هربًا من الحرب في لبنان... عائدون إلى الساحل السوري


هذا التحقيق جزء من سلسلة تحقيقات وشهادات تعالج مسألة عودة اللاجئين/ات السوريين/ات من لبنان إلى سوريا بسبب الحرب التي تشنّها إسرائيل ضدّ لبنان وقطاع غزّة، في محاولة لرصد أوضاع السوريين والسوريات وأحوالهم في هذه التراجيديا التي لم تنته بعد. وتسلّط التحقيقات على أوضاع العائدين والعائدات إلى مناطق محكومة من سلطات مختلفة في سورية. هذه المادة ترصد أوضاع العائدين إلى الساحل السوري.

13 تشرين الثاني 2024

كمال شاهين

صحفي وكاتب سوري

(اللاذقية)، "كلّ ما قربنا من الحدود، كان صوت قلوبنا يصرخ: هل نعود لنواجه الموت مرًّة أخرى أم نبقى في لبنان نعيش في ظلِّ الخوف من القصف والموت؟" في النهاية انتصرت الحياة على الخوف: "مارح يصير شي الله حامينا".

هذا ما يقوله أحمد إسماعيل الهارب/ العائد من مدينة صور في جنوب لبنان إلى مدينة اللاذقية غرب سوريا بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان، وذلك بعد رحلة ملحمية استمرّت خمسة أيام نام فيها وعائلته المؤلفة من ست أطفال وأخته وزوجته وأبوه وشقيقه البالغ من العمر عشرين عاماً، في الأماكن العامة ومواقف السيارات، من صور حتى بيروت، هو الهارب من سوريا إلى لبنان في العام ٢٠١٢، حين اجتاحت المعارك منطقته بريف إدلب الجنوبي (الجانودية).

في مدينة اللاذقية، وبعد رحلة استمرت نهاراً وليلة تمكّن أبو يعقوب (يفضّل أن نعرّف به بهذا الاسم) من رمي جسده على فراش قطني والنوم لأكثر من عشر ساعات متواصلة لم يقطعها سوى ضجيج خفيف للسيارات في الحارة الجديدة عليه. ومثله فعل أولاده وأمّهم. وصلت العائلة إلى حي الأميركان في اللاذقية في وقتٍ متأخر من ليل العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر الحالي. من حسن الحظ أنّ الكهرباء كانت متوفّرة ومثلها المياه. "هذا من حسن الحظ والتوفيق فليست الأمور دائماً على هذا المستوى من النعيم هنا"، يقول أبو يعقوب.

من القنيّة إلى بيروت وعودة معاكسة إلى اللاذقية

الهنا والهناك .. الراحلون والباقون

24 نيسان 2024
في ملفِ العودة إلى سوريا، وبعد أن نشرنا نصاً لكاتبٍ يقيمِ ويستقر في ألمانيا ويزور سوريا بين الحين والآخر، ثم مقالاً لباحثة إيطالية زارت البلاد، ننشر هذا النص لديالا المصري،...

ينتمي أبو يعقوب وهو في الخمسين من عمره، بالولادة إلى بلدة "القنيّة" المسيحيّة قرب مدينة إدلب السوريّة. ويحمل، كشأن زوجته، إجازة في الأدب الفرنسي. يروي أبو يعقوب: "بعد وصول المعارك إلى القنية في سياق الحرب السورية، هربت مع عائلتي (ثلاثة أولاد ذكور، اثنان منهم في المرحلة الابتدائية) إلى مدينة حمص واستقرينا هناك مؤقتًا عند عائلة أحد أصدقائي قرابة الشهر. وبعد وقت تابعنا إلى لبنان عبر معبر العريضة النظامي". حدث ذلك العام 2014، يقول أبو يعقوب، متابعاً بحسرة: " (لو كنت) في بلد آخر، لكانت عشر سنوات كافية للحصول على جنسيتها، لكن ذلك مستحيل في لبنان لأسباب طائفية تمنع زيادة أعداد الطوائف عبر منح الجنسية اللبنانية. علاوة على ذلك، أنا سوري، هذا يعني أن الأمر بات مستحيلاً أكثر، ولن يتغير سوى عبر دفع مبلغ خرافي من الدولارات لا أملكها".

استقرّ أبو يعقوب مستأجراً في منطقة مار مخايل في بيروت، وبدأ عملًا يناسب خبرته في تدريس اللغة الفرنسية في إحدى المدارس التابعة للكنيسة الأرثوذكسية التي ينتمي إليها هو وعائلته. زوجته ميرنا عملت أيضًا في نفس المدرسة كموظفة إدارية. ساعدتهما توصية من مطران القرية في الحصول على هذه الوظائف كما ساعدتهما المدرسة في قبول ولدين من ثلاثة (كون المدرسة ابتدائية). اليوم وبعد عشر سنوات بات الولد الأكبر في سن التجنيد، وهذا ما بات مشكلة ينبغي على الوالدين التعامل معها.

"كنا محظوظين جدًا قياسًا بمئات آلاف السوريين/ات الذين وصلوا إلى لبنان دون أمل أو عمل" تقول الزوجة ميرنا (في مطلع الخمسين من عمرها) في حديث مع سوريا ما انحكت، مضيفًة: "معاناتنا من صعوبات الاندماج في المجتمع المحلي القريب كانت ضئيلة إلى حدٍّ كبير، ربّما لأنّنا مسيحيين من نفس الطائفة. إضافة إلى ذلك فإنّ المنطقة ملتقى للشباب والصبايا والفنانين والكتّاب وبعيدة إلى حدٍّ كبير عن جوِّ التوتر الذي شاب حياة كثير من السوريين واندماجهم في لبنان". لم يكن أحد يميّز سوريّتهم إلا في حالات نادرة لم تسبّب لهم قلقاً في العمل أو الاندماج حتى في المدرسة نفسها، وبحكم وجودهما قرب ولديهما فإنّ هذا ساعد الأولاد على تكوين صداقات مع التلاميذ اللبنانيين المسيحيين مثلهم.

"كلّ ما قربنا من الحدود، كان صوت قلوبنا يصرخ: هل نعود لنواجه الموت مرًّة أخرى أم نبقى في لبنان نعيش في ظلِّ الخوف من القصف والموت؟" في النهاية انتصرت الحياة على الخوف: "مارح يصير شي الله حامينا"

لم تتعرّض منطقة مار مخايل لقصفٍ إسرائيلي مثل مناطق بيروت الأخرى، الضاحية أو الغبيري أو غيرها، لكنّ وبسبب "تحوّل المدرسة إلى مركز إيواء للاجئين من الجنوب اللبناني توقف التدريس والراتب. ووجدنا أنفسنا بين نار الرجوع إلى البلاد أو محاولة الخروج من لبنان إلى أوروبا. ولأنّنا سوريون فقد كان من المستحيل الحصول على فيزا بسهولة. يحتاج الحصول عليها عدةّ شهور على الأقل واختبارات في السفارة المعنية، كما يُفهم من أيّ طلب سوري للفيزا في هذا الوقت على أنها محاولة للتوجّه في رحلة لجوء إلى أوروبا، لذلك قرّرنا الرجوع إلى منطقة آمنة لنا فيها أصدقاء وبقية عائلة فكانت الوجهة إلى اللاذقية" بدلا من قريته، إذ لم تفكر العائلة التوجه إلى البلدة الأم (القنيّة)، وذلك لأنّ "منزلي هناك تسكنه اليوم عائلات من المنطقة وليس لدي القدرة على إخراجهم من المنزل والأرض، قسم منهم مسلحون، لقد نسينا أنّ لنا بيتاً وأرضاً وأشجاراً هناك لم نزرها منذ عشر سنوات" وفق ما يقول أبو يعقوب لسوريا ما انحكت. وهو الذي دخل البلد من نفس المعبر الذي خرج منه قبل عشر سنوات، معبر العريضة، حيث "سألتنا السلطات السورية على الحدود إذا كان عنا أقرباء في اللاذقية، وهو سؤال يوجّه للسوريين واللبنانيين بهدف توجيههم إلى مراكز إيواء أو تركهم لمصيرهم". يكمل: "لم يتغيّر شيء. نفس السيستم. دفع الرشاوي يجعل المرء قادراً على إدخال دبابة معه" يضحك. تردف زوجته: "كان المهم أثناء التفتيش الحصول على الرشاوى، والتدقيق على الشباب الذين لديهم مخالفات تستحق القبض عليهم". في حالة ولدهم الأكبر (في سن التجنيد) فإنّه أبرز ورقة تأجيل من شعبة تجنيده المؤقتة في حمص، صالحة لما تبقى من العام الحالي، وعليه أن يجد طريقةً جديدة للتأجيل أو السفر خارج البلاد قبل تلك المدّة، مع ذلك كان لابدّ من "حلوان العودة للشرطي الذي ختم جواز العودة: ثلاثين ألف ليرة (ما يعادل دولارين)". "الحمد لله على السلامة" ويعطيهم الجواز باحترام مبالغ فيه وفق قولهم. لم يقم أبو يعقوب بتصريف المئة دولار المفروضة على السوريين الداخلين البلاد لإيقاف القرار لمدة شهرين حتى الآن.

استأجر أبو يعقوب منزلاً مفروشاً في حي الأميركان بمبلغ ثلاثة ملايين ليرة (مئتي دولار) شهرياً. يقول "لحسن الحظ عثرنا على منزل. كان إيجار المنزل في بيروت ضعفي هذا الرقم. لم نتعرّف على الجيران بعد، لكن المكان آمن. لا يزال الأولاد يعيشون رعب القصف في لبنان حتى اللحظة، ويستعيدون قصف القنيّة، لكنّنا نحاول اشغالهم بأنشطة مختلفة، ولم نفكر بعد بمسألة (إعادتهم إلى) المدارس والعمل".

تقول "ميرنا" أنّ مشاعرها تجاه عودتها مختلطة بين فرحة ناقصة لأنّها لم تعد إلى قريتها وبين سلامة عائلتها وأنّها "ما زالت على قيد الحياة وسط مشاهد الموت والدمار، هربنا من الموت، لكننا في لبنان عشنا محاصرين بعلاقتنا مع العالم مهما بدت أمورنا بخير، حيث كلّ زاوية تذكرنا بأيام السعادة التي فقدناها. كنا نعيش غرباء في أرض لا تنتمي لنا، إلى حدٍّ كبير في لبنان ، ننتظر أمل العودة إلى وطنٍ لم يعد كما كان، أسرى لذكريات لم تعد موجودة".

سوريون في لبنان

من دمشق إلى تدمر: سوريا ما بعد الحرب من وجهة نظر إيطالية

15 نيسان 2024
يروي هذا المقال رحلة باحثة إيطالية إلى سوريا. تحاول جورجيا بعد دخولها البلاد في تشرين الأول ٢٠٢٢ التحدّث عن رحلتها إلى دمشق وحلب وتدمر بعد الحرب.

بقيت عائلة أبو يعقوب في بيروت بحكم عملها في التدريس، في حين أنّ نسبة كبيرة من السوريين/ات النازحين/ات إلى لبنان ويقدّر عددهم بحوالي 1.5 مليون لاجئ سوري (حسب تقديرات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في لبنان) اتجهوا إلى مناطق زراعية مثل البقاع والجنوب بحثًا عن عمل وهذا يفسّر مقتل قرابة مئتي شخص سوري بنيران القصف الإسرائيلي على البقاع والجنوب. وكانت الحصيلة الأكبر في بلدة يونين في البقاع، حيث أدّت غارة إسرائيلية إلى مقتل عشرين سوريًا/ة في نهاية أيلول/ سبتمبر، حسب مركز عمليات الصحة العامة في وزارة الصحة اللبنانية.

من بين من التقى بهم أبو يعقوب في رحلة العودة من بيروت جار له من بلدة الجانودية وقد عاد إلى اللاذقية أيضاً. يبلغ أحمد إسماعيل من العمر 46 عاماً، وقد غادر إلى الجنوب اللبناني منذ العام 2012 حين وصلت المعارك إلى منطقته في ريف إدلب الجنوبي، ومعه عائلته المؤلفة من ستة أطفال وأخته وزوجته وأبوه وشقيقه البالغ من العمر عشرين عاماً.

يروي أحمد إسماعيل حكايته: "عشنا ببلدة باتولية (ريف مدينة صور) سنوات نشتغل بالزراعة، إذ ليس لدي مهنة غيرها. عندما بدأ القصف الاسرائيلي بعد العاشر من أيلول بقوة، ضرب صاروخ منطقة قريبة جداً من المزرعة، التي أعمل فيها. لم يكن لدي خيارات كثيرة، فوراً وضبنا أغراضنا الصغيرة وتوجهّنا لصور، ومن هناك إلى بيروت. استغرق منا الوصول إلى بيروت مدة خمسة أيام. نمنا في مواقف السيارات والحدائق والأبنية المهجورة".

يكمل أحمد: "حاولنا الذهاب إلى مركز إيواء، لمرّة ومرّتين وكلما شاهدنا مركز إيواء نذهب إليه. لكن لم يقبلنا أي مركز.. فكرت في النهاية بأن علي العودة إلى سوريا. إذ لم يكن هناك حل آخر عندي. أٌغلقت الطرق في وجهنا". يضيف الرجل بحسرة: "لم تقبلنا مراكز النازحين اللبنانيين وما افتُتح للنازحين السوريين كان ممتلئاً بما يزيد عن قدرات هذه المراكز، وعليه، قرّرنا العودة وليكن ما يكون!".

مع زيادة تدفق أعداد النازحين فإنّ الأجور ارتفعت مرّة أخرى بنسبة تجاوزت ال 100%. حيث يقول إبراهيم الأحمد أنّه "استأجر شقة مفروشة في شارع الجمهورية بمبلغ وصل إلى ثمانية ملايين ليرة سورية (ما يعادل 550 دولار). ويعيد ذلك إلى "الطمع".

يروي أحمد أنّه وعائلته استقلّوا باصًا إلى مدينة طرابلس بعد انتظار عدّة ساعات في كراجات طرابلس في بيروت، المكتظة بالناس. ومن طرابلس اتجهوا بسيارة أجرة إلى منطقة وادي خالد حيث يمكن الدخول من هناك تهريبًا إلى سوريا: "لا يمكننا الدخول بشكل نظامي إلى سوريا لأنّنا غادرنا أصلًا عبر طريق غير نظامي، وليس لدينا جوازات سفر صالحة، علاوة على أنّ أخي الصغير مطلوب للخدمة الإلزامية". يقول أحمد.

ومنحت السلطات في مناطق سيطرة النظام، من الناحية النظرية، مهلاً للمتخلفين عن اللحاق بالجيش، وصلت إلى قرابة العام. لكن تنفيذ هذا الكلام على أرض الواقع قد يخضع لاعتباراتٍ أخرى غير قانونية مثل وجود قضايا جنائية، أقلّه وفق تصريحات هذه السلطات.

انتماء أحمد وعائلته إلى محافظة إدلب الواقعة حالياً تحت سيطرة المعارضة، يكفي كي تُثار حوله الشبهات على الحواجز السورية النظامية، المنتشرة في منطقة الحدود السورية اللبنانية ومنعه من التوجّه إلى مناطق سيطرة دمشق. يقول أحمد في حديثه لسوريا ما انحكت :"سُدّت الطرق في وجهنا، ولم تقبلنا مراكز النازحين اللبنانيين، أمّا مراكز النازحين السوريين فقد كانت جميعها ممتلئة وفائضة عن سعتها، وعليه، قرّرنا العودة وليكن ما يكون... لن يحدث لنا مكروه، الله يحمينا".

يكمل أحمد: "هناك حوالي عشرين معبراً غير نظامي بين سوريا ولبنان، خمسة أو ستة في منطقة وادي خالد، يدفع كل من يعبرها مبالغ تتراوح بين ثلاثين وخمسين دولاراً. دفعت مئتا دولار على العائلة كلها وأوصلنا المهربون مشكورين إلى منطقة قريبة من الأوتوستراد الدولي بين حمص وطرطوس، ومن هناك تدبرنا أمرنا واتجهنا إلى اللاذقية".

بعد بضعة أيام على وصوله، زار أحمد مجمّع المدارس القريب من بيته (شرق قنينص) وسأل عن إمكانية التحاق أولاده الصغار بالمدرسة. يقول الرجل: "قبل مغادرتنا لبنان درس الأولاد المنهاج المقرّر من اليونيسيف، لم نتمكّن من وضعهم في المدارس اللبنانية الرسمية لأننا لا نملك إقامة رسمية هناك، في سوريا هناك منهاج خاص بالمنقطعين عن التعليم الرسمي اسمه المنهاج ب، سوف يلتحق الأولاد به".

في سوريا مجدداً

بائعة المازوت

08 نيسان 2024
"بيع المازوت في سوريا غير قانوني، لكن أمي، مثل كلّ السوريين والسوريات، تبيع سرّاً حصتها السنوية من المازوت، ضاربةً الدفء المحتمل لأيام قليلة في الشتاء بعرض الحائط، مقابل لُممٍ من...

يروي أحمد أنّه "لم يكن بإمكاني مع عائلتي دفع مبالغ طائلة لإكمال رحلتي إلى إدلب إذ تبلغ تكاليف نقل العائلة المؤلفة من خمسة أشخاص وست أطفال إلى إدلب ثلاثة آلاف دولار أميركي على أقل تقدير، مبلغ لا أمتلك حتى ربعه". ولذلك فضّل البقاء في مناطق سيطرة النظام، خاصة أنّ لا مشاكل أمنية عليه أو على عائلته، باستثناء أخوه الصغير المطلوب للتجنيد الإجباري وهو "لن يبقى هنا بل سيحاول الوصول إلى قريب له في الدانمارك،  قد تكفل بنفقات إيصاله إلى هناك وتدبر أموره".

فكرة الهجرة إلى أوروبا تراود شريحة من العائدين بسبب سوء الأوضاع في سوريا وضعف القدرة على إيجاد فرص عمل مناسبة، وليس هناك من ضوء في نهاية النفق كما يخمن أحمد. يشير أحمد إلى أنّ سبب عودته إلى مناطق النظام هي الأوراق الرسمية والحاجة للحصول على جواز سفر في حال قرّر شقيقه السفر نهائيًا، إذ لا تقبل الدول الأوروبية أو تركيا جوازًا غير مختوم من سلطات دمشق.

بلغ عدد السوريين/ات العائدين/ات إلى البلاد منذ بدء الهجوم الإسرائيلي على لبنان قرابة 311 ألف سوري وسورية حسب وزير الداخلية اللبناني بسام مولوي، إضافة إلى 145 ألف من اللبنانيين وفق وزارة الصحة السورية، وتتطابق هذه الأرقام تقريباً مع أرقام وحدة إدارة مخاطر الكوارث اللبنانية الرسمية. وعلق النظام السوري العمل بقرار إلزام السوريين بتصريف مئة دولار بالسعر الرسمي إلى الليرة عند دخولهم البلاد من المنافذ الحدودية مع لبنان حصراً.

حتى 20 تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠٢٤ افتتح النظام عشرين مركز إيواء توزّع عليها النازحون والعائدون في محافظات ريف دمشق وحمص وطرطوس، والأخيرة استقبلت 22 ألف سوري وعشرة آلاف لبناني، توجّه عدد غير معروف منهم إلى اللاذقية. في حين وصل نحو 14 ألف شخص إلى حلب، و4 آلاف شخص إلى شمال غربي سوريا حسب الأمم المتحدة. أمّا في مناطق الإدارة الذاتية، فوصلها قرابة 20 ألف، منهم حوالي 100 لبناني. ومن المتوقّع استمرار توافد مزيد من السوريين في الفترة المقبلة، وقد بلغت نسبتهم بين النازحين 70% وفقاً للأمم المتحدة أيضاً. عموماً، فإنّ النسبة الكبرى من العائدين السوريين حتى الآن بقيت في مناطق سيطرة النظام.

يشير الدكتور محمد الإبراهيم المدرّس في جامعة تشرين الحكومية إلى أنّ دمشق "جمّدت الشروط السابقة التي وضعتها لإعادة اللاجئين السوريين من لبنان، وهي تأهيل البنى التحتية وإعادة الإعمار قبل استقبال اللاجئين وتوجّهت لتقديم التسهيلات لعودة مئات آلاف السوريين مع إيقاف الملاحقات الأمنية حسب الإعلام الرسمي، وفي هذا محاولة للاستثمار في ملف اللجوء اقتصادياً عبر طلب مساعدات أممية في انتظار ترتيبات إقليمية سيكون لدمشق فيها حصة بعد انتهاء الحرب".

وفي الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر الحالي، دعا المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فيليبو غراندي، إلى إطلاق نداء لتأمين 324 مليون دولار لمساعدة جميع الفارين من لبنان إلى سوريا. فيما قدّم الاتحاد الأوروبي نصف مليون يورو وبشكل فوري للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، لدعم عمليات الاستجابة الخاصة بالفارين من لبنان باتجاه سوريا.

وفيما نفى وزير الخارجية السوري فيصل المقداد اعتقال أيّ من السوريين العائدين للبلاد مؤكّداً أنّه "تم إسقاط جميع الأحكام السياسية والأمنية ضد السوريين ما عدا الحق الشخصي"، أشارت مواقع محلية والشبكة السورية لحقوق الإنسان إلى اعتقال تسع أشخاص من أبناء محافظة ريف دمشق وأربعة من السويداء، فيما لم تذكر أيّة مصادر محلية حدوث اعتقالات في مناطق الساحل السوري بعد وصول النازحين. ومن المرجح أنّ يكون الداخلون عبر المعابر النظامية، هم من الأشخاص غير المطلوبين إلى جهات أمنية.

سوريون أقلّ حظاً في العثور على بيوت وعمل

اللاجئون السوريون في لبنان: الوقائع بعيداً عن الترويج/الشعبوية(1)

31 آب 2016
السجالات الشعبوية، في لبنان وغيره، هي سياسة تشويش: تسعى للفت الانتباه بعيداً عن الأسباب الحقيقية لاستياء الناس وتوجيهه إلى الطبقات الاجتماعية الضعيفة غير القادرة على حماية نفسها.

لم تساعد الحالة المادية، عائلة مقداد، العائدة من جنوب لبنان، وأصلها من ريف حلب ، على استئجار بيت في مدينة اللاذقية أو ضواحيها، لذلك توجّهت إلى بلدة "أم الطيور" (تبعد 25 كم عن اللاذقية) حيث تمكّنت من استئجار بيت بسعر مقبول "نصف مليون ليرة مفروش فرش مقبول" (ما يعادل 35 دولاراً). يقول مقداد: "استقبلنا الجيران في أم الطيور وساعدونا في تأمين حاجيات ضرورية مثل الملابس والطعام، ثم حضر الهلال الأحمر وقدّم أغطيةً وأغذية ومعلبات وحاجيات للأطفال". هناك اليوم حوالي خمسين عائلة جميعها سورية في هذه البلدة البحرية. إلى جوار عائلة مقداد، هناك عدّة عائلات لجأت إلى أقارب لها أو استأجروا في مناطق بعيدة عن المدينة (مثل منطقة البسيط 90 كم عن اللاذقية) لأسباب اقتصادية بالدرجة الأولى.

قبل النزوح الأخير من لبنان كانت المناطق السورية، اللاذقية ضمنًا، تشهد أزمات خدمية واقتصادية وإنسانية متفاقمة، متعلقة بتأمين السكن ومياه الشرب والكهرباء ناهيك عن ضعف الاتصالات وقلة فرص العمل، إضافة إلى فقدان الوقود حتى على مستوى المدعوم منه.

مع تزايد الطلب على الإيجارات زادت أجور البيوت في اللاذقية بنسبة تتراوح بين 25% إلى 80% حسب المنطقة السكنية. يقول حسن، وهو صاحب مكتب عقاري في منطقة المشروع السابع: "في منطقة الزراعة والمشروع العاشر والأميركان (المحسوبة على المناطق الثرية، الحديثة البناء) يصل أجار الشقق إلى 200 دولار، في حين يتراوح إيجار البيت في مناطق الضواحي، مثل سقوبين وسنجوان وبسنادا، بين ثمانين ومئة دولار للمنزل المفروش، ومبلغ أقل بالنسبة للمنزل غير المفروش، وهي قريبة من أسعار الإيجارات قبل الأزمة الأخيرة حيث بات سوق الإيجارات يسعّر بالدولار منذ أعوام".

لكن مع زيادة تدفق أعداد النازحين فإنّ الأجور ارتفعت مرّة أخرى بنسبة تجاوزت ال 100%. حيث يقول إبراهيم الأحمد أنّه "استأجر شقة مفروشة في شارع الجمهورية بمبلغ وصل إلى ثمانية ملايين ليرة سورية (ما يعادل 550 دولار). ويعيد ذلك إلى "الطمع". وفقاً لحسن، "أصحاب المكاتب العقارية يحتكرون السوق ويفضّلون من يدفع سُلف مالية لفترة قادمة على من لا يدفع. كثير من النازحين وصل إلى هنا دون أثاث وفرش، وهو ما زاد الطلب على الشقق المفروشة".

إلى الجبل في انتظار هدوء المعارك

في وقت متأخر من ليل العشرين من تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠٢٤ وصلت راميا من بعلبك إلى قريتها في بيت ياشوط (ريف جبلة) برفقة شخصين آخرين من القرية. تروي راميا أنّها أقامت في بيروت فترة من الوقت، عاملةً في أحد المقاهي بهدف تأمين تكاليف سفرها إلى ألمانيا. تضيف: "اشتغلت لخمس سنوات في كافيه في شارع الحمراء. كان هدفي الوصول إلى ألمانيا بعدما تخرّجت من الجامعة، من كلية الهندسة المدنية، وبعلامة عالية. رفضت وظيفة الدولة، ولم يعارض أهلي سفري، لأنّ الغالبية صارت مدركة لسوء الوضع السوري. الحرب هزت هدفي ذاك، لأنه لم يعد هناك عمل. أنا حالياً في انتظار أن تهدأ المعارك، ربما أجد عملًا جديدًا، على أن يكون مرتبطاً هذه المرة بالهندسة المدنية، عوض الخدمة في المقاهي، وأمضي في محاولتي السفر". وبينما تتجاذب أطراف الحديث مع رفاقها، تشعر برغبة قوية في استعادة حياتها، رغم كل الصعوبات.

ليس معروفاً بالضبط عدد العائدين من لبنان إلى جبال الساحل السوري، وإنّ كانت لبنان بالنسبة لهؤلاء وغيرهم من السوريين/ات محطة عبور نحو أوروبا، خاصة بالنسبة للطلاب أو الخريجين الجامعيين، أمّا المزارعون منهم فقلة منهم هي من توجهت للجنوب اللبناني، مفضّلين البقاء في مناطق البقاع أو طرابلس وبيروت.

 

المجتمع المدني يدعم العائدين

وأطلق عدد من السوريين/ات الأفراد مبادرات فردية وجماعية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لتأمين المساكن والطعام والدواء وغيرها من الاحتياجات الضرورية للوافدين جميعًا. تساهم الجمعيات المحلية والأهالي في تأمين حاجات هؤلاء الناس ضمن قدراتها المحدودة. تقول روان من جمعية "صنّاع المحبة": "وصلتنا كمية من المواد عبر وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل وقمنا بتوزيعها على العائدين السوريين بشكل أساسي. يتوزع هؤلاء على عدّة مناطق من المدينة ولم يتم فتح مراكز إيواء خاصة بالسوريين نظراً ﻷنّ غالبيتهم لديهم سكن أو أقرباء وأساساً هناك توجّه من السلطات الحكومية السورية لعدم الغرق في قصص مخيمات اللجوء مرّة جديدة، وخاصة بوجود نازحين لبنانيين بأعداد كبيرة". تكمل روان أنّ بعض المراكز المدنية توفّر خدمات نفسية وصحية للنازحين وخصوصاً النساء ومنهنّ الحوامل والأطفال.

خيارات العائدين السوريين اليوم وغداً

بلغ عدد السوريين المسجلين لدى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين حوالي 785 ألف لاجئ العام 2023 في حين أنّ غير المقيمين يقدّرون برقم مشابه، وعدد العائدين حتى اليوم 311 ألف بشكل رسمي.

ومن المتوقع أن يعود هؤلاء الحاصلون على الإقامة في لبنان، إليها، متى تحسنت الأوضاع هناك. وحتى تتحسن تلك الأوضاع تبدو خياراتهم ضيقة جدًا، إذ يعتمد أبو يعقوب حتى الآن على مدخراته التي تتناقص تدريجيًا. ولكنّه يستفيد حتى الآن من فرق التصريف بين الدولار والليرة السورية (1 دولار حوالي 15 ألف ل.س): "أسعار المواد الغذائية مرتفعة ولكنها أقل من أسعار لبنان، ولكن هذا لا يعني عدم وجود تضخم وفرق كبير في الأسعار بين ما كانت عليه في العام 2014 واليوم. لأكن صريحًا، لم نكن متحمسين للعودة خاصة وسط ظروف سوريا السيئة من غياب الكهرباء والمياه وقلة فرص العمل، لكن ليس في اليد حيلة". بينما يعيش أحمد وعائلته في منطقة قنينص التي تضم عدداً من سكان مناطق إدلب الذين نزحوا إلى هنا منذ عقود. ولأنّ "ثوب الاستعارة لا يدفّي"، كما يقول المثل الشعبي، بدأ رحلة البحث عن عمل: "أريد الحصول على عمل هنا في الزراعة أو استئجار أرض وزراعتها، هذه هي مهنتي الوحيدة التي أعرفها، وبقائي هنا أنا وعائلتي سيطول، إذ لا يمكن العودة حالياً إلى إدلب". أما راميا، فتقول بحزم: "لا يمكنني الاستسلام... سأواصل السعي لتحقيق حلمي (الوصول إلى ألمانيا)، حتى لو كان الطريق صعباً".

مقالات متعلقة

اللاجئون السوريّون في خطرٍ مستمرٍّ في تركيا

22 تموز 2024
تعكسُ الهجمات العنيفة الأخيرة ضدَّ اللاجئين السوريّين في تركيّا سخطاً عميقاً تجاه السياسات الحكوميّة التركية، خاصة في معالجتها ملف اللاجئين. في هذه المادة تطلعنا الباحثة والصحفية التركية ديلا حصار لي،...
اللاجئون السوريون في روسيا يستميتون لتحصيل حقوقهم (2)

23 تشرين الثاني 2017
هل يوجد لاجئون سوريون في روسيا؟ كيف يصلون إلى هناك؟ وماهي أوضاعهم؟ وكيف تتعامل السلطات الروسية معهم؟ وما هي قوانين اللجوء في روسيا؟ هنا حوار مع سفيتلانا غانوشكينا وناتاليا غونتسوفا،...
في الساحل السوري.. مفاحم غير مرخصة

25 تشرين الأول 2019
لم تترك الحرب السورية مجالا لم تترك بصماتها عليه، لذا لم تنجو البيئة السورية من آثارها الكارثية، حيث توسعت مؤخرا ظاهرة المفاحم كوسيلة لكسب الرزق والعيش، الأمر الذي خلق "باب...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد