قتل المجتمع: لماذا قمع النظام الاستجابة الأهلية للزلزال؟

مشاهدات من الأيام الخمسة الأولى ما بعد الزلزال


06 تشرين الأول 2023

سلطان جلبي

صحافي وباحث اجتماعي سوري مقيم في تركيا، مهتم بقضايا التغير الثقافي والاجتماعي والتنمية الاقتصادية في سوريا.

(هذا المقال جزء من ملف بالشراكة بين "حكاية ما انحكت" و"أوريان ٢١"، يستكشف عواقب الزلزال المدمّر الذي ضرب تركيا وسوريا في فبراير 2023).

يركز هذا المقال على أحداث الأيام الخمس الأولى ما بعد الزلزال، وعلى الاستجابة التي أطلقها المجتمع الأهلي والمدني السوري، حيث كان لها الدور الأهم في امتصاص الصدمة الأولى. من خلال مجموعة من المقابلات التي أجريناها عبر الإنترنت مع متطوّعات ومتطوعين ممن شاركوا في الاستجابة في كلّ من حلب، دمشق، اللاذقية، طرطوس وحماة. نرصد في هذا المقال مواقف وقصص عن حماس السوريين للتحرّك ومساعدة بعضهم البعض، وعن نزوع حكومتهم إلى منعهم من فعل ذلك.

"كأنه يوم القيامة"

"استيقظت على وقع تساقط الكتب فوق سريري، وعلى صراخ عائلتي". هذا ما تقوله منال (اسم مستعار/ ٣٠ عام) التي شهدت اللحظات الأولى للزلزال في حلب، قبل أن تكمل حديثها "سمعت أبي يقول: افتحوا المصحف وانظروا إن كان هناك أي كتابة. تذكرت قصة رواها لنا أبي سابقاً عن أن صفحات المصحف تتحوّل إلى أوراق بيضاء عندما تقوم الساعة... أسرعت لالتقاط المصحف وفتحته، ثم صرخت، المصحف أبيض.. المصحف أبيض".

 تستدرك الشابة كيف أنّه على وقع اهتزاز الأرض واحتدام الرعب، خانتها عيناها. لم يكن ذلك يوم القيامة، بل كانت الهزّة الأولى التي تلتها هزّات، امتدّت لأسابيع وخلفّت رعباً وخسائر بشرية ومادية فادحة في بلد دمّرته الحرب مسبقاً. 

نجت محدثتنا وعائلتها دون خسائر كبيرة من تلك المحنة، لكن كثيرون آخرون لم يفعلوا. وحسب تقرير حديث للمركز السوري لبحوث السياسات، أدّى الزلزال إلى مقتل ٦,٣٩٢ شخصاً في عموم سوريا، أكثر من ٧٠٪ منهم في مناطق سيطرة المعارضة في شمال وشمال غرب البلاد. كما أدّى إلى دمار أو تضرّر ١٢,٧٩٦ مبنى، منها ٧٦٪ في مناطق سيطرة المعارضة. الزاوية المهمة لنا هي أنّ استثنائية الكارثة من حيث الحجم والتوقيت، ترتّب عليها نتائج استثنائية على المستوى المجتمعي، وإلى حدّ ما، السياسي، تلك النتائج التي نعتقد أنها لم تحظ بالانتباه الكافي. 

عدنا إلى أيام ٢٠١١ 

فجّر الحراك موجة هائلة من الحراك المجتمعي، ملايين السوريين في الداخل كانوا ينشطون استجابة للزلزال في أعمال الإنقاذ، جمع التبرعات المالية والعينية، الضغط الإعلامي وغيرها. ومن الخارج، تزايدت التحويلات المالية من السوريين وغير السوريين إلى مناطق الزلزال إلى درجة تعطّل بسببها نظام الحوالات المالية في حلب ومناطق أخرى.

التضامن ما زال حيّاً بين السوريين...

04 آب 2023
في حادثة غير مسبوقة، تبادل سكان المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري النداءات لجمع التبرعات للخوذ البيضاء وفريق ملهم التطوعي (منظمتان غير حكوميتين لطالما اعتبرتا أنهما مرتبطتان بالمعارضة)، بعد الزلزال...

تقول لسوريا ما انحكت، صحفية من دمشق، ممن نزلن إلى الميدان، ونشطت في دعم المناطق المنكوبة "كان شعورنا أنّنا عدنا إلى أيام الـ٢٠١١، من حيث أعداد الناس الذين شاركوا في الاستجابة، ومن حيث الحماس والتعاطف وغياب الخوف".

تتابع الصحفية: "لقد كانت حالة تضامن اجتماعي لا مثيل لها، ولأوّل مرّة سمعنا أصواتاً تتضامن مع إدلب داخل مناطق سيطرة النظام منذ أكثر من عشر سنوات". ليس فقط في دمشق، بل أيضاً في طرطوس، إذ تؤكد محامية (٤٥ عاماً) نشطت في الاستجابة، ذلك الأمر بالقول "لقد كان التعاطف عابراً للطوائف وللاصطفافات السياسية لأنّ الموضوع هذه المرّة متعلّق بكارثة طبيعية، ولا يوجد خلفه صراع سياسي أو أطراف متحاربة، حتى نحن كنّا أكثر جراءة للنزول إلى الشارع والعمل مع الناس". وبالفعل حتى أكثر المناطق المتأثرة بالحرب في سوريا، خرجت منها قوافل من التبرّعات العينية لمساعدة مناطق الزلزال والأمثلة عديدة من دير الزور ومن ريف حماة دمشق وغيرها. لقد أجمع كلّ النشطاء الذين تحدّثنا إليهم أنّ المؤازرة الوحيدة التي حظيت بها مناطق الزلزال خلال الأيام الخمس الأولى من الزلزال، كانت تلك التي قامت بها الجماعات الأهلية والفرق التطوّعية غير الرسمية. عمل المنظمات والأجهزة الحكومية فعلياً لم يبدأ حتى اليوم الخامس. وحتى مع نزولها المتأخر إلى الميدان، فقد اتسمت تلك الاستجابة بالتسييس والفساد وضعف الفاعلية، كما كشفت العديد من وسائل الإعلام وناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي.

نهض بعبء استجابة الأيام الخمس الأولى فرق تطوّعية محلية ونشطاء على مستوى المدن والمحافظات والمبنية على المعرفة الشخصية والثقة المتبادلة. كما نشطت الشبكات العابرة للمحافظات، فمن بين الأشخاص الذين تحدّثنا إليهم هناك من شارك في نقل التبرّعات من حماة إلى حلب، وآخرون عملوا بين دمشق واللاذقية وطرطوس. في اللاذقية ودمشق، بدا واضحاً من خلال المقابلات التي أجريناها أنّ جزءًا مهماً ممن قادوا الاستجابة كانوا أنفسهم ممن نشطوا في العمل الإنساني خلال الأعوام الأولى للانتفاضة كما روى لسوريا ما انحكت، إياد (٣٣ عاماً، اسم مستعار، دمشق). 

الموافقات المستعصية وخنق الاستجابة الأهلية

يروي تميم (اسم مستعار/ ٢٨ عام) كيف أنّه منذ فجر الزلزال بدأ التواصل مع أصدقائه ومعارفه، وكيف تمكنوا خلال اليوم الأوّل من جمع ما حجمه شاحنة صغيرة من التبرعات العينية من مدينة طرطوس بنية إرسالها الى حلب "لقد تبرع أغلب الناس من محتويات بيوتهم وقدّموا الألبسة والأغطية، الأطعمة والمونة من أدراج مطابخهم، نحن أنفسنا تفاجأنا بسرعة استجابة الناس رغم الضائقة المعيشية التي تعيشها كلّ سوريا". كان تميم وزملاؤه على تواصل مع فريق آخر من الناشطين في حلب، والذين بدورهم يرتبون لتوزيع تلك المساعدات هناك. اتفق الفريقان أن يتم إرسال المواد عبر شركة نقل محلية في نفس اليوم ليصار إلى توزيعها في اليوم التالي، أي اليوم الثاني من الزلزال. "استأجرنا شاحنة صغيرة وحملنا المواد بأيدينا وتوّجهنا إلى كراجات الانطلاق، وهناك تفاجأنا أنّ الشركة تلقت تعليمات بعدم شحن أي مساعدات دون موافقة خطية من المحافظة، كنّا قد أنزلنا المواد من الشاحنة بالفعل لذا بقيت أنا هناك فيما توّجه زملائي إلى مبنى المحافظة لتحصيل الموافقة التي لم تصل أبداً".

 أجمع كلّ النشطاء الذين تحدّثنا إليهم أنّ المؤازرة الوحيدة التي حظيت بها مناطق الزلزال خلال الأيام الخمس الأولى من الزلزال، كانت تلك التي قامت بها الجماعات الأهلية والفرق التطوّعية غير الرسمية.

 كانت الدولة أسرع في عرقلة الاستجابة الأهلية منها في تقديم الاستجابة للمتضرّرين، وبقيت مواد تميم ورفاقه ملقاة على رصيف بجانب مكتب الشركة في طرطوس والأمطار تتساقط فوقها، واضطروا في نهاية اليوم إلى استئجار شاحنة أخرى لإعادة المواد إلى حيث تمّ تجميعها بداية الأمر. لم تجد تلك المواد طريقها إلى حلب إلا بعد أيام حين تمّ ضمّها إلى قافلة مساعدات سيّرتها جمعية على صلة بالسلطة، وتحت اسم تلك الجمعية.

تكرّرت أعمال التضييق على نشاط الفرق التطوّعية من قبل السلطة في مناطق وسياقات مختلفة، وتضمنت تعاميم لمنع جمع وتوزيع التبرّعات إلا من قبل الجهات الحكومية أو الجمعيات المرخصة من قبلها. كما تضمنت التضييق على التبرعات المالية من الخارج وحصرها بالأمانة السورية للتنمية والهلال الأحمر السوري. وضمن هذا السياق، ظهرت العديد من القصص، لعلّ أشهرها كان قصة المواطن "معين علي" الذي ظهر في فيديو ينتقد السلطات التي فرضت عليه تسليم التبرعات التي قام بجمعها إلى المحافظة، أو الحصول على تصريح أمني قبل السماح له بتوزيعها، حيث فضح الفيديو الذي بثّه معين حالة انعدام ثقة المواطنين بالمؤسسات الحكومية وبالجمعيات المرخصة من قبلها بأوضح شكل ممكن، وهو ما أثّر  بشكل كبير على اندفاع الناس إلى المساعدة، وعلى حجم التبرعات، وأدى إلى وأد حالة التضامن الاجتماعي التي خلقها الزلزال.

نهوض الفاعلين الاجتماعيين في الساحل السوري

16 أيلول 2023
كشف الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا في السادس من شباط ٢٠٢٣ مدى اعتماد مجتمعات الساحل السوري على السلطة، ومدى غياب أو ضعف أيّ حضور للمجتمعين المدني والأهلي والفاعلين الاجتماعيين، وسط...

"كل ما فعلته الدولة خلال الأيام الأولى هو فتح المدارس وإرسال عناصر الأمن إلى المواقع المتضرّرة دوناً عن كلّ مؤسسات الدولة الأخرى، عناصر الأمن أرهبت الفرق التطوّعية واقتطعت من التبرعات التي جلبوها في كثير من المواقع، ومع انقضاء أسبوع على الزلزال وتزايد التضييق انسحب معظمنا من الميدان" كما تقول سهير التي نشطت في دمشق (اسم مستعار/ ٣٣ عاما). 

رسائل حب من مناطق منسية

تركّز عمل سهير على فرز وإعادة تغليف المساعدات العينية التي تبرّع بها السكان من مناطق مختلفة لصالح المناطق المتضرّرة في ريف اللاذقية، والتي تجمّعت في دمشق. تقول المتطوعة لسوريا ما انحكت، إنّها لم تتأثّر بشيء بمقدار تأثرها بالرسائل التي كانت ترفقها العائلات في صناديق وأكياس التبرّعات التي تقدّمها، إذ "كان هناك رسالة كتبها طفل من بلدة شهبا في ريف السويداء إلى طفل في حلب، وأرفقها مع دفتر رسم وعلبة الألوان خاصته، يبدو أنّ طفل شهبا رأى طفل حلب باكياً على إحدى الشاشات، وهو يقول إنه فقد دفاتره تحت الأنقاض، فاستجاب". لقد مضى وقت طويل منذ كانت البلدات والمدن السورية تتواصل مع بعضها البعض خلال مرحلة الاحتجاجات السلمية حيث كانت تبعث برسائل التضامن والمحبة، وكانت قوافل التبرّعات التي خرجت من بيوت وغرف نوم السوريين والرسائل التي تحملها امتداداً لذلك الاتصال/ التواصل، ولعلها كانت فرصة نادرة لإعادة ربط الجسد السوري الممزّق.

هل تموت المجتمعات؟ 

تقول بعض أدبيات العلوم الاجتماعية أنّ ما يصنع المجتمع هو شبكات العلاقات التي تنشأ بين الأفراد والمجموعات، وما يلحقها من أنماط الفعل والقيم المشتركة. تلك العلاقات والمشتركات هي ما يميّز المجتمع عن أيّ حشد عشوائي من الأفراد في سياق مكاني ما، وهي ما يسمّى بالبنية الاجتماعية أو رأس المال الاجتماعي. على ذلك، تضعف المجتمعات حيث تضعف العلاقات بين أفرادها، وتموت المجتمعات حين تضمحل تلك العلاقات. ما عاشه السوريون خلال زلزال شباط، إلى جانب كونه كارثة كبرى، كان نافذة عبّر خلالها المجتمع السوري أنّ تلك العلاقات والمشتركات ما زالت حيّة بين السوريين. أمّا ما واجه به النظام ذلك التضامن الاجتماعي فكان تعبيراً أكثر وضوحاً عن أنّ هدف النظام هو قتل المجتمع، وتحويل السوريين من مجتمع مترابط إلى حشد من الأفراد والجماعات الصغيرة الضعيفة والخاضعة له. فحتى لو كان الحدث كارثة طبيعية، والتحركّات قائمة بدافع إنساني بحت بلا أيّة أبعاد سياسية، فلن يسمح النظام للناس بأن تُبادر وتنظّم صفوفها وتنشط.

لننس الزلزال الماضي ونفكر في الزلازل القادمة في عالم التغيّر المناخي الذي يتزايد فيه تواتر الكوارث الطبيعية من سوريا وتركيا إلى المغرب وليبيا، وفي كلّ مكان. في عالم كهذا، يزداد تأكيد وكالات التنمية والمنظمات الدولية على أهمية تدعيم مقاومة المجتمعات الذاتية للكوارث الطبيعية كأسلوب تكيّف جماعي مع مستقبل قاتم، وذلك في الوقت الذي يصرّ فيه النظام السوري على فرض عقده الاجتماعي القاضي بقتل المجتمع لبقائه في السلطة.

 

تعديل: تمّ تغيير العنوان بعد نشر المادة بساعات. نُشرت المادة أولًا تحت عنوان «لماذا قمع النظام الاستجابة الأهلية لزلزال شباط رغم عجزه عن تعويضها؟»

مقالات متعلقة

الآثار الاجتماعية والاقتصادية للزلزال الذي وقع في سوريا في شباط 2023

21 تموز 2023
بينما يعتبر الزلازل من الكوارث الطبيعية، يمكن أن تُعزى وطأة هذه الكارثة البشرية الجديدة في سوريا بشكل أساسي إلى أفعال النظام السوري، لإرسائه أسس الدمار من خلال حربه الواسعة ضد...
توابع الزلزال في القرداحة وريفها

27 تموز 2023
لم تجذب مدينة القرداحة الواقعة في شمال غرب البلاد الكثير من الاهتمام الإعلامي في أعقاب كارثة الزلزال. المنطقة المعروفة بين السوريين على أنّها مسقط رأس النظام، بشار الأسد، ومعقل للموالين...
بعد أشهر من الزلزال.. نجونا مع ندبات قاسية

18 آب 2023
"ربما تَمسّكُ ابنتي بي وخَنقي من شدّة خوفها، ثبتَ جذوري لأقاوم وأصمد قليلاً أمام اهتزاز الكون حولي، وصراخ الأرض التي أفرغت كلَّ ما عندها من ضغينة لمن يعيشون فوقها" هذا...
التعابير الفنية عن الزلزال

12 آب 2023
إنّ متابعة مضامين وأسلوبيات الأعمال الفنية السورية التي ارتبطت بحادثة الزلزال الذي وقع بتاريخ السادس من شباط/ فبراير العام 2023، وشملت أضراره مساحات واسعة من تركية وسورية، تمكننا من تلمّس...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد