يعيش الشيف أنس قاطرجي اليوم في ظروف صعبة، نزح من مكان إقامته، وخسر منزله في القصف الإسرائيلي الذي استهدف حيّ تل الهوا في مدينة غزّة. ينحدر قاطرجي من مدينة حلب، ويُعتبر أحد أبرز الطهاة الذين أشرفوا على عددٍ من المطاعم التي تحمل النكهة الشامية والحلبية في قطاع غزّة. برز قاطرجي بين الغزيين بالطعام السوري والرداء الحلبي الأصيل، وبـ"الشوارب الحلبية"، مستخدماً كلّ ذلك لتسويق عمله، حتى ظهرعلى تلفزيون الدولة الفلسطيني في عدّة حلقات لتقديم النكهات الشامية.
تحوّل قاطرجي من طاهٍ معروف في فلسطين إلى نازحٍ مع الغزيين، مواجهاً الموت في مرّات عديدة. يقول إنّه هرب من الموت في سوريا، كما هرب من الموت في فلسطين لمرّات عديدة، حيث يعيش الآن الحرب الثالثة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزّة.
قاطرجي متزوج من امرأة غزيّة، لكن تمّ رفض تسجيله في الجانب المصري للسفر الى مصر مؤقتًا حتى ينجو من الموت المنتشر في غزّة. يقول لنا: "لماذا تُحدّد قيمتي كإنسان باسم الدولة المدرجة على جواز السفر؟ أنا أحمل جواز سفر لا يمنحني ميزة الهروب من الموت. أستمر في الهرب من مكان لآخر لأبقى على قيد الحياة. منذ بداية العدوان على غزّة وأنا أنتظر أن يُسمح لي بالسفر ووسط آلاف الذين يريدون الهرب من غزّة".
يصف قاطرجي أيامه في غزّة بالرائعة، ويقول إنّه عاش أياماً عظيمة في القطاع المحاصر، لكنّه ينحدر من "شعب يواجه الموت يومياً في سوريا". يرفض الطاهي الحلبي الشهير في قطاع غزّة أن يكون "ضحية حرب"، لا يريد أن يتم ترك جسده الميت مرمياً في شارع ما لتأكله القطط، أو أن يتحلّل جسده في الشوارع دون دفن، أو أن يُدفن تحت ركام المباني. يقول إنّه يسعى بكلّ ما يستطيع أن يبقَ على قيد الحياة.
"أنا سوري فلسطيني"
منذ تشرين الأول الماضي، يواجه أهل قطاع غزّة واحداً من أسوأ الحروب التي شنتها إسرائيل ضدّ الفلسطينيين. فمع نهاية شهر شباط/ فبراير الفائت، وصل عدد الضحايا الفلسطينيين إلى أكثر من ثلاثين ألف قتيل وأكثر من سبعين ألف جريح، إضافة إلى حوالي سبعة آلاف شخص آخر فُقدوا تحت الأنقاض، حسب بيانات وزارة الصحة الفلسطينيّة في غزّة.
يواجه أهل قطاع غزّة واحداً من أسوأ الحروب التي شنتها إسرائيل ضدّ الفلسطينيين
من بين الضحايا وُجدت عائلات سوريّة وعائلات سوريّة من أصل فلسطيني، قدمت إلى قطاع غزّة هرباً من قصف النظام السوري وحصاره المخيّمات الفلسطينيّة في سوريا. لكنّهم عاشوا في القطاع ما عاشه الغزيّون والغزيّات طوال سنوات الحصار الإسرائيلي، وقضى بعضهم خلال القصف الإسرائيلي المتكرّر خلال السنوات الماضية، وكان آخرهم محمود ماضي، الذي خرج من سوريا طفلًا في الحادية عشرة من عمره، وقُتل في قطاع غزّة وهو في الثالثة والعشرين.
منذ عام ٢٠١٢، وخصوصاً خلال عهد حكم الرئيس المصري الراحل محمد مرسي دخلت عدد من العائلات الفلسطينية السورية إلى قطاع غزّة، مستغلين التسهيلات المصرية التي سمحت بدخول السوريين ممن يحملون وثائق سفر سوريّة مخصّصة للاجئين الفلسطينيين، كما سمحت بدخولِ عددٍ قليلٍ من السوريين.
عايش السوريون والفلسطينيون السوريون العدوان الإسرائيلي في عام ٢٠١٤، ومن ثمّ العدوان في عام ٢٠٢١، والحرب الحالية، مثلما فعلت عائلة محمود ماضي، والتي تنحدر أصلاً من قرية أم الزينات، بالقرب من مدينة حيفا، والتي تمّ احتلالها وتهجير أهلها في شهر آب/ أغسطس من العام ١٩٤٨.
خلال الحرب الأخيرة، دُمّر بيت عائلة ماضي، وفقدت العائلة ابنها محمود. يقول اسماعيل ماضي، والد محمود، إنّهم نزحوا من مدينة حمص في نهاية العام ٢٠١١ "بأعجوبة"، وهم أسرّة مكوّنة من خمسة أفراد. ذهبوا إلى العاصمة دمشق، وبقوا فيها أشهراً، وسط ظروف أمنيّة وتقييدات، ثمّ سافروا إلى مصر عبر وثيقة السفر السوريّة المُخصّصة للاجئين الفلسطينيين، من خلال أحد الوسطاء الذي حصل له على تصريح أمني لدخول مصر.
بعد خمسة شهور في مصر، دخلت العائلة غزّة لتلتحق ببعض الأقارب هناك. "نجوت بأعجوبة من قصف النظام السوري لمدينة حمص، والتي كانت تتعرّض لحصار شديد حينها وقصف عنيف. أقول دائمًا إنّ القصف واحدٌ، في سوريا كان الدكتاتور يريد قتل من يعارض صوت الحق، وفي غزّة يريد الإسرائيلي قتل صوت الحق الفلسطيني. نجوت بروحي وبابني محمود الذي بقي يتحدّث باللهجة السورية حتى موته في غزّة" . يقول إسماعيل ماضي
يضيف ماضي إنّ ابنه كان "طالباً في الجامعة الإسلامية، في قسم هندسة البرمجيات. دمر الجيش الإسرائيلي حلمه عندما دمر جامعته وسط مدينة غزّة، ثمّ دمر منزلنا في مدينة خانيونس، ثمّ قتل ابني الذي كان محبّاً لسوريا وفلسطين، وعندما يعرّف عن نفسه كان يقول أنا سوري فلسطيني".
الحياة في غزة
عائلات كثيرة منحدرة من أصل فلسطيني دخلت غزّة خلال سنوات ٢٠١١-٢٠١٤، حتى أنّ رئيس الحكومة الفلسطينيّة في ذلك الوقت، ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنيّة، قد أصدر دعوة يدعو فيها الفلسطينيين السوريون بالقدوم إلى غزّة.
حسب بيانات جهاز الإحصاء الفلسطيني المركزي، دخل الى قطاع غزّة أكثر من ٢٩٠ عائلة، منهم ٢٦ عائلة سوريّة، إذ دخلوا قطاع غزّة ما بين عامي ٢٠١٢ و٢٠١٣. منهم من دخل بطرق شرعية عبر معبر رفح، وآخرين بطرق غير شرعية عبر الأنفاق التجارية الحدوديّة بين فلسطين ومصر.
لكن مع مرور الأيام تقلّصت أعدادهم لأكثر من النصف بعد أن استطاع بعضهم السفر خارج قطاع غزّة عبر طرق رسمية وغير رسمية. بعضهم الآخر كان ينتظر الحصول على ردّ من هيئة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، لأنّ نسبة كبيرة منهم كانت قد تقدّمت بطلبات إعادة توطين، بسبب العدوان الإسرائيلي المتكرّر، كحال سمير أبو هاني الذي يبلغ السادسة والأربعين والمنحدر من مخيم اليرموك في دمشق. ويعيش في قطاع غزّة منذ آذار/ مارس ٢٠١٣.
يشعر أبو هاني بالندم الكبير لأنه جاء إلى غزّة مع عائلته ووالدته، لأنّه لم يتلقَ مساعدات من قبل حكومة غزّة أو عقد عمل إلّا لمدّة ستة شهور، ليعيش وسط الفقر الذي يواجهه معظم أهل غزّة. عملَ عاملاً في العديد من المجالات، لكنّ ظروف الحرب والحصار لم تساعده.
دخلت عائلة أبو هاني قطاع غزّة بطريقة غير شرعية عبر أحد الأنفاق الحدوديّة. فقدْ سمير أبو هاني شقيقه، أحمد، في سوريا، والذي يُعتقد أنّه واحدٌ من المغيّبين قسرًا في سجون النظام السوري، شكّل ضغطاً نفسياً إضافياً عليه خلال الحرب الأخيرة، والتي أصيب خلالها في ساقه.
يعيش أبو هاني مع عائلته حاليًا في إحدى مدارس مدينة رفح، في المنطقة الجنوبية من قطاع غزة، وقدّ دُمر المنزل الذي كان يعيش فيه داخل مخيم جباليا شمال القطاع. يتذكر الرجل نزوحهم من مخيم اليرموك وبقاء بعض العائلات هناك دون أيّ مساعدة، يتذكر أصوات القصف في مخيم اليرموك، ويقارنها بأصوات القصف الحالية في قطاع غزّة. يقارن ما حدث في المخيم وما يحدث الآن في القطاع، ويقول لنا: "المجرم واحد سواء أكان الحاكم في سوريا أو الجيش الإسرائيلي هنا. واحدٌ مارس الدكتاتوريّة علينا طوال حياتنا وأخضع الشعب لإمرته، وآخر يريد مسحنا عن الوجود لأنّنا نحمل الهوية الفلسطينية".
فقد أبو هاني التواصل مع عائلات فلسطينيّة سوريّة كانت تعيش بالقرب منه في مخيم جباليا. يقول إنّ إحدى العائلات (عائلة عبد الله) المُكوّنة من ثمانية أفراد قد قُتلوا بالكامل، وهي من العائلات التي نزحت من مخيم اليرموك. كذلك قُتلت زوجة شقيقه، ميادة عمار، خلال القصف الإسرائيلي، وهي سوريّة منحدرة من مدينة دمشق، فيما نجا زوجها حمدان أبو هاني وأبناؤها رغم إصاباتهم المختلفة.