اتخذت رويدة العلي قرارها هذا العام بتوقيف بناتها عن الدراسة بعد أن وصلت البنت الأكبر للمرحلة الثانوية، لأنّها غير قادرة على إرسالهن إلى مدرسة عامة، بسبب بعد المسافة بين منزلها والمدارس العامة، وبسبب عدم وجود معيل يتحمل نفقة نقل الفتيات إلى مدرسة خاصة. والعلي أرملة مهجرة من ريف إدلب الجنوبي، وأم لخمسة أطفال، صبيان وثلاث فتيات، يقطنون إحدى مخيمات دير حسان.
في وقت تحكم العائلة عادات وتقاليد موروثة تمنع الفتاة من غالبية حقوقها وأولها حقها في إكمال دراستها، جاءت هذه التحديات لتجعل الأمر غاية في الصعوبة، حسب العلي التي تقول: "مافي شي بيشجع عالدراسة بمنطقة المخيمات، فقر ويتم وبعد عن المدارس، عدم وجود مدارس قريبة منا بخلي أهالي كتاري يتخذوا نفس قراري".
اتبعت السلطات المحلية في محافظة إدلب (وزارة التربية والتعليم في حكومة الإنقاذ) منهج خصخصة التعليم وعدم الاهتمام بالتعليم العام خلال الأعوام الماضية، ما دفع المستثمرين من أصحاب رؤوس الأموال للاستثمار في افتتاح مدارس خاصة، انتشرت في الآونة الأخيرة بشكل كبير في المنطقة.
تراجع قطاع التعليم العام في منطقة إدلب ومخيماتها في السنوات الأخيرة، على حساب تنامي القطاع الخاص والتوجه نحو خصخصة التعليم، في منطقة يعاني معظم سكانها من الغلاء المعيشي وقلة فرص العمل وتدني مستوى الدخل، بالإضافة لتوجّه عدد كبير من الكوادر التعليمية إلى المدارس الخاصة بسبب انخفاض قيمة الرواتب في القطاع العام، والتحاق عدد كبير من المعلمين في وظائف مختلفة مع المنظمات غير الحكومية، بالإضافة لسيطرة العمل التطوعي في غالبية المدارس ما أثّر سلباً على جودة التعليم في المنطقة.
توقف عدد من الأهالي في مخيمات شمال ادلب، منذ بدء العام الدراسي الحالي عن إرسال أطفالهم إلى المدارس بسبب وضعهم المادي السيء، وارتفاع الأقساط الشهرية لتلك المدارس، وبسبب تراجع مستوى التعليم وغياب المعلمين في المدارس الحكومية (العامة)، وعدم توفر المرحلتين الثانية والثالثة العامة في المدارس القريبة من المخيمات حيث تتوفر مدارس المرحلة الابتدائية العامة بشكل أكبر.
يمثل طلّاب التعليم الابتدائي العدد الأكبر من الطلاب الملتحقين بالمدارس سواء الخاصة أو العامة، ومن ثم المدارس الإعدادية فالثانوية تبعاً لعدد الطلاب والمدارس المجهزة لكل مرحلة تعليمية، ما يدفع الكثير من الأهالي إما التسجيل في المدارس الخاصة أو إجبار أبنائهم على ترك المدرسة لما يترتب على متابعة الدراسة من تحديات وصعوبات.
هذا يؤدي إلى كون المدارس العامة مقتصرة على الفقراء وذوي الدخل المحدود من السكان، في الوقت الذي تخلى عدد كبير من الأهالي في المخيمات عن تعليم أطفالهم بسبب افتقار معظم المخيمات إلى المنشآت التعليمية، أو وجودها بشكل غير نظامي (خيمة).
خيارٌ ليس متاحاً للجميع
تتراوح قيمة الأقساط الشهرية في المدارس الخاصة ما بين ١٥ إلى ٤٠ دولاراً أمريكياً في الشهر، أي ما يتراوح بين ١٨٠ دولارًا و٥٠٠ دولار للطالب الواحد خلال العام الدراسي، ويعود الاختلاف بالأقساط لما تقدمه كلّ مدرسة لطلابها من ميزات، سواء على الصعيد الخدمي والمستلزمات اللوجستية داخل المدرسة أو على صعيد النشاطات الدورية التي تجريها، بما فيها حفلات التكريم الأسبوعية والهدايا التحفيزية والمنهاج المقدم، والذي غالباً ما يتضمن مواد زائدة عن منهاج المدارس العامة مثل الحساب الذهني أو تعليم الحاسوب واللغات وغيرها.
محمد اليوسف مهجر من ريف حماة الغربي وأب لطفلين، قام بنقل اثنين من أولاده إلى إحدى المدارس الخاصة في مدينة الدانا، بسبب تراجع مستواهم التعليمي في مدرسة المخيم الذي يسكنون فيه، والذي يعزوه الأب إلى تدني مستوى الاهتمام في المدرسة وعدم توفر كادر تدريسي لجميع المواد بالإضافة للأعداد الكبيرة في الصفوف.
يعمل اليوسف بمدخول شهري لا يتجاوز مئة دولار أمريكي، وهو مبلغ غير كافٍ لسد أقساط أبنائه الشهرية في المدرسة الجديدة، إذ يعتمد في مصروف منزله الشهري عادة على مساعدة إخوته المقيمين في تركيا.
يقول اليوسف إنّه اضطّر للاستدانة من أصدقائه أقساط الشهر الحالي وما قبله، كي يحصل أطفاله على تعليم جيد، وذلك بسبب تأخر إخوته بإرسال النقود له هذا الشهر، "بعد أن لاحظت تراجعاً في مستواهم التعليمي خلال العام الفائت قررت نقلهم، ولكن إن تمكنت هذا العام من إبقائهم في المدرسة الخاصة فلن يكون لدي القدرة في العام المقبل لأن اقساط المرحلة الثانية أكبر من أقساط المرحلة الأولى وأنا غير قادر على تأمينها" يقول.
خيار الانتقال إلى المدارس الخاصة ليس متاحاً للجميع، لاسيما أن الرسوم الشهرية لكل طالب تفوق القدرة المادية لغالبية الأهالي الذين يعاني معظمهم من الفقر والحاجة في ظل سنوات النزوح وقلة فرص العمل، عدا عن مصاريف أخرى تتعلق باللباس والقرطاسية وشراء الكتب المدرسية والمواصلات، وما تملك العائلة من أطفال بحاجة تعليم.
خيار الانتقال إلى المدارس الخاصة ليس متاحاً للجميع، لاسيما أن الرسوم الشهرية لكل طالب تفوق القدرة المادية لغالبية الأهالي الذين يعاني معظمهم من الفقر والحاجة في ظل سنوات النزوح وقلة فرص العمل.
فاطمة الابراهيم، امرأة أربعينية مهجرة من ريف حماة الشرقي تسكن في مخيم زرزيتا قرب قرية صلوة على الحدود التركية، اضطرت لتسجيل أحد أبنائها في مدرسة صلوة الخاصة بقسط شهري قدره عشرين دولاراً بالإضافة لإرسال ابنها بوسائل خاصة غير ثابتة، إما مع أطفال آخرين يقوم ذويهم بإيصالهم للمدرسة، أو غالباً ما تقف مع طفلها على الشارع العام المؤدي للقرية كل صباح ريثما تؤمن له وسيلة مواصلات وهو ما يكلفها عبئاً مادياً ونفسياً، في الوقت نفسه تضطر إلى ترك اثنتين من بناتها دون مدرسة لعدم قدرتها مالياً على نقلهم جميعا للمدارس الخاصة. تقول الابراهيم: "اضطررت أن أجبر بناتي على عدم متابعة الدراسة لعدم توفر مدرسة عامة مجانية في المخيم وامتنعت عن نقلهن لمدرسة خاصة لأني غير قادرة على دفع أقساط لجميع أطفالي".
التوجه نحو الخصخصة
تبلغ سماح المحمد الرابعة عشر، وهي طفلة نازحة من ريف حلب وتسكن في مخيم أبناء القصير. تقول لنا بلهجة حزينة "أحلم بوضع الحقيبة على ظهري والذهاب للمدرسة". لم يسمح لها أخوها الأكبر والمعيل لأسرتها بمتابعة دراستها منذ انتقالها للمرحلة الإعدادية لعدم وجود مدرسة عامة في المخيم إذ تبعد المدارس العامة عن سكنها قرابة ثلاثة كيلومترات، وعائلتها لا تسمح لها بقطع هذه المسافة بمفردها وهي غير قادرة على دفع مواصلات ولا تملك وسيلة نقل خاصة.
قدّر فريق منسقو استجابة سوريا في تقرير له عدد الأطفال المتسربين من التعليم في مناطق شمال غرب سوريا فقط بـ ٣١٨ ألف طفل. يقول الفريق في تقريره إنّ ٨٥٪ من الأطفال المتسربين، يعملون في مهن مختلفة بعضها خطرة، وأرجع الأسباب وراء اتساع ظاهرة التسرب المدرسي، إلى قلة عدد المدارس مقارنة بالكثافة السكانية والاتجاه نحو التعليم الخاص المكلف، والأوضاع الاقتصادية الصعبة.
تقع على عاهل الطلاب الملتحقين بالمدارس الخاصة مجموعة من العوائق، يأتي في مقدمتها غلاء الأقساط الشهرية، وتمركز معظم تلك المدارس في مراكز المدن أو بالقرب منها، ما يجبر الأهالي على دفع رسوم مواصلات شهرية، مما يجبر الكثير من الطلاب على عدم إكمال تعليمهم والالتحاق بسوق العمل، سواء الذكور أو الإناث، إضافة لقيام العديد من العائلات بتزويج بناتهم في سن مبكر بعد الانقطاع عن الدراسة.
وبحسب دراسة أجراها فريق وحدة إدارة المعلومات (IMU) التابع لوحدة تنسيق الدعم فإن ٢٢٪ من مدارس المخيمات التي شملها التقييم تُدرّس الحلقة الأولى فقط من مرحلة التعليم الأساسي، و٧٠٪ منها تُدرّس الحلقتين الأولى والثانية من مرحلة التعليم الأساسي و٤٪ فقط تُدرّس كافة المراحل الدراسية (جميع حلقات التدريس).
يواجه قطاع التعليم العام في الشمال السوري مشكلات عدة يأتي في مقدمتها قلّة دعم القطاع، والبنية التحتية المتواضعة لغالبية المدارس، وبالأخص تلك الموجودة في المخيمات، أو غيابها بشكل كامل، يضاف إليها الكثافة العددية في الصفوف المدرسية واقتصار غالبية المدارس في المخيمات على مرحلة التعليم الابتدائي.
يبلغ عدد مدارس القطاع العام المتواجدة في شمال غرب سوريا نحو ٩٥٠ مدرسة تابعة لوزارة التربية في حكومة الإنقاذ، موزعة على سبع مجمّعات تربوية وتشمل الحلقات الأولى والثانية والثالثة، وتضم حوالي ٢١٣ ألف طالب، ويبلغ عدد كوادرها، معلمين وإداريين، حوالي ١٢٥٠٠ شخص.
تضم هذه المدارس الحلقة الأولى، وهي تضم الصفوف الابتدائيّة الأربعة الأولى، أما الحلقتان الثانية والثالثة فتشمل الصفوف من الخامس حتى الثاني عشر (البكالوريا)، وهي ممولة من منظمات تُعنى بقطاع التعليم ولكن هذا الدعم غير منتظم، ويُغطي فقط ٥٠٪ من مصاريف العام الدراسي.
ذكر منسقو الاستجابة أن التوجه نحو خصخصة التعليم ازداد بقدر ٢٤٪ عن العام الماضي الأمر الذي زاد من نسبة التسرب وحرمان آلاف الطلاب من التعليم، حيث أثرت خصخصة قطاع التعليم بمختلف مراحله ورواجه على القطاع العام، مما أثّر بشكل ملحوظ على الأطفال في مراحل التعليم المختلفة في مجتمع هش.
أصدرت وحدة تنسيق الدعم في شهر حزيران ٢٠٢٣ تقرير المدارس في سوريا رقم ٨ لعام ٢٠٢٢-٢٠٢٣، حيث قدّرت عدد الطلاب في إدلب وريفها بأكثر من مليون طالب وعدد الطلاب المتسربين من بين الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين السادسة والثامنة عشرة ٦٩٪، وأشار التقرير إلى أن العدد الأكبر من الأطفال المتسربين من المدرسة في المناطق التي يوجد فيها عدد كبير من النازحين ومن بين مخيمات النازحين في شمال غرب سوريا. وقالت التقرير إنّ ١٨٩ مخيماً فقط تحتوي على مدارس، في حين لا يوجد في ١٢٧٠ مخيماً أيّة مرافق تعليمية.
نظراً لتزايد عدد السكان في هذه المخيمات خلال موجات النزوح المتالية، تستمر الأوضاع الاقتصاديّة في الترّدي، مما يؤثر سلبًا على العملية التعليمية، بسبب ضعف رواتب المعلمين وانقطاع الدعم عن عدد كبير من المدارس من قبل المنظمات الإنسانية.
محمد العبود معلم مدرسة حالياً، ومدير مدرسة في ريف إدلب سابقاً، يقول إنّ "قلة الدعم للقطاع التعليمي وعدم كفاية الأبنية المدرسية أنتجت اكتظاظاً كبيراً في المدارس، وخاصة بعد موجة النزوح والتهجير من ريفي إدلب وحلب، إضافة إلى نقص الإمدادات الخاصة بالتعليم وفي معدل الرواتب واللوجستيات وهو ما أدى إلى محدودية الخدمات".
راميا زيدان مهجرة من ريف ادلب تخبرنا بكلمات تملؤها الحسرة والحزن عن حلمها الذي اندثر بتركها للدراسة وهي مقبلة على نيل الشهادة الثانوية والتي كانت تراها مرحلة مفصلية في حياتها بعد تهجيرهم من قريتها وسكنهم في جبال بابسقا ضمن مخيمات عشوائية. لم تتوفر مدارس للمرحلة الثانوية قريبة منها ولم تسمح الظروف المادية لأهلها بنقلها لمدرسة خاصة في مدينة سرمدا كغيرها من صديقاتها اللواتي تابعن دراستهن بحكم سكن عوائلهن ضمن المدن. لم تساعدها الظروف على متابعة دراستها وفُرِضَ عليها العمل في المياومة ضمن ورشة نسائية تعمل في الزراعة بالقرب من مخيمها لتساعد والدها بمصروف عائلتها.
التقينا بوالد راميا الذي يعيل ستة أطفال، اثنان منهم من ذوي الإعاقة. شرح لنا أسباب توقّف راميا عن التعليم: "حدا ما بريد ولادو يكون متعلمين؟ لو كانت عندي قدرة مادية لسجّلتها بأحسن مدرسة خاصة بس من وين يا حسرة".