يظل عدد من الأسئلة المتعلقة بالقضية الفلسطينية دون إجابة واضحة بالنسبة لي، خاصة أنّي أعيش في ألمانيا ولدي إحساس كبير بالخذلان. وعلى الرغم من امتلاكي لجنسية هذا البلد، فأنا مواطن من الدرجة الثانية يُتهم سلفاً بمعاداة السامية، تلك التهمة التي ستنتقل تلقائياً لأولادي بالوراثة. السؤال الأول لماذا يقف الألمان حكومة وشعباً مع إسرائيل دون موقف نقدي مهما كانت المعلومات الواردة ومهما كثرت الحقائق؟ لماذا يقبل بعض معارفي في ألمانيا مساعدة لاجئِ فلسطيني في ألمانيا، ويقفون بثقة ضدّ نفس الشخص إن كان في الأراضي الفلسطينة المحتلة باعتباره مشروع شخص إرهابي، تعاطفاً مع اسرائيل؟ هل الأمر محصور فقط بالهولوكست باعتباره جريمة مرعبة في تاريخ البشرية، ويتحمل وزرها الشعب الألماني إلى الأبد؟ لا أعتقد ذلك صراحة. هذا جزء من التفسير ولكنه ليس كافٍ.
الفكرة التي أود طرحها معقدة نسبياً ولكني سأحاول تبسيطها دون الكثير من التنظير. هناك حالات وقضايا تتحول مع الزمن إلى بنية أو صيغة خاصة في الوعي تملك رمزية تتجاوز الواقع بل تتعاكس معه حتى تلغيه أحياناً. الأمر يغدو نوعاً من القطيعة أو حتى التضاد مع الأصل. ولأجذب انتباهكم سأطرح بعض الأمثلة التي توضح الفكرة، وليكن المثال الأول عن الفاتنة مونيكا بولوتشي التي يجتمع معظم ذكور الأرض (وبعض إناثها) على اعتبارها رمزا مطلقاً للجمال، حتى أن أحد أهم مخرجي العالم وهو أمير كوستوريتسا (Emir Kusturica) أخرج فيلماً "بائساً" بعنوان On the milky road، وأخذ نفسه دور البطولة بأداء متواضع ليحقق الفانتزم الخاص به وبنا في أن نكون عشاقاً لمونيكا، فكسب عداءنا بسعادة أيضاً دون أن يرف له جفن. لقد دخل التاريخ من بابه الخلفي (اقتباساً من كونديرا) ليس كعاشقٍ لبولوتشي وإنما كغريم لعشاقها. المهم بولوتشي أيقونة الجمال التي نتغاضى عن أدائها، ونتعاطف معها لو ذبحت الممثلين والمخرج ونصف المشاهدين. إنها رمز يتجاوز شخصها، بمعنى حضورها في المخيال الشعبي العالمي أهم منها شخصياً. مونيكا الساحرة أقوى وأهم من الحقيقية. حتى أن تجاعيد مونيكا الحقيقية وهي تكبر في العمر خيانة لصورتها، نوع من الخذلان.. هنا أصبح الخيال أقوى من الواقع واستطاع إلغاءه.
أتذكر العبارة الشهيرة من فيلم الإغواء الأخير للمسيح لسكورسيزي عندما يصرخ أحد أتباع المسيح بمسيحه الذي أتيح له أن يتجنب الموت وأن يتزوج ماريا. ويود أن يعود ليخبر الناس أنه لم يمت فداءاً لهم، فيقول له تابعه: تفضل أخبرهم. لن يصدقك أحد لأن مسيحي أقوى منك. الصورة هنا أقوى من الأصل أيضاً.
فيروز تتجاوز شخصها وتتجاوز الطوائف والحرب الأهلية ولبنان والحرب السورية، ومواقف ابنها زياد. إنها رمز خالد غير قابل للمساس بأي حال.
شاهدت منذ فترة قريبة حلقة من الدحيح يتحدث عن معاناة الطبيب "الزميل" دويل مخترع شخصية شارلوك هولمز من سيطرة الشخصية على حياته وخياراتها، حتى انتقم منه بقتله (قتل هولمز في العمل الأدبي).
مثال آخر قد يكون مناسباً، وهو المغنية فيروز التي تحتل صباحات البلاد العربية كتميمة لا تزول. فيروز تتجاوز شخصها وتتجاوز الطوائف والحرب الأهلية ولبنان والحرب السورية، ومواقف ابنها زياد. إنها رمز خالد غير قابل للمساس بأي حال، حياتها الشخصية وآراؤها وعلاقتها بابنها الآخر المريض وعنايتها المتفانية به غير مهمة. الرمز يغلب الأصل مرة أخرى.
لنأخذ نمطاً آخر من الأمثلة أكثر عمومية. تخيلوا مفهوم أو رمزية الرجل الناجح وهو الشخص الذي يمتلك عملاً منتجاً أو شهادة علمية ويمتلك بيتاً وسيارة واستقراراً مالياً. هذا المفهوم يخرج فكرة تربية الأولاد أو الاهتمام بأي قضية فكرية أو أي موقف من الشأن العام من الحسبان. أن تمتلك استقراراً مالياً لا يعني أنك لست فاشلأً، أن تتحدث عدة لغات لايعني أن بعض ما تقوله مجرد هراء. الشهادة العلمية العالية لا تضمن أنك شخص متزن. تخيلوا الرمزيات الأخرى مثل المرأة الناجحة ( وهنا يختلف التصور عن الرجل في إيضاح مستوى الظلم الذي تمارسه الرمزية تجاه اغتصاب الواقع وإعادة هيكلته وفرض الظلم على النساء)، أو الأم الناجحة ( أو الصالحة في بعد ديني مثلاً)، أو الأب الجيد أو "الصالح"، الإنسان الوطني، الجندي، الشرطي، الطبيب...
لماذا لا نسخر من الوحش؟ الكوميديا حلًا
02 آب 2022
هناك عشرات الأمثلة الأخرى الجمعية التي تصغر أو تكبر لتشمل مجموعات بشرية، منها شخصيات عالم مارفال وأخواتها ودورها في تشكيل الوعي الشعبي الأمريكي. السخرية العميقة المكرسة من أهل دير الزور تجاه الشوايا بغض النظر عن الجذور العنصرية والاستغلالية للفكرة حتى تغدو كلمة شاوي شتيمة في مدينتي الأم. اعتبار أجناس ثانية غير بشرية كالظلم المرعب تجاه الأفارقة والسود، وظلم النازية لليهود. وظلم الإسرائيليين للفلسطينين. لقد قتل الهوتو ٨٠٠ ألف من التسوتسي خلال فترة قصيرة في رواندا باعتبارهم صراصيراً. "الصراصير" هنا رمز أقوى من الواقع. رمز قادر أن يغير الواقع ويعيد تشكيله أو أن يلغيه من الوجود. أعتقد أني أستطيع سرد عشرات الأمثلة حول تشكيل ما فوق الواقع بترجمة مجازية (الهايبرريالتي hyperreality ) وإلغائها للواقع أو تهميشه.
كل ماسبق يقارب ولا يطابق فكرة بودريار عن الهايبرريالتي أو ما فوق الواقع وعلاقتها مع الأصل. كتابه المصطنع والاصطناع متعب بسبب الترجمة ولكنه يطرح فكرة مهمة تقارب ما أود وصفه هنا. ما يسميه بال سيمولاكرا Simulacra يوضح خلق صورة تتجاوز الأصل وتلغي علاقتها معه وصولاً إلى اعتبارها مرجعية لذاتها. أين قيمة كل ما سبق في الإجابة على سؤالي الأول. إنها في وعي الأوروبيين وخصوصاً الألمان. فكرة إسرائيل مرتبطة بخيال معتمد على وقائع قديمة حقيقية لشعب مكسور مظلوم مطرود امتلك أرضاً أخيراً في تصحيحٍ لمسار تاريخٍ ظالمٍ. إنها أكبر من الحقيقة. لا يهم أن يكون أبناء أو أحفاد ضحايا الهولوكوست مجرمين. لا يهم إن كانت الأرض مسروقة من شعب آخر، فهذا لا يغير من الصورة التي تتغلب على الواقع-الحقيقة وتمحوه. كل الجرائم التي تحصل في غزة لم تغير من موقف الشعب الألماني إلا في حالات نادرة. تقديم وثائق منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس وتش ومنظمات حقوق الإنسان الإسرائيلية وأدباء ومفكرون وصحفيون يهود إسرائيليون وغير إسرائيلين لا يغير ال سيمولاكروم ( مفرد سيمولاكرا). الزمن وحده يمكنه أن يغير ذلك إن بقي شعب فلسطيني في الأراضي المحتلة. ولكن من المهم فهم الآلية أولاً.
فكرة ما فوق الواقع قاربها بعض الفلاسفة بطرق مختلفة ومنهم جيجيك (وأنا لست من المعجبين فعلياً به)، ولكنه يسوق الفكرة بشكل أكثر تطرفاً بحيث يصبح فوق الواقع هو الأساس لينتقل الحنين أو الشغف للواقع بسبب سيطرة ما فوق الواقع، ويأخذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر كمثال.
للتخلص من أثر الهايبرريالتي يجب الاعتماد على معايير واضحة وصارمة مثل حقوق الإنسان والقانون الدولي لأنها تسمح برؤية أوضح تتيح لنا أن ندرك أن قتل أي طفل في أي مكان أو زمان أمر لايمكن تبريره.
وفي هذا المجال يبرز سؤال ثانٍ لا يقل أهمية عن الأول وهو سر التعاطف الجارف من العرب مع القضية الفلسطينية. للوهلة الأولى يبدو السؤال غبياً. خاصة مع هول الجرائم التي يرتكبها الاحتلال. سأعدل السؤال ليتضح معناه. لماذا تعاطف بعض السوريين في الخارج مع الأحداث الحالية في غزة أكثر من تعاطفهم مع بعض الأحداث التي وقعت في سوريا مثلاً؟
هل الأمر مرتبط بتعقيد وأزمان المأساة السورية وتحولها من انتفاضة إلى مخلوق مرعب يتجاوز فكرة الحرب الأهلية؟ هل تعقيد الشأن السوري وتدخل الكثير من القوى الدولية وصولاً لداعش يجعل أي موقف أقل ثقةً وثباتاً أمام وضوح مفهوم الاحتلال الاستعماري لشعب ظل لفترات طويلة أعزلاً أو شبه أعزل؟
في البداية ذكرت أني أحس أني مواطن درجة ثانية في ألمانيا وهذا يحدد جزءاً من الجواب باعتبار تعاطفي دفاعاً عن حقوقي كمواطن ألماني يطالبه الرئيس الألماني (في اتهام واضح) بالابتعاد عن معاداة السامية. ولكن هل هذا هو السبب الأهم؟ لا أعتقد. فلسطين بالنسبة لنا كما أعتقد أيضا سيمولاكروم أو رمز فوق الواقع. للأسف احتج علي بعض أصدقائي الأكراد سابقاً في أني أعيد سرد شعارات حزب البعث القومية السخيفة عندما أتعاطف مع الشعب الفلسطيني. رغم سطحية الطرح وسذاجته لكنه يقارب ما يشبه الحقيقة دون قصد ودون نسيان تعاطفي مع الشعب الكردي والذي يملك السيمولاكروم الخاص به. فلسطين رمزية أو عدد من الرمزيات المتقاطعة التي تتجاوز الواقع في وعينا، إنها رمزية للحرية والعدالة والانتصار على الظلم، وللبعض الآخر رمزية للوقوف ضد الاحتلال الكولينالي والرأسمالية المتوحشة في الصيغة اليسارية الماركسية، ولطرف آخر رمزية للوقوف ضد الفصل العنصري وحقوق الإنسان، أو الدفاع عن الإسلام والهوية المرتبطة به. إنها مجموعة من السيموكلارا أو الرمزيات التي تتجاوز الشعب الفلسطيني نفسه. تتجاوز التعقيدات السياسية والصراعات العبثية في الداخل الفلسطيني، تتجاوز وضع فلسطينيي الداخل الذين لم نعلم عنهم الكثير غير تجارب بعض الشعراء، والأهم أنها تسمح إلى حد ما بالتغاضي عن جرائم حماس أو حتى عدم نقدها (وترك النقد للأطراف الداعمة أو الشريكة مع إسرائيل في خرقها للقوانيين الدولية وارتكابها جرائم حرب) ونقد غياب أي تخطيط من قبل حماس لحماية الناس وتأمين حاجاتهم أو غياب أي مشروع وطني جامع لكل الفلسطينيين، والاكتفاء بتعريف الذات بالتضاد مع الاحتلال عبر صيغة إسلامية (والارتهان لإيران في حالة حماس). التعاطف مع فلسطين ما فوق الواقعية يلغي قدرة البعض على نقد حماس والجهاد الإسلامي والاكتفاء باعتبارهما مقاومة "مقدسة" تمتلك الحق باستخدام كل الوسائل الممكنة.
