كي لا أنسى، أكتب لكم عن الثورة (الجزء الثاني)

عن الاعتقال والتحقيق والإجبار على الاعتراف في التلفزيون


توّقف الصعق بالكهرباء، وبدأ الصفع والضرب والركل. وقعت أرضاً، لكنه لم يتوّقف. كنت أتوجع وأتألم. لكنّي لم أصرخ، ولم أتكلم، لا رغبة منّي ولكن لأنّ صوتي اختفى، كما اختفت مشاعري وتلبّدت لحظتها. كنت في حالة صدمة، ولم أكن بعد قد استوعبت ماذا حصل. توّقف عن الضرب، أمسكني من رقبتي من الخلف وأخرجني من الغرفة، ثمّ أعادني لمواجهة الحائط. ثمّ فجأة، يأتيني صوت يقول لي: "كلشي رح يكون منيح مريم".

27 أيلول 2023

مريم حايد

(أخصائية نفسية وناجية من الاعتقال)

يُمكن قراءة الجزء الأول من هذا النص على هذا الرابط

 

كان لديّ إحساس أنّ دورية أمن ستأتي خلال فترة قصيرة لتفتيش المنزل، لكن لم أتصوّر أنهم سيفاجئونني خلال يومين فقط. وبالفعل، بعد يومين من رحيل ميسا، كنت قد استيقظت باكراً من أجل دراسة مادة كنت سأقدمها في الامتحان بعد يومين، وإذا بجرس الباب يرنّ حوالي الساعة الثامنة صباحاً، وأنا في طريقي إلى الحمام.

كان البرد قارساً ومثلّجاً، لم يعتريني القلق إطلاقاً، نظرت من العين الساحرة لأرى من الطارق لكن أحدهم وضع إصبعه عليها، فلم أر شيئاً. لم أكن في كامل تركيزي، ولم أشعر بشيء وفتحت الباب. رأيت رجلاً عادياً بثياب مدنية. سألني عن صاحب المنزل، فأخبرته بأنّه غير موجود، وبأنّ صديقه المقرّب موجود في المنزل ويمكنه التكلّم معه إذا أراد واستدرت لأناديه. وفيما أنا أستدير، ركض فجأة أربعة رجال ووضع أحدهم ذراعه حول عنقي بإحكام ليدير ظهري نحو الاتجاه الآخر، جاعلاً الباب خلفي، ثمّ قال لي: "إذا بتفتحي تمك رح فضي هالمسدس براسك"، واتضح فيما بعد أنّه المحقّق الذي سيتولى ملفي وقضية التحقيق معي واسمه مؤيد عبد الستار المسوتي.

سألني أين غرفتي، فأشرت إليها بإصبعي، ثم وضع غطاءاَ سميكاً حول عينيّ، ولم أستطع أن أعرف فيما إذا استطاعوا أن يجدوا الهارد المليء بالمعلومات الذي كنت قد أخفيته جيداً. لم أعد أرى أيّ شيء، لكنّي كنت أشعر بحركاتهم حولي وأسمع أصوات أنفاسهم ودخولهم للغرف، وتفتيشها، وحركاتهم المتتالية السريعة، وأنا داخل ذاتي، أتخيّل... وأتحدث لنفسي: "هل وجدوا الهارد؟ مستحيل، خبّأته جيداً. لا لا مستحيل، هناك ثلاثة أشخاص غيري، صديق صاحب البيت وشاب تخرّج للتو من الجامعة وابن أخ صاحب البيت الذي لا يزال في خدمته العسكرية. عليّ أن أبقيهم خارج الموضوع مهما حدث، عليّ ألّا أورطهم معي. وفي لحظة تذكرت أنّي لم أمحو محادثاتي على الفيسبوك والواتس. تبّاً، لديّ ستة فلاشات مليئة بفيديوهات وملفات وصور، ولم أتخلص منها أيضاً. كيف نسيت هذه الثغرة، تبّا تبّاً...".

أمسكني أحدهم بقوة من ذراعي وأخذني إلى غرفة صاحب البيت ثمّ نزع الغطاء عن عينّي. الرؤية مشوّشة وغير واضحة، وبعد أن اتسعت حدقة الرؤية أصبحت أرى بوضوح أحد ساكني البيت راكعاً على ركبتيه. جعلوه يُحني رأسه نحو الأسفل. يبدو أنه كان نائماً عندما داهموا غرفته وأيقظوه برعب. سألهم: "من أنتم؟". قالوا له: "أليس واضحاً لك من نحن؟".

قال الشاب: "أريد أن أرى أذن التفتيش وأتأكد من أنّكم فعلاً من الأمن". وفجأة بعد قوله هذا، قام أحد رجال الأمن وصفعه بقوة، فسقط الشاب على طوله من شدّة الصفعة، واحمّر كلّ وجهه والتزم الصمت.

أعادوا وضع الغطاء حول عينيّ، ثمّ أخذوني إلى غرفة أخرى وأعادوا نزع الغطاء مرّة أخرى. سألني: "غرفة من هذه؟". أجيب: "كان فيها أحد المستأجرين، ولكنه غادر المنزل منذ فترة ولا أحد يسكنها الآن". لكنّها، في الحقيقة كانت غرفتي القديمة قبل استبدالها بغرفة ميسا الأوسع حجماً والأقرب إلى باب المنزل. من طريقة رؤيتي لتفتيشهم غرفتي القديمة، حيث فتشوا حرفياً كلّ قطعة فيها. حتى تحت السرير الثقيل، فتشوه وقلبوه رغم ثقله، وأيضا سلّة المهملات. من تفتيشهم هذا، عرفت، وخلال لحظة واحدة، أنهم سيجدون الهارد وفلاشاتي وكلّ شيء. فعلاً كلّ شيء.

بدأ خيالي يتحدّث مرة أخرى: "تباً تباً... لديّ كاميرتان واحدة من إخوتي وواحدة من عملي ولم أتخلّص منهما. مرّة أخرى، تبّاً نسيت أنّ لصديق ميسا كاميرا علقتها خلف باب غرفتي، ولم أتخلص منها أيضاً. لكنها فارغة من أيّ محتوى. حتى لو، سيقولون أنّي كنت أصوّر بها المظاهرات. تبّاً كيف نسيت كلّ هذا؟ كيف؟ كنت حذرة في كلّ ما أقوم به، ولم أخبر يوماً أحداً بما أقوم به، كيف غفلت عن هذه التفاصيل؟".

قاطع أحدهم محادثتي مع نفسي وأخذني إلى مكان ما، ثمّ نزع عنّي الغطاء الذي كان قد وضعه قبل أخذي. رأيت أنني في غرفتي التي لم أستطع التعرّف عليها بسهولة، بسبب الفوضى التي أحدثوها فيها. سألني: "هذه غرفتك؟" أجبته: "نعم". ورأيت أمامي ما خشيت أن أراه: ستة فلاشات وثلاث كاميرات وهارد وكمبيوتري. سألني عنصر الأمن: "أين هويتك؟ هل تحملين أيّة نقود؟". أومأت بالإيجاب، فقال لي: "طلعي كلشي معك، منشان ما تقولوا الأمن عميسرق مصارينا وينهب مصادراتنا. طلعي كلشي لحتى نسجلوا وتاخديه بس تطلعي من عنّا".

 لم أكن أملك هوية لأنّي كنت قد فقدتها في حمص، لذا أعطيتهم وصل الهوية وبطاقة الجامعة ومبلغ غير قليل من المال كان قد وصل لي للتو من إخوتي. فيما بعد، لم أر أيّ شيء مما صادروه أو دوّنوه، المصادرات تمّ توزيعها أمامي بينهم، وأمّا وصل الهوية وبطاقة الجامعة، فتم تمزيقهما أمامي خلال خروجي من الفرع إلى سجن عدرا. وفيما بعد، وقالوا أنّهم لم يجدوا أيّة أموال خلال تفتيشهم لمنزلي. 

أعادوا وضع الغطاء على عينيّ، وأمسكني عنصران من كلّ جهة، ثمّ وضعوني في المصعد. كدت أختنق من كثرة عددهم وأصواتهم الضخمة، وبدأ رجال الأمن يتحسّسون جسدي وصدري ويقرصوني في كلّ أنحاء جسدي، ومن كلّ الجهات، ورغم ذلك لم أشعر بأيّ شيء، جسدي كان آخر همي، ولا وقت لديّ للتفكير به حالياً.

أحادث نفسي مرّة أخرى: "هل سيأخذونني إلى فرع فلسطين كما فعلوا مع ميسا؟". لن أسألهم، لأنهم لن يجيبوا. عليّ أن أحافظ على صمتي وهدوئي وأبقى قوية، أيديهم التي تتحرّش بجسدي المنهك، تقاطع حديثي مع نفسي. أقول لها "ركزي وتجاهليهم، انتبهي لكلماتك التي ستصدر منك لاحقاً وابقي حذرة من الجميع. لحظة لحظة، لا أشعر بوجود الشباب ساكني المنزل، أين اختفوا؟ ماذا حصل لهم؟ أين هم؟ ماذا فعلوا بهم؟".

يتوّقف المصعد، ثمّ يقول أحد رجال الأمن: "انتبهي هنالك درج". أنزل الدرج بحذر، أسمع صوت الناس، أتذكر السوبرماركت الموجودة على يساري، والتي اعتدت الذهاب إليها مساء. أشعر بهواء منعش نظيف، استنشقت قدر الإمكان منه، لأنّني لم أكن أعرف متى سأحظى بتلك الفرصة ثانية. أشم رائحة دخان سيارة وأسمع صوت محرّك السيارة، ونتوّقف قليلاً.

بعد قليل، يقول لي صوت ضخم بصرامة "أصعدوهم السيارة"، ويقول آخر "هنالك درجة عالية، اصعد السيارة". يقول نفس الصوت الصارم "أخفضوا رؤوسكم للأسفل، وستتعرضون للصعق بالكهرباء إذا حاولتم رفع رؤوسكم"، وتتحرك السيارة بنا. 

قلت له "بشو بدي اعترف إذا مو عاملة شي". ولم أكد أُنهي جملتي حتى فاجأتني صفعة من عنصر الأمن الذي لم ألاحظ وجوده خلفي، وبكلتا يديه على وجهي. طنّت أذنيّ بقوة، ولم أعد أسمع سوى طنينٍ قويٍ، سيطر على أذنيّ.

"لحظة لحظة"، أخاطب نفسي، إنّه يتحدث بصيغة الجمع، نحن، هل هم معي؟ هل أبقى صامتة كي لا أتعرّض للصعق؟ أم أجازف لأخمد قلقي؟ قلقي أقوى لذلك سأحاول.

"حازم؟" وقبل أن أتلقى أيّ رد فاجأتني صفعة على رأسي وعمّ الصمت المكان. خلال وقت من الزمن لم أعرف مدّته، ولم أعرف طول الطريق، ولا إلى أين يأخذوننا، توقفت السيارة مرّتان، مرّة عند حاجز ما، ومرّة أخرى، عندما وصلنا إلى الفرع. 

قيد الاعتقال

أنزلونا من السيارة، مشينا قليلاً ثم صعدنا درجاً ثمّ درجاً آخر، ثم مشينا لكن أحد عناصر الأمن، ترك ذراعي بينما ظلّ الآخر مُمسكاً بي. بدا لي المكان ضيّقاً. توقفنا، وقام العنصر بترك ذراعي ثم أمسكني من كتفيّ ووجّهني نحو الحائط، وقال: "أوعك تجربي تتحرّكي أو تلتفتي أو تشيلي الغطا عن عيونك". بعد صمتٍ لوقت من الزمن، سمعت صوتَ بابٍ يُفتح خلفي، ثمّ أمسك بي شخص ما من رقبتي بقوة، وأدخلني إلى مكتب وأغلق الباب خلفي. سمعت صوت رجل صارم، يقول لي: "ليكي يا مريم نحنا منعرف كلشي عنك، وإلنا شهور مراقبينك ومراقبين تلفونك، وين ساكنة ومين بيجي لعندك وشو بتشتغلي، ومين بزورك ببيت المشروع، ومين بيطلع منو، ومنعرف إنك كنتي عمتودّعي بنت خالك ميسا، وإنك ساعدتي بتهريبا. وحتى السيارة السودة المفيّمة يلي وقفت بهداك اليوم وقت كنتوا رايحين أنتِ وبنت خالك لضاحية قدسيا، وحتى الشحاد يلي دق عباب بيتك ليطلب أكل ومصاري. نحنا لو كان بدنا ميسا كنّا جبناها قبل ما تهرب، بدنا ياكي إنتي يا شرموطة. عرفانة حالك يا شلكة  ما عليكي شي لهيك ما هربتي؟ لهيك ما في داعي تخبّي شي والأحسن تعترفي بكلشي لحالك، لأنّي بها الفرع معروف أنّي مبدع بأساليب التعذيب تبعي، يعني مارح تملّي مني أبداً، وكلّ يوم رح فاجئك بأسلوب أحلى من اللي قبلو، فاعترفي وبلا وجعة راس".

قلت له "بشو بدي اعترف إذا مو عاملة شي". ولم أكد أُنهي جملتي حتى فاجأتني صفعة من عنصر الأمن الذي لم ألاحظ وجوده خلفي، وبكلتا يديه على وجهي. طنّت أذنيّ بقوة، ولم أعد أسمع سوى طنينٍ قويٍ، سيطر على أذنيّ. مرّة أخرى، قال المحقّق: "يعني ما بدك تعترفي؟". أجبته: "أنا مو عاملة شي، فبشو بدي اعترف؟".

ليل القيامة الطويل

27 كانون الثاني 2021
"قابلتُ تعليقات مسيئة وتنمرًا كبيرًا من الناس، وتعامل المجتمع كان سلبيًا جدًا حين تحدثت عن التحرّش الجنسي بالمعتقلات الذي يحدث أثناء التعذيب". هذا ما تقوله المعتقلة السابقة عبير فرهود لحكاية...

وبدأت أول صعقة كهرباء والثانية والثالثة... تجمّد الدم في جسدي، وكانت المرّة الأولى التي أتعرّف بها على الصعق بالكهرباء. توّقف الصعق، وبدأ الصفع والضرب والركل. وقعت أرضاً، لكنه لم يتوّقف. كنت أتوجع وأتألم لكنّي لم أصرخ ولم أتكلم، لا رغبة منّي ولكن صوتي اختفى، كما اختفت مشاعري وتلبّدت لحظتها. كنت في حالة صدمة، ولم أكن بعد قد استوعبت ماذا حصل. توّقف عن الضرب، وأمسكني من رقبتي، من الخلف، وأخرجني من الغرفة، ثمّ أعادني لمواجهة الحائط. فجأة، يأتيني صوت يقول لي: "كلشي رح يكون منيح مريم". إنّه صوت أعرفه، هادئ ومطمئن وحنون، قلت: "حازم؟ أنت منيح؟". أجابني: "إي أنا منيح، انتبهي لحالك". قلت له: "وأنت كمان انتبه لحالك". أخذوا حازم إلى الغرفة، وأُغلق الباب ثانية. أتى عنصر أمن وأمسكني من ذراعي ومشى بي حتى توّقفنا في مكان ما، ثمّ نادى على شخصٍ ما وأخبره أن يراقبني إلى أن يعود.

بعد قليلٍ، جاء صاحب الصوت الصارم وأمسكني بوحشية من رقبتي، وبرفقته حقيبة سفرية يجرّها معه، وأعادني إلى الحائط مرّة أخرى. خرج حازم من الغرفة وأزالوا عن عينيه وعينيّ الغطاء. أمامنا حقيبة سفر مفتوحة، قال أحد العناصر: "كل واحد منكن يقول شو هيي غراضوا لنسجلها". المصادرات المسجلة باسمي: كاميرتان، كمبيوتر محمول، كاميرا تعود لصديق ميسا، هارد يعود لميسا، ستة فلاشات، كتيب «تكتيكات في الحراك الثوري السلمي»، كتاب «علم النفس العسكري»… قال المحقّق تعليقاً على الكتاب بأنّني شرموطة، وأدرس هذه المادة لأفهم شخصية ونفسية الموالين للنظام والعساكر، من أجل فهم نفسياتهم وشخصياتهم من أجل التأثير فيهم وإقناعهم بالانضمام إلى المعارضة والجيش الحر.

عندما انتهوا من تسجيل المصادرات، أعادوا وضع الغطاء حول عيوننا وأنزلونا طابقين تحت الأرض، ثمّ توّقفنا ومشينا قليلاً، ثم توّقفنا مرّة أخرى. نزع الغطاء عن عينّي، لم أستطع أن أرى جيداً في البداية، ثمّ بدأت أميّز قليلاً أنّني أقف أمام باب مهجع، تتوّسطه نافذة صغيرة في الوسط، وعدد كبير من النساء.

نادى عنصر الأمن "شاليش"، فخرجت صبية صلبة، لامبالية، ضخمة، من المهجع، ولمحت حازم عند الزاوية على يساري، وقد أنهوا تفتيشه للتو، ثم غاب وهو يسير في الممرّ الذي على يساري. قاطعني صوت عنصر الأمن الصارم وهو يقول لـ"شاليش": "بدي ياكي تاخديها للحمام وتفتيشها تفتيش دقيق وتشلحيها كل تيابها، وشو ما بتلاقي معها بتجيبيلي ياه، أكيد هي الشرموطة معها حشيش، انشالله بلكي منزدلها التهم تهمة زيادة وبتضلها متختخة عنّا لتموت".

أخذتني "شاليش" إلى الحمام، لكن صبية أخرى دخلت معها، وطلبت منّي أن أنزع جميع ملابسي. أحسست بالإحراج لأنّني لم أسمع كلمات بذيئة تُوّجه لي كالتي سمعتها في ذاك المكان، كما أنّني لم أخلع ثيابي أبداً أمام شخص غريب من قبل. أحسست بالخجل، ولم أعرف ماذا أفعل. قاطع حديثي مع نفسي، صوت الصبية الأخرى التي بدت لطيفة بتدخلها، وسألتني: "معك شي مخيبيتيه؟ إذا أي طلعيه واعطيها ياه". أخبرتها أنّ لديّ قداحة في جيبي فقط، وأعطيتها إياها. قالت الصبية اللطيفة، والتي عرفت لاحقاً أنّ اسمها "نجوى": "طيب ارفعي هلأ كنزتك لفوق ونزلي بيجامتك شوي لتحت، لا تخافي مارح نشلحك كلّ تيابك ورح نقول للمحقّق إنو شلحناكي كلّ تيابك".

فعلتُ كلّ ما طلبته مني، وعرفت أنّ رجل الأمن، صاحب الصوت الصارم، هو المحقّق، وأنّه هو من سيتولى التحقيق معي، وهو من داهم البيت، وهو من أدخلني إلى مكتبه.

خرجت "شاليش"، وأخبرته أنّها لم تجد شيئاً في حوزتي. فَتحَ باب المهجع ونظر إلى جميع البنات، وقال لهنّ: "هالبنت إرهابية، ممنوع حدا يتعاطى معا، وإذا سمعت أنو حدا جرّب يحكي معها يا ويلوا، رح طلعا للكوريدور واتسلى بتعذيبها بكلّ مناوبة لألي، سمعتوا؟. شاليش إنتي المسؤولة، وممنوع حدا يخبرها شو اسم هالمكان".

نظر إليّ المحقّق، وقال: "وإنتي يا شلكة، من هلأ اسمك هو أميرة خليف، شو؟ أميرة خليف، شو اسمك؟". أجبته "مريم"، فعاد وقال "قلتلك أميرة يا شلكة، بدي اسمعا منك، هديك مريم ماتت، هداك الاسم بتنسيه، بطل موجود. شو اسمك؟".

صمت، "شو اسمك؟". أجابت نجوى عنّي: "اسمها أميرة سيدي"، عاد ونظر إليّ المحقق، وقال: "إذا برجع بسمعك عمتقولي اسمك هداك مرّة تانية بدي شيلك عيونك، سمعتي ولك قحبة؟".

خرج من المهجع وأغلق الباب علينا. كان المهجع صغيراً ومكتظاً بالنساء. العدد يتراوح بين خمسة وثلاثين وأربعين صبية، وأحياناً يصل إلى خمس وأربعين صبية. رائحة الرطوبة فيه امتزجت بالعفن. أفسحوا لي مكاناً قرب الحمام. جميعنا ملتصقات ببعضنا البعض، لنقص المساحة في المكان. جلست القرفصاء لسبعة أيام، لم أتكلّم، أو أكلّم أحداً. كنت لازلت في حالة صدمة ممّا حصل معي، ولم أمتلك الوقت الكافي لاستيعاب كلّ ما حدث، كأنّني في كابوس، قد أستيقظ منه في أيّة لحظة. فتحت عينيّ ثم أغمضتهما مراراً وتكراراً، وتصوّرت أنّني سأفتحهما لأجد نفسي في بيتي، في غرفتي، وقد انتهى ذاك الكابوس. فجأة، قرّرت المجازفة في أحد الأيام، وسألت الصبايا الموجودات معي في المهجع: "أين نحن؟". تجاهلنّني جميعهن، ولم أحصل على أيّة إجابة. وفي يوم ما،  دعتني "نجوى" بإشارة من رأسها إلى الحمام الموجود داخل المهجع. وعندما دخلت رأيت أربعة صبايا يتشاركن في تدخين سيجارة واحدة، حتى منتصف الفلتر. سألتني نجوى: "بتدخني؟". أومأت برأسي إيجاباً، فأعطتني دورها، سحبت سحبة ثمّ أعدتها لها. سألتها: "في أيّ فرع نحن؟". قالت: "فرع الأمن الجنائي". فقلت: "ماذا؟ الأمن الجنائي؟ بباب مصلى؟". وهنا كانت الصدمة.

نظر إليّ المحقّق، وقال: "وإنتي يا شلكة، من هلأ اسمك هو أميرة خليف، شو؟ أميرة خليف، شو اسمك؟". أجبته "مريم"، فعاد وقال "قلتلك أميرة يا شلكة، بدي اسمعا منك، هديك مريم ماتت، هداك الاسم بتنسيه، بطل موجود. شو اسمك؟".

عدت إلى مكاني مذهولة، وأنا أتساءل: لماذا فرع الأمن الجنائي؟ أنا لم أرتكب أيّة جناية. لا بأس سأعرف لاحقاً لماذا. المهم أنّي عرفت الآن اسم الفرع الذي كنت موجودة فيه. قلت لنفسي: "لكن لن يتمكن أحد من إيجادي، لأنّ المحقّق غيّر اسمي ليتأكد أنّ من يبحث عنّي لن يجد لي اسم في هذا الفرع". لكن في النهاية، مثلما قالت الكاتبة الراحلة، نوال السعداوي: "المعرفة مهما كانت أقل إيلاماً من الجهل. الجهل هو الخوف، ولا شيء يرعب الإنسان سوى الجهل".

التعذيب والتحقيق

لم يكن يوجد وقت معيّن للتحقيق، ولا للتعذيب. يُفتح الباب فجأة وينادي أحد العناصر "أميرة خليف". أقف وأقترب منه، ثم يُخرجني من المهجع ويُعيد إغلاق الزنزانة، ليأتيني من الخلف صوت المحقّق مؤيد المسوتي. يَمسكني من الخلف، من رقبتي ويقول: "هلأ بلش اللعب، رح تنبسطي معنا كتير". 

تجارة الاعتقال في سجون ومعتقلات النظام السوري

16 نيسان 2020
هل يمول ذوو المعتقلين والمختفين قسرياً المؤسسات الأمنية التي تسلبهم أبنائهم؟ للإجابة عن هذا السؤال، اعتمد هذا التحقيق على تقصّي حالة مئة مواطنة ومواطن سوريين ممن تعرّضوا للاعتقال أو الإخفاء...

مقابل المهجع الذي كنت فيه، أمشي قليلاً في الممر، إلى اليمين حيث يوجد حمام صغير يتسع لشخص واحد. يضعني تحت الدوش بملابسي الكاملة، في فصل الشتاء القارس المثلج، ويفتح صنبور المياه الباردة إلى آخره، ثمّ يقف ويراقبني. تبدأ الدماء بالتجمّد في عروقي، فيما نفسي يتقطّع مع رعشات متقطعة. جسمي يرتجف أكثر فأكثر. يسألني أسئلة عشوائية، وكنت في البداية أجيب عنها، لكن عندما يتحوّل لوني إلى الأزرق وأعجز عن الإجابة، يرحل لبضعة دقائق. لا أستطيع تحديد المدّة التي قضيتها تحت الدوش، لكنها تتجاوز الخمسة عشر دقيقة. يعود المحقّق، ليغلق صنبور الماء ويخرجني، ثمّ يقول لي: "هي لسا ما بدينا، كلّ مرّة رح صبحك ومسيكي بدوش". ثمّ يعيدني إلى المهجع، يفتح الباب ويطلب من الفتيات الأخريات أن يبعدن الأغطية العسكرية كي لا يصل الماء الذي يسقط من ملابسي إليها، ويقول: "ممنوع حدا يساعدها أو يحكي معها، بدي ارجع لاقي تيابها نشفانين عليها ويا ويلها يلي بتجرّب تساعدها". أبقى واقفة إلى الحائط، جسدي يرتجف وأسناني تصطك ببعضها البعض. لفترة من الزمن، لم تقترب منّي إحداهنّ، لكن "نجوى" اللطيفة تقول: "مين معو تياب داخلية وكنزة وبنطلون؟". لا أحد يجيب، جميع الفتيات يردنّ الاحتفاظ بقطعة الثياب الوحيدة المتبقية لهن. لكنها تصرّ وتجبرهن على إعطائها الملابس. تنظر إليّ، وتقول: "اركضي بسرعة عالحمام واشلحي كلّ تيابك". أركض إلى الحمام بصعوبة، أخلع ملابسي وتلفني بمنشفة، ثمّ تضمني وتقول: "البسي هدول وضلك بالحمام، وبس تسمعي اسمك اشلحي التياب الناشفة وارجعي البسي تيابك القديمة لتحافظي على هدول". بعد فترة تعود "نجوى"، وتقول: "طلعي اقعدي برا معنا، وضلك بعيدة عن الباب وخليكي قريبة من باب الحمام منشان بس يجي المحقّق تلحقي تغيّري تيابك. ما تخافي كان المحقق تبعي لهيك بقدر اعرفو من خطواتوا وصوتوا قبل ما ينفتح الباب". 

لمدّة شهر كامل تمّ تعذيبي والتحقيق معي بشكل يومي وفُجائي. تعرّفت على جميع أنواع التعذيب. كنت الوحيدة بين فتيات المهجع المتهمة بتهمة سياسية، ولم أر أيّ فتاة أخرى تُعامل أو تُعذّب كما عاملوني. التعذيب النفسي كان الأسوأ على الإطلاق بالنسبة لي، إذ كنت دائماً في حالة تأهّب واستنفار، لأنّ المحقق قد يناديني في أيّة لحظة. لم أكن أملك الوقت للتفكير في العالم الخارجي، لا أهلي، ولا إخوتي، ولا حتى ما سيحصل معي لاحقاً، فقط أمضي كلّ يوم بيومه. أصوات تعذيب الآخرين في الممرّ المواجه لمهجعنا كانت الأسوأ. في البداية، كنت حسّاسة جداً وأتفاعل مع أصوات التعذيب، أبكي معهم كما لو كنت أتعذّب معهم. كانت دائماً أصوات مجتمعة لعدد من الأشخاص، يتم تعذيبهم في وقت واحد. أسمع صرخاتهم واستجداءاتهم كي يُوقف المحقّق تعذيبهم. كنت أدعو لهم رغم أنّني لا أؤمن على الإطلاق. أبكي بحرقة وصمت، الصمت الذي أصبح مع الوقت ردّ فعلي الوحيد على كلّ ما أسمعه أو أراه. أراقب كلّ ما كان يجري حولي بصمت كي لا أنسى. أمّا التعذيب الجسدي، فقد كان قاسياً جداً، لكن ليس أقسى من التعذيب النفسي. تمّ وضعي بشكل يومي تحت الدوش البارد، مرّة أو مرّتان يومياً، وبعد عدّة مرّات صرت أعرف أنّ المحقّق يغادر لمدّة من الزمن ثم يعود، لذا قرّرت في إحدى المرّات أن أفتح صنبور المياه الساخنة لأعدّل حرارة الماء وأنّ أبقى مركزة على خطوات قدميه كي أغلق الصنبور قبل أن يكشفني. وبالفعل فعلت ذلك، وأحسست باعتدال بالحرارة أو على الأقل ادّعيت ذلك لأوقف استجداء جسدي لي. لكنه كشفني، لأنّني لم أسمع صوت خطواته، وعندما قام بإغلاق الصنبور البارد، استمر الدوش بالتنقيط، فقال لي المحقق: "ولي شرموطة مشغلة المي السخنة؟". أجبته: "مانك شايف أنو ما عميشتغل؟". أغلق الصنبور الساخن ثم أخذني إلى المطبخ، حيث يعمل الأشخاص الذين يجهزون وجبات الطعام ويوّزعونها بحسب عدد الأشخاص في كلّ مهجع. طلب من أحدهم أن يملأ قصعات الطعام بالمياه المثلجة والتي كان يأتي بها من الثلاجة مباشرة. ثمّ كان يقوم المحقّق بدوره، بفتح كنزتي من الأمام ليسكبها، وهكذا كان يكرّر العملية نفسها من الخلف. 

إلى جانب ذلك، كان هنالك أيضاً التحقيق في مكتب صغير في آخر الممرّ على يسار المهجع، والذي كان يحتوي على مكتب مليء بالمصادرات المسجّلة باسمي. كان المحقّق يجلس على كرسيه، بينما أجلس القرفصاء خلال ساعات التحقيق الطويلة. وخلال التحقيق كان يتم صعقي بالكهرباء باستخدام عدّة عيارات، إضافة إلى إطفاء السجائر في يديّ. هناك أيضاً التعذيب بالشبح، حيث تمّ شبحي بشكل تقليدي من الأمام، وليس من الخلف ولا بالمقلوب كما فعلوا مع سجناء وسجينات آخرين/ات. ورغم ذلك لا زلت أعاني بسبب ذلك من مشكلة في كتف ذراعي اليسار. تمّ وضع غطاء حول عينيّ وتوقيفي في المكان الذي يتم فيه تعذيب السجناء الشباب الآخرين في ساحة التعذيب التي تنتهي إليها جميع الممرّات، وأمام مهجع النساء أيضاً، ووجهي للحائط لعدّة ساعات. كان المحقق يقول لي: "بدي ياكي تسمعي هالأصوات منيح وتفكري. رح إرجعلك بعد شوي لاسمع شو عندك وبدي اسمع شي يعجبني، فهمانة؟".

ساعات التحقيق الطويلة كانت تتم في مكتب المحقّق الرئيسي، في الطابق الثاني، وكانت غالباً تتواقت مع توزيع وجبة الطعام الأولى، وتنتهي أثناء انتهاء وجبة الطعام الثانية والأخيرة.

"بساط الريح"، كانت بالنسبة لي أبشع وأفظع وأسوأ أداة تعذيب جسدي تعرّضت لها. حاولت قدر الإمكان ألا أضعف أو أصرخ أو أبكي، لكنّي فجأة وجدت نفسي أسمع صوتي لأوّل مرّة منذ ما يقارب الشهر. أخرجت كلّ وجعي وألمي وكبتي ومعاناتي في تلك اللحظة. بكيت وصرخت وتأوّهت، لكنّي لم أستجديه. 

"بساط الريح"، كانت بالنسبة لي أبشع وأفظع وأسوأ أداة تعذيب جسدي تعرّضت لها. حاولت قدر الإمكان ألا أضعف أو أصرخ أو أبكي، لكنّي فجأة وجدت نفسي أسمع صوتي لأوّل مرّة منذ ما يقارب الشهر. أخرجت كلّ وجعي وألمي وكبتي ومعاناتي في تلك اللحظة. بكيت وصرخت وتأوّهت، لكنّي لم أستجديه. حاولت قدر الإمكان أن أخرج من ذلك المكان بأقلّ الخسائر الممكنة لأنّني لن أحتمل فكرة أن أخرج من ذلك المكان مكسورة. توّقف عن ضربي "بالأخضر الإبراهيمي" ( أداة ضرب، وهي عبارة عن ماسورة مياه خضراء اللون، وكان يسميها المحققون بهذا الاسم سخرية من الأخضر الإبراهيمي الذي تولى مهمة مبعوث الأمم المتحدة في سوريا). فكْ الحبل عن يديّ المصلوبتين وخصري وقدمي، ثمّ طلب منّي النهوض. لكنّني كنت مصلوبة فعلاً، ولم أستطع الحراك. قال لي: "إذا ما بتقومي رح إرجع إضربك مرة تانية"، حاولت لكنّي عجزت عن الحركة، انحنى إليّ، رفعني وحاول إجباري على المشي. وقفت بثبات، وعجزت قدميّ عن الحركة. دفعني وأجبرني على السير، مشيت ببطء على رؤوس أصابعي وأنا أتأوّه من شدّة الوجع. أدخلني المهجع ومدّدني عند عتبة المهجع على ظهري الذي تسبّب "بساط الريح" بنتوء ثلاثة فقرات أسفله. نادى على "نجوى" اللطيفة وقال لها: "رح جبلك ملح إنكليزي لحتى تفركي فيهن رجليها، وضلك مشيها لحتى ما يتورموا رجليها".

وضعت "نجوى" قدميها تحت رأسي، نظرت إليها وفي عيونها نظرة شفقة وحب، ابتسمت، وقلت لها: "أنا منيحة ما تخافي" وأغمضتُ عينيّ بعد أن أحسست بالأمان عندما نظرتُ إليها، فقد أصبحت مصدر أماني في ذاك المكان الموحش. أخبرتني "نجوى" أنه عليّ ألا أسير عليهما، وأنّها ستستخدم الملح الإنكليزي لمرّة واحدة فقط، وأنّها لا تريد لقدميّ أن يتحسّنا لأنّه سيضعني مرّة أخرى على بساط الريح، وعليّ أن أتظاهر بأنّهما لازلتا متورمتين، وأن أستمر بالمشي على رؤوس أصابعي.

بعد فترة، سألتني نجوى: "هل تريدين أن يتوقف تعذيبك؟". أجبتها: "طبعاً أريد". قالت لي: "عندما يستدعيك مؤيد في المرّة القادمة أخبريه أنك ستوافقين على أي شيء يريد أن يكتبه في محضر التحقيق، وأنك لن تعترضي وستوّقعين على كلّ ما يكتبه وبالمقابل عليه ألّا يعذبك مرّة أخرى". بالفعل، عندما استدعاني المحقّق وأخرجني من المهجع، قلت له: "شو رأيك تكتب محضر التحقيق متل ما بدك، وأنا جاهزة وافق ووقع عليه بشرط أن تُوقف تعذيبي"، أجابني: "ولي شرموطة، عم يعلموكي جوا شو لازم تقوليلي؟ روحي انقلعي لمهجعك، نحنا ما منكتب إلا الحقيقة".

أعادوني إلى المهجع. وبالفعل، في النهاية كتب محضر التحقيق كما أراد دون موافقتي. لا أعرف كيف يمكن في مكان موحش ومظلم كذاك المكان، أن أحظى بصبية بريئة مليئة بالحب كنجوى. طوال فترة شهر، لم أكن أقوى على القيام بأبسط فعل، لم أستطع خلع أو ارتداء ملابسي وحدي، كما لم أقو على الاستحمام، ولا على تناول الطعام، ولا دخول الحمام. نجوى وحدها، من كانت تقوم بكلّ تلك الأمور من أجلي. كم كنت محظوظة بك يا نجوى. 

فرع الأمن الجنائي

في فرع الأمن الجنائي، كان هناك عدّة محققين، وكلّ واحد منهم يتولى قضايا متعدّدة وتهم معينة. مؤيد عبد الستار المسوتي كان أسوأهم، وكان يتولى قضايا السلب والقتل والخطف. وجميع فتيات المهجع اللواتي كنّ تحت مسؤولية محققين آخرين، كنّ يحصلن على الأدوية الطبيّة المتعلّقة بأمراض مزمنة، إضافة لأدوية الحساسية والضغط والمسكنات وغيرها، والتي كانت تُوّزع لهنّ مساء كلّ يوم، إضافة إلى الفوط الصحية التي كانت توّزع بشكل يومي عند الحاجة. أمّا الفتيات اللواتي كنّ تحت مسؤولية المحقق مؤيد المسوتي، فكنّ يعلمنه أنّهن بحاجة لفوط صحية من خلال إرسال أحد العناصر إليه، لكنّ ردّه المعتاد كان أن يستخدمن ثيابهن كفوط صحية ويقمن بغسيلها وإعادة استخدامها. أمّا أنا فكنت محظوظة لأنني لم أحظ بالدورة الشهرية طيلة فترة اعتقالي. 

