدةً عن سیاسات التأمیم.

استمرّ تمدّد سیطرة البعث في الفضاء الاقتصادي والاجتماعي عبر جملة من القرارات أدت في نھایة المطاف إلى إحكام قبضته على التجارة الداخلیة والخارجیة، وعلى الھیاكل الإداریة والتنظیمیة للمؤسسات العامة من مستشفيات ومدارس وجامعات، واستبدال عمل المنظمات الخیریة والمدنیة، عبر التضییق علیھا، وعدم منح ترخیص لمنظمات جدیدة، بما أسماه "المنظمات الشعبیة"(6) التي شملت فضاء العمل النقابي والطلابي والنسوي. وبذاك أصبح أي نشاط، مھما كانت صفته، مؤطّراً بھیاكل سلطویة تفرض الانتساب إلى البعث أو بالحد الأدنى إظهار الولاء والرضا عن حكمه. (7)

بالتنازل الشعبي، إرضاءً أم إكراهاً، عن المشاركة السياسية، تحقّق الطرف الأول من معادلة العقد الاجتماعي الاستبدادي. لكن مقابل هذا التنازل لم تقدّم سلطة البعث المنافع الاجتماعية والتنمية الاقتصادية التي وعدت بها، حيث فشلت الخطتین الخمسیة الأولى والثانیة (1960-1970) في تحسين الأوضاع الاقتصادية. وبالرغم من الاختلال المبكر للعقد الاجتماعي، إلا أنّ سیاسة الإصلاح الزراعي (إعادة توزیع الأراضي على صغار الفلاحین) وحركة التأمیم التي لاقت دعماً لدى فئات من الطبقة العاملة، إلى جانب قمع الأصوات المعارضة، وتأمین ولاء الجیش، مكنت البعثیون من الاستمرار في الحكم، وإن كان على أرضیة ھشّة. وبتأمیم ملكیة البرجوازیة الوطنیة یكون المسار الثاني لتأسیس القطاع العام قد وصل إلى نھایته.

(ف. ب. فيكتوروف، اقتصاد سورية الحديثة (مشكلاته وآفاقه)، ت هشام الدجاني، دار البعث، دمشق، 1970، ص 70)

الاقتصاد الریعي في خدمة توسیع القطاع العام

يُؤرّخ لأزمة ارتفاع أسعار النفط في السبعینیات، بوصفھا مساھمةً في انھیار العدید من الأنظمة الدیكتاتوریة التي وجدت نفسھا عاجزةً عن الإیفاء بالعقد الاجتماعي الاستبدادي، لتكون ھذه الأزمة أحد أسباب اندفاع الموجة الثالثة من التحوّل الدیمقراطي التي شملت 31 دولة بین عامي 1974- 1989.(8)

لكن في الدول المنتجة للنفط، ومنھا سوریا، أفضت الأزمة الاقتصادیة بنتائج عكسیة، حیث ساھمت تراكمات العوائد النفطیة في تقویة السلطة وتكریسھا للعقد الاجتماعي الاستبدادي، فقد تزامنت ھذه الأزمة مع توسّع الإنتاج المحلي من النفط الذي كان قد بدأ في عام 1968، حیث وصلت إيرادات القسم المصدّر منه بین عامي 1980 و1981 فقط إلى نحو 1.8 مليار دولار(9) (تبلغ قيمتها اليوم أكثر من 5.6 مليار دولار)، كما تزامنت أیضاً مع تدفق المساعدات العربیة إلى سوریا، والتي وصلت بین عامي 1973 و1985 إلى نحو 11 ملیار دولار(10)، وبأرقام الیوم، فإن قيمتها تبلغ أكثر من 43.3 مليار دولار.

یضاف إلى المصدرین الریعيین السابقین تحویلات السوریین العاملین في الخلیج، والتي تعتبر مصدراً ھاماً للقطع الأجنبية، إذ قدّر حجمھا السنوي خلال السبعینیات بنحو 750 ملیون دولار سنویاً.

شكلت مصادر التمویل الریعیة بشقیھا السیاسي والنفطي، الأرضیة المناسبة لتوسیع القطاع العام، وھي المرحلة الثالثة في مسیرة بنائھا. خلال الفترة من 1970 وحتى عام 1980، توسّع القطاع العام بسرعة كبیرة، لدرجة وصف ھذه الحقبة "بطفرة السبعینیات"، فبین عامي 1971 و1975، أُنشئ نحو 60 مصنعاً جدیداً وتمّ بناء وتطویر خطوط إنتاج جدیدة في نحو 23 مصنعاً قائماً(11). أما بین عامي 1975 و1980 فظھر ارتفاع كبیر في مجمل السلع الإنتاجیة للقطاع العام. 

(منير الحمش، تطور الاقتصاد السوري الحديث، ط أولى، دمشق، 1983، ص300)

سمحت طفرة السبعینیات للنظام بتحقیق قدر معقول من التنمیة الاقتصادیة وتوزیع المكاسب الاجتماعیة التي وجدت طریقھا عبر قناتین رئیستین؛ ھما التوظیف، والسلع والخدمات المدعومة أو شبه المجانیة.

لجھة التوظیف، فإنّ الإحصاءات تظھر ارتفاعاً كبیراً في أعداد العاملین في جھاز الدولة، ففي القطاع الصناعي لوحده ارتفع عدد العاملین من نحو 61 ألف في عام 1975 إلى أكثر من 132 ألف في عام 1980(12). أما لجھة السلع المدعومة، فإنّ سلّة من السلع الأساسیة كانت تباع بأسعار مخفضة تصل في الكثیر منھا إلى حدود تكلفة إنتاجھا، وفي بعضھا قد تصل إلى أقل من التكلفة. ینطبق ذلك أیضاً على خدمات الطبابة والتعلیم التي كانت شبه مجانیة. وفي ھذا السیاق، فإن توزیع المكاسب الاجتماعیة والاقتصادیة استفادت منھا جمیع الشرائح والفئات، وإن كان بشكل متفاوت، وأصل التفاوت ھذا، لم یكن عائداً للتفاوت في حجم العمل المبذول أو في درجة الكفاءة والاتقان، كما ھو مفترض في دولة اشتراكیة، بل كان أصل التفاوت فئویاً بین البعثیین وغیرھم، وفي ھذا التمایز أیضاً تفاوت بین أعلى الھرم البعثي وقواعده. وبذاك نمت البذرة الأولى للإحساس الشعبي بغیاب العدالة الاجتماعیة، ھذا الشعور الذي راح ینمو باطراد بالتوازي مع ازدیاد انعدام المساواة.

(نشوء القطاع العام وتوسعه منذ العام ١٩٤/ من تصميم الباحث)

الانكشاف على الواقع

أتى عقد الثمانینات بظروفٍ معاكسة، إذ أدى تراجع أسعار النفط بدایة العقد إلى توقف المساعدات العربیة في منتصف الثمانینات، وإلى انخفاض إیرادات الإنتاج المحلي من النفط، كما وأثرت سلباً على حجم تحویلات السوریین العاملین في الخلیج العربي.

كشف التراجع الشدید لمصادر التمویل الخارجي عن السمات الرئیسیة التي اتسم بھا توّسع القطاع العام، من سوء التخطيط والإدارة الذي ظھر في الكثير من المشاريع الفاشلة، لعل أبرزھا معمل الورق في دیر الزور الذي كلف إنشاؤه 110 مليون دولار (13). وضعف الكفاءات الإدارية والتقنية، بسبب منح الأولوية في التعيين للبعثيين على حساب الكفاءات من غیرھم، وتدخل جھات وصائیة متعدّدة في عمل مؤسسات القطاع العام، بما فیھا أجھزة الأمن. أدى ذلك كله إلى ضعف إيرادات منشآت القطاع العام، التي عجزت عن تمویل نموّھا ذاتیاً، كما أدى إلى انخفاض استغلال الطاقة الإنتاجية المتاحة التي لم تتجاوز حدود الـ50% بین عامي 1980 و1985، واستمرت بالتراجع بعد ذلك. ھذا إلى جانب تردي جودة المنتج النھائي.

أما السمة الثالثة فھي الفساد؛ الذي لا یمكن اعتباره أمراً ھامشیاً سببه "ضعاف النفوس" كما یروّج النظام منذ عقود، بل ھو منظومة متكاملة مرتبطة برأس السلطة وجزءٌ من آلیتها لتَملكُ القطاع العام، أي جعله شركة قابضة یترأسھا ویدیرھا أفراد العائلة والمقربین منھا والعاملین لدیھم، وتزیح ھذه المنظومة القوانین والإجراءات الرسمیة لصالح الأعراف والقوانین غیر المكتوبة، وھي السائدة على حساب الأولى، ولعل أبرز تمظھرات آلیاتھا ھي عقود السمسرة والوساطة للتعاقد مع الشركات الأجنبیة لبناء المنشآت العامة وتجھیزاتھا ومعداتھا، واستیراد المواد اللازمة للعملیة الإنتاجیة، التي كانت تلتھم جزءاً كبیراً من ثمار النمو الاقتصادي، وتعد النواة الأولى لتشكل البرجوازیة البیروقراطیة. ھذا إلى جانب التطبیع مع ظاھرة الرشوة، وانعدام الشفافیة، وإضعاف آلیة تقدیم الشكاوى، وانعدام المحاسبة التي اتضحت حينما شكلت لجنة "الكسب غير المشروع" في منتصف السبعينيات، التي انتهت بإطلاق سراح من اعتقل بتهمة الفساد، وإغلاق جميع ملفات الفساد.(14)  

اقتصاد الحرب السورية

03 أيلول 2019
عمل النظام السوري منذ البداية ببراغماتية كبيرة، فكان سريع التأقلم مع التطورات الكبيرة التي هزت المجتمع السوري، وهزت مؤسساته، وهددت كيانه. واستطاع تجيير موارد الدولة لصالحه فيما يدعم موقفه عسكريًا،...

بخلاف ما یروّج له عن دور الأسد الابن في اللبرلة الاقتصادیة بوصفها مرحلة قطیعةٍ مع السیاسات الاقتصادیة السابقة، فإن تراجع نظام الأسد عن دور القطاع العام الاجتماعي ھو صیرورة متصلة ظھرت ملامحھا في منتصف الثمانینات حینما أفسح المجال للقطاع الخاص للعمل في مجالي التجارة الداخلیة والخارجیة، وتراجعت حجم الاستثمارات في القطاع العام، وتزامنت أیضاً مع تراجع حجم الإنفاق الاجتماعي، الذي أدى إلى خلق معیار جدید لتوزیع المكاسب الاجتماعیة، ففي الوقت الذي كان الإنفاق الاجتماعي یتناقص، كان عدد السكان قد ارتفع من نحو 6.3 مليون في عام 1970 إلى أكثر من 8.9 مليون  عام 1980، كما باتت قواعد البعثیین أضخم من أيّ وقت مضى، وھو ما دفع رأس السلطة إلى إضافة معیار جدید لتوزیع المكاسب الاجتماعیة؛ ھو البعد الطائفي، وبذاك فقد البعث صفة الانتماء إلى السلطة كقاعدة سیاسیة لحكمه، وإن ارتبط مصیر وجود الحزب به، إلا أنّ مصیر السلطة لم یعد مرتبطا بوجود الحزب، بل بات مرتبطا بعائلة الأسد. استمرت ھذه الحالة بالتطور وأصبحت السلطة تُختصر بعائلة الأسد، ولم یعد ھو نفسه، أي رأس النظام، یولي اھتماماً بمشاركة قیادات الحزب بقراراته، كذلك تحولت الجبھة الوطنیة التقدمیة إلى واجھة كرتونیة لا یتنازل حتى  لحضور اجتماعاتھا بل یرسل من ینوب عنه لحضورها.

القطاع الخاص البدیل الاضطراري

خرج الاقتصاد السوري من عقد الثمانینات بأزمة ركودٍ حادة كانت لتفاقم اختلالات العقد الاجتماعي الاستبدادي إلا أنه استطاع الصمود في عقد التسعینیات عبر الریع السیاسي والسماح للقطاع الخاص بالمشاركة في الحیاة الاقتصادیة. أما الریع السیاسي فقد تمثل بالمكافآت المالیة الخلیجیة التي تلقاھا نظام الأسد بعد مشاركته في التحالف العسكري الذي قادته الولایات المتحدة لطرد الجیش العراقي من الكویت عام 1991، واستثناءه من قانون العقوبات الأممیة على العراق المعروفة باسم "النفط مقابل الغذاء"، إذ سُمح للبضائع السوریة بموجب ھذا الاستثناء، وأحیاناً غض الطرف عن تجاوز حدوده، من العبور إلى الأسواق العراقیة التي كانت بأمس الحاجة إلیھا بسبب الحصار الخانق.

كما استفاد النظام من اتفاقیة المدفوعات مع الاتحاد السوفیاتي التي سمحت بدفع جزء من الدیون العسكریة المتراكمة (13 ملیار دولار) من الصادرات السلعیة بدلاً من النقد، وھو ما مكن القطاع العام من التخلص من فائض إنتاجه الذي راح یصدّر إلى الاتحاد السوفييتي دون الاكتراث بجودته(15).

خلال عقد التسعینیات، وتحدیداً في عام 1991 أفسح المجال أكثر لتوسیع دور القطاع الخاص عندما صدر القانون رقم 10 في العام نفسه، الذي یعد أھم تحوّل في السیاسات الاقتصادیة للنظام، حیث أزیلت الحواجز التي كانت تمنعه من الاستثمار وقدمت له تسھیلات وإعفاءات ضریبیة وجمركیة. لكن لماذا اختار نظام الأسد التوّجه نحو القطاع الخاص، في حین أنّ القطاع العام یؤمن له سیطرة مباشرةً على المجتمع؟ في الحقیقة ھو لم یكن اختیار بمقدار ما كان قرارا اضطراریاً، فبعد أن استنزف القطاع العام واتضح فشله، لا بسبب من طبیعته بل بسبب آلیة إدارته التي أفقدته القدرة على النمو، وبالتالي القدرة على تلبیة احتیاجات السوق المحلیة من السلع، وتوظیف الآلاف من الشباب الداخلین إلى سوق العمل، وتأمین الإیرادات لتوزیع المكاسب الاجتماعیة. إذن أمام ھذه المعطیات قرّر الأسد اللجوء إلى القطاع الخاص، لكن بحكم معرفته أن صعود البرجوازیة الوطنیة سیؤدي لاحقاً إلى المطالبة بإصلاحات سیاسیة، كان خیار الأسد في منح القطاع الخاص الفرصة للصعود على حساب القطاع العام مشروط بالحصول على تغطیة من إحدى جھات السلطة أو إرضائھا ببعض المكاسب، وسیاسة "الغطاء" ھذه تتناسب طرداً مع حجم الاستثمار، فكلما ارتفع حجم الاستثمار ارتفعت معه وزن الجھة التي سیكون المستثمر مجبراً على إرضائھا، وفي حالات كثیرة مشاركتھا بنسبة من الأرباح. كما سعى النظام لتأمین سیطرته على مفاصل القطاع الخاص عبر عائلته والمقربین منه.

التحدیث السلطوي للعقد الاجتماعي الاستبدادي

سعى الأسد الابن منذ خلافته لأبیه إلى تسریع عملیة التحول الاقتصادي عبر تحریر التجارة الخارجیة وتأمین الأرضیة لجذب الاستثمارات الأجنبیة، وأزال احتكار القطاع العام من معظم النشاطات الاقتصادیة، وذلك خلال الفترة بین عامي 2000 و2005، والتي عرفت باسم "ثورة المراسیم"، إذ أصدر خلالھا 1200 قانون ومرسوم وقرار إداري جمیعھا تصب في الاتجاه ذاته.(16)

في الوقت نفسه أصبح الحدیث عن "إصلاح مؤسسات القطاع العام" متداولاً في إعلام النظام وعلى ألسنة مسؤولیه، الذین لم یتردّدوا في الكثیر من الأحیان عن وصم مؤسساته بالفشل والفساد والھدر. 

على أرض الواقع بات جلیاً تراجع دور القطاع العام الإنتاجي، فبین عامي 2000 و2011 تراجع حجم إنتاج مؤسسات القطاع العام بصورة غیر مسبوقة، وصلت في الكثیر منھا إلى انخفاض نسبي یتراوح بین 40 إلى 60% منھا وفي أنواع أخرى وصلت نسبة الانخفاض ما بین 80% وأكثر من 90%، كما توقف إنتاج 25 نوع من السلع من أصل 121 نوعاً كان ینتجھا، والذي كان نتیجة لتوقف الكثیر من المنشآت كمصنع الورق والإطارات وغیرھما.

(المصدر: المكتب المركزي السوري للإحصاء، المجموعات الإحصائية من عام 2000 وحتى عام 2011)

لم یتوقف الأمر عند انسحاب جھاز الدولة عن دورھا التنموي، بل انسحب أیضاً على دورھا في الدعم الاجتماعي، حیث رفع الدعم جزئیاً عن العدید من السلع، أھمھا المحروقات، وامتد أیضاً لقطاعي التعلیم والصحة، حیث ازدادت رداءة الخدمات والإھمال وتباطؤ النمو في كلا القطاعین، مقابل ارتفاع أعداد المشافي والمدارس والجامعات الخاصة، أي لم یأتي دخول القطاع الخاص في ھذین القطاعین في إطار منافسة مع القطاع العام بل لسد الفجوة التي تركھا.

بالرغم من التوّسع الاقتصادي الكبیر للقطاع الخاص إلا أنّ المنظومة الاقتصادیة التي وضعھا الأسد مكنته من الإمساك بمفاصله، إذ وصلت سیطرة الواجھة المالیة للعائلة الحاكمة "رامي مخلوف" على الاقتصاد السوري إلى ما نسبته 60% في عام 2011 بحسب صحیفة التایمز البریطانیة.

المنظمات والمؤسسات السلطویة

إذن، على صعید القطاع الإنتاجي، بشقیه السلعي والخدمي، استبدل نظام الأسد القطاع العام الذي كان یسیطر علیه بصورة مباشرة بالقطاع الخاص الذي أمسك بمفاصله عبر واجھاته المالیة وأجھزته الأمنیة. لكن ذلك لم یكن كافیاً للحفاظ على شروط العقد الاجتماعي الاستبدادي، فالقطاع الخاص الذي كان یعمل وفق آلیات سوق مشوّھة تتحكم بھا الطغمة الحاكمة لم یستطع تحقیق تنمیة اقتصادیة تعود بالنفع على معظم الطبقة الوسطى والفقیرة. أمام ھذا الواقع أسّس نظام الأسد لبدیل اجتماعي ومالي للخدمات التي كان یقوم بھا جھاز الدولة و"المنظمات الشعبیة"، وھو الجمعیات الخیریة والمؤسسات الأھلیة أو المجتمع المدني، لكن بخلاف ما تشیر إلیه ھذه التسمیات، فإنھا لم تكن تعمل بإرادة مدنیة، أي أن نشاطھا لم یكن خارج إطار السلطة، بل ھي مؤسسة بدفع منھا، ولصالحها كانت تعمل، واختیار الأسد لھذا البدیل كان مدفوعاً بحقیقة أنّ مؤسسات المجتمع المدني بمختلف نشاطاتھا الخیریة والاجتماعیة والتنمویة تؤمن فوائد لا یمكن لجھاز الدولة تأمینه، فمن جھة تحسّن ھذه المؤسسات من صورته أمام المجتمع الدولي، لیظھر بمظھر النظام السیاسي العصري الذي یسمح بوجود مجتمع مدني یشارك في الحیاة الاجتماعیة، كما یوفر له، وھو الأھم، تمویلاً دولیاً لا یمكن أن یحصل علیه إلا في إطار ھذه المؤسسات، كما تسمح ھذه المؤسسات باجتذاب أموال الطبقة المتوسطة والغنیة، كما تجذب أبناءھم للعمل كمتطوعین فيھا، وبالتالي إدماجھم في سیاق اجتماعي یروّج "للانفتاح والتحدیث" الذي یقوده الأسد الابن، دون أن تتحمل السلطة أي تكالیف.

بھذه العقلیة دفع الأسد المقربین منه، إلى تأسیس جمعیات ومؤسسات تحت شعارات العمل الخیري والتنموي، فارتفع عددھا من 650 مؤسسة في عام 2005 إلى 1485 في عام 2010(17)، وبخلاف الإطار الضيق الذي وضعته السلطات، لنشاط الجمعیات الخیریة الذي كان ینحصر بالمساعدات المادیة للفقراء والأیتام منذ العام 1963، فإن الجمعیات والمؤسسات التي أسّسھا المقربون من الأسد أو بغطاءٍ منه، شملت العمل التنموي، بما فیه الدورات التعلیمیة والتدریبیة والتأھیل المھني ومساعدة المقبلین على الزواج، وإحداث برامج التنمیة الریفیة، والمحافظة على التراث، ومناصرة قضایا النساء(١٧)، باختصار على الجانب الاجتماعي ضمر عمل المنظمات الشعبیة حتى أصبح مھمشاً، وعلى الجانب الخیري والتنموي سعى النظام إلى جعلھا رديفة للاعتمادات المالیة للدولة المخصصة للدعم الاجتماعی، التي أخذت میلاً عاماً نحو الھبوط منذ العام 2000.

(أيمن الدسوقي، وسنان حتات، مرجع سابق، ص 4. Laura Ruiz de Elvira and Tina Zintl، مرجع سابق، ص 333)

فشل نظام الأسد الابن في تحقیق التوازن في معادلة العقد الاجتماعي الاستبدادي، فلا القطاع الخاص، بتركیبته التي صنعھا له، استطاع تحقیق التنمیة الاقتصادیة, ولا الجمعیات والمؤسسات السلطویة تمكنت من أن تأخذ دوراً بدیلاً أو أن تعوّض جزئیاً على الأقل التراجع الكبیر للدعم الاجتماعي خلال العقد الأول من حكمه، والذي انتھى بارتفاع معدلات التضخم حتى وصلت في عام 2008 إلى أكثر من 15% وارتفاع المعدل الوسطي للبطالة بین عامي 2006 و2010 لأكثر من 9%، وباختلال ھیكلي في بنیة الاقتصاد السوري، ظھر في تراجع مساھمة قطاعي الزراعة والصناعة في الناتج المحلي الإجمالي بين عامي 2000 و2010، بنسبة 78% و16% على التوالي لحساب التضخم في قطاعي الخدمات والبناء بنسبة 50% لكل منھما، وفي قطاع التجارة بنسبة 6%، وفقاً لبيان المكتب المركزي السوري للإحصاء.

أدى التشوّه في بنیة الاقتصاد السوري إلى اضطرار مئات الآلاف من السوریین للھجرة من الأریاف إلى أحزمة الفقر في المدن الكبرى بعد أن تراجعت الجدوى المعیشیة من الإنتاج الزراعي الذي أھمل لعقود، لیتجھوا للعمل في قطاعي الخدمات والبناء والتجارة. وبھذا بات واضحاً أنّ العقد الاجتماعي الاستبدادي، قد وصل إلى مرحلة الفشل في تحقیق الحد الأدنى من معادلة السكوت عن المشاركة السیاسیة مقابل التنمیة الاقتصادیة والمنافع الاجتماعیة. وبفشل الأسد ونقضه للعقد الاستبدادي وبأحلام السوریین بغد أفضل خرجت الملایین في آذار 2011، تحتج وتطالب بالعدل والمساواة والحریة.

أفول القطاع العام

أطلقت الحرب، وبید نظام الأسد قبل غیره، رصاصة الرحمة على القطاع العام الذي أصبح بلا شك بحكم المنتھي، وبلغة الأرقام توقف إنتاج 67 نوع من المنتجات الأساسیة، معظمھا في قطاعي الصناعة الغذائیة والھندسیة، أي أنّ ما تبقى من أنواع السلع التي ینتجھا القطاع العام ھو 53 سلعة فقط، وصل معدل الانخفاض النسبي في إنتاجھا مقارنةً بعام 2011 إلى نحو 80% في صناعة الأغذیة والمشروبات والأسمدة والصناعات الھندسیة والنسیجیة.

(المكتب المركزي السوري للإحصاء).

یؤكد عرض حكومة الأسد لـ38 منشأة من منشآت القطاع العام في أیلول 2021 عدم رغبته في إعادة إحیائه ولو جزئیاً، بل تظھر العروض المعلن عنھا على موقع الھیئة السوریة للاستثمار، بأنّ ما یھمه منھا ھو تحصیل أكبر مبلغ مقابل استثمارھا، فلا تشترط عروض الاستثمار في معظمھا ممارسة النشاط الصناعي نفسه عند الاستثمار بل تترك الحریة للمستثمر لیفعل ما یریده بالمنشأة. أما توزیع المكاسب الاجتماعية عبر السلع المدعومة، فأصبح حكراً على سیدة القصر التي تملك بواسطة الواجھات المالیة الشركة المسؤولة عن تشغیل "البطالة الذكیة" التي یحصل من خلالھا السوريون على جمیع السلع المدعومة، بما فیھا الخبز والمحروقات وبعض السلع كالأرز والزیت وغیرھما من السلع التي یحصل علیھا السوريون بكمیات شحیحة، وبعد مدة طویلة تتجاوز في الكثیر من الأحیان ثلاثة أشھر، وفي أحیان كثیرة قد لا یحصلون علیھا نھائیاً، أو یتخلون عنھا بسبب صعوبة الوصول إلیھا. إذن انسحب جھاز الدولة الرسمي تماماً من الحیاة الاقتصادیة لجھة إنتاج السلع، لیبقى توزیع السلع المدعومة، المتحكم بھا عبر أذرعه الاقتصادیة، الخیط الوحید الذي تبقى للدور الاجتماعي/ الاقتصادي لجھاز الدولة الرسمي.

عسكرة المجتمع والجمعيات السلطوية

في الوقت الذي انقسم فيه الشارع السوري بداية الثورة بين مؤيدٍ ومعارض، وفي ظلّ تدهورٍ للأوضاع المعيشية؛ سعى نظام الأسد إلى عسكرة المجتمع كإجراء يخدم أهدافه المرحلية، إذ عمل على تعيين عشرات آلاف الشبان في وزارتي الدفاع والداخلية، ليرتفع عدد العاملين على ملّاك وزارة الدفاع من 200 ألف قبل اندلاع الثورة إلى نحو 500 ألف بحلول عام 2019، كما ارتفعت أعداد عناصر وزارة الداخلية من أقل من 5000 إلى أكثر من 55000 للفترة نفسها بحسب بيانات المكتب المركزي السوري للإحصاء، ذلك عدا عن العشرات من الميليشيات والفصائل التي قاتلت إلى جانبه. لم يهدف الأسد من تجنيد هذا العدد الهائل من حملة السلاح إلى زجّهم في أرض المعركة، وإن كان قد استخدم الكثير منهم لهذا الغرض، بل أيضاً لكسب ولائهم ونقلهم إلى معسكر المدافعين عنه، فقد كان الآلاف منهم منتشرين في الأحياء البعيدة عن خطوط التماس، والمنشآت الحكومية، بما فيها الجامعات والمشافي وغيرها. دون أن يتعدى استخدامهم للسلاح استعراض القوة وممارسة الترهيب، فمعظمهم لم يكن لديهم أي خبرة قتالية ولم يخضعوا لمعسكرات تدريب، بل إنّ عدداً منهم كان من الموظفين المتقاعدين، أي بأعمار لا تسمح لهم بأن يخوضوا معارك حقيقية. إذن كسب نظام الأسد ولاء أعدادٍ كبيرة من حملة السلاح مقابل مبالغ مالية ضئيلة، ومكّنهم من استخدام السلاح لتحقيق مكاسب اجتماعية وامتيازات اقتصادية، مستغلاً تدهور الأوضاع المعيشية التي سحقت الطبقة الفقيرة التي ينتمي إليها الكثيرون ممن حمل السلاح لصالحه.

من جهة أخرى، استغل نظام الأسد الجمعيات والمؤسسات السلطوية التي أسس لها أرضية معقولة بين عامي 2005 و2011، عبر إجبار تمرير التمويل الدولي المقدّم للشعب السوري عبرها، وبشروطه الخاصة، التي تمثلت في تحديد الشريك السوري (المنظمة أو الجمعية الخيرية) لتنفيذ برامج الإغاثة أو التنمية المجتمعية التي تنظمها المنظمات الدولية غير الحكومية ووكالات الأمم المتحدة، وعبر تلك الممارسات تحوّل جزء كبير من التمويل الدولي منذ العام 2011 إلى إدارة الجمعيات والمنظمات التي يسيطر عليها القصر، ويأتي في مقدمتها، الأمانة السورية للتنمية التي يترأّس مجلس إدارتها أسماء الأسد، وجمعية البستان الخيرية التي أسسها رامي مخلوف، حيث تلقّت الأمانة السورية للتنمية من وكالتين تابعتين للأمم المتحدة أكثر من 8.5 مليون دولار حتى عام 2016، فيما تلقت جمعية البستان الخيرية 268 ألف دولار من منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، علما أنّ الجمعية أسست جناحاً عسكرياً بين عامي 2013 و2014 شارك في الأعمال القتالية لصالح النظام.

أراد نظام الأسد من السيطرة على التمويل الدولي تحويله إلى أداة لتوزيع المكاسب الاجتماعية لمؤيديه، ليكونوا حاضنته وأداته لسحق معارضيه، ولعل أبرز الأمثلة على ذلك هو برنامج "جريح الوطن" الذي أطلقته الأمانة السورية للتنمية في عام 2014، بهدف دعم جرحى مقاتلي النظام، وأُسر القتلى منهم. كذلك عملت جمعية البستان الخيرية خلال سنوات الصراع على تقديم رواتب شهرية ومنح مالية لعناصر الأجهزة الأمنية والعسكرية، كما تظهر خريطة انتشار دعمتها انتقائيتها في تقديم المساعدات التي بالكاد تنحصر بالطائفة العلوية، إذ وقع نحو 92% من نشاطاتها المستمرة والمؤقتة في مواقع ذات غالبية شيعية أو علوية(19). 

لا تتوقف سيطرة الأسد على التمويل الدولي من خلال المنظمات السلطوية التي تدار بواسطة أذرعه، بل تمتد أيضاً إلى التدخل في المساعدات ومشاريع الإغاثة والترميم التي تقوم بها منظمات غير حكومية دولية، حيث يجبر الأسد تلك المنظمات على الحصول على موافقات أمنية قبل قيامها بأي نشاط أو مشروع، فلا يسمح على سبيل المثال ترميم منازل المعارضين، بل تستبعد أسمائهم لصالح المقربين من السلطة. من جهة أخرى، استطاع الأسد استغلال التمويل الدولي في تحويله إلى مصدر للكسب لمؤيده، فمنظمة الهلال الأحمر، العين الرقيبة على عمل جميع المنظمات الدولية والمحلية، والشريك الأساسي لها، ترتبط آلية تعيينها بقنوات السلطة، وبتفضيلاتهم. في حين أن عدد المتطوعين في الهلال الأحمر يتجاوز الـ12 ألفاً، فإنّ عدداً كبيراً منهم انضموا إلى صفوفها عبر واسطة من جهات مقرّبة من السلطة، وبالمثل لم تسلم الوكالات التابعة للأمم المتحدة من التدخل والضغط في عملية التعيين، إذ سبق وأن كشفت صحيفة الغارديان عن وجود شخص واحد على الأقل من المقربين من السلطة أو من أبنائهم، على قوائم الرواتب والأجور في كلّ وكالة من وكالات الأمم المتحدة العاملة في سوريا. 

السكوت مقابل الحياة

تراجع التمويل الدولي المخصّص لسوريا منذ العام 2019 وتراجعت معه حجم المساعدات المقدمة من المنظمات المحلية والدولية، كما تراجعت نشاطاتها وأعداد موظفيها، تزامن ذلك مع تدهور اقتصادي أكثر حدةً مع التضخم الكبير في الأسعار بعد أن انخفضت قيمة الليرة السورية مقابل الدولار ليتراوح سعرها في السوق الموازية مذاك ما بين 3000 إلى 4000 مقابل الدولار، فيما لم تؤد إجراءات الأسد الاقتصادية، سوى إلى مزيد من التراجع الاقتصادي على جميع المؤشرات، حتى بات أكثر من 90% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر. لكن ذلك لم يعن للنظام شيئاً، فلم يعد السكوت عن المشاركة السياسية مقابل التنمية الاقتصادية والمكاسب الاجتماعية قائماً، لأن العقد الاجتماعي الاستبدادي للنظام اليوم يقوم على معادلة السكوت عن المشاركة السياسية أو حتى الشكوى من الأوضاع مقابل السماح بالبقاء على قيد الحياة. ذاك هو العقد الاجتماعي الذي بات عليه نظام الأسد اليوم.

إعادة إحياء العقد الاجتماعي للاستبداد

بغض النظر عن المآلات السياسية للثورة السورية، فزوال النظام قادم يوماً ما، وإن كان الخطر مازال محدقاً أمام تطبيعٍ إقليمي أو دولي أو سكوتٍ يبقيه مسيطراً، وبأموال قد تدخل إلى خزائنه بحجة تمويل إعادة إعمار المرافق الأساسية للحد من الفقر أو تحسباً من مجاعة تضرب السوريين. هذا كله قد يفضي إلى إعادة كتابة العقد الاجتماعي للاستبداد بيده أو بيدٍ أخرى، وبنفسٍ أرهقها التعب قد يرضى الناس بتجديد العقد. وتلك مأساة أخرى، وسخرية من تاريخٍ قد يعاد.

المراجع

1: ف. ب. فيكتوروف، اقتصاد سورية الحديثة (مشلاكته وآفاقه)، ط غ م، ت هشام الدجاني، دار البعث، دمشق، 1970، ص 39.
2: وليد رضوان، العلاقات العربية- التركية، طبعة أولى، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، 2009، ص127-129.
3: بدر الدين السباعي، المرحلة الانتقالية في سورية في عهد الوحدة 1958- 1961، ط1، دار ابن خلدون، بيروت، 1975، ص303.
4: المصدر السابق، حيث جاء في كتاب بدر الدين السباعي: "أما العامان الأخيران من أعوام الوحدة، فقد كانا عامي إقبال نسبي على التوظيف (المقصود به توظيف الاستثمارات) ففيهما تبدت هوية «الاشتراكية» العهد على حقيقتها، وفيهما جرت حملات عنيفة ضد اليسار. وضد ديمقراطية الجماهير، كما امتدت هذه الحملات إلى ما وراء الحدود، حيث أخذ الكيد للحكم الجديد في العراق أوجه..." من كتاب المرحلة الانتقالية في سوريا، عهد الوحدة 1958-1961. كما استندت أيضاً إلى أرقام الشركات الجديدة المؤسسة والمرخصة بتوسعتها، والتي بلغت في عام 1960 نحو 414 فيما بلغت في عامي 1959 و1958 نحو 346 و356. الصفحة 193 المرجع نفسه.
5: ف. ب. فيكتوروف، اقتصاد سورية الحديثة (مشلاكته وآفاقه)، ط غ م، ت هشام الدجاني، دار البعث، دمشق، 1970، ص 67.
6: Laura Ruiz de Elvira and Tina Zintl, “THE END OF THE BA ʿTHIST SOCIAL CONTRACT IN BASHAR AL-ASAD'S SYRIA: READING SOCIOPOLITICAL TRANSFORMATIONS THROUGH CHARITIES AND BROADER BENEVOLENT ACTIVISM”, International Journal of Middle East Studies, Vol. 46, No. 2, SPECIAL ISSUE: Politics of Benevolence (May 2014), pp 333.
7: (ف. ب. فيكتوروف، اقتصاد سورية الحديثة (مشكلاته وآفاقه)، ت هشام الدجاني، دار البعث، دمشق، 1970، ص 70).
8: صامويل هانتنجتون، الموجة الثالثة، التحول الديمقراطي في أواخر القرن العشرين، ط أولى، ت عبد الوهاب علوب، دار سعاد الصباح، الكويت، 1993، ص113.
9: منير الحمش، تطور الاقتصاد السوري الحديث، ط أولى، دمشق، 1983، ص 319.
10. منير الحمش، الاقتصاد السوري في أربعين عاماً (1971- 2010)، ط أولى، منتدى المعارف، بيروت، 2011، ص63.
11: منير الحمش، مرجع سابق، ص 294: 297.
12: منير الحمش، تطور الاقتصاد السوري الحديث، مرجع سابق، ص 308.
13: أيهم أسد، الاقتصاد السوري المهدور، النمو اللامستقر والتنمية الضائعة في نصف قرن (1960- 2010)، ط أولى، دمشق، 2014، ص 54.
14: منير الحمش، الاقتصاد السوري في أربعين عاماً (1971- 2010)، مرجع سابق، ص 90.
15: أيهم أسد، مرجع سابق، ص 80.
16: محمد جمال باروت، العقد الأخير في تاريخ سورية: جدلية الجمود والإصلاح، ط الأولى، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2011، ص 56.
17: أيمن الدسوقي وسنان حتات، دور العمل الخيري في الحرب السورية: المنظمات غير الحكومية برعاية النظام والجمعيات الخيرية التابعة للجماعات المسلحة، مركز روبرت شومان للدراسات العليا، تقرير مشروع بحثي، 6 تموز 2020، ص 4.
18: Laura Ruiz de Elvira and Tina Zintl, pp 333.
19: أيمن الدسوقي وسنان حتات، دور العمل الخيري في الحرب السورية: المنظمات غير الحكومية برعاية النظام والجمعيات الخيرية التابعة للجماعات المسلحة، مركز روبرت شومان للدراسات العليا، تقرير مشروع بحثي،6 تموز 2020.، ص 9: 16.

مقالات متعلقة

دوافع ريادة الأعمال في فترات الصراع واللجوء

18 تموز 2019
دراسة تتحدث عن ريادة الأعمال في زمن الصراع، وتتخذ من الحالة السورية نموذجا، حيث تم اختيار دمشق كمدينة تمثيليّة لأصحاب المشاريع في بلد النزاع، حيث تتمتع باستقرار أعلى نسبيًا من...
الأملاك وحرب القانون والنظام الاجتماعي الجديد في سوريا.. فهم القانون رقم 10

27 تموز 2018
يتخوّف سوريون كثيرون من أنّ القانون رقم 10 مجرّد أداة لمعاقبة مناصري المعارضة وتغيير الديموغرافيا السورية عبر إعادة إسكان داعمي الأسد من أنحاء مختلفة من البلاد في المناطق العربية السنية.
حرب الغاز وعلاقتها بالأزمة السورية

02 تشرين الثاني 2019
كتب الكثير عن العوامل الجيوسياسية والاقتصادية والداخلية المتعلقة بالأزمة السورية، إلا أن جانبا من جوانب هذه المواجهة لم ينل القدر ذاته من الاهتمام، على الأقل حتى الأزمة الأخيرة بين قطر...
الشراكة بين القطاعين العام والخاص في سورية

19 تشرين الثاني 2019
بدأت الحكومة السورية الترويج لنموذج تنمية اقتصادية مبني على مبادئ الشراكة بين القطاعين العام والخاص وخصخصة المنفعة العامة كأساس لإعادة إعمار البلاد وللتجدّد الاقتصادي. الباحث القدير، جوزيف ضاهر، يناقش في...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد