(هذا المقال جزء من ملف بالشراكة بين "حكاية ما انحكت" و"أوريان ٢١"، يستكشف عواقب الزلزال المدمّر الذي ضرب تركيا وسوريا في شباط ٢٠٢٣).
في السادس من شباط ٢٠٢٣، تعرّضت سوريا لزلزالين مدمّرين، شكّلا جزءاً من ثلاثية كوارث ضربت المنطقة الشمالية الغربية في البلاد. وقد أدى هذا الجمع بين الزلازل والفيضانات إلى تفاقم سوء أحوال الشعب السوري الذي يواجه عواقب حرب طويلة استمرت لأكثر من عقد. لم يتسبّب الزلزال في دمار مباشر على البنية التحتية والناس فحسب، بل ألحق أيضاً أضراراً جسيمة بالبيئة. فبعد انقشاع الغبار واستقرار الأرض، برزت مخاوف بشأن العواقب طويلة الأمد على صحة وسلامة الناس، والتوازن البيئي الحسّاس في المناطق المتضرّرة. وبجانب الدمار الظاهر، يزيد الأثر البيئي من الضرورة لتسريع جهود التعافي المطلوبة بعد هذه الكارثة الطبيعية. نتناول في هذا المقال الآثار البيئية العميقة للزلزال الذي ضرب سوريا، ونسلّط الضوء على التحديات والتداعيات على التعافي البيئي في المنطقة ورفاهية سكانها.
التنفّس وسط الأنقاض: التنقل بين المخاطر الجوية المتجذرة في أنقاض الزلزال
في آذار ٢٠٢٣، أصدر البنك الدولي تقريراً يكشف عن الأضرار الجسيمة التي خلّفها الزلزال في سوريا. وبحسب التقرير، فقد تضرّر ما يقدّر بنحو ١٢٢٠٥٤ مبنى، في حين دُمّر ١٠٦٢٩ مبنى بالكامل. ويمثل هذا حوالي ٨,٤٪ من إجمالي المساكن في المناطق المتضرّرة. وقد أدّى حجم الدمار إلى تراكم نحو ٥٨ طنًا من الأنقاض. وتعرّضت محافظات حلب وإدلب وحماة بشكل خاص لأضرار كبيرة في الهياكل السكنية. لذلك، تواجه هذه المناطق الآن مهمة صعبة لإدارة وتنظيف كميات كبيرة من الأنقاض. وقد ثبت أنّ جهود التنظيف في هذه المناطق تُعتَبر محفوفة بالصعوبات ومكلفة.
يثير تراكم الأنقاض مخاوف كبيرة حول تأثيره على الصحة والسلامة البيئية. فقد فاقم الزلزال مشكلة الأنقاض، الموجودة أصلاً والناجمة عن سنوات الحرب الطويلة في سوريا. ويجب معالجة وجود مواد خطرة مثل المعادن الثقيلة، والإسمنت، والعفن داخل الأنقاض، لضمان سلامة السكّان المتضرّرين. ومما يثير القلق بشكل خاص احتمال وجود الأسبستوس (خاصة في حلب حيث انهار عدد كبير من المباني القديمة) وهي مادة سامة تمّ حظرها في ٦٣ دولة. وهناك أدلة قوية تربط التعرّض للأسبستوس بمخاطر صحية خطيرة، بما في ذلك تطوّر ورم الظهارة المتوسطة (نوع نادر من السرطان) والسرطانات التي تؤثّر على الرئتين والحنجرة والمبيضين.
تشكّل مخلّفات البناء السامة مخاطر صحية لا تقتصر على البشر فقط، بل أيضًا على النُظم البيئية المحيطة. إذ يمكن أن تلوّث التربة والمياه من خلال التسرّب والتصريف، مما يضرّ بنمو النباتات والبيئات المائية. تعتبر المعالجة والتخلّص السليم أمراً بالغ الأهمية لتخفيف التعرّض لهذه المخاطر، وحماية الصحة العامة، والحفاظ على البيئة. ويجب تعزيز المراقبة والمعالجة الفعالة لمنع التلوّث على المدى الطويل ودعم عملية الترميم.
نظراً للمخاطر المحتملة المرتبطة بالمواد الخطرة الموجودة في الحطام، فمن الضروري اتخاذ الاحتياطات اللازمة وتنفيذ التدابير الفعالة لحماية المجتمعات المتضرّرة. يجب أن تشمل هذه التدابير استراتيجيات شاملة لإدارة الأنقاض، والتخلّص منها بطريقة تقلّل من خطر التعرّض للمواد الخطرة. وسيتطلب ذلك تنسيقاً وثيقاً بين السلطات المعنية، وخبراء البيئة، والمنظمات الإنسانية، لضمان سلامة وصحة السكان المتضرّرين من الزلزال.
تفاقم الوضع المأساوي: تأثير الزلزال على أزمة المياه
في حلب، تعرّضت أسس البنية التحتية لأضرار مباشرة، مما حدّ من فعالية شبكة المياه ورفعَ من خطر تلوّث الإمدادات بالمياه الملوّثة. بالإضافة إلى ذلك، دمّر الزلزال العديد من خزانات المياه الموجودة على الأسطح، فازداد الضغط على الشبكة، التي كانت بالأساس متزعزعة. كما انهارت أجزاء من نظام الصرف الصحي في المدينة، والذي تضرّر بشكل كبير خلال الصراع أساساً، فتفاقم الوضع في منطقة ما زالت تكافح آثار أكثر من عشر سنوات من الصراع.
في إدلب، كان لتأثير الزلزال على محطات المياه وشبكات الصرف الصحي عواقب وخيمة على شبكة المياه والصرف الصحي في المنطقة. فازدادت بشكل خطير احتمالات الإصابة بالأمراض المنقولة بالمياه. وهذا مقلق جدًا، فشمال غرب سوريا يواجه أصلًا تفشّي وباء الكوليرا، مع وجود أكثر من ٦٠,٠٠٠ حالة مشتبهاً بها. ومن المتوقع أن يرتفع هذا العدد بسبب الفجوات الكبيرة الموجودة في خدمات المياه والصرف الصحي والنظافة.
في اللاذقية وحلب، أفادت المنظمات غير الحكومية والمنظمات الحكومية التي أجرينا مقابلات معها خلال إعداد هذا التقرير، بأنّ السكان شهدوا أيضًا تغييرًا في لون مياه الشرب. بعد الزلزال، أصبحت المياه عكرة، وذلك لمدة خمسة عشر يوماً، فاضطر الناس إلى شراء المياه مما زاد العبء عليهم في وسط الصعوبات الاقتصادية الناجمة عن الحرب. ولحسن الحظ، عادت المياه في النهاية إلى حالتها الطبيعية، ولم يكن من حاجة لإجراء أيّ إصلاحات في شبكات المياه. ومن المرجّح أنّ المياه اختلطت بالرواسب نتيجة للزلزال، واستغرق الأمر بضعة أسابيع حتى استقرّت هذه الرواسب. كما أفاد سكان إدلب بأنّه خلال الأيام الأولى للزلزال، حدثت تغييرات في الخصائص الفيزيائية لمياه الشرب، نتيجة انهيار بعض الأتربة داخل الآبار الارتوازية. ومع ذلك، فإنّ الضخ المستمر للمياه لعدّة ساعات أعاد في النهاية الخصائص الفيزيائية للمياه إلى حالتها الطبيعية.
أمّا الظروف القاسية في الملاجئ، لا سيما في حلب وحماة، فقد تركت الناس عرضة للأمراض المعدية، بسبب ضعف مرافق الصرف الصحي والوصول المحدود إلى المياه النظيفة. وقد لُوحظ التلوّث بشكل رئيسي في صفائح وخزانات المياه، مما زاد بشكل كبير من خطر الأمراض المنقولة بالمياه.
في اللاذقية، حيث لجأ الناس إلى المساجد والمدارس، لم تكن المرافق مجهّزة للتعامل مع الأعداد الكبيرة للأشخاص الباحثين عن مأوى. وقد أدى ذلك إلى أزمة صحية، حيث إنّ عدد الحمامات غير الكافية والوصول المحدود إلى المياه النظيفة في المدارس فاقم الوضع الصعب.
