(هذا المقال جزء من ملف بالشراكة بين "حكاية ما انحكت" و"أوريان ٢١"، يستكشف عواقب الزلزال المدمّر الذي ضرب تركيا وسوريا في فبراير 2023).
المقدمة
في 6 شباط/ فبراير 2023، تعرّضت سوريا لزلزال مدمّر أسفر عن مقتل حوالي 6,000 شخص وإصابة 12,000. ضاعفت هذه الكارثة مأساة السكان السوريين الذين هم في وضع مُزري أصلًا، وأدّت إلى تدمير هائل وأضرار مادية جسيمة. نتيجة لذلك، تفاقمت التحديات الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع، ممّا رفع معدلات التضخم والبطالة. تتناول هذه المقالة الأثر الاجتماعي والاقتصادي للزلزال على السكان السوريين.
الآثار الإنسانية والدمار
كان للزلزال تأثير عميق على أكثر من 8.8 مليون فرد يقيمون في محافظات إدلب وحلب واللاذقية، وبدرجة أقل حماة وطرطوس. وكان المتضرّرون بشكل خاص، من المقيمين في مناطق يسيطر عليها الجيش التركي والجماعة السلفية الجهادية المسلحة، هيئة تحرير الشام، حيث تجاوز عدد القتلى 4500 قتيل وأكثر من 8700 جريح. شُرّد الآلاف، ودُمر أكثر من 10600 مبنى، إما جزئيًا أو كلّيًا. للأسف، كانت المساعدات الإنسانية الدولية محدودة وبطيئة جدًا في الوصول إلى هذه المناطق، على عكس المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري، والتي تلّقت مساعدات كبيرة من أكثر من 30 دولة. في الوقت نفسه، سعى النظام السوري إلى تعزيز سلطته من خلال محاولة السيطرة أو التأثير على تنظيم وتوزيع المساعدات الإنسانية في جميع أنحاء البلاد.
وفقًا لتقرير صادر عن البنك الدولي، تسبّب الزلزال في أضرار مادية مباشرة تُقدّر بنحو 5.1 مليار دولار (الأرقام تتراوح ما بين 2.7 مليار دولار و7.9 مليار دولار نظرًا لضبابية المعلومات الأساسية)[1].
في أيار/ مايو 2023، أعلنت الأمم المتحدة أنّ التقديرات الأولية للتعافي بعد الزلزال في سوريا، قد قُدّرت بحوالي 9 مليارات دولار من الأضرار والخسائر، و14.8 مليار دولار من احتياجات الانتعاش على مدى الثلاث سنوات القادمة.
من حيث الأضرار المادية، تكبّد قطاع الإسكان الضرر الأكبر، حيث أشار تقرير البنك الدولي إلى أنّ أكثر من 87,000 وحدة سكنية، ما يعادل 4.8% من إجمالي الوحدات السكنية في سوريا، دُمّرت جزئيًا أو كلّيًا. بلغت قيمة الممتلكات المتضرّرة أو المدمّرة، ما يقارب من 881 مليون دولار، وهو ما يعادل حوالي 10% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. وتُقدّر الاحتياجات الاقتصادية للإعمار والانتعاش بحوالي 7.9 مليار دولار. وعلاوة على ذلك، أدى الزلزال إلى فقدان وظائف أكثر من 170,000 عامل. وأفادت منظمة العمل الدولية، بأنّ أكثر من 35,000 مشروعًا صغيرًا ومتوّسطًا قد تأثروا. ونتيجة لذلك، أدّت البطالة المؤقتة إلى خسارة دخل العمل بما لا يقل عن 5.7 مليون دولار شهريًا.
كانت المساعدات الإنسانية الدولية محدودة وبطيئة جدًا في الوصول إلى هذه مناطق شمال غرب سورية، على عكس المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري
وفي المناطق المتضرّرة بشدّة مثل حلب، توّقفت العديد من المصانع والشركات الصغيرة عن العمل في الأسابيع التي أعقبت الزلزال بسبب النزوح القسري للسكان المحليين إلى مناطق أكثر أمانًا والمخاوف من انهيارات المباني. ونتيجة لذلك، تعرّضت سبل عيش العديد من العمال للخطر.
من المتوقع أن يكون للزلزال تأثير كبير على الناتج المحلي الإجمالي لسوريا في عام 2023، حيث يُقدر الانخفاض بنحو 5.5% وفقًا للبنك الدولي. من المهم ملاحظة أنّ الناتج المحلي الإجمالي لسوريا قد انخفض لأكثر من النصف بين عامي 2010 و2020، وشهد انخفاضًا بنسبة 12٪ تقريبًا في السنوات الثلاث الماضية.
التضخم المتزايد وارتفاع تكاليف المعيشة
أحدث الزلزال المُدمّر في شباط/ فبراير أيضًا تداعيات اقتصادية في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري. بعد الكارثة، ارتفعت أسعار السلع الأساسية، بما في ذلك المواد الغذائية، بنحو 30%، ما أدى إلى زيادة الضغط على السكان. وكانت استجابة الحكومة لارتفاع الأسعار غير كافية، ما أثار انتقادات كبيرة من الشعب. مع اقتراب شهر رمضان المبارك، ارتفعت أسعار السلع الأساسية وغيرها بنسب تتراوح بين 50% و100%. على سبيل المثال، زاد أصحاب محلات الملابس في حلب أسعار منتجاتهم بنسبة 50%، علاوة على الأسعار التي تضاعفت ثلاث مرات منذ رمضان 2022.
جاءت هذه الزيادات في الأسعار في سياق أوسع من التدهور الاقتصادي المستمر. في عام 2023، قدّرت الأمم المتحدة أنّ حوالي 15.3 مليون شخص في سوريا بحاجة إلى مساعدات إنسانية، بما في ذلك 2.1 مليون نازح، في حين يعيش أكثر من 90% من السكان تحت خط الفقر. ارتفعت معدلات التضخم بشكل كبير على مدار العقد الماضي، حيث بلغت نحو 113.5% إلى 114% في عام 2020، و101% إلى 111% في عام 2021، و55% إلى 55.7% في النصف الأول من عام [2]2022. بالإضافة إلى ذلك، ارتفعت معدلات التضخم بشكل كبير في المناطق التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام والجيش التركي في شمال غرب سوريا بسبب تراجع الليرة التركية[3].
ترافقت معدلات التضخم المرتفعة هذه مع استمرار انخفاض قيمة الليرة السورية لأسباب هيكلية، وانعدام السياسات الاقتصادية لتخفيف خسائر الدخل الحقيقي للسكان. تأثرت القوة الشرائية للأفراد بشكل كبير، ما أدى إلى ارتفاع كبير في تكاليف المعيشة. في عام 2022، ارتفع متوسط تكلفة المعيشة لعائلة سورية مكوّنة من خمسة أفراد في دمشق من 2,026,976 ليرة سورية (ما يعادل 802.8 دولار بسعر الصرف الرسمي 2.525 ليرة سورية / الدولار في ذلك الوقت) في كانون الثاني/ يناير 2022 إلى 4,012,178 ليرة سورية (ما يعادل 887.26 دولار بسعر الصرف الرسمي 4.522 ليرة سورية / الدولار في يناير 2023). ارتفع الحد الأدنى لتكلفة المعيشة خلال نفس الفترة من 1,266,860 ليرة سورية إلى 2,507,611 ليرة سورية (ما يعادل 501.7 و554.5 دولار على التوالي)، مما يمثل زيادة تزيد عن 97.9% على مدار العام. ومع ذلك، ظلّ الحدّ الأدنى للأجور على حاله، أي 92,970 ليرة سورية (ما يعادل حاليًا 14.3 دولار بسعر الصرف الرسمي 6.532 ليرة سورية). ويكسب أكثر من نصف الموظفين في القطاع العام أقل من 200,000 ليرة سورية (30.6 دولار أمريكي) شهريًا، في حين يقدّر متوسط الأجر الشهري في القطاع الخاص بين 300,000 و500,000 ليرة سورية (46 إلى 77 دولار أمريكي). بحلول نهاية أذار/ مارس 2023، ارتفعت تكلفة المعيشة لأسرة سورية إلى 5.60 مليون ليرة سورية (861.5 دولار أمريكي). بالإضافة إلى تداعيات الحرب المستمرة، دفعت هذه الحالة الاقتصادية العديد من العمال ذوي المهارات العالية إلى الهجرة بحثًا عن ظروف معيشية وعمل أفضل.
سعى النظام السوري إلى تعزيز سلطته من خلال محاولة السيطرة أو التأثير على تنظيم وتوزيع المساعدات الإنسانية في جميع أنحاء البلاد.
لم تساعد المكافآت المؤقتة التي قدمتها الحكومة السورية كثيرًا بالتخفيف من معاناة العمال والطبقة العاملة في سوريا. وقد كان أحدث توزيع للمكافآت في منتصف نيسان/ أبريل 2023، حيث تمّ تخصيص 150,000 ليرة سورية (23 دولار أمريكي) للمتقاعدين وموظفي الدولة، بما في ذلك العسكريين.
تحويلات الشتات كأداة للبقاء على قيد الحياة
في مواجهة هذه الظروف الصعبة، يبحث العمال عن مصادر دخل بديلة لتغطية نفقاتهم اليومية والشهرية. في القطاع العام، يتزايد عدد الموظفين الذين يقومون بأعمال إضافية بعد انتهاء وقت عملهم الرسمي، بينما ترتفع تكلفة الرشوة أيضًا. يعتمد العديد من العمال والعاملات على المساعدات الإنسانية، ولكن بشكل أساسي، يعتمدون على التحويلات المالية من الشتات السوري.
تلعب تحويلات الشتات دورًا حيويًا ومصدرًا مهمًا لتدفق النقد الأجنبي إلى سوريا. قبل عام 2011، بلغت التحويلات حوالي 1.6 مليار دولار. في السنوات الأخيرة، وصلت التحويلات إلى عدّة مليارات من الدولارات سنويًا، وأصبحت وسيلة حيوية لكسب العيش للعديد من السكان خلال العقد الماضي. بعد الزلازل، أرسلت العديد من التحويلات المالية من قبل الشتات السوري إلى جميع أنحاء سوريا، بصورة رئيسية لمساعدة العائلات والأقارب في تغطية الاحتياجات العاجلة. وشهدت مكاتب تحويل الأموال مثل ويسترن يونيون في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام طوابير طويلة من مواطنين يسعون إلى جمع الأموال التي يرسلها أقاربهم من خارج البلاد. كما شهدت شبكات "الحوالة" غير الرسمية في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، الواقعة خارج نطاق سيطرة النظام السوري، تدفقًا كبيرًا للأموال، كما حدث في عفرين وإدلب. في حلب، قدّرت صحيفة "الوطن" أنّ ثلث سكان المدينة يعتمدون على تحويلات الشتات.
خاتمة
بينما يعتبر الزلازل من الكوارث الطبيعية، يمكن أن تُعزى وطأة هذه الكارثة البشرية الجديدة في سوريا بشكل أساسي إلى أفعال النظام السوري. فقد أرسى النظام أسس الدمار الذي سبّبه في حربه ضد شرائح كبيرة من السكان، وسياسته الاقتصادية، وفساده. كما قام النظام بتسييس المساعدات الإنسانية، لا سيما من خلال عرقلة أو تقليص توزيعها في المناطق الخارجة عن سيطرته.
بالمثل، تساهم العقوبات والصدمات الاقتصادية الخارجية، مثل غزو روسيا لأوكرانيا منذ شباط/ فبراير 2022، والأزمة الاقتصادية في لبنان منذ تشرين الثاني/ أكتوبر 2019، بلا شك في مصاعب البلاد الاقتصادية، بما في ذلك زيادة التضخم وتفقير السكان. ومع ذلك، فإنّ سياسات النظام السوري هي التي تتحمل المسؤولية الأساسية عن الوضع الحالي ومعاناة 90% من السكان في سوريا. إلى جانب حربه وقمعه لعدد كبير من السكان السوريين وتدمير البنية التحتية، اتبع النظام سياسات اقتصادية نيوليبرالية، بما في ذلك إجراءات مثل تحرير التجارة والممارسات الفاسدة التي تفضّل شبكات التجار التابعة للقصر الرئاسي، فضلاً عن التدابير التقشفية. كلّ هذه العوامل حالت دون أي تدخل فعّال لمكافحة التضخم ووقف انخفاض قيمة الأجور والقوة الشرائية للسكان.
يمكن اتخاذ العديد من التدابير لمعالجة هذه القضايا، مثل مراقبة الأسعار والتدخلات الحكومية في قنوات الاستيراد، مع الحرص على ربط الأجور بمعدلات التضخم. ومع ذلك، من دون حركة اجتماعية شعبية تمارس ضغطًا على النظام السوري على المستوى الوطني، لن يتحقق أيّ تحسّن كبير في حياة السكان. لذلك يجب بناء بديل تقدمي وديمقراطي يتبع برنامج اقتصادي اجتماعي شامل يخدم الطبقات الشعبية المختلفة.
المراجع:
[1] وفقًا للتقرير نفسه، "شكلت الأضرار المباشرة التي لحقت بالمباني السكنية نحو نصف إجمالي الأضرار (48.5 في المائة من متوسط القيمة، أو 2.5 مليار دولار)، في حين أن الأضرار في المباني غير السكنية (مثل المرافق الصحية والمدارس والمباني الحكومية ومباني القطاع الخاص) تمثل ثلث إجمالي الأضرار (33.5٪ ، أو 9.7 مليار دولار). تمثل أضرار البنية التحتية 18٪ من إجمالي الأضرار (0.9 مليار دولار). ويشمل ذلك النقل، والبنية التحتية الحيوية للطاقة والمياه، والمعلومات والاتصالات التكنولوجية".
[2] هذه الأرقام مأخوذة من المكتب المركزي للإحصاءات، وهو مؤسسة مقرها دمشق، ومن المركز السوري لبحوث السياسات. من المهم ملاحظة أن المكتب المركزي للإحصاء لم يبلغ عن أي أسعار بعد نهاية عام 2020. وبالمقابل، يستخدم المركز مصادر على مستوى الدولة ويهدف إلى تقديم تقدير أكثر شمولاً ودقة لأسعار المستهلك. غطت المسوحات التي أجراها المركز السوري لبحوث السياسات جميع المحافظات ومختلف المناطق الخاضعة للرقابة، حيث شملت 59 سوقًا، بما في ذلك 30 سوقًا في مراكز المحافظات و29 في مواقع خارج المحافظات. أختيرت هذه الأسواق بناءً على معايير محدّدة لضمان التمثيل المناسب للمناطق الجغرافية المتنوعة في سوريا.
[3] منذ عام 2020، حدث تحوّل ملحوظ في استخدام العملات في مناطق معينة، حيث حلّت الليرة التركية بشكل متزايد محل الليرة السورية كعملة رئيسية. في إدلب الخاضعة لسيطرة هيئة تحرير الشام وحكومة الإنقاذ التابعة لها، بدأ اعتماد الليرة التركية أواخر أيار 2020 عندما بدأ دفع الرواتب بهذه العملة. بعد بضعة أسابيع، في منتصف حزيران/ يونيو من العام نفسه، تمّ ترسيخ الليرة التركية كعملة أساسية لمعاملات السوق والمدفوعات، لتحل محل الليرة السورية في هذه المناطق.