سجون ومعتقلات سريّة في مناطق سيطرة الإدارة الذاتيّة شمالي شرق سوريا

22 آذار 2022
"غوانتانامو.. نعم.. يبدو في الاسم مبالغة.. لكنّني جرّبته بنفسي.. هو بالفعل كذلك لقد كان الحديث عن هذه الأماكن مجرّد روايات وإشاعات.. إلى أن عشت تجربة السجن بنفسي، بل إنّي فقدت...

أيضاً في الفرع، الطعام قليل ومحدود، ويُمنع الاحتفاظ به لوقت لاحق. القمل والجرب موجود بشكل دائم، أمّا قمل الملابس فكنّا نتسلى بقتله خلال النهار. البطانيات مليئة بالحشرات ورطبة، وهو ما سبّب لنا الجرب بسبب عدم تعريضها للتهوية، ولا يمكن حصول الواحدة منّا على أكثر من بطانية عسكرية رغم البرد القارس والمثلّج.

 في أحد الأيام استدعاني أحد العناصر التابعين للمحقّق "مؤيد" وأخذني إلى مكتبه، ثمّ عرض عليّ أن أكون مخبرة له، وفي المقابل سيجعلني صاحبته ومقيمة في مكتبه، وبأنّه لن يعيدني إلى المهجع أبداً، إلى أن تأتي مذكرتي ويتم نقلي إلى سجن عدرا. وكان مكتبه يحتوي على غرفة داخلية تحتوي على سريرين. أجبته: "ومين قلك إنّي ما بدي إرجع للمهجع؟ أنا بحب المهجع وبحب ضلني مع البنات".

في الفرع أيضاً، تمّت معاملتي من قبل عناصر الأمن وعناصر الشرطة كحيوان، كحشرة. كانت تلك سياستهم المنهجية لكسري، لكن ورغم إحساسي بالإهانة، كنت أتظاهر بالقوة أمامهم. مع الوقت، أصبحوا يطلقون عليّ بعض الألقاب، منهم من يناديني "الإرهابية" أو "جرادة" أو "زيتونة". كان هناك علب مياه بلاستيكية تُوّزع على كلّ فتاة منّا، وعندما يَفرغ الماء منها نقوم بتجميعها وتعليقها على باب المهجع بين القضبان الحديدية للباب، ثم لاحقاً، يأتي أحد العناصر ويأخذها ليعيد ملأها وإعادتها. ينادي "لمن هذه؟ وهذه؟ وهذه؟" إلى أن يأتي دوري، وعندما يعرف أنّها تعود لي، يمسكها ويرميها على أرض المهجع، ويقول؟ "بدك تشربي يا إرهابية؟ تشربي سم، إنتي لازم تموتي ما لازم تعيشي، تفو عليكن خربتوا البلد". أحمل علبتي وأعود إلى مكاني، ويتكرّر المشهد ذاته في كلّ مرّة، لكن مع عنصر آخر.

بعد مضي شهر على وجودي في فرع الأمن الجنائي، يأتي المحقّق وينادي على اسمي، ثمّ يخرجني من المهجع، ويقول: "ليكي يا أميرة رح قدملك عرض، فكري فيه منيح، ورح إرجعلك بعد كم ساعة لآخد جوابك، وإذا بترفضيه فرح تعفني وتموتي عنّا هون، لأني رح أعملك مذكرة احتفاظ. بدي ياكي تطلعي عالتلفزيون السوري وتعترفي أنك إرهابية وتحكي شو عملتي، وبالمقابل أنا رح جيب مذكرة تحويلك لعدرا وبعدها تسطفلي منك للقاضي، وعفكرة الشبين يلي معك بنفس الملف قدمتلهن نفس العرض ووافقوا".

أعادني إلى المهجع وشعور غريب يغمرني، فيما أنا أحادث نفسي: "معقول هي النهاية؟ معقول خسرت كلشي ورح إطلع عالتلفزيون قدّم اعتراف؟ معقول اطلع من هالمكان مكسورة وخسرانة كلشي؟".

بعد ثلاث أيام أرسل المحقّق أحد العناصر إليّ ليعرف جوابي، فأخبرته أنّي موافقة على عرضه. في داخلي، كنت أعرف أنّها مجازفة كبيرة، لكن كان عليّ المحاولة وأقنعت نفسي أنّي سأستخدم جملي وتعابيري، وسأجد طريقة لأقلّل نسبة الضرر الذي سأواجهه خلال الاعتراف، كما أنّها كانت الوسيلة الوحيدة للخروج من هذا المكان.

بعد مرور ستين يوم، وفي مساء أحد الأيام، جاء أحد العناصر ليخبر "نجوى وشاليش وضرتها" (سنتحدث عنها لاحقاً)، أنّه سيتم تحويلهن في صباح اليوم التالي إلى السجن المدني للنساء بعدرا. فرحت وحزنت بنفس الوقت، فرحت لنجوى بأنها أخيراً سترى السماء والنور رغم أنّها ستكون في سجن آخر، وحزنت لأنّ مصدر أماني، والشيء الوحيد الجميل في هذا المكان الموحش، سيرحل.

خسارتان موجعتان في نفس الوقت، رحيل نجوى اللطيفة والاعتراف أمام كاميرا  التلفزيون. لقد بقيت محبطة لفترة طويلة بسبب هذين الحدثين.

الاعتراف على شاشة التلفزيون السوري وفبركة المظاهرات 

في صباح أحد الأيام، وبعد مرور سبعة أيام على موافقتي على التصوير التلفزيوني، أتى أحد العناصر وأخرجني من المهجع، ثمّ أخذني إلى غرفة صغيرة فيها سريران عسكريان وعنصرا أمن تابعان للمحقّق. فوجئت برؤية "حازم" و"شيار" اللذان سبقاني للجلوس واحتساء القهوة الساخنة. قال لي حازم: "لا تخافي، تعالي اقعدي واشربي قهوة معنا، بعد شوي رح نصوّر عالتلفزيون". كانت المرّة الأولى التي أراه بها منذ قرابة الشهرين. جلست قربه وتذوّقت للمرّة الأولى طعم القهوة منذ لحظة اعتقالي. مذاقها الساخن، امتزج لديّ بمتعة غامرة وقلق مما هو قادم ومجهول، برفقة شعور غريب عجزت الكلمات عن وصفه. جاء المحقق "مؤيد"، وأخذني، لأنّه على ما يبدو، اختارني الوجه الأولى لعرضه التلفزيوني. دخلت إلى غرفة كبيرة أشبه بمجلس ضيافة، غرفة واسعة وعريضة. جلست على كرسي وأمامي كاميرا، وخلفها شاب ذو وجه بريء لم يكن يشبه ذاك المكان أبداً، ولا يبدو أنّه ينتمي إليه. وعلى يساري مكتب، وُضِعت عليه جميع المصادرات المسجّلة باسمي، فلاشاتي وكتيب "تكتيكات في الحراك الثوري السلمي" وجميع المصادرات الأخرى، ثم دخل عدّة أشخاص ببدلات رسمية وجلسوا في آخر الغرفة. عرفت فيما بعد، أنّ أحدهم كان رئيس الفرع. بدأ المحقّق يُلقنني جمله الطويلة، لكنّني لم أقل ما أملاه عليّ، واستخدمت جملي القصيرة المموّهة. غضب وقال بصوت صارم وحاقن، أن أعيد جمله ذاتها، فأخبرته أنّني لا أستطيع التذكر، ولا حفظ جمله الطويلة لأنّني أعاني من آثار التعذيب. عندها قاطع رئيس الفرع المحادثة، وطلب من المحقّق أن يتركني وشأني. بدا على المحقّق الاستياء والغضب، وكان عليّ في النهاية أن أجد مخرجاً سريعاً ومقنعاً، وإلا سيجبرني على قول، ولو القليل من جمله، لم أعرف كيف خطرت لي فكرة فبركة المظاهرات، لربّما ساعدتني رؤية فلاشاتي على المكتب. لا أدري، لكن الفكرة جذبت المحقّق ووافق عليها، وبنفس الوقت أنقذت نفسي من ترديد جمله. في نهاية التصوير قلت: "ما بتمنى لحدا يكون موجود هلأ بالمكان يلي أنا موجودة فيه"، والتي تمّ لاحقاً، حذفها من فيديو الاعتراف. أعادوني إلى الغرفة الصغيرة ومشاعر الخيبة تغمرني، لم أستطع وقتها أن أعرف أثر ما حصل عليّ، كما لم أستطع التفكير بمنطق ولا إيجابية، كلّ ما أردته هو العودة إلى مهجع الفتيات لأختلي بنفسي. 

رسمٌ فوق جدران سجون داعش

22 شباط 2022
في المهجع رقم أربعة في سجن المحكمة الإسلاميّة في مدينة الباب، والذي تبع تنظيم داعش، كان أبو ديار معتقلًا، فقط لأنّه كرديّ. رسم أبو ديار فوق جدران ذلك السجن، وكتب...

أنهينا التصوير، ثم أعادني المحقّق إلى المهجع، وقال لي: "قلتيلي يا شرموطة ما بتتمني لحدا يكون موجود بالمكان يلي إنتي موجودة فيه؟ أنا ماني رضيان عن كلّ اعترافك لهيك اتفاقنا كلو التغى و رح ابعت رفقاتك لعدرا، وإنتي رح تتعفني وتموتي هون لأني رح اعملك مذكرة احتفاظ".

جلست في المهجع، وبقيت لساعات لا أفكر إلا بسلبية وبأنّني خسرت المعركة، بعد عدّة ساعات. نام الجميع والصمت عمّ المكان، فيما بدأت أفكر "ما هي الإيجابيات التي حصلت معي؟ حسناً، الإنجاز الأهم أنني لم أقل ما أُملي عليّ قوله، لذلك لم أقل أشياء قد أندم عليها لاحقا؛ أمّا الاعترافات، فكان لا مفرّ لي منها وسأنكرها في جلسة التحقيق مع القاضي. لحظة لحظة، الآن إخوتي وأهلي سيشاهدون الاعتراف وسيعرفون أنني بخير، وأنّني في فرع الأمن الجنائي، وهذا شيء جيد...".

أظنّ أنّ ظهوري على التلفاز، لم يكن بذاك السوء الذي أحسسته في البداية، وهكذا انتهى ذاك اليوم بمنطق وإيجابية إلى حدّ ما.

بعد مرور سبعة أيام من تصوير الاعتراف التلفزيوني، نادى أحد العناصر على اسمي وأخبرني بشكل مفاجئ، أنّي سأُنقل إلى سجن عدرا للنساء. خرجت إلى الممرّ ورأيت "حازم" و"شيار" وتسعة شبّان آخرين مربوطين بسلسلة حديدة بين أقدامهم وأصفاد على معاصمهم. ناداني المحقّق وسألني "ما هي المصادرات المسجلة باسمي"، أجبته: "ثلاثة كاميرات وكمبيوتر محمول وستة فلاشات". أجابني: "هدول رح يتحوّلوا معك لعدرا وبتستلميهن بعد ما تطلعي"، قلت: "في كمان وصل هوية وبطاقة جامعية ومصاري"، أجابني: "هي الوصل والبطاقة"، وقام بتمزيقهما أمامي، ثمّ قال: "مصاري مالك عنا، مو مسجل شي لألك هون". شعرت لحظتها بوجع وخيبة، لأنّني لم أعد أملك أيّة وثيقة رسمية تثبت هويتي، وكأنني غير موجودة. فكرت "كيف سأكمل سنتي الخامسة في الجامعة عندما أخرج من عدرا". وفي النهاية، قلت: "كلشي إلو حل، المهم رح اطلع من هاد المكان".

كانت التهم التي وُجّهت لي في الفرع: المشاركة بالمظاهرات وفبركتها، التواصل مع شخصيات من الجيش الحر، حملات جمع أموال مشبوهة وتمويل معارضين ومشبوهين، جاسوسة لأخي مصطفى وعينه في سوريا، التستر على مطلوبين ومنهم ابنة خالي، وأخيراً القيام بحملات جمع حليب وحفاضات وتوزيعها للأسر المهجرة بطرق مشبوهة. 

عندما تمّ عرضي على قاضي التحقيق الخامس، خلود الحموي، تمّ تغيير التهم الموّجهة لي لتصبح "الانضمام إلى منظمة إرهابية والترويج لها". إلى الآن لا أعرف لأيّ سبب بالضبط تمّ اعتقالي، فهنالك احتمالان، الأوّل أنّ أحد زملائي في الهلال الأحمر، قد كتب بي تقريراً، وعلى أساسه تمّ اعتقالي. والثاني أنّ صديق صاحب المنزل الذي كنت أعيش فيه، هو من أخبر الأمن عنّي وأعطاهم جميع التفاصيل بعد أن قام بإبرام اتفاق معهم باعتبار أنّ عمله كان غير مشروع، وهو الذي قبض الأموال مقابل تهريب الأشخاص بطرق غير شرعية إلى خارج سوريا، ولربّما الأمن عرفوا أنّه مطلوب، وقدّموا له عرضاً بألّا يقبضوا عليه مقابل تسليمي. ومنذ اعتقالي لم يتم القبض عليه، ولا زال مختفياً عن الأنظار منذ ذلك الحين. بعد تفكير طويل، أظنّ أنّ الاحتمال الثاني هو الأصح، فخلال التحقيق معي لاحظت أنّ المحقق يعرف الكثير من التفاصيل التي لم يكن يعرفها أحد، إلا صديق صاحب المنزل، وهذا ما دفعني للشك به أكثر.

بعض من قصص نساء أخريات في فرع الأمن الجنائي

"نجوى اللطيفة" كما أسميتها، متهمة بقيادة سيارة، تعمل مع عصابة ترتدي الزي العسكري، وتدّعي أنّها دورية أمن، تداهم البيوت وتقوم بسرقتها. تمّ القبض عليها بمساعدة صاحب العصابة، وهو ابن زوجة أبيها. فتاة لطيفة وبسيطة، رفضت عرض ابن زوجة أبيها الذي أخبرها بإعجابه بها، فقرّر فبركة تهمة لها. مع العلم أنّ نجوى لا تملك رخصة قيادة، ولا تعرف كيف تقود سيارة. تمّ تحويلها إلى سجن عدرا، جناح السرقة.

"خواطر"، المرأة البسيطة، كُتب فيها تقرير كيدي من قبل أحد أقاربها. وتمّ إلقاء القبض عليها على الحدود السورية اللبنانية أثناء قيامها بزيارة والدتها. كانت مع طفليها الصغيرين في سيارة تكسي. في الفرع، كانت تبكي طوال الوقت لأنها لا تعرف مصير طفليها اللذين تركتهما مع صاحب التكسي منذ لحظة اعتقالها. أمران اثنان فقط، كانا يُوقفانها عن البكاء لفترة، هما التحقيق والتعذيب، والسيجارة. بعد مرور أربعين يوم، جاءت مذكرة تحويلها إلى فرع المخابرات الجوية في المزة، وكانت في حالة رعب وخوف من الموت، ومن ألّا تتمكن من رؤية طفليها ثانية. وكان معروفاً عن فرع المخابرات الجوية أنّ "اللي فايت مفقود واللي طالع مولود"، وبأنّ نسبة كبيرة جداً من المعتقلين/ات فيه يموتون/ن تحت التعذيب.

"شاليش وضرتها"، تمّ نبذ شاليش من الطائفة العلوية لأنّ زوّجها تزوّج من فتاة سنية. وهما مسجونتان ورهينتان بالفرع إلى أن يقوم زوجها وأخيها بتسليم نفسيهما للفرع. التهمة: استدراج وقتل. الزوج والأخ يعملان معاً في تجارة المخدرات، وفي أحد الأيام استدرجا موّزع المخدر إلى منزل شاليش وقاما بقتله، ثم اتصلا بها وبضرّتها وقاموا جميعهم بتقطيعه ووضعه في الغسالة ثمّ إخراجه ووضعه في أكياس، ثم وضعوه في إحدى حاويات المزة. ثمّ قامت شاليش ببيع هاتفه في إحدى المحلات، ليتم التعرّف وإلقاء القبض عليها وتعذيبها، ثمّ إلقاء القبض على ضرتها من قبل كمين الأمن بالتعاون مع شاليش، ولم يتم القبض على الزوج والأخ. تمّ تحويلهما لاحقا إلى عدرا، جناح القتل. 

خالة "أم سامي" وزوجها، امرأة مسنة. تمّ اعتقالها عند حاجز مشروع دمر مع زوجها المسن. التهمة: وجود مبلغ كبير من المال معهما في السيارة، وبناء على ذلك تمّ اتهامهما بتمويل الجيش الحر. في الفرع، تمّ فصل الزوجين عن بعضهما البعض، ولم يسمحموا لهما برؤية بعضهما البعض. الخالة "أم سامي"، كانت في حالة قلق دائم لأنّ زوجها مريض قلب، وعليه أخذ أدويته بشكل يومي وبتوقيتات معينّة. كانا الشخصان الوحيدان اللذان تمّ الافراج عنهما مباشرة من الفرع بعد مرور أربعين يوم، دون أن توّجه لهما أيّة تهمة. المحقّق "مؤيد"، كان يقول دائماً، بفخر: "ما حدا بيطلع من هون بريء، كلو عندو تهمة، ويا بروح للقصر العدلي يا بروح لمحكمة الإرهاب".

في الفرع، كنت دائماً أنتظر حتى ينام الجميع كي أبقى وحدي، أبقى مستيقظة إلى أن يبدأ تبادل الوردية بين عناصر الشرطة، وحينها فقط أعرف أنّها الساعة السابعة صباحاً. وفي إحدى الصباحات، أحسّست بحركة غريبة في الممرّ المُواجه للمهجع، والذي بدأ باكراً، قبل تبادل وردية السجانين. اقتربت بحذر من الباب، ثمّ نظرت نحو الخارج. كان عناصر الشرطة يخرجون أغطية عسكرية ملفوفة، وكان واضحاً أنّها تعود لجثامين تُوفي أصحابها داخل المهاجع تحت التعذيب. أصابني الذهول والصدمة مما رأيت وتساءلت: أين يأخذونهم؟ ماذا يفعلون بكلّ هذه الجثث؟ كيف يتخلصون منها؟ أين يدفنونها؟ أم أنهم يقومون بحرقها ثمّ يزيلون الأسماء من سجل الفرع؟ هكذا ببساطة، وكأن شيئاً لم يكن؟. ماذا عن أهاليهم؟

****

كانت كتابة هذا النص صعبة ومؤلمة، لأنّني خلال الكتابة كنت أتذكر وأعود تماماً إلى ذاك الزمن ونفس المكان، وأعيش الوجع بتفاصيله مرّة أخرى. لكن رغم ذلك، كان الدافع أقوى من الوجع.

وما جعلني أرغب بكتابة هذا النص سببان، الأوّل: اكتشفت في فترة عزلتي الأخيرة، أنّ هناك نوعان من التجارب الشخصية، نوع شخصي بحت، أحتفظ فيه به لذاتي ونفسي، ونوع آخر شخصي، لكنّي لا أملك حق الاحتفاظ به لشخصي، وعليّ أن أشاركه مع الآخر لأنّه يتقاطع ويتشابه في بعض نقاطه مع تجارب غيري، وما عاشوه من تجارب مشابهة. وأظنّ أنّ هذا النص يندرج حسب رأيي، ضمن هذا البند. 

السبب الثاني: أردت كتابة هذا النص كي لا أنسى، فمع الوقت اكتشفت أنّني أجد صعوبة في تذكر التفاصيل والأسماء والتواريخ، ولذلك أردت أن أوّثق هذه التجربة قدر الإمكان على الرغم من وجعها. صحيح أنّ تذكر التفاصيل مُوجع، ويعيد تكرار الحكاية، واللحظات، وتذكر المكان المظلم هناك، وبكلّ تفاصيله الموجعة، لكنه دائماً يُذكرني بأين أنا الآن، ويحفزني للمزيد والمزيد، ويعيد تذكيري بألّا أنسى، وعلى أمل أنه سيأتي اليوم الذي سأرى فيه المحقّق مؤيد عبد الستار المسوتي، ومساعديه اللذين عذبوني وتحرّشوا بي، يُحاسبون على كلّ جرائمهم التي ارتكبوها بحقّي، وبحقّ كثيرين وكثيرات غيري، هم وغيرهم وأشباههم.

في النهاية سأعيد تكرار ما قالته الكاتبة نوال السعداوي في مذكراتها عن تجربتها في السجن، مع تعديل بسيط عليها "طوبى لكلّ ثائرة وثائر، لكلّ من كره الظلم حتى الموت، وأحبّ الحريّة حتى السجن، ورفض الكذب حتى الثورة، لكلّ من رفع صوته بالاحتجاج والغضب، وأمل بانكسار الأبواب والقضبان والأقفال".

مقالات متعلقة

ثقافة مُعتقلة في زنزانة

28 نيسان 2023
ماذا تفعلون لو وجدت أنفسكم فجأة محجوزين داخل غرفة معتمة أو على جزيرة بعيدة عن كلّ اتصال مع العالم؟ كيف تخترعون أدوات الحياة الأولى؟ ثيابكم؟ القلم؟ الكتابة؟ الحكي؟... هل يبدو...
إسماعيل الحامض...غيابه ترك مقعدا للحزن في كل فرح

03 كانون الأول 2020
"لا أحمل مسؤولية اختطاف أبي للثورة كفكرة، وإنما للأشخاص والمحيط الذي أرى أنه قصّر بالدفاع عن أبي ومحاولة معرفة مصيره. فأنا كان عندي ثقة كبيرة إنو حتى لما انخطف بابا...
عندما وجدوني مقتولاً

10 آب 2023
في العاشر من آب ٢٠١٣ اعتقلت السلطات السوريّة الناشط والمناضل جهاد محمد، ومنذ تلك اللحظة، ابتلع الظلام جهاد، ولم تُعرف عنه أية معلومة. تتذكر حكاية ما انحكت جهاد محمد في...
خليل معتوق... يجب أن يكرّم لا أن يُعتقل

11 شباط 2021
ضمن ملفنا عن المحامي المعتقل "خليل معتوق"، يكتب زميله ورفيق دربه المحامي ميشيل شماس عن خليل معتوق الإنسان وعن خليل معتوق المحامي والناشط الحقوقي، متحدثًا عن اللحظة الأولى التي تعرّف...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد