الهنا والهناك .. الراحلون والباقون


في ملفِ العودة إلى سوريا، وبعد أن نشرنا نصاً لكاتبٍ يقيمِ ويستقر في ألمانيا ويزور سوريا بين الحين والآخر، ثم مقالاً لباحثة إيطالية زارت البلاد، ننشر هذا النص لديالا المصري، وهي كاتبة سورية مقيمة في سوريا، وتسافر أحياناً إلى خارجها، ما يسمح لها بتقديم رؤية تجمع بين من يقيم داخلاً، وبين من يعاين بلاده من الخارج في آن واحد.

24 نيسان 2024

ديالا المصري

باحثة وصانعة أفلام مستقلة مقيمة في ريف دمشق. مهتمة بقضايا التهميش والاستغلال والعدالة الاجتماعية، أنتجت عدة تقارير وأوراق بحثية تتناول التحولات الاقتصادية والاجتماعية للنساء في سوريا، الحقوق العمرانية والرقمية، الخدمات العامة والحراكات الاجتماعية.

كيف تُدافع عن مكانٍ يكرهه مُعظم من حولك؟ وعن ماذا تدافع أصلاً؟ عن حلمٍ عن ذلك المكان في رأسك، أم عن جبنك في التخلّي عن ذلك الحلم؟

الآتون

يعودُ الأصدقاء المهاجرون في الصيف، بجنسياتٍ وإقاماتٍ تُشعرك أنّهم تقدّموا عنك خطوةً على مسارٍ ما، أكاديمي، مالي، لغوي، أو في طرق التغيير السياسي والاجتماعي وأساليب إدارة المجتمع المدني. بأيّ حال يستطيعون أنْ يخبروك عن الحقيقة، وعن كيف يجب أنْ تسير الأمور حيث أنت. بلباقةٍ، يُزيّنون انتقاداتهم بشفَقةٍ عامة، تختصرُ كفاحَ يوميّاتك بعبارةٍ من مثل "الله يعينكن إنتو". 

قد يخبرونك عن مغامراتهم في مكانك، كيف زار أحدهم جرمانا وشعر أنّه في "السافانا"، أو كيف حاول الموظفون استغلاله في المؤسّسات الحكومية، أو حتى كيف يجدُ الأمور مقبولةً مقارنةً بوصفنا لها عبر أحاديث العالم الافتراضي، ملمّحين لمبالغةٍ غير مُنصفة.

ينتقلون بعدها سريعاً لما سيسيطر على الحديث، فلديهم الجديد، معاناتهم مع البيروقراطية الغربية والعنصرية والانتظار والاشتياق للأهل، ومصاعب أخرى تغمرك بالغبن، لشعورِ أنّك خسرتَ تفوّقاً حتى في شكلِ مشكلاتك. مشكلاتك مملّة وغبيّة، وتبدو مشكلاتهم أكثر تطوّراً واستحقاقاً للتعاطف حتى، فماذا فعلت أنت حتى لا تنال معاناة كتلك؟ ماذا فعلت وتحمّلت حتى تخرج من مستنقعك الآسن؟ يشقلب هذا كلّ منطقك في سؤال مثل: "ما فكرت تطلع من هون؟" في عتابٍ مبّطن، كأنّه يقول ضمناً: لماذا فعلت هذا بنفسك؟ فتكبر مشكلاتك في الرأس، لا لأنّك مُتعب من انتظارِ التيار الكهربائي وازدحام المواصلات، لكن لشعورٍ غامرٍ أنّ سببها أنت. أرأيت؟ 

الذاهبة 

في المطارات تُصادف العائدين إلى مَهجرِهم متعبين، غير مصدّقين أنّ رحلتهم تلك انتهت في الحر الذي لا يُحتمل أو الغلاء الفاحش. يُقارن الزوّار الأسعار مستغربين اقترابها من الأسعار العالمية، متعاطفين مع أصحاب رواتب لا يعرفونهم، ويلومون استغلالهم لهم لمجرّد أنهم آتون من هناك. تلتقي أيضاً بهؤلاء الذين بدؤوا رحلة اللاعودة، شبّان هاربون من الخدمة العسكرية، حزينون للنفي وفُراقِ الأهل، فرحون بالذهاب إلى حيث الكهرباء وفرص العمل المرضية. تفكّر بالأمهات والحبيبات والأصدقاء الوحيدين، ممن يبقيهم أهلهم مدلّلين في البلد، فيما أصدقاؤهم يرحلون من حولهم.  

من دمشق إلى تدمر: سوريا ما بعد الحرب من وجهة نظر إيطالية

15 نيسان 2024
يروي هذا المقال رحلة باحثة إيطالية إلى سوريا. تحاول جورجيا بعد دخولها البلاد في تشرين الأول ٢٠٢٢ التحدّث عن رحلتها إلى دمشق وحلب وتدمر بعد الحرب.

يصف أصدقاؤك الذين تقابلهم في الخارج زياراتهم للبلد. يتكرّر في وصفهم كلمة "البؤسوتتخيّل أنتَ الناس في شارع الثورة وسط دمشق، ظهراً عند الثالثة في شتاءٍ باردٍ، بملابس رمادية وأحذية يعلوها الطين. تبدو كأنّك استعرت الصورة من رواية "البؤساء" لفيكتور هوغو. لكنك تدري أنّهم يتحدثون عن الفقر لا الحزن. تنظر في وجوه الأوروبيين البيضاء، كبار في السن، جامدو الملامح يمشون ببطءٍ تكاد تراه استعلاءً. تفكر في وجوه المهاجرين هناك، من الشبّان تحديداً، الفرحين بشيءٍ ما، تتذكر صورة طلّاب الجامعة هنا، متابعين لصيحات الموضة، في مجموعاتٍ، فتيات وفتيان، ضاحكين في وسائلِ نقلٍ مُكتظة، متعبين ومصمّمين، لكن على شيء يبدو بلا طائلٍ بالنسبة لك. السفر. أهو البؤس أم الفقر ما تراه الأعين المستجدة؟ تتذكر روايات أصدقائك من زائري أحياء المزة ٨٦ أو الطبالة. يسمونها أحزمة البؤس بكلّ جدية، تفكر برحابة أصحاب البقاليات هناك، كيف تُمَارَسْ الهيمنة الثقافية؟ أطلق تسميات وتوصيفات على الآخرين، فتحاصرهم في دفاعٍ عن مكانتهم التي اخترتها.

تسأل نفسك محاولاً الإجابة بصدق: ما الفرق بين هنا وهناك؟ الرواتب أعلى، لكن الحياة تستطيع أن تستنزفها، والناس هناك تشكو من تأجيل الحياة لما بعد التقاعد. هل يأتي الفرق من الرضا عن اختيار المكان (الأفضل)؟ من نظافته؟ من لمسِ اليد لكلِّ شيءٍ فيه بالترتيب وتركنا كلّ شيء لأيّ يدٍ عابثة؟ من احترام القانون؟ 

تبدأ هنا أسئلة أكثر جدية: هل لك أن تقارن تكالبنا جميعاً أمام الطوابير وتحاشينا "دوائر الدولة" بالرشاوي أمام ما تفرضه القوانين هناك. لكن الشكوى من البيروقراطية ولعنة السفارات لا تفتأ تتواتر في أحاديث الأصدقاء، وكأنّ هذا الإعجاب بسيادةِ القانون تنقصه بعض المراجعة. للأمانة، تكمن المسألة في الإشكاليات الأمنية، في إمكانيات الاعتقال وفرض الأتاوات، لكن الزائرين يَعْلَقون معك هنا في مفارقةِ القبول بكلّ هذا مرّة أخرى، مدركين طرق تحاشيه بمهارةٍ اكتسبناها منذ الطفولة

يصبح البلد بالنسبة للبعض غريباً، يسألني المطلوبون ممن لا يستطيعون العودة: "كيف تحتملون تلك المظاهر؟" يستدعي دماغك الصور، الحواجز، والمناطق التي أصبحت أطلالاً. أفكر كيف أنّ بعضها لازمني طيلة حياتي فاعتدته، وبعضها نتيجةً لما حدث، أتحمّل مسؤوليتها. فكيف أزيح عيني عنها مكابرة؟ يبدو المنطق هناك بعيداً جدّاً، لتبدو وكأنّك أنت المازوخي وحدك، من يستمتع برؤيةِ البغاة يمرحون ربّما. تفكر بالخوف الذي عشته مرّات في هذا البلد، وتستنكر من نفسك مساءلة الموت، من حقنا جميعاً مصارعته واختيار طريقة مناسبة لوجودنا، لكن استنكار طريقتك يبدو ممّضاً ويدفعك إلى زاويةِ كيلِ الاتهامات دون أن تدري. تنفض رأسك باحثاً عن معركة حقيقية تنشغل بها: لم أنت حقاُ هنا؟

الساكنة

تبدو بالنسبة لمن حولك مجنوناً "حدا طلع لبرة بيرجعوتتحاشى ذكر الأمر ما أمكن أمام من يبحثون عن قاربٍ يأخذهم هناك. تدخل نقاشات مع مهتمين جدد بالسياسة وشأن العوام، تبدو فيها حالماً رومانسياً بامتيازاتٍ تُحصنك من الواقع، كيف يكون البقاء جزءاً ضرورياً للتفكير بالحل؟ كيف تكون المحاولة هي سعيك اليومي البسيط للحياة، ومقارنة التغيّرات ومتابعة النظريات حتى تجيد فهم الواقع واستباقه خطوة واحدة فقط؟ يناسب شغفك أصدقاءك هناك، فيخبرونك أنّك تُعيد لهم ألق لحظاتٍ عاشوها قبل عقدٍ مرّ، لكنك وحيداً تجرُّ قدميك إلى مطاراتٍ تُضيّعك روائحها قبل أن تصل إلى غبارِ بلدك، فتبتعد أنت عن وهم، عن إيجاد مسار مشترك لعملٍ ما، لتعبكم وانشغالكم. يمرّ الزمن على الأمكنة وعلينا، وعلينا الآن إيجاد القوت ومستقبل الأطفال.

تنظر إلى طفلك وتتذكر كلّ من حولك، ممن يفخرون بأنّهم لن ينجبوا في هذا البلد، وهناك راضون بلجوئهم من أجل ذاك المستقبل الذي يعدونه لأطفالهم. تفكر بكلِّ المنشورات على وسائل التواصل، وكيف يُشهر الناس كرههم لمكانِك، مرّة تلو أخرى، يرفضون تعلّقك بفيروز في بعض الصباحات. نعم فيروز.. تخيّل! بعد كلّ هذا التمريغ في الكليشيهاوية ما زلت تحبّ صوت فيروز يخرج من بيت الجيران مع رائحة القهوة، فتقلدهم أحياناً. ما زلت تحب أن تضع ياسمينة في فمك كما كنت طفلاً وتتذكر طعم اللطف في أيامك. ما زلت تتمنى لو سميت طفلتك (دمشق) لكنك خفت من تعليقات تعرف كيف ستذهب ببهجتك

بائعة المازوت

08 نيسان 2024
"بيع المازوت في سوريا غير قانوني، لكن أمي، مثل كلّ السوريين والسوريات، تبيع سرّاً حصتها السنوية من المازوت، ضاربةً الدفء المحتمل لأيام قليلة في الشتاء بعرض الحائط، مقابل لُممٍ من...

تعرف من حيطان الإسمنت المتسخة عند جسر فكتوريا أنّك لطالما قسوت على هذا المكان، ونَعتّه بالبشاعة حين تغنّى به غيرك. نعم فعلت هذا مراراً ونكلت بأهلِ المكان مع آخرين من أبناء المحافظات التي لم تجد ترحيباً في هذه العاصمة. لكنك اليوم تجد حنواً اتجاه هذا كلّه، ربما بفعل العمر الذي يحفّزنا على قبولِ الأجداد وحكمتهم بصورة لم نعهدها، فتُصبح سعيداً بحكايات أمك عن مجالس (الصلاة على النبي) التي تُداوم على حضورها، وبقصصِ أبيك المهترئة عمّا كان في هذا الشارع قبلاً، ورفضه لأهمية أناس وأماكن تسلقت على غيرها. تشاهد بنفسك كيف تحوّل بناء يلبغا الذي كان هيكلاً أساسياً فقط طيلة حياتك إلى أماكن غالية، ستفكر كثيراً قبل وطئها. تتمنى لوردةِ مسار (بناء للأمانة السورية للتنمية، بدأ العمل به على أرض مدينة المعارض القديمة حوالي عام ٢٠٠٠ وتوقف العمل به عام ٢٠١١) مصيراً يبقيها كما كان يلبغا. تتذكر قهوة الحجاز مع كلّ طابق يرتفع من البناء الجديد مكانها، وتفكر بازدحام المولات الجديدة، وبرغبة الشباب على وسائل التواصل بالاستهلاك. تشتاق إلى من كنت من قبل، وتفكر بالذي أوصلك إلى هنا.

الغد

تُعيد التفكير في كلّ التغيّرات التي أصابت العالم ولم تتركنا وراءها كثيراً، الموضة توّحدنا أكثر، والمؤثرون يمحون بيننا الاختلافات أحياناً، من بقينا ومن غادرنا. تكره هذا، لكنه لا مناص لك من اتباعه مثل الجميع. تعتمد بقاءك هنا وسيلة تحقيق أحلام من رحلوا. تكتب عمّا يفكرون به عن المكان، فهم من يختارون المواضيع الرائجة، تُصوّر ما لا يستطيعون رؤيته، تعتاش على فرص تمويلهم ما أمكن، فيبقونك طافياً عندما يغرق من حولك تباعاً، فاقدين فرصهم لإعالة أنفسهم بكرامةٍ، يوماً إثر يوم. يرحلون. تتكرّر الحكاية لتبعد جيلاً وراء جيل. يعود بعضهم لاعناً الهناك وباقياً معك من باب الخسارة، فيصبح المكان نادياً كبيراً للفشلة والمتأخرين. أرأيت لأيّ نادٍ انضممت؟

تُقرّر أنّك لن تريد الذهاب مرّة أخرى، كلّ مرّة. تُحرجك مواعيد السفارات بطلباتِ الأوراق، ويدينك الأجانب هناك لمواقف اعتدتها، تفكر في مكانك المنبوذ في هذا العالم، وكيف يرغمك الواقع هناك على السكوت والعمل بما يلزم، فلا تستطيع إلا الاستكانة لنفسك، البقاء، ما أتقنت فعله جيّداً حتى اليوم، ويصبح هذا السكون موقفك الذي تستمد منه صلابة في الوقوف مكانك في عالمٍ يجري حولك بسرعة

تنظر إلى المراهقين الذين لم يتقنوا الكتابة، تقرأ على الحيطان كلماتهم المكسّرة في حين تنزل مراهقة من سيارة فارهة، بشعرٍ متموّج بإتقان، وثقة لا تُمَس. تستمر في المراقبة وقلبك يمزّقه ألمٌ لا تدري مصدره، ما كلّ هذا؟! يا إلهي ما كلّ هذا؟! يبدو الوجود رحلة واحدة مفعمة بعدم الرضا، تقييدها في المكان يرغمك على أخذ الصور في عينيك مراراً حتى تستطيع يوماً تصفيتها واختزالها لأعينٍ أخرى كفيفة، لتخبرهم شيئاً واحداً فقط، ربّما يكون فيه فائدة ما، فيخف ألمهم قليلاً. ثم تعود فتتساءل عن جدوى انتزاع الألم من هذي الحياة، فربّما تكون أنت من يحتفل به دون أن تدري، فتبدو طريقتك ممكنة للعيش، وتسهل الخيارات على الأقل. تصوّر لو أنّنا جميعاً لم نفكر بالرحيل.. ما الذي سيتغيّر عندها؟  

مقالات متعلقة

دولمة عراقية في طبق من البلاستيك

25 آذار 2024
في حين تشكل الإصلاحات الشاملة وتدابير السياسات والإبداعات التكنولوجية والتعليم البيئي عناصر حاسمة لتعزيز العمل البيئي، فإنّ التغيير الحقيقي لا يمكن إنجازه دون أن يتبنى الأفراد ممارسات أكثر استدامة، وهو...
حلقة السلام: عن خالاتي السوريّات وحمّامنا البلدي في الغربة

29 آذار 2024
حلقة السلام هي مجموعة دعم نفسي للنساء الناطقات باللغة العربية في ألمانيا تعتمد على نهج العلاج النفسي "جشطالت". بسمة المهدي تكتب عن هذا الفضاء (الافتراضي) للشفاء والتواصل.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد