(هذا المقال جزء من ملف بالشراكة بين "حكاية ما انحكت" و"أوريان ٢١"، يستكشف عواقب الزلزال المدمر الذي ضرب تركيا وسوريا في فبراير 2023).
بعد بضع ساعات من مطلع يوم 6 شباط/ فبراير 2023، كانت عاصفة شتوية شديدة تضرب العاصمة اللبنانية بيروت، ووسط أصوات الرياح الشديدة وزخات المطر، هزّ زلزال غير معهود، لا يشابه على الإطلاق تلك الهزّات الخفيفة العابرة التي لا يكاد يشعر بها أحد كلّ عام أو عامين، أرض بيروت ومبانيها، مُفزعًا السكان الذين غادر كثيرون منهم منازلهم، حتى قبل الزلزال الثاني الذي لحق الأول بعد دقائق.
ما هي إلا دقائق حتى زالت الصدمة الأولى وبدأت تطبيقات التواصل الاجتماعي تتناقل المزحات بشأن ما حصل، متناولة إياه بسخرية، دون أن يدرك كثيرون أنّ عشرات ألوف البشر على مسافة بضعة مئات الكيلومترات شمالًا قد تغيّرت إلى غير رجعة، معتقدين أنّ الخوف الذي أصاب سكان بيروت دون الدمار، هو ما حصل في باقي المناطق المجاورة. وبين رسائل المزاح والإطمئنان، وتناقل الأخبار والإشاعات، بدأت صور ضعيفة الوضوح بالوصول من المناطق الأشدّ تضرّرًا، كانت صورة جامع التوحيد الضخم والشهير في حلب، مقصوف المآذن الأربع الشاهقة صدمة جديدة، منذرة بالأخبار الأسوأ التي لم تصل بشكل واضح بعد، تلتها صورة لمبنى منهار في منطقة العزيزية في حلب مع أخبار عن ضحايا وعالقين تحت الأنقاض.
ساعات، وبدأت فداحة الكارثة بالانكشاف عن دمار ضاع تلمسه وسط تشويش اللحظات الأولى للزلزال الذي كان هائلًا في بيروت البعيدة، فكيف هو الوضع في جنوب تركيا وحلب وإدلب وريفهما؟!
سورية... طبقة جديدة من البؤس
طال الزلزال في الجانب السوري مناطق واسعة في محافظتي حلب وإدلب بشكل خاص، مناطق تحت سيطرة النظام السوري، وأخرى تحت سيطرة قوى المعارضة، وجاء في موسم شتائي، بل في أحد أكثر الأسابيع قسوة لجهة الظروف المناخية، فالبرد قارس وكان هناك عاصفة استمرت لأيام، وزادت على مآسي السكان المنهكين على طرفي مناطق السيطرة، طبقة جديدة من البؤس.
وعلى الرغم من اختلاف ظروف منطقتي السيطرة وسكانها، إلا أنّ ثمّة تشابه فيما يُقاطع السوريين هنا وهناك. فمن جهة مناطق سيطرة النظام تقف الدولة عاجزة لا حول لها ولا قوة، فقبل استنفاد مواردها وإمكانياتها وفسادها المستشري، افتقدت أجهزة النظام ومؤسساته أصلًا للنية في ممارسة دورها الذي يجب أن يكون في مواجهة كارثة مماثلة. أما من جهة مناطق المعارضة، فلا وجود لهيكل دولة أصلاً، والسكان متروكون لمبادرات ومشاريع منظمات المجتمع المدني محدودة الموارد، والدعم الفردي الذي لا يمكن له مواجهة، ولو جزء يسير مما حصل.
بعد حدوث الزلزال انتقلت إلى تركيا للتطوّع مع منظمة هناك تنشط في أعمال الإغاثة، وكان الانطباع الذي تشكّل لديّ من متابعة التقارير المتعلقة باستجابة الحكومة التركية للزلزال، مفاده أنّ هذه الحكومة مقصّرة في التعامل مع ما حصل ومتأخرة في الاستجابة على صعيد السرعة وحجم التدخل. لكن، عقب وصولي إلى المناطق المتضرّرة في تركيا والاطلاع عن كثب على حجم الأضرار وامتدادها، ومع الأخذ بعين الاعتبار الظروف المناخية المرافقة للحدث، تبدّل الانطباع إلى سؤال: إذا كانت الاستجابة في بلد واسع تسوده حكومة قوية وبنى تحتية متقدّمة وخبرة في التعامل مع الكوارث لم تسمح بتدخل كاف في الأيام الأولى، نظراً إلى فداحة الأضرار وانتشارها، فكيف هي الأوضاع في سوريا، حيث لا دولة فعلية قادرة، ولا إمكانيات، ولا من يحزنون؟
زلزال بعد ١٢ عاما من الإنهاك
المعلومات والشهادات في السطور التالية كتبت بالاعتماد على مصادر مختلفة، منها مقابلات مع 3 ناشطين إغاثيين وإنسانيين في مدينة حلب، وإعزاز، وريف إدلب.
في مناطق سيطرة النظام السوري في حلب، أفادت المعلومات المتوفرة أنّ السكان كانوا حتى من قبل الزلزال في حالة من الإنهاك الشديد غير المسبوق بعد 12 عامًا على اندلاع الصراع في بلدهم، جرّاء التضخم وتراجع المداخيل وتردّي الحالة المعيشية، بل و"تعوّد شريحة واسعة في مناطق ذات غالبية مسيحية على تلقي المساعدات واعتبار أنّ التمويل الآتي إلى المنظمات إنما يرد "على اسمهم"، وأنّ حقهم فيه ثابت بالتالي" كما يقول أحد الشهود.
يمكن مع الأخذ بعين الاعتبار بعض الاستثناءات، تقسيم حالة المتضرّرين في حلب والأعمال الإغاثية التي طالتهم إلى قسمين: القسم الذي يطول السكان المسيحيين والقسم الذي يطول الأكثرية المسلمة، تقسيم لا طائفي بالمعنى المعتاد للكلمة، إذ يستند إلى استفادة المجتمع المسيحي في المدينة من ميّزات يفتقد إليها بشكل أو بآخر مواطنوهم وجيرانهم المسلمين، تمثّل في شبكة واسعة وقوية مرعية كنسياً من التضامن، والاتصالات الوثيقة مع جهات داعمة في الغرب (كنسية كانت أم غير كنسية)، بالإضافة إلى تسامح أو غض نظر معقول من قبل النظام تجاه هذا النشاط في المجتمع المسيحي.
زاد من سوء الأوضاع المماحكات الديبلوماسية ومحاولات استغلال الكارثة لتحقيق مكاسب سياسية وتسجيل نقاط في سياق صراع سياسي لم يأبه بالضحايا الحقيقيين
في حالة القسمين المذكورين، استفاد المتضررون دون تمييز منهجي بين شرائحهم لجهة درجة التضرّر من مساعدات غير نظامية تدفقت عبر أفراد ومجموعات محلية غير رسمية، اعتمدت بشكل خاص على المغتربين السوريين. بحسب شهادات مواطنين ساهموا في إطلاق مبادرات مساعدة للمتضرّرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، من أهم سمات هذه المساعدات هو بعض الصعوبات في جمع وتحويل التبرعات إلى سوريا، والأكثر في استلامها وتداولها في مناطق سيطرة النظام، ثم توزيعها دون منهجية واضحة، خاصة في الأيام الاولى التي تلت الكارثة، والوعي الذي لم يكن على الدوام مبكرًا بما يكفي لحقيقة أنّ هذه الموجة الواسعة من التعاطف والتضامن من خلال الدعم والتبرعات، لن تستمر طويلًا.
أما من ناحية المناطق التي تسيطر عليها قوى المعارضة، فقد كان الوضع أسوأ بشكل واضح، فحتى لو شكى النظام من قلّة الدعم الخارجي الرسمي لضحايا الزلزال في مناطق سيطرته، إلا أنّ مناطق المعارضة كانت مشلولة مع إغلاق الشريان شديد الحيوية الذي يربطها بالأراضي التركية التي تأتي عن طريقها قوافل الدعم والمساعدات، وزاد من سوء ذلك المماحكات الديبلوماسية ومحاولات استغلال الكارثة لتحقيق مكاسب سياسية وتسجيل نقاط في سياق صراع سياسي لم يأبه بالضحايا الحقيقيين، وبالإضافة طبعًا إلى أنّ الجانب التركي من الحدود كان منشغلًا تمامًا بالاهتمام بمصابه.
