(هذا المقال جزء من ملف بالشراكة بين "حكاية ما انحكت" و"أوريان ٢١"، يستكشف عواقب الزلزال المدمّر الذي ضرب تركيا وسوريا في فبراير 2023).
(اللاذقية، القرداحة وريفها)، بعد مرور شهر تقريباً على كارثة زلزال السادس من شباط/ فبراير ٢٠٢٣، وصلت "عبير" و"غريس"، إلى قرية "بني عيسى"، القرية الصغيرة الواقعة على بعد عدّة كيلومترات جنوب القرداحة، وصدمتا بالمشهد الماثل أمامهن: أربع نساء، أصغرهن بعمر الخمسين، وأمهنّ، الخامسة، في الثمانين، يعشن بطمأنينة في منزل أصابه تصدّع ملحوظ بسبب الزلزال، ومع ذلك يُكملن حياتهنّ بشكل طبيعي، وهنّ لا يعلمن أنّ هذا التصدّع قد يكبر ويتسع مع احتمال وقوع هزّات ارتداديّة جديدة. هذه ليست كلّ الحكاية، فالنساء الأربع ولدن وهنّ فاقدات البصر. تقول إحداهن في حديث معنا إنّ المشهد كان غريباً ومؤلماً وصادماً و"يجعل أيّ كلام دون معنى أو قيمة".
كوّنت الشاعرة والمهندسة مدنية عبير سليمان، وزميلتها الناشطة غريس شعبان، وبدعم من متبرعين/ات سوريين/ات وعرب إثر كارثة الزلزال، فريقاً ثنائياً تطوّعياً لم تعطياه اسماً محدداً، للبحث عن متضرّرين/ات وناجين/ات لم يصل إليهم/نّ أحد من الجهات الرسمية أو الأهلية، وبدأتا جولات على مناطق متفرقة معتمدات على علاقاتهن مع المجتمعات المحلية، وعلى مساعدين/ات من تلك القرى. وخلال شهر الإغاثة الأوّل بعد الزلزال، نجحن في تقديم مئات السلال الغذائية والأدوية والأغطية للمتضرّرين/ات، ليمتدّ الأمر لاحقاً إلى حالات فقر معدومة في المجتمعات المحلية ممن تقطعت بهم/نّ سبل العيش بسبب الزلزال.
ساهمت إضاءة عبير وغريس في التفات عدّة جهات أهلية ورسمية، وحتى عربية (الهلال الأحمر الإماراتي) إلى العائلة السابقة، وعدد آخر من العائلات المنكوبة، لتقديم المزيد من المساعدات لهم/ن.
تقول الناشطتان لنا إنّ "وصول المساعدات إلى العائلات جعلنا سعيدتين بما يجري وأضاف قيمة وأهمية لما نقوم به من عمل". وبقدر ما كانت هذه الالتفاتات قيّمة وضرورية، إلا أنّها بالمقابل كشفت عن تقصير في عديد حالات مشابهة في المنطقة بشكل رئيسي، لم تنل حقها من الإغاثة أو الدعم.
في الطريق إلى القرداحة
حالة العائلة في قرية بني عيسى (يبلغ عدد سكانها حوالي ألف نسمة) لم تكن الحالة الوحيدة غير المُغاثة في تلك المنطقة، فهناك عشرات غيرها في عين العروس ودير حنا والمعلّقة والثورة وبكراما وغيرها، وهي من قرى ريف القرداحة التي تعرّضت لتبعات الزلزال، ولم يقترب أحد منها رغم مضي شهرين (ساعة إعداد هذا التحقيق) وأكثر على الكارثة، باستثناء فرق تطوّعية قدّمت لهم مواداً عاجلة غذائية وطبية.
يروي لنا السيد أحمد (٥٥ عاماً، موظف حكومي في مؤسسة المياه) من "بني عيسى"، أنّه قضى الأيام الأولى مع عائلته في العراء بجوار منزلهم بعد أن تصدّع المنزل ولم يعد صالحاً للسكن، دون أن يسأل عنهم أحد. "كان الجميع مشغولاً بمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أرواح قبل فوات الأوان، وبقينا إلى اليوم الثالث من الكارثة حتى وصلت الجرافات الحكومية إلى منطقتنا"، يقول أحمد.
يبرّر جاره المهندس أيهم (مهندس مدني غير موظف) أسباب التأخر بوجود عشرات المناطق التي تضرّرت من الزلزال لكن ذلك "لا يعني أننا كنّا فرحين بانتظار وصول فرق الإنقاذ، لقد كنّا مواطنين غير مهمين لوسائل الإعلام".
نجت سيدة من الزلزال بمعجزة بعد أن بقيت قرابة عشرين ساعة تحت الأنقاض هي وزوجها وبناتها، فيما توفي أغلب سكان البناية
بعد الزلزال، كانت هناك نداءات لطلب المساعدات العينية والمادية من بعض هذه القرى. آخرها، كما وثقناه، عبر منصّات التواصل الاجتماعي في قرية "دير حنا" الواقعة في جوار القرداحة في ٢٢ آذار/ مارس.
في قرية "بني عيسى"، لم تكن حالة السيّدات هي الوحيدة، فقد تصدّعت بيوت وسقطت أبنية وأدّت إلى وفيات تجاوزت خمس ضحايا، منها وفاة ليلى السنكري تحت الأنقاض، فيما أصيب حفيدها "آدم" إصابة متوّسطة، كما أنّ بناء مركز التحويل الكهربائي في القرية تعرّض لتصدّعات قاربت السقوط، مما استدعى هدمه بشكل سريع من قبل مديرية الكهرباء.
في الساعات الأولى للكارثة، توّجه الناس للمساعدة في عمليات رفع الأنقاض واﻹنقاذ رغم الأمطار الغزيرة التي تدفقت وقتها. وتبعاً للمعلومات المتوافرة من المجتمعات المحلية، فقد تمّ إنقاذ العديد من الأفراد من تحت الأنقاض قبل وصول الآليات وفرق الإنقاذ، وفي مناطق قريبة من "بني عيسى" تعرّضت أبنية للسقوط والتصدّع في "عين العروس" (١٠ كم عن القرداحة) و"رويسة البساتنه"، و"السفرقيه"، وغيرها من القرى، بعدد غير معروف تفصيلياً.
كان عامر (٢٥ عاماً) الطالب بكلية الهندسة بجامعة تشرين، من قرية "مزار القطرية" أحد الذين شاركوا في عمليات إنقاذ الباقين تحت الأنقاض. وصف لنا طريقة عملهم: "استخدمنا المعاول والرفوش لكي نصنع حفرة تحت الأنقاض في الأماكن التي نعرفها في الأبنية المتهدمة، ولكن ما صعّب علينا المهمة هو كمية الأمطار الكبيرة الهاطلة ذلك النهار والرياح القاسية، إلا أنّنا تمكنا في العديد من الحفريات من فتح أنفاق... توصلنا إلى الغرف تحت الأبنية، في إحدى الحالات تمكنا من إخراج طبيب شاب اسمه نوّار، كان مختبئاً تحت سرير معدني بعد أن شغّل الموسيقى بصوت عال".
في قرية "عين العروس"، أسفر الزلزال عن سقوط عدد من الأبنية الطابقية وسقوط ضحايا، منهم من آل الأسد (ليسوا من عائلة الرئيس الأسد) وخزام والسوسي. يروي الجد "أبو ثوار" (٧٥ عاماً) أنه في صباح يوم الزلزال توجّه من منزله مسرعاً ليُحضر عائلة ابنه "ثوار" (٢٩ عاماً) وزوجته "بتول" (٢٧ عاماً) وطفليهما إلا أنه وجد البناية منهارة كلياً، حيث توفيت عائلتين من بينهما عائلة ابنه. في وقت لاحق من النهار وتحت الأمطار أنقذ شباب من القرية طفلّي ابنه "التوأم" بعد أن قضيا قرابة عشرين ساعة تحت الأنقاض، وهما الآن برعاية الجّدين.
