تصلّب عودها كثيراً؛ وعَكْس الخوف من توّقفها بسبب حرب الإبادة على غزة، أو بسبب تأثيرات مجزرة الكلية الحربية في حمص، وبدء حملة النظام العسكرية ضد إدلب وأرياف حماه واللاذقية وحلب، فإنّ انتفاضة في السويداء تدخل شهرها الرابع، وبتصميمٍ راسخ على أهداف الثورة في ٢٠١١. استلمت السويداء راية الثورة وشعاراتها، وبصورةٍ شعبية، وبكافة قواها السياسية، وليس فقط كنخبةٍ انتمت لهذه الثورة منذ ذلك العام، وتشارك الآن.
انتهت السويداء من مقولاتٍ لا تنتمي لانتفاضتها، كفتح معبرٍ إلى الأردن أو اعتماد صيغة "سياسية" للإدارة الذاتية لإدارة شؤونها العامة أو أيّة صيغة مناطقية؛ المحافظة حدّدت بشكل جازم أنّ انتفاضتها وطنية، ويجب أن تتكلّل بتطبيق القرار الأممي 2254، والذي نتج بالأصل عن تضحيات الثورة السورية، وبالتأكيد عن التوازنات الدولية، ولكن، وإلى لحظة الوصول إلى ذلك الأمر، فهي مصرّة على أنّه لا معبر إلّا الطريق إلى دمشق، ولا إدارة ذاتية.
في السويداء. ينبري الشعب إلى تشكيل بنى تنظيمية لإدارة شؤون التظاهرات، والتنقل، وحماية الساحات، وتحديد الخطاب السياسي، ورفض اللافتات النشاز، وترك الأمر للناس لاختيار الشعارات المناسبة للأحداث المؤثرة، التي تقع في سوريا أو في العالم، وأخيراً في غزة، وكان التأييد واسعاً لرفض الإبادة الصهيونية لها. طبعاً، وعلى التوازي مع ذلك، هناك نقاشات سياسيّةٍ عامة، ومحاولات لإنشاء قوى أو منظمات أو أجسام سياسية.
أنجزت السويداء صلحاً ثابتاً مع العشائر المحيطة بالمدينة، والموجودة داخلها، وبتبني انتفاضتها من الشيخين حكمت الهجري وحمّود الحناوي، وما يمثلاه من ثقلٍ اجتماعيٍّ ودينيٍ، إضافة للقوى السياسية، تكون المحافظة قد قطعت شوّطاً في الابتعاد عن أيّة مفاوضات مع النظام لا تنطلق من تنفيذ القرار أعلاه، أو لا تنطلق منه؛ انتفاضة السويداء بذلك، تستحق كلّ الدعم والتضامن، بل والتبني من كافةِ السوريين، وأيّنما كانوا، ولا سيما في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام أو المنافي، وأمّا بقيّة السوريين الذين يعيشون تحت سيطرة النظام، فأوضاعهم تُبكِي الميت وليس الحي فقط.
موضوع المناطق الخارجة عن سيطرة النظام يجب نقاشه بكّل جرّأة: لماذا توقفت التظاهرات الجادة المناصرة للسويداء؟ أليست انتفاضتها مناهضة للنظام، وتتبنى أهداف الثورة في ٢٠١١، والقرارات الدولية، التي تنصف هذه الثورة؟ ما القضية إذاً؟ لقد أرجع بعض (مالك داغستاني مثلاً، في مقاله "السويداء صفعة طالت وجوه الجميع")، ذلك التوقف إلى تعميمٍ من قِبلَ بعض مشايخ السلفيين والجهاديين وهيئة تحرير الشام الجهادية، فهم يرون في السويداء جماعة مذهبية، درزية، ولا يريدون أن تساهم انتفاضتها في التغيير السياسي؛ وهم بذلك سيضّطرون إلى تبني الخطاب الوطني في كافة القضايا المتعلّقة بالدولة والسياسة والقانون وإدارة شؤون الدولة بعامة، بينما لا يرونها إلّا دولة للطائفة السنيّة، في المستقبل.
لم تَترك السويداء غزّة وحيدة، ورَفعت لافتاتٍ تندّد بالعدوان الصهيوني عليها، وهذا يشكّل منجزاً وطنياً للسوريين، بأنّهم لم يخطئوا البوصلة الوطنية بل والقومية
الخطاب الوطني الثابت والرافض لأيّة أفكارٍ أقلويّة، دفع مناطق سهل حوران، التي نُكبت منذ ٢٠١١ وإلى الآن، إلى التفكير بتشكيل مرجعيةٍ سياسيةٍ، لإعادة النشاط الثوري إلى درعا، ولكن، يبدو أنّ هذه الفكرة تعترضها الكثير من العقبات، كما أعيق تطوّر الانتفاضة في المدن الساحلية. وبغضّ النظر عن تشكّلها، فالعلاقات وفقاً للتقارير الصحافية بين أهالي المدينتين، تتحسّن، وتمّ تجاوز كافة المشكلات السابقة، أو التي تحدث، ولم تعد التقارير تتحدّث عن حوادث خطف أو قتل وسواه من جماعاتٍ منفلتة في المحافظتين، وكذلك تقلصت هذا الأفعال في السويداء ذاتها؛ السويداء لا تشذّ عن بقية سوريا في هذه الفكرة، فقد كان الأمر كذلك في السنوات الأولى للثورة، وأظهرالسوريون كلّ ما هو جميل ووطني وراقي وعابر للطوائف والقوميات، وتراجع كلّ ذلك مع العسكرة والتطييف والقتل والمجازر والتدخل الخارجي. الآن يُشكّل تبني السويداء للخطاب الوطني فسحة لكافة السوريين، وأيّنما كانوا، للتفكير العميق في ما حدث في سوريا منذ العام ٢٠١١، وكيف يمكن طيِّ ما حدث من وقائع تُقسِّم السوريين على أسسٍ قومية أو دينية أو مذهبية أو مناطقية، أو تدفع بهم للتبعية إلى هذه الدولة أو تلك: تركيا، أمريكا، روسيا، إيران، وسواهم. في هذه النقطة، تتعاظم حوادث الخطف والقتل داخل درعا، ولا يمكن إيقاف ذلك إلّا بتحالفٍ قويٍّ بين القوى المدنيّة، ونبذ عصابات الخطف والقتل والأتاوات والمرتبطة بالأفرع الأمنية للنظام، وهذا سيسمح بتشكّل تلك المرجعية، وستكون ضرورية حينها؛ وبغيّر ذلك، ستظلُّ العصابات تمارس أفعالها الإجرامية في درعا.
غزة ليست وحدها أيضا
لم تَترك السويداء غزّة وحيدة، ورَفعت لافتاتٍ تندّد بالعدوان الصهيوني عليها، وهذا يشكّل منجزاً وطنياً للسوريين، بأنّهم لم يخطئوا البوصلة الوطنية بل والقومية؛ إنّ غزّة أو القضايا القومية أو الوطنية كانت أداة أيديولوجية لدى النظام، ولم يتوقف عن استخدامها لإخراس المجتمع السوري ونهبه ومصادرة قراره السياسي ومصادرة حق الفلسطينيين في اختيار سياساتهم وإدارة شؤونهم؛ ليس النظام لوحده، بل وكذلك إيران.
تموضع الانتفاضة في السويداء إلى جانب غزّة، هو إعادة السوريين إلى موقعهم الطبيعي في تأييد القضايا العادلة عالمياً، وعلى رأسها غزة وفلسطين، وهي بذلك ترفض بعض التكتيكات السخيفة لبعض الساسة بترك كلّ قضايا الكون، وعلى رأسها القضية الفلسطينية والالتفات للقضايا السورية، وكأنّ سوريا معزولة عن العالم، أو ستكون يوماً كذلك، وهناك من يطرح الفكرة ذاتها، كي يقيم صلات مع الكيان الصهيوني، و"يستنهضه" لمساعدته في تحقيق مصالح معينة، سياسية مثلاً ضمن المعارضة، وتحت تبريرٍ بأنّه يخدم الثورة، ويؤكد هذا: إنّ الثورة، إمّا أن تَستقطِب إسرائيل أو أنّ النظام سيستقطبها، وكأنّ الكيان الصهيوني أيّد أو سيؤيّد أيّة ثورة شعبية في الوطن العربي أو في العالم، تبتغي إقامة نظام ديموقراطي وعدالة اجتماعية أو وطنية مواطنية؛ لقد وُجِد الكيان الصهيوني لمنع ذلك، ولم يتوقف عن المساهمة بذلك، ولهذا كان، وسيظلُّ ضدّ الثورات العربية؛ الانتفاضة في السويداء التقطت الفكرة جيداً، ولم تسمح للنظام بمصادرة قضية غزّة وفلسطين من جديد.
تدير السويداء شؤونها حتى الآن، بعدم قطع العلاقة مع الدولة السورية، حيث يفرّق أهل المحافظة بين الدولة والنظام، وإن كان الأخير، يعبّر عنها، ويريد جعلها ملحقة به بالكامل
أراد النظام احتجاز الانتفاضة في السويداء، ومارس كلّ أشكال القمع لإيقاف تمدّدها، والآن يستمر في قصف إدلب لتهميش تطوّر الانتفاضة، وخشيةَ أن تشكّل حالة وطنية عابرة للمدن السورية؛ الإسلاميون ساعدوه بذلك، كما أوضحنا. السويداء تَعرِف جيّداً حجم المشكلات التي تعترضها، سواء من قبل النظام، أو المعارضة، أو من انقسامٍ أهليٍّ ودينيٍّ داخل السويداء يعمل عليه النظام، وقد استطاع تحييد ثالث مشايخ العقل، يوسف جربوع، ولكن قوّة الانتفاضة، تمنع "جربوع"، وربّما النظام يريد له ذلك، أن يتقدم بمواقف اصطفافية كاملة إلى جانب النظام.
تدير السويداء شؤونها حتى الآن، بعدم قطع العلاقة مع الدولة السورية، حيث يفرّق أهل المحافظة بين الدولة والنظام، وإن كان الأخير، يعبّر عنها، ويريد جعلها ملحقة به بالكامل؛ فتُبقِي المحافظة كافة إدارات الدولة عاملة، وتقدّم خدماتها، والنظام بدوره، يحاول ألّا يقطع شعرة معاوية هذه، ويَعلَم أنّ قطعها، ليس من مصلحته هو؛ فهو بحالة ضعفٍ شديدة؛ السويداء استغلتها وانتفضت، ولكن "المحرّر" ما زال تابعاً للتنسيق التركي الروسي الإيراني، وخاضعة لمشايخٍ سلفيين، لا علاقة لهم بالوطنية بحالةٍ من الأحوال، ولهذا يستمر النظام بقصفه، ويتأجّل انهياره.
(هذه المقالة تعبّر عن رأي الكاتب، وليس بالضرورة عن آراء حكاية ما انحكت)