يُشكّل الافتقار إلى المرافق الصحية المناسبة والمياه النظيفة داخل الملاجئ خطراً صحياً كبيراً. فهو يزيد من احتمال انتشار الأمراض المنقولة عبر المياه بسرعة بين السكان المعرّضين للخطر. وبدون الوصول إلى المياه النظيفة للشرب والطهي والنظافة الشخصية، يصبح الأفراد أكثر عرضة للإصابة بأمراض، مثل الكوليرا، وفيروس التهاب الكبد الوبائي A ، وغيرها من الأمراض المرتبطة بالمياه.
الأضرار الزراعية الناجمة عن الزلازل والفيضانات: الكشف عن التداعيات
أثّر الزلزال في سوريا بشكل عميق على القطاع الزراعي، الذي يُعدّ مصدر رزق حيوي للعديد من المجتمعات. ووفقًا لتقرير صادر عن منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، فإنّ الأضرار التي سبّبها الزلزال كانت جسيمة.
كشف التقرير، الذي استند إلى ١٩٠ مقابلة (بما في ذلك قادة المجتمع والخبراء) أُجريت في القرى الزراعية، عن أضرار متفاوتة في مختلف المناطق الفرعية. تعرّضت الأتارب وبلبل وإدلب لأضرار أقل نسبيًا، في حين تأثرت الباب والراعي والدانا وحارم وجرابلس وسلقين وصوران بشدّة.
كان للزلزال تداعيات كبيرة على المحاصيل الشتوية، والبساتين، والأراضي الزراعية. وقد ساهمت في هذه التأثيرات السلبية الأضرار المباشرة التي لحقت بالأراضي والأشجار، وضعف أنظمة الري، وصعوبة الوصول إلى المدخلات والعمالة. لذلك، توّقع أكثر من ٨٠٪ من المشاركين تراجع إنتاج المحاصيل والبساتين في الموسم الحالي. عانت أيضاً الماشية بشكل كبير، حيث أُبلغ عن حالات نفوق وإصابات بين الحيوانات، على الرغم من أنّها كانت في الأغلب طفيفة. فَرضت هذه الخسائر عبئًا اقتصاديًا كبيرًا على المزارعين، الذين لم يضطروا إلى استبدال الحيوانات النافقة فحسب، بل كان عليهم التكيّف أيضًا مع انخفاض إنتاج الماشية المتبقية.
كما فاقم الزلزال صعوبة الوصول إلى المدخلات الزراعية، بما في ذلك اضطراب الواردات والحلول البديلة المنخفضة الجودة. وتكثفت ندرة المياه، خاصة فيما يتعلّق بالري وآبار المياه الجوفية. كانت الخسائر المالية كبيرة، حيث أثّرت على ٤٠٪ من الأسر، على الرغم من ارتفاع أسعار المنتجات. انخفضت قدرة الوصول إلى الغذاء بسبب قلّة توفّره، بالإضافة إلى ارتفاع الأسعار، وتراجع القدرة المالية. يحتاج مزارعو المحاصيل بشكل عاجل إلى الأسمدة، ومدخلات حماية النباتات، والري، والبذور، والطاقة. بينما يحتاج مربّو الماشية إلى العلف الحيواني، ومدخلات صحة الماشية، والخدمات، والمساعدات المالية. يجب دعم إنعاش تعافي القطاع الزراعي، وتعزيز صموده، واستعادة سبل العيش، وضمان الأمن الغذائي في المناطق المتضرّرة من الزلزال.
كما تداول أحد المزارعين في الشمال الغربي مقطع فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي في أعقاب الزلزال يُظهر تشكّل حفر وغليان الرمال في الأراضي الزراعية. تشير هذه الثقوب إلى حدوث تسييل التربة، وهي ظاهرة تفقد فيها التربة المشبّعة قوتها مؤقتًا وتصبح كالسائل بسبب الاهتزاز الشديد أثناء الزلزال. يمكن أن يكون لتسييل التربة آثار ضارة على الإنتاج الزراعي والبنية التحتية. تعيق زعزعة استقرار التربة قدرتها على دعم نمو النباتات، مما يعرّض للخطر سبل عيش المزارعين، الذين يعتمدون بشدّة على هذه الأراضي لزراعة المحاصيل ورعي الماشية.
بالإضافة إلى ذلك، أدّى الزلزال إلى حدوث فيضانات على طول نهر العاصي، ممّا تسبّب في مزيد من الأضرار في الأراضي الزراعية الشاسعة شمال غربي سوريا. تضرّرت بشدّة القرى في ريف إدلب، بما في ذلك التلول والجسر المكسور والمشيرفة والعلاني وجكارة ودلبيا والحمزية والحمراء وبتيا من فيضان النهر جرّاء انهيار سد في شمال غرب سوريا. ونشرت وكالة ناسا صوراً عبر الأقمار الصناعية قبل انهيار السد وبعده، تظهر تأثيره على القرى المجاورة.
التعافي البيئي: رؤى مستقبلية
من أجل تسهيل التعافي من الآثار البيئية للزلزال في سوريا، تستند الخطوات الأساسية على إدارة الأنقاض والتخلّص منها بأمان، ومعالجة التعرّض للمواد الخطرة، وإصلاح البنية التحتية للمياه للتخفيف من أزمة المياه، وإعادة تأهيل القطاع الزراعي من خلال دعم المزارعين والممارسات المستدامة، وإعادة بناء البنية التحتية المتضرّرة، وتوفير المساعدات الاجتماعية والاقتصادية للأسر المتضرّرة، وتعزيز التعاون الدولي للحصول على الموارد المالية والخبرة. ستساعد هذه الإجراءات في إعادة بناء المجتمعات، وضمان الأمن الغذائي، وتعزيز القدرة على الصمود في مواجهة التحديات المستقبلية.
في مقابلة مع مدير برنامج دعم صمود المجتمع ضمن الدفاع المدني السوري، علي محمد، حصلنا على معلومات حول وضع الأنقاض الحالي في شمال غرب سوريا، إذ قال لسوريا ما انحكت: "في شمال غرب سوريا، بُذلت جهود كبيرة لإزالة الأنقاض وهدم المباني المتصدّعة من قبل فرق الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء)". وتابع أنّ "الهدف هو إصلاح المجتمعات المتضرّرة من الزلزال، مع التشديد على إزالة الأنقاض. تُفرز المواد القابلة لإعادة التدوير، ويُعاد استخدام الركام في أرصفة الطرق الزراعية وأراضي المخيمات لتعزيز ثباتها ومقاومتها للظروف الجوية خلال فصل الشتاء. تهدف هذه الإجراءات إلى منع انتشار الأوبئة والحشرات الضارة في المناطق المأهولة بالسكان قبل حلول فصل الصيف. بالإضافة إلى ذلك، تُزال وتُهدم الجدران والمباني التي تحتوي على مواد خطرة لضمان سلامة المدنيين".
وأكد محمد أنّ "التحديات والقضايا البيئية يمكن تشبيهها بمكعب روبيك، إذ تتطلّب العديد من الجهود المتضافرة بين الأفراد والمجتمعات والمؤسسات والدولة، للنظر إليها كمنهج شمولي وحلول مثالية وفقاً للموارد الطبيعية المتاحة".
علاوة على ذلك، أصدرت منظمة الأغذية والزراعة تقييماً سريعاً للأضرار التي خلْفها الزلزال، وبدأت في تقديم المساعدة للمجتمعات الريفية لاستعادة الإنتاج الغذائي ومصادر الرزق الزراعية. وتشمل خطتهم توفير المدخلات الزراعية، والرعاية البيطرية، والتحويلات النقدية غير المشروطة.
حالياً، تدعم منظمة الأغذية والزراعة ١٧٨٨٠ أسرة ريفية من خلال تدابير معونة مختلفة في محافظات حلب، واللاذقية، وحماة. وتهدف هذه الجهود المشتركة إلى إعادة بناء وتنشيط المناطق المتضرّرة، وتعزيز الانتعاش المستدام ورفاهية السكان المحليين.