في قرية "السفرقية" المطلّة على سد السفرقية التخزيني، تصدّع عدد من البيوت دون انهيار أيّ منها، وفي حديث معنا أشار السيد "أبو محمّد" (٥٨ عاماً، متقاعد) صاحب منزل في القرية إلى أنّ التصدعات طالت عدداً من البيوت القديمة والحديثة، ومنها منزله، وهو مقيم فيه ﻷنه لا يمتلك أي بديل، ويضيف أنه قد قضى أياماً في جوار المنزل في خيمة أقامها على عجل لحين انتهاء الهزات الارتداديّة، وحتى ساعة إعداد هذا التحقيق لم يتلق زيارة من أيّ جهة رسمية لفحص الأضرار في منزله، كما أنّ المساعدات التي قدّمها فريق الهلال الأحمر السوري لم يكن له فيها نصيب.
"قبو العوامية" بعد شهرين على الكارثة
النكبة الأكبر أصابت قرية "قبو العوامية"، وهي قرية واقعة في منتصف المسافة بين مدينتي اللاذقية وجبلة، وفي منتصف المسافة تقريباً بين اللاذقية والقرداحة، فقد تهدّمت فيها ستة أبنية طابقية (قرابة ثمانين شقة)، وتهدّمت ثلاثة منازل أرضية بالكامل، وقُتل ثلاثين شخصاً على الأقل، من بينهم خمس معلّمات من مدرسة القرية (حلقة أولى وثانية) وأربعة طلاب، فيما أصيب أكثر من خمسة عشرة جريحاً ومصاباً من بينهم ثلاث معلمات.
شهدت القرية، مع كلّ هذه الإصابات والضحايا، تصدّعات في كثير من المنازل، وأخلي قسم منها، ووفق معلومات من بعض الأهالي، فإنّ هناك ثلاثة محاضر آيلة للسقوط (٥٦ شقة مهدّدة)، ومحضر قيد الدراسة (١٢ شقة مهدّدة)، إضافة إلى مئات المنازل المتصدّعة، وحتى الآن فإنّ القرية دون مركز إيواء، ورغم ارتفاع أعداد العائلات المُخلاة من منازلها، فإنّ عشرات من العائلات المهجّرة لم يذهب أي منها إلى مراكز الإيواء.
جزء كبير من العائلات لجأ إلى الأقرباء والأصدقاء، تقول "سعاد عيسى" (٣٨ عاماً من القرية) إنّها استقبلت في بعض الأيام عائلات بكاملها في مستودع يمتلكه زوجها جهزوه على عجل باحتياجات المنامة وبعض ما توّفر لديهم من إمكانات التدفئة (صوبيات تعمل على الحطب)، وتضيف: "واجبنا أنّ نقدم ما يمكننا، لو كنّا مكانهم لفعلوا نفس الشيء".
إنّ أكثر من ٩٠٪ من المتضررين سكنياً لجؤوا إلى أقاربهم ومعارفهم.
في جولة هناك، لاحظنا وجود عدد من الخيام المُقامة بجوار المنازل المهدّمة، يقيم فيها أصحاب بعض تلك المنازل. وفي لقاء مع أحد الناجين، سألته "عبير" من فريق المساعدة التطوعي عن طلباته، فأجاب: "سقف. عم ننام بسيارة استعرناها من جارنا لأن بيتنا مهدّد جنب بنايتين مصدّعين، ما حدا من الجهات الرسمية سأل عنا".
في شهادة ثانية من نفس القرية انتشرت عبر التواصل الاجتماعي في الثالث عشر من آذار/ مارس ذكرت السيدة "رنا محمد جديد"، وهي من قرية القبو، أنّها نجت من الزلزال بمعجزة بعد أن بقيت قرابة عشرين ساعة تحت الأنقاض هي وزوجها وبناتها، فيما توفي أغلب سكان البناية، وبعد إنقاذها بقيت في المشفى قرابة الشهر، وحتى الآن هي بحاجة إلى رعاية طبية لعدم قدرتها على المشي أو الوقوف. وفوق ذلك كله فإنّها أصيبت "بمتلازمة هرس الأطراف".
تضيف السيدة: "بيتي تهدّم بالكامل ولا أملك سواه، حالي كحال أغلب أهالي القرية المنكوبة المنسية إعلامياً ورسمياً وإنسانياً والحزينة على ٣٢ شهيداً إثر الزلزال وعشرات العائلات المهجرة من بيوتها، وللأسف لم نذكر من قبل أحد من اللاذقية، علماً أنني معلمة منذ ٢٥ عاماً، ربما ليس هناك جواب لما أصابنا في قريتنا التي لم تذكر أنها قرية منكوبة حزينة"، وفي شأن متصل تقول السيدة إنها حتى الآن لم تحصل على أغراضها الشخصية من هويات وشهادات وبطاقات جامعية وأشياء خاصة "لعدم توفر الآليات وإظهار العراقيل في وجهنا من كل جانب".
ووفقاً لشهادات محلية أيضاً، فإنّ ما تم تقديمه للعائلات المتضررة في القرية جاء عبر مؤسسة العرين اﻹنسانية (الاسم الرسمي الجديد لجمعية البستان الخيرية التي أنشأها سابقاً رجل الأعمال السوري رامي مخلوف، قبل أن تستولي عليها أسماء الأسد وتضعها تحت إشرافها) والهلال الأحمر السوري وهي عبارة عن سلل غذائية وملابس وفرش وبعض الأدوية، في حين أنّ الخيم غابت، وغالبية من خرجوا من بيوتهم انتقلوا إلى بيوت أقرباء أو معارف وهؤلاء جميعاً ليسوا بأحسن حال من المتضرّرين المباشرين من الزلزال.
مدينة القرداحة: تبعات وإخلاء مستمرين
في مدينة القرداحة نفسها، والتي يبلغ عدد سكانها أكثر من خمسين ألفاً، لم تحدث انهيارات ﻷبنية، ولكن عشرات الأبنية تضرّرت وأصيبت بتصدّعات مختلفة الشدّة والقوّة، وحتى تاريخ الخامس والعشرين من آذار/ مارس كان هناك ١٩٤ حالة إخلاء موزّعة بين إخلاء تدعيم وإخلاء إنذار بالهدم، وفقاً للمهندس "علي القوزي" رئيس مجلس مدينة القرداحة، في حديث لصحيفة محلية، بتاريخ ٢٥ آذار/ مارس، أنّه "وبعد الانتهاء من مرحلة الكشف الأولى، يتم حالياً ضمن المجلس الكشف النهائي على الحالات التي شمّعها مجلس المدينة من قبل لجنة السلامة العامة النهائية المشكلة من نقابة المهندسين ومديرية الخدمات الفنية باللاذقية".
حديث المهندس "القوزي" يشير إلى حالات إخلاء وقعت ضمن منطقة القرداحة، وهو يتناقض مع رقم تقرير "غرفة عمليات محافظة اللاذقية، حملة الاستجابة الطارئة لكارثة الزلزال"، الصادر بتاريخ ١٨ آذار/ مارس (وزّع على نطاق ضيّق)، والذي يشير إلى أنّ عدد الأبنية المتهدّمة في منطقة القرداحة هو ١٦٦ بناء، ويمكن تفسير الفرق باستمرار عمل اللجان في المنطقة وإخلاء عدد متزايد من البيوت والأبنية حتى الأسبوع الأول من شهر نيسان/ أبريل.
في مدينة القرداحة نفسها، والتي يبلغ عدد سكانها أكثر من خمسين ألفاً، لم تحدث انهيارات ﻷبنية، ولكن عشرات الأبنية تضرّرت وأصيبت بتصدّعات مختلفة الشدّة والقوّة
يشير تقرير غرفة عمليات اللاذقية الإغاثية الصادر في ١٨ آذار/ مارس الفائت، إلى أنّ عدد الأسر المتضرّرة في منطقة القرداحة شاملةً الريف والبلدات والقرى ٦١٠٤ أسرة، بعدد أفراد وسطي ٢٨٠٧٨ فرداً، وبعدد أبنية متهدمة ١٦٦ بناء، في حين أنّ هناك ٨٣٤ بناء بحاجة إلى ترميم، و٥٠٥ بناء بحاجة إلى تدعيم. ولم يوّضح التقرير إذا كان عدد الأبنية المتهدمة يشمل الأبنية التي سقطت بفعل الزلزال، أم أنّ الرقم يتعلّق بعدد الأبنية التي سوف تُهدم نتيجةً لتصدّعها وعدم قابليتها للسكن، وفي الحالين، فإنّ أكثر من ٩٠٪ من المتضررين سكنياً لجؤوا إلى أقاربهم ومعارفهم.
سوق العقارات إلى جنون
أغلب أهالي قرى ريف القرداحة استضافوا عائلات منكوبة من أقربائهم ممن تهدّمت منازلهم أو تصدّعت في ظلّ عدم توفير الدولة لمساكن مؤقتة بديلة حتى الآن، وارتفاع أسعار إيجارات المنازل في كل البلاد بعد الكارثة مترافقةً أيضاً مع ارتفاع في أسعار المواد الغذائية بنسبة أكثر من ثلاثين بالمئة. يضاف لها في وقت الزلزال حالة نزوح جماعية لسكان الطوابق العليا إلى بيوت آخرين لديهم سكن في الطوابق الأرضية أو الأولى.
يقول السيد "مفيد" (٤٠ عاماً) من حارة "الرويسة" في مدينة القرداحة، وهو موظف حكومي أُخلى منزله بعد الكشف الفني عليه، "حاولت استئجار بيت بعد القرار، ولكن لم أتمكن ﻷن أسعار الإيجارات قفزت بنسبة الضعف خلال أقل من شهر وفوق ذلك يجب الدفع سلفاً لمدة ستة أشهر أو سنة على الأقل".
يضيف السيد "مفيد" أنّ "عدد المعروض من البيوت للإيجار قبل الزلزال في القرداحة كان كثيراً، وهناك العديد من العروض المختلفة الأسعار والمواقع، ولكن مع حدث الزلزال، فإنّ التدفق نحو الإيجارات زاد أضعافاً، وهو ما دفع أصحاب كثير من المكاتب للإعلان عن عدم توفر شقق للإيجارات، بهدف رفع الأسعار، والبيوت التي كان أجارها حتى مئتي ألف ليرة سوريّة (ما يعادل ٢٧ دولاراً أمريكيًا) أصبحت بحدود خمسمئة ألف ليرة سوريّة (ما يعادل ٦٦ دولاراً)". في حالات موّثقة لدينا طلب أصحاب بيوت أرقاماً كبيرة عندما عرفوا أنّ من سيدفع الآجارات جهات أهلية أو متبرعين وليس المتضررين.
بالمقابل، وكي تكون الصورة دقيقة، فإنّ هناك أشخاصاً كثر قدّموا منازلهم لمتضررين مجاناً، وقدّموا لهم الماء والغذاء على قدر استطاعتهم، وأقدم كثيرون على افتتاح مستودعات وتأمين التدفئة والحمامات، كما أنّ هناك مئات الأشخاص ممن تقاسموا القليل من الغذاء والدواء، ورفضوا التوّجه إلى مراكز الإيواء ﻷسباب تتعلّق بهم كعائلات تغيث بعضها بعضاً.
مركز إيواء القرداحة
بعد مضي شهرين على الكارثة، انخفض عدد مراكز الإيواء التي أقامتها الحكومة السورية وأشرفت عليها جمعيات مرخّصة من قبلها، مثل الأمانة السورية للتنمية والهلال الأحمر السوري، على مستوى المحافظة إلى تسعة عشر مركزاً بعد أن وصل إلى خمسين بعد الزلزال، ويعود ذلك إلى إجراءات نفذتها السلطات المحلية، منها تقديم وثيقة تضرّر ممهورة من البلدية أو المختار أو وثيقة من لجان الكشف الفني على البيوت، هدفت إلى الوصول إلى المتضرّرين/ات فقط.
في منطقة القرداحة بقي مركزي إيواء (اثنين)، الأول في بلدة اسطامو، ويجري تقييم وضع العائلات المقيمة فيه حالياً (وقت إعداد التحقيق) للتأكد من تضرّرها المباشر من الزلزال ربما تمهيداً لإخلائه، والثاني في "فندق القرداحة" في مدينة القرداحة، وقد افتتح في شهر مطلع نيسان/ أبريل السابق، وطاقته الاستيعابية ٦٤ عائلة، وهذه المراكز مجهزة لمرحلة متوسطة الأمد (نصف عام على الأكثر).
تمّ تجهيز ثلاثة طوابق من الفندق الذي كان متوّقفاً عن العمل لسنوات، بالتعاون مع منظمات دولية ومحلية (الهلال الأحمر السوري ومنظمة الصليب الأحمر الدولي ومنظمة ADRA ومنظمة دار مار يعقوب المقطع ومؤسسة الإسكان العسكرية فرع ٢ في اللاذقية، والإشراف العام للأمانة السورية للتنمية). وبعد أن كان يحوي ٢٤ عائلة وفق تقرير غرفة عمليات اللاذقية للإغاثة في الثامن عش من آذار/ مارس، زاد العدد في مطلع نيسان/ أبريل، بعد أن نُقلت إليه تسع عائلات من مركز إيواء اسطامو بموجب تقارير لجان السلامة العامة ولجنة الإغاثة الفرعية بأنّ منازلهم غير آمنة، ويتوقع نقل المزيد من العائلات منه (يضم ٢٤ عائلة). ووفق تصريح رئيس مجلس مدينة القرداحة، المهندس "علي القوزي" "إنّ الأولوية في السكنى في الفندق هي للذين تهدمت منازلهم يوم الزلزال، وبالدرجة الثانية للذين اتخذ قرار إخلاء وتشميع لمنازلهم لحين اتخاذ قرار الهدم أو التدعيم، وذلك بعد صدور قرار لجان السلامة العامة بشكل نهائي بالتنسيق مع الأمانة السورية للتنمية".
في حالات موّثقة لدينا طلب أصحاب بيوت أرقاماً كبيرة عندما عرفوا أنّ من سيدفع الآجارات جهات أهلية أو متبرعين وليس المتضررين. بالمقابل، وكي تكون الصورة دقيقة، فإنّ هناك أشخاصاً كثر قدّموا منازلهم لمتضررين مجاناً، وقدّموا لهم الماء والغذاء على قدر استطاعتهم
بشكل عام، فإنّ "الإقامة في مراكز الإيواء أفضل من أي مكان آخر قياساً بأوضاع المتضررين/ات الآخرين/ات الساكنين/ات عند أقربائهم، نظراً لتوّفر كلّ الحاجات التي تريدها العائلات في مراكز الإيواء وفق نظام محدد"، ولكن، كما تقول السيدة "منى" من قرية اسطامو، المقيمة في مركز إيواء القرداحة فإنّ "الأفضل هو الانتقال إلى سكن خاص، ففي النهاية ليس للإنسان إلا بيته وأهله".
تسعى السلطات لتقليل عدد مراكز الإيواء في المحافظة كلها، عبر التشديد على شروط قبول العائلات في المراكز، وقبول حالات التهدّم الكامل بالدرجة الأولى، ثم الحالات من الدرجة الثانية (التصدّع والهدم الضروري، والتصدع وضرورة الترميم)، وحتى الآن لم تنجز السلطات قاعدة بيانات تفصيلية تتضمن عدد الأبنية المتهدمة بالفعل وتلك الآيلة للسقوط أو تلك التي تحتاج ترميم بعد التصدعات التي أصابتها (وهي النسبة الأكبر كما هو متوّقع)، والأرقام المعلنة في تقرير غرفة العمليات للأسر تحديداً مبنية على وسطي عدد أفراد اﻷسرة المعتمد من قبل المحافظة، ثمانية أسر في مبنى واحد ضمن مدينة اللاذقية وأربعة في الريف.
من الملاحظ في التقرير وجود فروق كبيرة بين أعداد الأسر القاطنة في مراكز الإيواء وأعداد الأسر المتضرّرة من تلك التي تهدمت بيوتها أو تصدّعت بحيث لم تعد صالحة للسكن، فمثلاً، في منطقة القرداحة، عدد العائلات المتضرّرة من الزلزال وفق التقرير هو ٦١٠٤ أسرة، منها ٣٤ عائلة تقطن مركز إيواء فندق القرداحة (حتى مطلع شهر نيسان/ أبريل)، وعدد الأبنية المتهدمة في منطقة القرداحة ٢١ بناء، يضاف لها ١٦٦ بناء بحاجة هدم (لم يتخذ قرار بهدمها بعد)، أي أنّنا أمام ٧٤٨ أسرة ليس لديها مكان للسكن فيه، بمعدل أربع أسر في كلّ بناء، ويعني هذا أنّ هناك كثير من الأسر اتجهت مجبرة إلى الاستئجار أو السكن لدى عائلات قريبة منها.
تأخر لجان الكشف الفني مستمر
شكلت مجالس المحافظات المتضرّرة غرف عمليات إغاثية، إضافة إلى غرفة مركزية في رئاسة مجلس الوزراء الحكومي، وكلّفت بإصدار تقارير عن عملها الإغاثي، ووفقاً لتقرير غرفة عمليات اﻹغاثة في اللاذقية فإنّ عدد لجان السلامة العامة المشّكلة من مجلس المحافظة بلغ تسعة عشرة لجنة، تضم في عضويتها ٥٧ مهندساً، ثلاثة لجان منها فقط عملت في القرداحة حتى نهاية شهر شباط/ فبراير، وهذا العدد لا يكفي لتغطية مساحات المناطق السكنية الواسعة التي يجب مسحها، خاصة مع اتساع رقعة المنازل المتصدّعة بعد الهزات الارتدادية التي تبعت زلزال السادس من شباط/ فبراير. يشير التقرير أيضاً إلى أنّ عدد لجان الكشف الأولى على الأبنية هي ١٠٢ لجنة تضمّنت ٣٣٤ مهندساً.
بعض هذه القرى لم تصل إليها لجان الكشف الفني النهائي على الأبنية حتى نهاية الأسبوع الأول من شهر نيسان، وباعتبار إمكانات البلديات محدودة قياساً بكارثة الزلزال المدّمر، فقد طالب رؤساء بلديات في ريف القرداحة بلجان عاجلة للكشف على الأبنية المتصدعة. يذكر رئيس بلدية "المعلّقة" المهندس "نظام خضور" بتاريخ ١٣ آذار/ مارس أنّ "عدد المنازل المتصدعة التابعة لبلديته قد ارتفع من ٦٥٠ إلى ٩٠٠ منزل، وهذا بالنسبة لبلدية واحدة، والحاجة ملحة جداً للجان كشف أو تدعيم البلديات بالمهندسين المختصين لحين وصول اللجان الرسمية المشكلة من قبل مجلس المحافظة".
ضمت لجان الخبرات الأولية المشكلة من نقابة المهندسين (فرع اللاذقية، ولاحقاً أضيف لها مهندسون من محافظات أخرى)، مهندس مدني أو اثنين، ويفترض أنهم يمتلكون خبرات نظرية وعملية في التعاطي مع مسائل التصدّعات في الأبنية، ولكن مسألة التعاطي مع نتائج الزلزال على الأبنية هي من القضايا غير المدربين عليها في الغالب، وهو ما تسبّب في ظهور لجان لاحقة للجان الأولية لتقييم الأضرار في الهياكل والحيطان والبنية الإنشائية.
في منتصف شهر آذار/ مارس، كان المهندس خضور قد صرّح بانتهاء عمل اللّجان المشكّلة بقرار محافظ اللاذقية المترافقة مع مهندسين مختصين، من الكشف عن المنازل في قرى البلدية نتيجة كارثة الزلزال وهي حوالي ٦٥٠ منزلاً. ووفقاً لما صرّح به فإنّ عدد المنازل التي تحتاج إلى إخلاء في بلديته هي ٧٧ منزلاً، أمّا التّي تتطلب الهدم فهي سبعة منازل، وحتى الآن "نحن بانتظار تقرير اللجنة الموقّع بشكل أصولي كي نتمكن من الإخلاء بشكل قانوني".
في مناطق أخرى، من منطقة القرداحة، وحتى تاريخ إعداد هذا التحقيق، فإنّ لجان السلامة لم تنه كشفها على العديد من القرى، كما هو حال قرى بلدة "بكراما"، حيث كُشف على قرى البلدية بنسب متدنية وفق تصريحات رسمية، فيما لم يتم الكشف مثلاً على قرية القلّيلّة حتى اﻵن، هذا عدا عن تأخر وصول المساعدات إلى أهالي العديد من المناطق مع زيادة في عدد سكانها ناتجة عن توافد عائلات بكاملها إلى هذه القرى.
من ضمن المشاكل المستمرة الحضور في الشارع مسألة أمان المدارس بعد الزلزال، ويشير تقرير غرفة عمليات الإغاثة إلى أنّ عدد المدارس التي تمّ الكشف عليها في منطقة القرداحة ١٦٤ مدرسة، منها ١٦ مدرسة في انتظار قرار لجنة السلامة العليا، و٢١ مدرسة غير آمنة، وهو ما يعني خللاً متوّقعاً في المسار التدريسي. وفي السياق نفسه طلبت مديرية التربية في اللاذقية استعادة الدوام بدءاً من الخامس من آذار، إلا أنّ غالبية المدارس لم تلتزم بالقرار ورفض كثير من الأهالي إرسال أولادهم إلى تلك المدارس آنذاك.
ماذا بشأن الأيام القادمة؟
في الأيام الأخيرة من نيسان/ أبريل الماضي، أعلنت الحكومة عن إنجاز ما يقرب من ٣٠٪ من أعمال إنشاء بنايات الأبراج السكنية للمتضرّرين بدعم إماراتي إضافة إلى وصول منحة صينية من الأبنية المسبقة الصنع لمن فقدوا بيوتهم بُدأ في تركيبها في منطقة الفيض في جبلة. وفي تعاطيها الإجمالي مع المرحلة المقبلة من الكارثة، ترسم الحكومة السورية صورةً زاهية للناس، وتعد بتجاوز كثير من الملاحظات التي رافقت عمليات اﻹغاثة، ومنها مسألة إسكان من فقدوا بيوتهم بشكل كامل حتى اﻵن في ظلّ عدم تعويضهم بأي شيء ذي قيمة، وفي ظلّ عامل ثان لم يظهر بعد إلى الواجهة، هو مسألة فقدان أوراق الملكية التي تتشعب حكاياتها في سوريا كثيراً، سواء تعلّق الأمر بالملّاك أو المستأجرين.
نتيجة لترهل الجهاز الإداري السوري عموماً وعدم امتلاك مرونة كافية، فإنّ هناك عشرات الحالات التي لم تتمكن بعد من الخروج من متاهة فقدان أوراق الملكية خاصة البيوت والسيارات، يقول "محمد مصطفى" من قرية مزار القطرية إنه "بعد شهرين لم يتمكن من الحصول على أوراق سيارته المدفونة تحت أنقاض منزله لعدم نقله الملكية من المالك الأساسي إلى اسمه، وأنه مضطر لرفع دعوى تثبيت بيع قضائية وانتظار صدور حكم بيع قطعي بالسيارة لكي يحصل على عقد أو سند ملكية للسيارة".
ينطبق تشعب مشاكل الملكيات على سكان الريف ربما أكثر من سكان المدن في ظلّ وجود أبنية عشوائية مترافقة مع انعدام القدرة على إعادة بناء البيوت من جديد، وهذه الهواجس واضحة لدى متضرري الزلزال في منطقة القرداحة، وخاصة أنّ أغلبهم من الفئات الاجتماعية البسيطة التي لا تملك أي شيء ومتضرّرة من الزلزال، وهي لا تملك المال ولا السلطة، وهي بحاجة أكيدة إلى إنصاف من السلطة التي لم تكن يوماً في صفهم.