مستوى لا بأس به!
وعلى جانبي مناطق السيطرة، جرى تأمين مستوى لا بأس به من الاحتياجات اليومية لنسبة مرتفعة من المتضرّرين كالغذاء والملبس، لكن مشكلة الإيواء كانت التحدّي الأبرز، فالقدرة الشرائية شبه المتلاشية حالت دون تمكّن المتضرّرين في مناطق سيطرة النظام من تدبر أمور الإيواء، وصارت صالات الجوامع والكنائس بديلًا جماعيًا مؤقتًا استمر لأسابيع لإسكان المتضرّرين قبل تدبّر أمورهم من خلال ترميم بسيط للمنازل بقدرات فردية، وفي مناطق سيطرة المعارضة كان الافتقار إلى الخيم اللازمة شديدًا حتى حين توّفرت بعض الأموال اللازمة لسدّ هذا الاحتياج.
الأمر الذي كان ملحوظًا في المنطقتين هو توّجه المساعدات وأعمال الإغاثة إلى المناطق الأبرز أو الأشهر، كالمراكز الحضرية دون الأطراف التي بقيت في كثير من الحالات متروكة دون اهتمام يذكر، والسؤال المتكرّر لدى المتضامنين في هوية الجهات الجديرة بالثقة لتوجيه التبرعات والمساعدات لها، فمن جهة مناطق النظام، كان الاعتماد الحذر على الأقارب والمعارف في الداخل، وعلى بعض المجموعات غير الرسمية التي عملت بحذر وخوف من بطش النظام، وبعض الجهات المرخصة التي تتمتع بسمعة حسنة، كجمعية الإحسان الخيرية في مناطق النظام، والخوذ البيضاء وفريق ملهم التطوعي في مناطق المعارضة.
تكرّرت الشهادات والمشاهدات من جهة مناطق سيطرة النظام، بشأن عدم وجود دليل محلّ ثقة على وصول المساعدات التي أعلن عن قدومها من بعض الدول إلى المتضرّرين من الزلزال، وعن بيع بعض هذه المساعدات في الأسواق، ووُثقت حالات لم يجر التمكّن فيها من إيصال مساعدات ضخمة إلى مناطق سيطرة النظام لأسباب بيروقراطية، وأخرى تتعلّق برغبة الأمانة السورية للتنمية في احتكار استلام هذه المساعدات والتحكّم فيها.
إحدى الشهادات وثقت عن وسائل الإعلام السورية الرسمية وصول أكثر من 150 طائرة وعشرات الشاحنات التي حملت مئات الأطنان من المساعدات الإغاثية دون أن تنعكس على حسن الاستجابة لحاجات المتضرّرين بشكل واضح ومتناسب.
وعود لم تتحقّق
بعد امتصاص الصدمة الأولى خلال الأسبوعين الأولين بعد الزلزال، بدأت أعمال مسح هندسي متفاوت الاحترافية تطول المنازل المتضررة في مناطق سيطرة النظام، سواء بجهود جمعيات محلية كنسية وغير كنسية أو بوساطة نقابة المهندسين مثل دائرة العلاقات المسكونية والتنمية ودير الرهبان الفرنسيسكان في حلب، ومع تراكم الوعود بانطلاق ورشات الترميم، بناءً على أعمال المسح التي أجريت لم يتم تنفيذ إلا أعمال ترميم محدودة حتى اليوم، لجهة كمّ المنازل المّرممة ونوعية الترميم المختار، والذي لم يكن كافيًا في كثير من الحالات، حيث اضطر بعض المتضرّرين إلى ترميم منازلهم قدر استطاعتهم على نفقتهم الخاصة، أو من خلال مساعدات وردت من أقاربهم في الخارج أو حتى الاستدانة، ومنهم من عاد إلى منزله الذي بقي على حاله على الرغم من خطورة السكن قبل الترميم، فحالة "التشرّد" في مراكز الإيواء وتراجع الموارد اللازمة للاهتمام باحتياجات اللاجئين إليها، دفع كثيرين إلى البحث عن حلول فردية، ولو كانت حلول مبتورة وغير كافية أو حتى خطرة. الجدير بالذكر في هذا السياق، أنّ كلفة مواد البناء والترميم قد ارتفعت بشكل ملحوظ، شأنها شأن أجور اليد العاملة التي يسود افتقار شديد إليها.
وثقت إحدى الشهادات عن وسائل الإعلام السورية الرسمية وصول أكثر من 150 طائرة وعشرات الشاحنات التي حملت مئات الأطنان من المساعدات الإغاثية دون أن تنعكس على حسن الاستجابة لحاجات المتضرّرين بشكل واضح ومتناسب
في منطقة جبرين قرب حلب جرى توفير 500 وحدة سكنية مؤقتة للمتضرّرين كبداية، لم يعرف من سيكون المستفيد منهم على وجه التحديد، إذ جرى تداول إشاعات أنها ستكون مخصّصة للنازحين، لا فقط للمتضرّرين من الزلزال.
من جهة مناطق سيطرة المعارضة، فقد كانت المناطق الأكثر تضرّرًا على سبيل المثال لا الحصر اعزاز وعفرين وجنديرس وسلقين وحارم وسرمدا والدانا، حيث وصلت نسبة المباني المتضرّرة بشدّة في بعض أجزاء هذه المناطق إلى 40%، وما قد يكون قد خفّف قليلًا من أضرار الزلزال في هذه المناطق هو نمط الأبنية ذات الطابقين أو الثلاثة عوضًا عن الأبنية المرتفعة.
ما هو الحال اليوم؟
اليوم، بعد مرور أكثر من 4 أشهر على الكارثة، لم تمح بعد الآثار الأكثر بروزًا للزلزال في مختلف المناطق السورية المتضرّرة على درجات، فظاهر العودة إلى روتين الحياة يخفي الكثير من البؤس، واعتياد السكان على مدى أكثر من عقد على الاعتماد فقط على قدراتهم الذاتية. ومع كلّ مصيبة جديدة، من قصف، إلى تضخم، إلى زلزال، يُسقط هؤلاء إلى حضيض جديد ليتحسّروا على وضعهم السيء السابق الذي كان أقلّ قساوة عليهم مما يعايشونه اليوم.
ساهم في هذه النتيجة أنّ الكارثة كانت عظيمة و"لا يمكن لأي دولة في حالة طبيعية أن تكون جاهزة للتعامل مع كارثة بهذا الحجم" بحسب أحد الناشطين الإنسانيين في ريف حلب، كما أنّ التردّي الشديد لأحوال السكان على مدى العقد الماضي حرمهم من القسم الأعظم من قدراتهم الذاتية، المالية والنفسية، على المواجهة والتأقلم.
ومن جهة، أعادت الكارثة الاهتمام إلى السوريين واستجلبت لهم بعض الدعم والمساعدات، ولكن تركيز الاهتمام على الزلزال وضحاياه حرم فئات أخرى شديدة الضعف من دعم ضروري، كهؤلاء الذين هم بحاجة مساعدات طبية ودوائية ضرورية ودورية.
ما زالت الحاجة ماسة في مختلف المناطق المتضرّرة إلى حصر كلّ المتضررين، وتوزيعهم على فئات بحسب درجة التضرّر ومقدار الحاجة إلى المساعدة، وتقديم مساعدات مستدامة على صعيد الإيواء والدعم الأوّلي الضروري لإعادة الانطلاق من جديد، والمرافق الضرورية كالمدارس، والحلول القانونية بشأن الأبنية المنهارة أو المهدّدة بالانهيار، والتعامل مع مشكلة فقدان الأوراق الثبوتية والرسمية الضرورية، وبدون شك الدعم النفسي المتخصّص، البعيد عن الممارسات غير المحترفة، لشرائح واسعة من السكان في المناطق المتضرّرة على اختلاف فئاتهم العمرية.
استجابة متوسطة وطويلة المدى كهذه لا يمكن أن تتم دون تمويل ودعم ضخمين، وخبرات خارجية ربما، من غير الممكن توّفرها ووصولها إلى الأماكن اللازمة دون تغيير سياسي جدّي، لا بدّ منه في دمشق.