أرسم كل الكلام الذي رغبت أن أضع خطاً تحته


"بما أنني من هواة الكتب رحتُ أضع خطاً تحت كلّ جملة في أيّ رواية أقرأها، مفادها أنّ الحبّ هو الحبّ بصرف النظر عن جنس الطرفين! كم مرةً طاردت عيناي ما يدافع عن هويتي الجندرية ويبيح لي حب الفتاة التي سحرتني"، هذا ما يقوله الكاتب والفنان ورد زراع في هذا النص، والذي يحدثنا فيه عن تجربته في مقاربة الكويرية في الحياة والأدب من خلال نصين، أحدهما للشاعر السوري، نزار قباني، والثاني للكاتب المسرحي الرحل، سعد الله ونوس.

26 أيار 2023

(ورد زراع)
ورد زراع

كاتب و رسام فلسطيني, يعكس فنّه قضايا الأقليات ويركز على التقاطعات بين الهويات المكانية والجنسية والسياسية.

(هذه المادة جزء من ملف حكاية ما انحكت "أصوات كويرية، بإداة وإشراف المحرّر الضيف، فادي صالح)

اعتدتُ دائماً أن آكل نفسي حتى لا ينقص الآخرون، وقلتُ إنني ناقص! كم سأحفر داخلي حتى أصل تلك البقعة الخرساء؟

وأنتِ! كم مرّةً كان عليكِ أن تعانقي حبيبتكِ وهي تُزَفُ لرجلٍ غيركِ؟ وأنتَ! كم تباهيت بصور بناتٍ وهميات وسردت لصديقك المزواج كيف استسلمن بين يديكَ لتُخفي حبكَ له؟ وأنتم! كم مرّة وأنتم في سرير زوجكم الغافي، عانقتموه ليلاً كي تبعدوا خيالها عن وسادتكم؟

كم مرّةً وكم مرّة… قد يظنّ أحدهم أنني قد أخطأت في كتابة ضمائر الكلمات السابقة، وأنني أسندتها لغير أصحابها، فأيّ فتاة ينافسها رجلٌ على قلب امرأة؟

أقول لكم هذه بعض مشاهد مما لا تعرفوه عن حياة سرية موازية للعالم النمطي المغاير بلونيه الواضحين الأبيض والأسود. أكتب لكم عن أرض الرمادي والألوان...

هممممم

01 تموز 2022
"هممممم" سلسلة قصيرة من الرسوم المصورة لـ”قضوضة"ضمن ملف "الكويريّة والعبور الجندري في المشهد الثقافي السوري”. تأتي هذه المشاركة كدعوة من "قضوضة" لإعادة التأمل ببعض المفاهيم المؤثرة على المختلفين/ات وغير النمطيين/ات...

ذات مساء قبل الحرب في سوريا، دعاني صديق لي أنا وآخرين (الشلة)،  لنشاهد فيلم "ألكساندر". كان فيلماً طويلاً تقريباً ثلاث ساعات، لم يكن صديقي من هواة هذا النوع من الأفلام، فاستغربت تصرفه. لكنني انتبهت إلى يده التي ترتجف، وهي تمسك جهاز التحكم بالتلفاز. خلال مشاهدتنا الفيلم كان يتعمّد أن يرفع الصوت عند الحوار بين "ألكسندر" و"هيفايستن" الشاب الذي وقع في حبّه. لمحتُ عينيه بعد كلّ مشهد كيف كانت تنتقل خلسةً بين الوجوه، تريد أن تقرأ ردود أفعالنا تجاه حبّ لم يكن مباحاً في شوارع مدينتنا، وفهمت حينها أنه يريد أن يخبرنا عنه من خلال الفيلم. أذكر نظرته وابتسامته حين ابتسمت له بعد مشهد (البوح بالحب بين الرجلين)، وأفكر بنفسي كم مرّة أردتُ أن أرفع الصوت في حوار مسلسل أو فيلم تقول شخصياته ما لم أجرؤ حينها على قوله. لكن بما أنني من هواة الكتب رحتُ أضع خطاً تحت كلّ جملة في أيّ رواية أقرأها، مفادها أنّ الحبّ هو الحبّ بصرف النظر عن جنس الطرفين! كم مرةً طاردت عيناي ما يدافع عن هويتي الجندرية ويبيح لي حبّ الفتاة التي سحرتني.

كنتُ قد بدأت الكتابة في سنٍ مبكرة، وقد ساعدتني كثيراً في نقل ما يدور داخلي، مستتراً برمزية الشعر أو شخصيات وهمية تتحرّك في قصص قصيرة كنت أكتبها. بعد ذلك بسنوات، تعدّت حاجتي التفريغ بعالم الكلمات المجرّد وصرت بحاجة الانتقال إلى المحسوس. أردت أن أخلق العالم الموازي الذي أهرب إليه وأعيش فيه كرجل. فبدأت الرسم! أول اعتراض وُجّه لي كان للوحة رسمتُ فيها فتاة تجلس على رخام رمادي، وكان النقد من صديقة لي، لها يد قوية في الرسم وعين صقر في النقد، لا سيما تفاصيل تشريح الجسد. أصرّت يومها على أنّ أحد الكتفين في اللوحة هو كتف رجل وليس لجسد المرأة المرسومة. انتبهت بعد ذلك أنني في كلّ إمرأة رسمتها جعلت أحد كتفيها كتف رجل! لم أقصد ذلك بدايةً لكن رجلاً داخلي كان يصرخ بطريقته من خلال يدي. أدركتُ حينها أنني أستطيع أن أرسم كلّ ما أريد رؤيته حين أنظر في المرآة. ورسمت وجهي كما أراه بعيني لا بعيون الآخرين.

قررت أن أرسم كل الكلام الذي رغبت أن أضع خطاً تحته ليبصره الآخرون من عيوني.

بعد 2011، بعد الحرب، الرحيل الجماعي الكبير، الجوع، الموت، والخسارات، انتقلت  (ككل من حولي) من المجتمع، القبيلة، والأسرة إلى الفردي. كان هذا الانسلاخ الأوّل اللاواعي الذي حدث كنتيجة عن انقلاب الطاولة رأساً على عقب. صار الخروج من الخزانة أسهل وصارت الأنا في داخلى أقوى، أحيانا عليك أن تغادر لتعود إلى نفسك. لم تعد يدي ترتجف عند الرسم. صرت أخطّ شعرات اللحية الخفيفة على وجهي بضربات ريشة قوية، عشوائية، وثابتة، وبدأت بتعلّم الرسم بالألوان الزيتية.

من يرسم يعرف الفرق بين ألوان الإكريليك التي اعتمدتها طويلاً قبل اليوم، والتي تجفّ بسرعة ولا يمكن تصحيح الخطأ فيها إلا بعد طليه بالأبيض والبداية من جديد، وبين الألوان الزيتية التي تحتاج أياماً لتنشف فوق قطعة الكانفس، مما يتيح لي التراجع مرّات ومرّات عن أيّ خط رسمته ويسمح  بسهولة التصحيح أو التعديل دون الحاجة للون الأبيض.

أنني في كلّ إمرأة رسمتها جعلت أحد كتفيها كتف رجل! لم أقصد ذلك بدايةً لكن رجلاً داخلي كان يصرخ بطريقته من خلال يدي

في السابق أردت أن أرمي ما أخاف منه بسرعة أمام عيني، وبألوان جفّت بسرعة لم يعد بإمكاني التراجع عما قالته يدي. أردت الهرب من سجن الخوف والتردّد والكتمان إلى اللاعودة عمّا رسمت. اليوم أرسم بالزيتي وبالأكريليك. أحياناً كثيرة بالأكريليك لكن بروح الزيتي. وهذا ما فعلته هنا، حيث اخترت نصان أدبيان سوريان وكويريان ورسمت ما رأته عيناي كرجل كويري. لم أشهد مسبقاً في سورية رسماً احتوى على شخصية كويرية. زرت العديد من المعارض وشاركت بعدد منها مع عدّة فنانين في دمشق. كانت الجرأة بالأعمال تتناول رسم الأجساد عارية، ولم تكن هناك في اللوحات التي رأيتها رسماً لشخصية غير نمطية لما هو متعارف عليه للذكر وللأثنى. لم أجد نفسي في أيّة لوحة من كلّ ما رأيت.

دراما كويريّة سوريّة

19 آب 2022
في هذه المادة والرسومات، يعود بنا الفنان طارق السعدي بالزمن إلى الجيل الذهبي للدراما السوريّة، مسلطًا الضوء على بعض "الشخصيات الكويريّة" التي ظهرت في مسلسلات تابعناها وأحببناها، ولكن "يمكن انتست"....
سالينا: بدون عنوان

22 تموز 2022
في هذا الفيديو، تقدم سالينا أباظة مادة بصريّة حميميّة وشخصيّة، تسمح لنا بالدخول إلى عالمها الخاص الذي يبقى دون عنوان، وتأخذنا بذاكرتها إلى العديد من الأماكن والأحداث والذكريات والشخصيات والتجارب...

وللحقيقة ما كنت لأجرؤ على رسم وعرض لوحةٍ من هذا النوع. لم يكن الخروج من الخزانة بالأمر المطروح حينها. كانت الكويرية مقترنة بالإحساس بالعار، والاختلاف عن النمط كان يُسمّى شذوذاً.

في تحضيري لهذه المادة لملف "الكويرية والعبور في المشهد الثقافي السوري"، عدت للكتب مكاني الأول ورسمت ما رأيته من نصين كتبا عن عالم الملوّنين المخفي. الأول كان قصيدة لنزار قباني عنوانها "القصيدة الشريرة". من مجتمع محافظ تسوده أحكام القبيلة يكتب باللغة العربية عن الحبّ بين إمرأتين. في الحب خارج إطار الصور النمطية المعروفة لما هو مسموح، مقبول، ومحلّل كالعلاقة الجنسية بين امرأة و امرأة مثلاً، دائماً هناك الخطوة الأولى التي تأتي بعد صراع طويل مع الذات ومراحل عديدة من النكران. كأن تفك إحداهن أزرار قميص امرأة أخرى، هنا استستلام واضح لحقيقة الرغبة، للحب بين طرفين، لممارسة الحب لا الجنس فقط. اعتراف ضمني وعلني للطرف الآخر أنّ العلاقة انتقلت لمدارٍ جديد لا تماهي فيه خلف أسماءٍ وهمية كالصداقة. هذا أكثر ما أردتُ رسمه. لحظة الاعتراف تلك. لحظة البوح من خلال الأصابع أنّ قلبي هناك معكِ أنت، وأنّ أنتِ هي من أريد.

ويغادرُ زر عروتهُبفتورٍ ، فالليلُ صباحُ

الذئبةُ تُرضع ذئبتهاويدٌ تجتاحُ وتجتاحُ

ودثارٌ فرَّ.. فواحدةٌتُدنيه

 وأخرى ترتاحُ

وحوارُ نهودٍ أربعةٍ تتحاور والهمس مباح.

(نزار قباني، مقطع من القصيدة الشريرة)[1]

(رسم ورد زراع)

أما ما أبهرني كان النص الثاني، وهو طقوس الإشارات والتحولات ( ١٩٩٤) للكاتب المسرحي سعد الله ونوس. لا أذكر كم مرّة، وأنا أقرأه كان عليّ التوّقف عن القراءة والسير في الغرفة ممتلئاً تماماً بالكلمات. كانت الشخصيات تفيض داخلي بحواراتٍ جريئة، حزينة، وحقيقية جداً. في الواقع، أنا ما كنتُ أعرف هذه المسرحية قبل بحثي عنها خلال هذا الملف، من هنا أستطيع الاعتراف بنجاح السلطات في بلدي والرقابة بحجب الأدب الحقيقي الملامس لحيوات الناس اليومية. فقر المعرفة في الشارع وافتقاره للتسميات التي يوّضحها الأدب للقرّاء فيبصروا ذواتهم. كان نصاً مفاجئاً لي بكمّ الصدق فيه وعمق الوصف لتجربة وقوع "العفصة" في حبّ "أبو الفهد"، وبوحه له بهذا الحب، وما ترتب على ذلك من عواقب نفسية واجتماعية وجسدية "للعفصة" في بيئة سورية محافظة.

لم أشهد مسبقاً في سورية رسماً احتوى على شخصية كويرية.

في المشهد الثالث من المسرحية، ينهر ويرفض أبو الفهد العفصة بسبب تحوّل الأخير من رجل "رجولي" المظهر والتصرفات إلى شاب ناعم و"أنثوي" الهيئة والحركات. يرد "العفصة" ردّا يظهر مدى الإيجابية في تقديم شخصية "العفصة" ونقد سعدالله ونوس لأخلاقيات المجتمع السوري الجنسية المحافظة: "لا تقتلني يا أبا الفهد. ما فعلتُ هذا إلا من أجلك. وأنت تعرف أنّ ما فعلته باهظ التكاليف عليّ. إنه في بلادنا كالموت أو أسوأ من الموت. ولكنك تتظاهر بالغضب وبالنفور لأنك تبحث عن حجة كي تقطع ما بيننا (يغصّ وينخرط في البكاء) إني لا أتحمل هجرانك.. إني لا أتحمّل أن ترميني بعد أن غيّرت تكويني. غدوت كالماء في صفائه ووضوحه. كيفما نظرت إليّ ستجدني واحداً. هيئتي هي سريرتي وسريرتي هي هيئتي. ألم تقل أنك تنفر ممن له مظهر ومخبر! وما فعلته أنني أظهرت مخبري، ولم يبق لديّ ما أكتمه أو أخفيه. أردتُ أن أقوّي أسباب الودّ بيني وبينك، وأن أعترف دون مداراة أو تستّر أني أعشقك. هذا العشق هو الذي جرّأني على نفسي وعلى الناس، وهو الذي يمدّني بالشجاعة وبالحياة".(طقوس الإشارات والتحولات، ص٩٩)[2]

كيف استطاع الونوس أن يكتب عن دينامية حب وجنس غير نمطية كهذه وبطريقة تعاطفية واضحة مع شخصية العفصة؟ وكيف ونحن من كتبنا لم نكن نعرفه. لا أعمّم هنا لكنني أتكلم عني وعن كلّ من لم يقرأ هذه المسرحية. لن أتكلم أكثر هنا فهي نص تجب قرأته كاملاً، ولأكثر من مرّة.

لطالما كانت تفاحة آدم رمزاً للرجولة وللشهوة، ولطالما تكرّر على مسامعنا.. تسكن قلبه عيناها، ضحكتها، وما إلى ذلك. لكن ماذا لو كان من يسكن قلبه هو رجلٌ آخر مثل "العفصة" وحبيبه "أبو الفهد"؟

(طقوس الإشارات والتحولات/ رسم ورد زراع)

كل مرحلة تحمل أيديها، عيونها، وأسماءها معها. اليوم ككويرين/ات سوريين/ات نحن في بداية مدار جديد ندورفيه حول هوياتنا في محاولة لفهمها. نكتشف ذواتنا والآخرين بكلمات وألوان سيكتب عنها الغد الكثير. بعد سنوات ستجلس أو يجلس أحدهم في قهوة كما أجلس الآن أمام حاسوبي ويكتب عن نصوص خطّها كويريون بأيدٍ مرتجفة ربما، ليس من الخوف هذه المرّة، وإنما لأننا نعرف أنّ أثر الفراشة لا يزول.

 المراجع:

[1] نزار قباني، ١٩٥٦، ديوان قصائد

[2] سعد الله ونوس، ٢٠٠٨، طقوس الإشارات والتحولات ، دمشق: دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع (صدرت المسرحية لأول مرة عام ١٩٩٤).

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد