أصل الأشياء زوالها


في الخامس من أيار ٢٠٢٣، وبينما كنتُ أقودُ دراجتي صَدَمني قطارُ الشوارع (الترام). لم أنتبه لإشارة المرور أو للقطار القادم، لم أسمع الصوت، لم أسمع الجرس، كلّ ما سمعته كانت صرخة رجل خلفي يصرخ بي بأن أتوّقف. تذكرت هذه الصرخة بعد خمسةِ شهورٍ من الحادث.

05 أيار 2024

دلير يوسف

كاتب ومخرج وصحافي من سوريا، أخرج عددًا من الأفلام السينمائيّة منها: "منفى"، و"بانياس: البدايات"، و"أمراء النحل"، و"القصيدة الأخيرة التي أراد شتيفان بوخفالد أن يكتبها". صدر له مطبوعًا: "حكايات من هذا الزمن" (2014)، و"صباح الخير يا أحبّة" (2020)، و"قاعدة الخوف الذهبيّة" (2022). مقيم حالياً في برلين- ألمانيا.

"أمشي خفيفاً لئلا أكسر هشاشتي./ وأمشي ثقيلاً لئلا أطير". محمود درويش

 

أصلُ الأشياءِ زوالها، كلُّ شيء ينتهي بالموت، إلّا في أنظمة معزولة مثلما تقول لنا الفيزياء: قيمة الطاقة في نظامٍ مُغلق لا تتغيّر.

أصلُ الأشياءِ زوالها، كلُّ شيء ينتهي بالموت: الحبّ، الصداقة، الفن، أنا، نحن، كلُّ شيء. يوماً ما ستنفجر الشمس ولن يعود لأيّ شيء قيمة. كلّ شيء إلى زوال. 

أصلُ الأشياءِ زوالها، كلٌّ شيء ينتهي بالموت، وهذا نصٌ عن الموت وعن زوالِ الأشياء؛ عن موتِ الأصدقاء والأحبّة، وعن فقدان الذكريات، وعن نهاية قصص الحب، لكنّه مرتبط بالبدايات أيضاً، لا شيء ينتهي إنْ لم يبدأ، والبدايات أجمل الأشياء: "لا أريدُ من الحب غير البداية" و"في البدء كانت الكلمة".

أرسلت لي صديقتي رسالة صوتيّة تُخبرني بها عن ولادة ابنتها بعد عذابات في المخاض، جاءت ثُريّا إلى هذا العالم بصحة جيّدة. أرسلتُ رسالة تهنئة. أمسكُ هاتفي المحمول وأنتقل من تطبيق المحادثة إلى تطبيق فيسبوك، تصدم عينيّ منشورات نعي خالد خليفة. لا أصدّق الأمر في البداية، أتابع المنشورات الأخرى، عشرات الأشخاص ينعون الرجل. حسنًا، يبدو أنّه مات حقاً.

تنتابني مشاعر مختلطة، لا أعرف كيف أشعر. أذهب إلى الغرفة الأخرى وأقول لشريكتي الألمانيّة، خالد خليفة مات. "من هو؟" تسألني، "روائي سوري شهير، التقيتِ به ذات يوم، كانت ابنتنا ميلا صغيرة جداً وكنّا في عيد ميلاد أحد الأصدقاء، حكينا معه قليلاً، وساعَدنا في إلباس ميلا حذاءها. انظري هذه صورته.". أضع شاشة هاتفي أمام وجهها. تقول إنّها تتذكره. أقول لها إنّني تحدثت عنه كثيراً حين أجريت معه حواراً منذ أعوام، وحكيت عنه كثيراً حين قرأت روايته الأخيرة "لم يُصلّ عليهم أحد". لا تعرف ما يجب عليها قوله. تقوم وتضمني بين ذراعيها. لا أعرف إنّ كنتُ حزيناً أم لا. لا أعرف ما هي المشاعر التي تنتابني في هذه اللحظات. 

خالد خليفة: لستُ حارسَ المقابر لكنني حارسُ الأرواح

03 شباط 2021
في هذا الملف الصغير الذي أعددناه عن خالد خليفة، نحاوره في رواياته وفي خياره بالبقاء في سوريا ونسأله عن الرواية السوريّة، كما نرفق الحوار بصور خاصة اختارها خالد خليفة بنفسه...

لم أعرف الرجل شخصياً، التقيته مرّتين أو ثلاثة في لقاءات عامة، قرأتُ كتبه، أُعجبنا بمنشوراتِ بعضنا البعض على مواقع التواصل الاجتماعي، وأجريتُ حواراً معه. من أجل ذلك الحوار تحدّثت معه عدداً من المرّات هاتفياً، وتواصلنا لأسابيع قليلة عن طريق تطبيقات المحادثة. بدا لي لطيفاً متواضعاً يحبّ عمله، لم توجد علاقة شخصيّة تجمعنا، أسمع عنه أشياءً من هنا وهناك، أشياء لطيفة وأخرى مزعجة. هذا كلُّ شيء.

التلاشي

أكتب الآن وأتذكر نصّاً كتبته لفيلمٍ قصير لم يرَ النور. يقف رجلٌ ما في ساحة مكتظة في مدينة ما. العالم يدور من حوله دون توّقف، ويبدو على الرجل الواقف عدم الانتماء إلى هذا المكان وهذه الساحة وهؤلاء الناس. لا يشعر الرجل بأنّه جزء من حركة الناس وحركة الحياة.

الرجل مُشكّل من مكعبات أو قطع تركيب، ربّما هي قطع من حياته السابقة، من أصدقائه الراحلين، من علاقاته القديمة، من أيّ شيءٍ آخر، لكنّ هذه القطع قد شكّلت هذا الرجل الواقف بثبات في منتصف الساحة.

الوقوف في الساحة يجعل الرجل يشعر بعدم الانتماء، وعدم الراحة، وعدم القدرة على التواصل. يتمنى الرجل أن يختفي. لا يعرف أين عليه الذهاب، ولا يعرف إن كان يريد الذهاب إلى مكانٍ آخر، لكنّه يعرف بأنّه لا يريد البقاء هنا. لا طاقة عنده على التغيير؛ على تغيير حياته وتغيير مكانه وتغيير العالم من حوله، لكنّه لا يريد البقاء في الساحة المكتظة بالبشر.

بعد سنوات من الوقوف في تلك الساحة المكتظة بالبشر في تلك المدينة التي تبدو غريبة عن الرجل، بعد سنوات من مقاومة كلِّ عوامل التغيير، تسقط قطعة من القطع التي تشكّل الرجل. تطير تلك القطعة نحو السماء البعيدة، تتلاعب بها الريح وتحملها بعيداً حتى تختفي عن الأنظار. بعد شهور أخرى تطير قطعة أخرى.

يشعر الرجل بأنّ هذا الشيء قد حدث له سابقاً، تساقطُ قِطَعٍ منه، قطع شكّلته، لكنّه استبدلها بقطعٍ أخرى مع مرورِ الوقت. هذه المرّة لا تتشكل قطع جديدة لتعوّض تلك التي تتساقط. 

كلّما مرّت الأيام والشهور تتساقط القطع تباعاً، وتطير بعيداً حتى تختفي تماماً. يتلاشى الرجل قطعةً قطعةً، والعالم يدور حوله. لا شيء يتغيّر في العالم، كلُّ شيءٍ يجري في دورته السرمديّة، وفي مكانٍ ما يقف رجل يتلاشى، قطعةً قطعةً، دون أن يلاحظ الآخرون شيئاً.

يقف رجلٌ ما في ساحة مكتظة في مدينة ما. العالم يدور من حوله دون توّقف، ويبدو على الرجل الواقف عدم الانتماء إلى هذا المكان وهذه الساحة وهؤلاء الناس.

يتلاشى رجلٌ ما في ساحة مكتظة في مدينة ما. العالم يدور من حوله دون توقف، يختفي الرجل وكأنّه لم يوجد من قبل. لم يلحظ أحدٌ وجوده، ومن لَحِظه نسيهُ بعد أن تلاشى بقليل، وكأنّه لم يكن.

القطار

لا أدري ما الذي دفعني إلى تذكّر هذا السيناريو الذي كتبته منذ سنوات عديدة، لماذا صارت هذه الفكرة، فكرة التلاشي وعدم الانتماء إلى هذا العالم تُصرّ على التحكّم بأفكاري؟ أيدفع ذكر موت الآخرين إلى التفكّر بالحياة والانتماء؟ وخاصة أنا، الذي هرب من الموت في اللحظة الأخيرة. أفكر وأنا أكتب الآن في أولئك الذين يموتون في هذه اللحظة بالذات في غزّة، وفي إدلب، وفي السودان. أفكر في لحظاتِ الموتِ القريبة مني.

في الخامس من أيار ٢٠٢٣، وبينما كنتُ أقودُ دراجتي صَدَمني قطارُ الشوارع (الترام). لم أنتبه لإشارة المرور أو للقطار القادم، لم أسمع الصوت، لم أسمع الجرس، كلّ ما سمعته كانت صرخة رجل خلفي يصرخ بي بأن أتوّقف. تذكرت هذه الصرخة بعد خمسةِ شهورٍ من الحادث.

صدمني القطار. لا أذكر الكثير من التفاصيل. أتذكر يديّ فوق زجاج مقدّمة القطار، وأتذكر اللحظة التي نظرت فيها ورأيت القطار يصدمني. مثل مشهد في فيلم ما، تلك الثانية التي ترى فيها القطار قبل أن يصدم شيئاً ما. لا أتذكر الصدمة. لا أتذكر كيف وقعت على الأرض. هل رماني القطار أمتاراً بعيدة؟ لا أعرف. لكن لحسن الحظ وقعت إلى جانب الطريق وليس على السكة، فالقطار لم يستطع التوّقف إلّا بعد حوالي عشرة أمتار. لم يسرِ فوق جسدي. لم يقطع يدي أو ساقي. سقطتُ أرضاً وهبّ الناس لمساعدتي.

أمسك أحدهم رأسي كي لا أحرّكه خوفاً من نزيف داخلي، وأخرى أمسكت يديّ ومنعتي من تلمّس ظهري، مكان الوجع الأكبر، كنت أصرخ بقوة، وكانت تحاول تهدئتي، جاء ثالث ومسّد يدي الواقعة تحت جسدي، منعني الثلاثة من الحركة. لاحقاً عرفت أنّهم أنقذوني من شللٍ مُحتمل لو تحرّكت حركةٍ خاطئة.

أُسعفتُ إلى مستشفى قريب، وبعد ساعاتٍ جاءت شريكتي ورأتني مربوطاً بكلّ الأجهزة الطبية الممكنة. قالوا لي في اليوم التالي في المستشفى إنّ بقائي حيّاً هو أعجوبة، وإنّ الضرر الذي أصابني لا يعدّ شيئاً مقارنة بما حدث. كُسر عمودي الفقري من أربعة أماكن، وأبتعدَ قليلاً عن عظام الحوض، وأصابت أضلاعي وحوضي رضوض عديدة، لكنّني نجوت من الموت، ومن الشلل، ومن فقدان أحد الأطراف ومن ومن ومن… الخ. 

قالت لي ممرضة في أحد الأيام إنّ أربعة ملائكة كبيرة الحجم وقفت بيني وبين القطار، لذلك لم أمت. قال لي الأطباء إنّ كسر عمودي الفقري هو ضرر كبير، لكنّ نجاتي معجزة. 

لسبعة أسابيع بقيت ملاصقاً السرير دون حراك، فقدتُ كلّ عضلات جسمي، لم أعد أستطيع التحكّم بأيّ عضلة في ظهري أو بطني أو صدري، أمشي ببطء بمساعدة شريكتي أو أحد الأصدقاء، لا أستطيع الجلوس ولا الوقوف. كلّ يوم ابتلع ثلاثة عشر برشامة وإبرة كي يستكين الألم.

هكذا مرّت الأيام، أنام كثيراً، أشاهد الأفلام، أستقبل الأصدقاء. لم يخلو بيتي من الزوّار لمدّة شهرين. مئات الرسائل الإلكترونية والاتصالات الهاتفية والزيارات الشخصيّة، أقول لنفسي: هذا حظي من الحياة، الناس الطيّبة. غمرني شعورٌ بالرضا. 

الموت/ الحياة

لم تكن تلك المرّة الوحيدة التي كنت قريباً فيها من الموت: قوات أمن وحادث سير وجوع وحصار وصواريخ وقذائف وقنّاصة، لكنّها المرّة الوحيدة التي أبقى فيها في السرير دون قدرة حقيقية على الحركة.

في المستشفى ولاحقاً في البيت، فكرتُ بحياتي التي مرت، ورأيتُ مشاهدَ منها أمام عيني. قلت لنفسي: رأيتَ كثيراً، رأيتَ مناظر طبيعية خلّابة ورأيتَ كوارثاً. سافرتَ وعشت في بلدان ومدن مختلفة وقابلت الكثير من الناس. تعرّفت على ثقافات مختلفة. سهرتَ وأحبّبت وأحبّك بعض الناس. عشقتَ. استمتعت بحفلات موسيقيّة وبمباريات رياضيّة. نمتَ في شوارع أربع مدن مختلفة. لجأتَ وتشرّدتَ وجعتَ ورقصتَ في الشوارع ومشيتَ حافياً في ثلاث قارات مختلفة. يا لحظكَ من الحياة! 

قصة سلطانة

16 حزيران 2021
جدتي سلطانة كانت أصل الحكاية. كانت حجر الزاوية التي بنى عليها زوجها المناضل السياسي أسطورته. كان كلّما تعب لجأ إليها هاربًا. هي من أعطته بيتًا حين كان ينام في العراء...

قلتُ لنفسي: كنتَ حاضراً في ثورات مختلفة، هتفت مع الناس في الشارع وحاربتَ الظلم بكلّ ما استطعت. تعلمتَ لغات جديدة، وزرتَ متاحفاً وتعرفتَ على فنون مختلفة. كنتَ محظوظاً بأصدقاء وصديقات وعشيقات وشريكة حياة أعطوا حياتك ألواناً مُبهجة، ولولاهم لكانت الحياة أكثر ثقلاً. 

شاهدتَ أفلاماً ومسرحيات، وصنعتَ أفلاماً بنفسك. قرأتَ الكثير من الكتب، وكتبتَ بعضها. نشرتَ مئات النصوص والمقالات والتحقيقات الصحفية، ترك بعضها أثراً طيّباً عند بعض الناس. حياتك كانت غنية وحلوة وصعبة. ساعدكَ الكثير من الناس، وساعدت بعض من استطعت مساعدتهم. لم تؤذِ أحداً عن قصد، وإن حدث من دون قصد، فقد كنت تعيش في قلقٍ يمنعك من النوم. 

غمرني شعورٌ لا أستطيع وصفه، ووعدت نفسي إن عاشت لسنوات أخرى أن يكون أساس حياتي التواضع والرضا والامتنان والحب والحريّة. 

في لحظة ما، وأنا مُمدّد على أسفلت الشارع، يُحيط بي مئات الأشخاص، وأصوات سيارات الشرطة والإسعاف والطوارئ تملأ الدنيا، أرى قطاراً بجانبي وأشخاص لا أعرفهم يعتنون بي ويحاولون منعي من الإغماء، كنتُ على استعداد للرحيل. تلك كانت لحظة الحريّة الأكبر التي لم أختبرها من قبل قط. لم أفكر في أيّ شيء. لا خوف. كنتُ على استعدادٍ للرحيل وترك كلّ شيء. لا شيء مهم، كلّ الأشياء إلى زوال.

لاحقًا في سريري المريح، في بيتي الدافئ، فكرتُ إنْ أتى الموت، فأهلاً وسهلاً. لن أكون حزيناً إلّا على ابنتي التي لن أراها تكبر أمام عيوني. لكنّ مواساتي كانت في المجتمع الصغير الذي بنيناه أنا وشريكتي حول عائلتنا الصغيرة. أعرفُ أنّ ميلا ستحظى بكلّ الرعاية التي تحتاجها.

في محفظتي بطاقة للتبرّع بالأعضاء، فلو متُّ سيتم التبرّع بأعضائي لأشخاصٍ في حاجة إليها، أو سيتم التبرّع بها لأبحاث علميّة. طلبت من شريكتي سابقاً، أن تحرق باقي الأعضاء غير المفيدة وأن تنثر الرماد في البحر المتوسط، فأنا أنتمي لأولئك الذين غرقوا في البحر، وهم يحاولون الحصول على فرصةٍ لحياة أفضل. حظّي في الحياة كان أفضل من حظّهم.

امتدَّ وقت كتابة هذا النص لشهورٍ عديدة، لم أستطع إكماله حين بدأتُ به، وها أنذا أنشره في الذكرى السنوية الأولى للحادث، حياتي تعود إلى طبيعتها السابقة ببطء. لا أستطيع حمل أشياء ثقيلة، لا أستطيع المشي كثيراً، لا أستطيع الجلوس طويلاً، لا أستطيع اللعب مع ابنتي مثل السابق، لكن أعرف أنّ الأمور بخير، وأنّني في لحظةٍ ما لن أشعر بأيّ ألمٍ عندما أقوم بأيّ نشاط مما لا أستطيع القيام به الآن.

يومًا ما سأموت، قد يكون اليوم، وقد يكون غداً، وقد يكون بعد خمسين عاماً، لكنّني سأموت لأنّ أصل الأشياء زوالها. لا أؤمن بأيّ حياة لاحقة، لكنّني أؤمن أنّ حياتي هذه لم تذهب هذراً، لقد عشتها بطولها وعرضها. يا لحظي منها!

مقالات متعلقة

الهنا والهناك .. الراحلون والباقون

24 نيسان 2024
في ملفِ العودة إلى سوريا، وبعد أن نشرنا نصاً لكاتبٍ يقيمِ ويستقر في ألمانيا ويزور سوريا بين الحين والآخر، ثم مقالاً لباحثة إيطالية زارت البلاد، ننشر هذا النص لديالا المصري،...
في اليوم الذي ماتَ فيه نوّار

21 تشرين الثاني 2017
شهادة يتدفق الحزن من بين كلماتها، إذ يتذكر الكاتب دلير يوسف مقتل أخيه في حادث سير.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد