بعد عامٍ من الزلزال الهائل الذي ضرب جنوب تركيا وشمال غرب سوريا، وأسفر عن فقدان ٤٥٠٠ شخص لحياتهم في مختلف المناطق السوريّة، حسب إحصائية نشرها الدفاع المدني السوري على مواقع التواصل الاجتماعي، تبقى آثار هذه الكارثة مستمرة حتى يومنا هذا.
لم يقتصر الأثر على الأرواح البشرية والممتلكات فقط، بل خلّف أيضاً تحدّيات نفسية وصحية طويلة الأمد، فالناجون الذين عاشوا هذا الحدث، أو فقدوا أحداً من أحبابهم وأقاربهم، ما زالوا يعانون من آثارٍ قويةٍ على صحتهم النفسية والجسدية، حيث يستمر "الاهتزاز الأرضي" في حياتهم حتى اليوم، بطرقٍ مختلفة ومتعدّدة.
وفي سعيٍ لتخفيف الألم وزرع بذور الأمل، أقدم بعض الفنانين على الرسم على أنقاضِ المباني التي هدّمها الزلزال في بلدة جنديرس التابعة لمحافظة حلب، وذلك في محاولة للتعبير عن الكارثة وتخليد ذكرى الأشخاص الذين فقدوا حياتهم تحت الأنقاض ولزرع بذور الأمل في قلوب الناس أيضاً.
محاولات لزرع الأمل بفن الألوان وصوت الموسيقى
الفنانة التشكيلية، لاڤا إيبو، من مدينة عفرين، تقدم لوحات تشكيلية تروي قصة الزلزال الهائل في جنديرس، مستعينة بألوان باردة مثل الأزرق والأخضر والبنفسجي وتركز أعمالها على فترة الزلزال وجهود الدفاع المدني في إنقاذ الأطفال وكبار السن، مستخدمة تقنية الحرق على الخشب بألوان باردة لتعزيز الرسالة الفنية.
تُضيف لوحاتها رموزاً تعبيرية مثل أسماء المناطق المتضرّرة وساعات وقوع الكارثة، مع كلمات حفرت في الذاكرة خلال فترة الزلزال، إذ تقول لسوريا ما انحكت إنها تأثرت بمشهد طفل تحت الأنقاض يتحدث مع متطوّع الدفاع المدني الذي يسأل الطفل "شو اسمك عمو"، مؤكدة أن لوحاتها تدور في سياق رسم هذه الشخصيات التي أثرت لها ولا زالت، معتبرة أنّ "الفن وسيلة للتواصل والتعبير عن الإنسانية، حيث نسعى من خلال الفن لنقل رسالة قوية عن الصمود والأمل في وجه التحدّيات، فالفن لا يعترف بالعمر ويحمل رسالة إنسانية تجمع الناس دون تمييز".
تشير إيبو إلى أنّها "خلال فترة الزلزال وما بعدها، أنتجت أعمالاً فنية متنوّعة في تركيا وسوريا، تركز على دور الدفاع المدني ولحظات البطولة التي شهدتها أثناء الكارثة. أتعامل مع مشاهد لا تُنسى من أجل تجسيد الأحاسيس في أعمالي وتحدّي الصعوبات بشغف وإلهام".
في السياق نفسه، أقامت الرسامة، كلستان بوزو معرضاً فنيًا في جنديرس، مع بعض زملائها وطلابهم الأطفال، حيث قد قدّموا رسومات تعبّر عن الدمار الذي أحدثه الزلزال. وقد حمل المعرض عنوان "ألم وأمل"، وذلك في السادس عشر من شهر أذار ٢٠٢٣، أي بعد شهر تقريباً من الزلزال، حيث اختارت رسم مشاهد تجسّدت على المباني المدمرة، وتركز على الأمل والإصرار على المضي قدماً.
تقول كلستان: "رسوماتي لم تكن تعبيراً فقط عن الألم والدمار، بل حملت رسائل إيجابية وإصرار على تجاوز التحديات، وقد قدّمت دروس فنية للأطفال الأيتام الذين تأثروا بالزلزال، لمساعدتهم في التغلّب على الصدمات النفسية".
تركز رسومات كلستان في فترة ما بعد الزلزال على بداية حياة جديدة، محورها التحوّل الإيجابي بعد الحادث المؤلم. وتشير إلى أهمية فنّها كوسيلة للتواصل والتفاعل في المجتمع، خاصة مع الأطفال الذين عاشوا تجربة الكارثة. فرسوماتها لا تقتصر على التعبير بل تعدّ وسيلة فعالة للتواصل والتلاحم في وجه التحدّيات.
أغنيات ومقطوعات موسيقية
الأعمال الفنية لم تقتصر فقط على اللوحات التشكيلية والرسومات، بل امتدت إلى الموسيقى والعزف، ليندمج الصوت مع الصمت الكارثي ويروي صيحات الأمهات وحكايات الأطفال، ولتتنوّع الفنون وتكون لغة تنقل صرخات الأمل في وجه التحديات والصعوبات.
"صرخة جنديرس"، هو عنوان أغنية طرح ألحانها العازف خليل أبو حجي، وحملت كلماتها لحظة حدوث الزلزال وأصوات خوف الأهالي والأطفال، كما تحكي عن تكاتف أبناء الشمال السوري والمنظمات في تقديم المساعدة وعمليات الإنقاذ.
قال خليل لسوريا ما انحكت: "كانت تلك لحظات صعبة عاشها الجميع، لكنني حاولت أن أكون صوتاً للصمت ولغة المشاعر بالرغم من حالة الاكتئاب والحزن التي أشعر بها خلال عزفي المقطوعات الموسيقية. اخترت آلة الأورغ لأنّها تجسّد كلّ تلك الأصوات والأوجاع في مفاتيحها".
أضاف قائلاً إنّه "كلّما أفكر في مأساة الأيتام وصرخات الأمهات يرتجف قلبي وأجد نفسي متأثراً بشدّة، فالموسيقى وسيلة لتقديم الدعم المعنوي والنفسي لأهلنا المنكوبين ولنا أيضاً". وفي سياق تعبيره عن هدفه، أكد: "إنّ لم نستطع أن نساهم في الدعم المالي، فالموسيقى هي غذاء للروح، وأنا أحاول من خلال إبداعاتي تقديم أبسط الأشياء حول معاناة المتضرّرين، لأكون جزءاً من عملية التعافي ونقل الأمل، وأنا أتطلّع للمستقبل بألحان تحمل رسائل التعافي والتجدّد بعد الزلزال".
تنوّعت المبادرات الفنية في الداخل السوري والخارج، وذلك لدعم الناجين نفسياً، وبعض المبادرات الفنية ساعدت المتضررين ماديًا، منها مبادرة معرض "إيد بإيد" في برلين، الذي قدّم سلسلة من الفعاليات الفنية المختلفة لدعم وإغاثة المتضرّرين من الزلزال في شمال غربي سوريا.
المجتمع ونظرته للمبادرات الفنية
بعد وقوع الزلزال المدمّر في مدينة جنديرس، كان الفن ليس فقط وسيلة للتعبير الجمالي، بل أصبح أيضاً وسيلة للشفاء والتواصل البيني في وقت الأزمات، فالمبادرات الفنية بدأت تنبثق في الشوارع، حيث استخدم الفنانون جدران المباني المتضرّرة كقماش للتعبير عن الألم والأمل.
تنوّعت آراء المجتمع حيال القيمة التي يمنحها الفن للتجمّعات البشرية، فقد اعتبر البعض أنّ المبادرات الفنية وسيلة فعالة للتعبير عن الألم والصمود، ومن ناحية أخرى، هناك من يتجاهل قيمة الفن أو يعتبرها ثانوية في ظلّ الأزمات.
ليال إبراهيم، تبلغ من العمر ثلاثين عاماً وتعيش في مدينة جنديرس بريف عفرين وتعمل ممرضة في عيادة طبية ضمن المدينة. تقول لسوريا ما انحكت: "لحظات الزلزال تركت أثراً لا ينسى فينا، فقدنا أخي وأختي وواجهنا الدمار ووالدتي ما تزال تعاني من الإصابات حتى اليوم، والخوف لم يفارقنا، صرخات الناس تحت الأنقاض ورائحة الموت موجودة في ذاكرتنا".
تشير ليال إلى أنّ الواقع خلق بداخلنا آثاراً نفسية قاسية، مثل الاكتئاب والقلق، وفيما "يخص الرسم والموسيقى بالطبع كان لها دور حتى نحاول أن نخرج من الحياة التي عشنا بها بعد الزلزال. الرسومات التي كانت على دمار المنازل أو اللوحات التي نراها، وخصيصاً الرسومات يلي كانت بعنوان "ريشة أمل" هذه الرسومات كانت تساعدنا بالشفاء، بدأنا نشعر بأنّا لسنا وحدنا، يوجد أشخاص يحاولون مساعدتنا حتى نكون بخير ونتغلّب على الصعوبات و نستمر بالحياة".
أما "نور الدين"، وهو شاب من بلدة جنديرس في العشرين من عمره، ويعمل كبائع في سوبر ماركت. قال خلال حديثنا معه: "لم نفكر في الرسومات أو غيرها، فنحن كنّا نحاول إنقاذ ما تبقى من عائلاتنا العالقة تحت الأنقاض، فالناس ليست بحاجة للفنون مقابل حاجتها للمأوى والطعام والملابس بعد أن فقدنا كل ما لدينا".
أما جابر، وهو مهجر من مدينة حلب ويعمل في البناء، وكان في السابق يعمل كمعلم. فقد قال لنا أثناء عمله: "أنا في اليوم الثالث أو الرابع رأيت فنانين يرسمون على الدمار، وكانت هذه المبادرة جيّدة وحلوة. فالفن سواء، كان موسيقى أو رسم أو أي شيء ممكن أن يساعد الناس أن ينسوا، ولو قليلاً الذي عاشوه. كمان كانت هذه المبادرات مؤثرة على الأطفال، ساعدتهم أن ينسوا قليلاً الصدمة التي تعرّضوا لها لحظة الزلزال". وأضاف أنّ "المجتمع يوجد فيه ناس تقدر الفن وناس أخرى لا تؤمن به، لكن وبشكل عام الفن وسيلة للتواصل مع المجتمع بدون كلام، وبصمت تام".