من المهم عدم فهم طرحي على أنه يشكك في عدالة القضية الفلسطينية أبداً. ولكنه يحلل بناء الهايبر ريالتي هنا. فلسطين فكرة أكثر منها أرض وشعب. هنا تنجب الصورة أو السيمولاكروم اشتقاقاتها الفرعية ليتحول تعاطف الناس معها إلى جزء من تعريفهم لذاتهم. وهذا يفسر موقف شعوب غير عربية مثل الإيرلنديين أو الاسكوتلنديين ( مشجعي نادي سلتك مثلاً)، فدفاعهم عن فلسطين تأكيد لحق الشعوب في تقرير مصيرها وحقهم في تقرير مصيرهم، بعض النسويات يدافعن عن وضع النساء في قطاع غزة بالدرجة الأولى. هنا فلسطين جزء من وعيٍ آخرَ مقاربٍ ولكنه يشكل صورة ما للهايبرريالتي لا تتضاد مع الأصل بل تتوازى معه وتدعمه.
فكرة الهايبرريالتي أو الرمزية لا تقصد مدح أو هجاء أي شيء، وإنما تحليل آليات التفاعل لدينا التي توصل لدروب مسدودة أحياناً وتمنعنا من تطوير أي موقف نقدي. أنا أرى على سبيل المثال فكرة المقاطعة العمياء لأي فعالية أو محفل يحضر فيه الإسرائيليون خطأً جسيماً. المقاطعة هنا فعل عبثي يترك المجال كاملاً للآخر ليعيد سرديته لما يجري دون نقد، فيما يكتفي العرب بالاختفاء. من الأجدى الحضور وتقديم نقد صريح ومباشر عقلاني بعيداً عن الخطب العاطفية. نقدٍ يعتمد على توثيق دقيق مع إحصاءات دقيقة من مؤسسات حقوق إنسان عالمية أو مؤسسات دولية كالأمم المتحدة.
الألمان ينظرون لكل المواطنين من أصول عربية بنظرة شك حول انتمائهم الفعلي. وأحد أسباب كتابتي هذه هو الدفاع عن مستقبل ألمانيا ذاتها. الصورة هنا لا تدمر شعباً آخرَ فقط وإنما تدمر قيماً كالديمقراطية وحقوق الإنسان دفعت البشرية الكثير من الأثمان للوصول إليها. للتخلص من أثر الهايبرريالتي يجب الاعتماد على معايير واضحة وصارمة مثل حقوق الإنسان والقانون الدولي لأنها تسمح برؤية أوضح تتيح لنا أن ندرك أن قتل أي طفل في أي مكان أو زمان أمر لايمكن تبريره، تسمح لتعاطفنا أن يكون عقلانياً ومستمراً وقد يكون مثمراً أيضاً كما حصل في جنوب إفريقيا مثلاً.
