حلقة السلام: عن خالاتي السوريّات وحمّامنا البلدي في الغربة


حلقة السلام هي مجموعة دعم نفسي للنساء الناطقات باللغة العربية في ألمانيا تعتمد على نهج العلاج النفسي "جشطالت". بسمة المهدي تكتب عن هذا الفضاء (الافتراضي) للشفاء والتواصل.

29 آذار 2024

بسمة المهدي

صحافية حرّة وباحثة إعلاميّة مصريّة، مقيمة في برلين.

Translated By: شذى نعيم

كنتُ أتجهُ نحو مدخل قاعة شاسعة مليئة بخبراء أوروبيين لبناء السلام في البلدان المتأثّرة بالصراعات، حين استوقفني إعلانٌ عن توّفر "مساحةٍ آمنة" للمهاجرين، من أمثالي. كانت الكلمتان مكتوبتين باللون الأزرق على لوحٍ قابلٍ للطيِّ بجانب مدخل القاعة، والذي نُقل لاحقاً إلى الزاوية، حيث ينبغي أن يكون في مؤتمر مهمٍّ تستضيفه مؤسسة تعليمية تابعة للكنيسة، في مقرّها مترامي الأطراف في قرية ألمانيّة.

الحمّام الافتراضي

لم أتمكّن من تجاوزِ الارتباك  الذي شعرتُ به على مدى يومين متسائلة: مساحة آمنة لمجموعة من الناس البيض. كان حضور الملونين من امثالي مجرد طيف في هذه المساحه البيضاء تماماً. مساحة يتحدّثُ فيها الخبراء البيض على المسرح عن أشخاص مثلي، الملونين ، المهاجرين والقادمين من مناطق تأثّرتْ بالنزاع في "الشرق الأوسط"، ولكن يتمّ تمثيلهم في الـAfterparty بدعوتهم للرقص على أنغام أغنية واكا واكا لشاكيرا. من الغريب أنّني كنتُ أتوق للعودة إلى برلين، حيث يوجد على الأقلّ إمكانيّة الانتماء إلى مكان مألوف -رغم إنّني المصرية الوحيدة فيه ضمن معارفي من سيدات سوريّات- إلى حمّامنا البلدي الافتراضيّ في الغربة. 

فكّرتُ بأنّ منظمة المجتمع المدنيّ مرّتْ بعمليّة شاقّة لتأمين بعض الأموال لهذه المساحة الفارغة، ولكنّني تعاطفتُ مع مُنظّمي المؤتمر بعد أن تذكّرتُ الصعوبات التي تواجه مبادرات المهاجرين التي عرفتها عند محاولة تأمين تمويل لأنشطة ناطقة باللغة العربية. فعلى المتقدم أن يلون طلبه التمويلي بألوان الاندماج الألماني وإلا سيتمّ رفض طلباتهم غالباً لعدم مواءمتها مع سياسات الاندماج التي تركز على تحويل القادمين الجُدد إلى "مواطنين صالحين" على الموديل الاوروبي الليبرالي.

ضغوط سياسات الاندماج

عندما يتعلّق الأمر بالنساء المهاجرات من البلدان ذات الأغلبية المسلمة، يكون لدى سياسات الاندماج مهمّة مُحدَّدة "لإنقاذنا" من القيم الإسلامية والعربية الذكورية. "إنّهم يريدون منّي "تمكين" النساء اللاتي نجين من الظروف القاسية وقطعنَ كلّ هذا الطريق من مناطق النزاع إلى هنا!"، تُخبرني باحثة وناشطة تعمل في أحد أكبر أبحاث الهجرة في ألمانيا عن الضغط الذي تفرضه هذه السياسات على عملها.

وفق هذا المنطق، بدا في البداية أنّ وجود مجموعة دعم نفسي للسيدات المهاجرات من دول عربية  ومقرّها برلين وتعمل حصراً باللغة العربية في غير مكانه. وبناء عليه لم تحصل حرفياً إلا الفتات من أموال الاندماج الألماني. وعلى الرغم مع عدم وجود تمويل تقريباً، ازدهرتْ المجموعة وتوسّعتْ خارج حدود العاصمة الألمانية منذ تأسيسها في عام  ٢٠١٦، ردّاً على موجات عام ٢٠١٥ من اللاجئين الناطقين باللغة العربية. ما بدأ كمجموعة تلتقي عضواتها وجهاً لوجه في برلين، تطوّر إلى ثلاث مجموعات افتراضيّة مع انتشار وباء ٢٠٢٠، ممّا سمح للمجموعة بالوصول لاحقاً إلى النساء السوريّات في سوريا ودول أوروبية أُخرى.

عندما يتعلّق الأمر بالنساء المهاجرات من البلدان ذات الأغلبية المسلمة، يكون لدى سياسات الاندماج مهمّة مُحدَّدة "لإنقاذنا" من القيم الإسلامية والعربية الذكورية.

ما يُثير الاهتمام هو أنّ هذه المجموعة، على عكس المبادرات المُسمّاة "مساحة آمنة " أو "تمكين المرأة"، لم تحمل لواءاً أو شعاراً، بل فقط اسمها، حلقة سلام.. ولكن مع مرور السنين حيث شهدت ميلاد وتطور هذا التجمّع الافتراضي للنساء السوريّات المهاجرات، اللواتي يُشاركنَ تجاربهنَّ وتطلّعاتهنَّ المشتركة نحو الدعم المتبادل والنمو، أثار اهتمامي بما فيه الكفاية لأطلق عليه اسم "حمّامنا البلدي النفسيّ".

حالة حلقة السلام المثيرة للاهتمام

مثل الحمام البلدي  التقليديّ في ثقافة دول حوض المتوسط، تتجاوز هذه المساحة الافتراضية الحدود المادية لتصبح ملاذاً لاكتشاف الذات والتعافي، ولكن في حضور الآخر. هنا، تجتمع النساء السوريّات من خلفيّات متنوّعة، غريبات في البداية، ثم مع ألفة  تتولد من التعاطف والتفاهم، يشرعن في خلع أقنعة يحتمون وراءها فيعرين حقيقتهن بحلوها ومرها دون خوف من الأحكام. في هذا الفضاء الخياليّ، يتمّ التعامل مع من صدمات الماضي بلطف، وفك  تعقيدات الهجرة بحكمةٍ وتعاطفٍ جماعيين.

دولمة عراقية في طبق من البلاستيك

25 آذار 2024
في حين تشكل الإصلاحات الشاملة وتدابير السياسات والإبداعات التكنولوجية والتعليم البيئي عناصر حاسمة لتعزيز العمل البيئي، فإنّ التغيير الحقيقي لا يمكن إنجازه دون أن يتبنى الأفراد ممارسات أكثر استدامة، وهو...

هذه هي الحالة المثيرة للاهتمام لحلقة السلام. وفيها، أنا المرأة المصريّة الوحيدة في الثلاثينات التي انضمّتْ قبل بضع سنوات وبقيتْ منذ ذلك الحين. ومع ذلك، في الوقت الذي تقترب فيه اجتماعاتنا السنوية الأخيرة خلال إفطار رمضان، وجدتُ نفسي أعيد التفكير في جدوى الاستمرار. "ما الذي يجمعني مع مجموعة من الأمّهات السوريّات، الكثير منهنَّ في الأربعينات والخمسينات أو حتّى الستينات من العمر؟" لم تكن الإجابة واضحة في ذهني، ولكنّني وجدتها بعد أن ذهبت إلى إفطارنا الجماعي.

بدأتْ علاقتي بحلقة السلام في صيف العام ٢٠١٧. لم أكن لاجئة أو مهاجرة بعد؛ بل كنتُ طالبة ماجستير من مصر قد انتقلتْ لتوها إلى برلين، المركز الجديد للشتات العربيّ، لتمضية فترة تدريب صيفيّة في وكالة الأنباء الألمانية بين دراستي الجامعيّة في الدنمارك والمملكة المتحدّة.

جذبتني قضايا الهجرة والاندماج لاحقاً، خلال صيف ماطر في برلين سبق الانتخابات العامة الألمانية، والحديث عن "نحن وهُم". عندما قدّمتُ مقترحاً لتقديم موضوع حول مبادرات النساء اللاجئات لمحرّريّ وكالة الأنباء الألمانية ، انغمستُ في تحليل تحدّياتهن في الوصول إلى ألمانيا وأهميّة توفير مساحة للراحة العاطفية بعيداً عن ضغوط الاندماج. وتبيّن أنّ المبادرات الأخرى التي استكشفتها لم تدُم.

أثر العلاج بالجشطالت

عندما انتهتْ دراستي، رحّبتْ حلقة السلام بعودتي إلى برلين كمهاجرة. حتّى خلال جائحة كوفيد-١٩، عندما عدتُ إلى مصر، تجاوزتْ المجموعة الحدود، وتطوّرتْ إلى مجموعة دعم افتراضية.

ما يُعرف الآن بمجموعة دعم نسائية سوريّة، بدأ كمبادرة من قبل معالجة جشطالت (Gestalt) نمساوية-ألمانية في استجابة لتدفّق الوافدين الناطقين بالعربية من المناطق المتضرّرة بالنزاع في عام ٢٠١٥. تُدرك غابي، المقيمة في برلين منذ ثلاثين عاماً، أهميّة استخدام اللّغة الأمّ لتقديم المساعدة النفسيّة للنساء اللاجئات الناطقات بالعربية. وكان بإمكانها استضافة مجموعة أسبوعيّة في عيادتها وسط برلين بمساعدة صديقتنا السورية أروى حيث قامت بدور المترجمة. ومثلما كانت اللغة العربيّة غير مألوفة لغابي، كذلك كانت فكرة مجموعة الدعم النفسي بين مجموعة من الغرباء غريبة بالنسبة لثقافة النساء الناطقات بالعربية.

الرغبة بإنشاء روابط

"لم أصادف مثل هذا المفهوم إلّا بعد أن غادرتُ سوريا عام ٢٠١٢. في ثقافتنا، كان يشبه العلاقة الوثيقة مع صديقة أو أخت." شاركتْ روعة السمّان منظورها، وهي كانت مصدراً رئيسياً لمقالي حول حلقة السلام، وأصبحتْ الآن صديقة عزيزة. روعة سيدة في بداية الخمسينيات من عمرها ، تنحدر من مدينة دمشق، وانضمّتْ إلى المجموعة عام ٢٠١٦، وتولّت لاحقاً دور الميسّرة.

اتسعتْ ابتسامة روعة خلال مكالمة الفيديو عبر الماسنجر عندما سألتُها عن جذور حلقة السلام في حياتها السابقة في سوريا. وخطر لها أنّها كانت تتوق دائماً إلى إنشاء روابط مثل هذه مع النساء الأخريات، خاصّة أنّها الابنة الوحيدة في عائلة مكوّنة من ثلاثة ذكور. وحتّى بعد أن تزوّجتْ وأنجبتْ ثلاثة أبناء، وجدتْ نفسها تتوق إلى تلك الروابط. ومع وجود بعض وقت الفراغ المتاح لها عندما يذهب أطفالها إلى المدرسة، بادرتْ إلى تنظيم تجمّعات الصالونات النسائية، ودعوة الجارات اللواتي يشاركنها اهتمامها بتبادل الأفكار والكتب والخبرات حول تربية الأطفال. وانتقلتْ من كونها ربّة منزل إلى العمل كمدرّبة في البرمجة اللغويّة العصبيّة (NLP)، التي كانت شائعة في البلدان الناطقة باللغة العربية في بداية الألفية الجديدة ، وتستكشف العلاقة بين علم الأعصاب واللغة والسلوكيّات المكتسبة لدعم تحقيق الأهداف والتواصل.

الطريق إلى أن تُصبح مُيسّرة

أخذتها رحلتها من سوريا إلى الجزائر لبضع سنوات قبل أن تستقرّ في نهاية المطاف في ألمانيا منذ العام ٢٠١٥. وحتّى في الجزائر، واصلتْ تنظيم تجمعات الصالونات النسائية بنفس المفهوم. هذه الرغبة العميقة في التواصل مع النساء الأخريات هي التي دفعت روعة للانضمام إلى مجموعة حلقة السلام في برلين. وبمرور الوقت، تطوّرتْ من كونها مشاركة إلى مُيسّرة، ليس فقط للمجموعة المقيمة في برلين، ولكن أيضاً لمجموعتين إضافيّات، بما فيها مجموعة للنساء السوريات اللاتي ما زلن يُقمنَ في سوريا.

ما يُعرف الآن بمجموعة دعم نسائية سوريّة، بدأ كمبادرة من قبل معالجة جشطالت (Gestalt) نمساوية-ألمانية في استجابة لتدفّق الوافدين الناطقين بالعربية من المناطق المتضرّرة بالنزاع في عام ٢٠١٥. 

رغم أنّ  صداقتي مع روعة تعمّقتْ من خلال قصصنا المشتركة حول نشأتنا في منازل غير سعيدة والأشياء الصعبة التي واجهناها في حياتنا الماضية، إلا أنّني وجدت  أنّ تجربتها تختلف عن تجربتي. ففي عائلتي من جانب أمي، كان هنالك العديد من النساء من خالات وبنات خالات أتحدّث معهنّ عن الأمور الصعبة. ظاهرياً، تُشبه حلقة السلام تجمّعات مساء الخميس العزيزة في منزل جدتي في مصر، حيث كانت بناتها الخمس وحفيداتها يجتمعنَ حول الطعام ويشاهدنَ التلفاز وفي الخلفية أحاديث مترامية عن الشكوى من الحياة الزوجية وتربية الأولاد.

أهميّة الثقة

على عكسي، كانت تجربة الانفتاح ومشاركة الجوانب الحميمة من حياتها مع نساء أخريات غير مألوفة في البداية بالنسبة إلى روعة. حيث شعرتْ وكأنّها لغة أجنبيّة لها تشبه تجربتها في تعلم اللغة الالمانية. "في تجربتي التدريبية السابقة جلستُ في "مقعد ‘المستمع" كما تقول. علاوة على ذلك، فإنّ كونها شخصاً كتوماً كان بمثابة آلية دفاعها كامرأة في سوريا.

في البداية، تمّ تشكيل المجموعة لتلبية الحاجة العميقة للقادمات الجُدد إلى ألمانيا، وهي الحاجة إلى التواصل ولكن في نفس الوقت الشعور بالأصالة. في محاولتها الوصول إلى "الآخر"، حتّى إلى امرأة سورية أُخرى في هذه الحالة، تُخاطر كلّ امرأة بالكشف عن هويتها، ممّا يجعلها عرضة للحكم أو النقد، وهو ما كانت تخافه روعة في البداية. وتُضيف: "يهتمّ بعض الأشخاص بالانضمام إلى مجموعتنا إلى أن يعلموا أنّنا نتحدّث عن أنفسنا".

بناء الثقة هو أمر ضروري في هذه التجربة. و الخطوة الأولى لتحقيقه  تتطلب بعض المخاطرة أو ما تقول عليه  إستير بيريل، المعالجة النفسية البلجيكية الأمريكية: Leap of Faith. الايمان المطلق كان البديل لهذه المخاطرة في حلقه سلام  هو تجربة التيسير ودور الميسر اللذان يصبحن المفتاح لتعزيز الثقة والانفتاح بين أعضاء المجموعة. لاحظتْ روعة أيضاً كيف استخدمت غابي أدوات من علاج الجشطالت للتعامل مع ديناميكيات المجموعة. في المراحل الأولى للمجموعة، تبدأ غابي الجلسة بتسليط الضوء على مجموعة من القواعد، مثل السريّة والاحترام. توضّح روعة: "من النادر الآن أن نذكر هذه المبادئ خلال جلساتنا، لأنّها أصبحتْ تلقائية بالنسبة لنا".

علاج الجشطالت (Gestalt) هو أسلوب علاج نفسي يُركّز على التجارب الحالية، ويُعزّز الوعي الذاتيّ والتمعّن في أنماط العلاقات. يعود أصله إلى الكلمة الألمانية التي تعني "الكامل"، فهو يؤكّد على الفهم الشامل للرحلة العلاجيّة.

تتضمّن عملية بناء الثقة بين مجموعة من النساء اللواتي لا يعرفنَ بعضهنَّ وتسهيل المناقشات الهادفة استخدام أدوات مختلفة. يُعدّ الاستماع العميق أمراً بالغ الأهمية، ممّا يتيح لكلّ امرأة مساحة لمشاركة أفكارها وتجاربها دون انقطاع. تضمن روعة، الميسّرة، أن يحظى الجميع بفرصة التحدّث بشكل مطوّل، سواء كان التعبير لفترة وجيزة عن الفرح أو الخوض في قضايا أعمق لمدّة ساعة أو أكثر.

على عكس جلسات العلاج النفسي المقيّدة بالوقت والمال، لسنا على عجلة من أمرنا هنا؛ تكون المداخلات لطيفة، وتولّد لحظات تأمّل عبر أسئلةٍ عميقة. يُعزّز هذا النهج الفضول والفهم، ويتخطّى المناقشات السطحية متناولاً الأفكار الجوهرية. بعد أن تُشارك كلّ امرأة قصّتها، يُفتح المجال للأُخريات لتقديم وجهات نظرهنَّ، ممّا يخلق شعوراً بالارتباط والتضامن داخل المجموعة.

الذات منعكسة في الآخر

في جلستي الأخيرة، أشادتْ روعة بمستوى تأمّلي الذاتيّ أثناء مشاركة محادثةٍ أجريتها مؤخّراً مع صديق، مشدّدة على أهميته داخل حلقة السلام لدينا. وحثّتْ زملائها أعضاء المجموعة على تبنّي هذا النهج الباطنيّ، مسلّطةً الضوء على أهميته في رحلتنا الجماعية.

ومع ذلك، فإنّني أعزو الفضل في عمق تفكيري الذاتيّ بالكامل إلى النساء الأخريات في حلقة السلام لدينا. لقد كان التعامل معهنّ بمثابة مرآةٍ عاكسة، أتاحتْ لي استكشاف تجربتي كمهاجرة عبر تقاطعها مع تجاربهنَّ. من خلال هذه التفاعلات، قمتُ بتكوين روابط ذات معنى دون الشعور بالحاجة إلى الاتفاق. وهذا يتناقض بشكل صارخ مع عملية الاندماج النموذجية، كما وضّحتْ لي روعة. في كثير من الأحيان، يتمّ الضغط على القادمات الجدد لصهر هويتهنَّ والتضحية بها من أجل التكيّف مع الثقافة الجديدة. وبدلاً من ذلك، تؤكّد روعة على أهميّة دعم الأفراد في البقاء صادقين مع أنفسهم أثناء استكشافهم بيئتهم الجديدة.

علاج الجشطالت (Gestalt) هو أسلوب علاج نفسي يُركّز على التجارب الحالية، ويُعزّز الوعي الذاتيّ والتمعّن في أنماط العلاقات.

مع مرور الوقت، تطوّر تكوين مجموعتنا. قلَّ نشاط العديد من النساء الأصغر سنّاً من المجموعة المتمركزة في برلين، وانشغلنَ بمتطلّبات الاستقرار في حياتهنَّ الجديدة في ألمانيا. ومع ذلك، فقد أثبتَ الأعضاء من النساء الأكبر سنّاً أنّ هذه المجموعة تلبّي حاجتهنَّ إلى الانتماء والتواصل. بالنسبة لي، فإنهنَّ يجسّدنَ ثروة من الخبرة، ويشبهنَ الأمّهات والمعلّمات، ويذكّرنني بالعمّات اللواتي فقدتهنَّ خلال عملية الشفاء المعقّدة من الصدمات العابرة للأجيال. وفي ظلّ هذه البيئة الحاضنة، توصّلتُ إلى الاعتراف بالصدمة التي تمرّ بها عائلتي عبر الأجيال، وخاصّة آثارها على العلاقة بين الأمّ وابنتها على مدى أجيال متعدّدة.

أكثر من مجرّد مجموعة دعم نفسي

من خلال تجربتي، يُعدّ اكتساب المنظور من مسافة صحيّة أمراً بالغ الأهمية لفهم الذات حقّاً. توفّر حلقة السلام مساحة مميزة للتأمّل، ويتمّ إدارتها بطريقة تُمكّننا من التمعّن في طرق تفكيرنا ومعالجة تحيّزاتنا. إنّ الهدف الشامل لهذه الرحلة هو تحقيق الانسجام الداخلي وإقامة روابط ذات معنى مع الآخر.

بالنسبة لي، تطوّرتْ حلقة السلام إلى ما هو أبعد من النموذج الغربي التقليديّ لمجموعة الدعم النفسيّ. على مرّ السنين، تحوّلتْ إلى مساحة هجينة. وقد لعبتْ أدوات التيسير التي تستخدمها روعة في توجيهها دوراً حاسماً في هذا التطوّر. في جلساتنا، أشعر كما لو أنّنا نتخلّص من طبقات من التوقّعات المجتمعية ونكشف عن ذواتنا الحقيقية. بتوجيه من روعة، نخلقُ مساحة آمنة حيث يمكننا أن نكون عاريات عاطفياً، ونزيل طبقات من التظاهر بصدقٍ لطيف وعميق.

أثر الفراشة

معاً، ندعم بعضنا البعض، ونُطهّر أرواحنا من أعباء أوضاعنا المهمّشة في المجتمع. تتجاوز هذه العملية التحويلية القيود المفروضة على مجموعات الدعم التقليدية، وتقدّم شكلاً أعمق وأكثر أصالة من العلاج والتواصل. من الضروري أن نناقش تجاربنا بشكل مفتوح في بلداننا الأصلية وفي المنفى، باستخدام لغتنا الأم والتفاعل مع الأفراد الذين نشعر معهم بالأمان والفهم.

خلال جلساتنا الأخيرة، توصّلت إلى استنتاج مفاده أنّ أثر الفراشة لحلقة السلام يمتدّ من دائرتها الأساسية إلى دوائر أصغر مختلفة، بما فيها الدوائر الاجتماعية للأمّهات، ممّا يؤثّر بشكل كبير على حياة أسرهنَّ. علاوة على ذلك، فإنّ هذا التأثير يتجاوز الحلقة المباشرة، ويؤثّر على المجتمع الأوسع الذي تنتمي إليه تلك النساء. على سبيل المثال، روعة، التي أكملتْ مؤخراً التدريب المهني في علاج الجشطالت وتعمل بدوام جزئي كأخصائية اجتماعية مع النساء المتزوّجات المُعنّفات، تتعاون مع غابي وآخريات لتنظيم برنامج التدريب المهني الأول من نوعه لمعالجي جشطالت الناطقين باللغة العربية. وبما أنّ علاج الجشطالت لا يُغطّيه عادةً التأمين العام الألماني، فقد أسّست غابي وفريقها الصغير منظمة غير حكومية حتى يتمكّنوا من تمويل تدريبهم المهنيّ للمعالجين الناطقين باللغة العربية وتوفير جلسات علاج مجانية للعملاء الناطقين باللغة العربية.

بحلول نهاية الجلسة الإفتراضية الأخيرة لحلقة السلام  قبل شهر رمضان وجدتني أقترح على خالاتي السوريات : "مش هنفطر مع بعض السنة دي؟".

مقالات متعلقة

سيرة ذاتيّة للناجين

15 نيسان 2022
كيف يعيش اللاجئون السوريون كبار السن في برلين؟ أولئك الذين قطعوا سنوات عمرهم الستين وأصبحوا فجأة لاجئين في بلاد غريبة لا يعرفون عاداتها ولا يعرفون لغتها ولا يعرفون كيف يتفاعلون...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد