"استمرت رحلتنا خمسة أيام، ووصلت إلى بيتي زحفاً من التعب". هكذا يلخّص أحمد القاسم (٢٩ عامًا) عودته إلى قريته، عين شيب، في محافظة إدلب شمال غربي سوريا، هاربًا من الحرب الإسرائيلية على لبنان، البلد الذي عاش فيه اثني عشر عامًا، عاملًا في موقف سيارات في حيِّ سليم كلاس البيروتي. وكانت عائلة أحمد المكوّنة من خمسة أشخاص، قد عادت قبل ستة أشهر، قبل أن يلحق بهم مطلع تشرين الأول/ أكتوبر، في رحلةٍ طويلة، قطع خلالها مناطق سوريا المقسّمة، بين مناطق نفوذ النظام السوري والإدارة الذاتية والحكومة المؤقتة (الجيش الوطني) وحكومة الإنقاذ (هيئة تحرير الشام).
مع أحمد عبر أربعة آلاف شخص من معبر الدادات بحسب بيانات الحكومة المؤقتة، منهم 3033 وصلوا إلى إدلب، وبينهم 2000 طفل. وضمّت الدفعة الأولى الواصلة في الثالث من تشرين الأول/ أكتوبر 1700 مدنياً/ة، والثانية الواصلة بين الثامن والعاشر من الشهر نفسه 1000 شخص، بينما دخل البقية على نحو متفرّق، بحسب الدفاع المدني.
وتوجّه العائدون/ات إلى معبر الدادات الذي تسيطر عليه الحكومة المؤقتة، رغم صدور قرار بفتح معبر أبو الزندين الذي يربط ريف حلب الشمالي بمناطق الحكومة السورية منذ 22 تشرين الأول/ أكتوبر، وفق بيان أصدرته وزارة الدفاع في "الحكومة المؤقتة"، بسبب الصعوبات التي يواجهها المسافرون على معبر الدادات.
وأشار مدير المكتب الإعلامي للحكومة المؤقتة، جلال التلاوي إلى عدم دخول العائلات من معبر أبو الزندين، رغم أنّ "المعبر مفتوح بشكل دائم وجاهز لاستقبال العائلات من حيث تجهيز النفوس لإصدار ورقة إخراج قيد مؤقتة لتسهيل الحركة ووجود تجهيزات كاملة مع خيم استقبال جاهزة وسيارات نقل مجهزة أيضًا". ومع ذلك فضّل الناس في تلك المرحلة العبور من معبر الدادات لخشيتهم من عدم جاهزية معبر أبو الزندين.
عبور عسير إلى "الوطن"
بعد قطع العائدين هروبًا من الحرب في لبنان مناطق النظام السوري، عبروا من مناطق الإدارة الذاتية بتفتيش روتيني، لكن أصعب المراحل كانت تلك التي مرّوا خلالها بمعبر عون الدادات.
"كان معنا بعض الأغراض، طلب منا المكتب الذي أتينا معه أن نتركهم هناك على أن نستلمها بعد وصولنا، وبالفعل تركناها"، يقول سمير العمر (50 عاماً) من قرية المسطومة في ريف إدلب الغربي، الواقعة تحت سيطرة "حكومة الإنقاذ"، متحدثاً لسوريا ما انحكت عن رحلة عودته من لبنان إلى إدلب، موضحاً أنّ "معظم الأغراض وصلت لكن بعض الأغراض الصغيرة لم تصل، الهواتف النقالة مثلًا". قضى سمير مع عائلته، ليلتين باردتين في معبر عون الدادات دون فراش أو مأوى. "كان معنا أطفال، ابني البالغ من العمر عشر سنوات وثلاث من أطفال صديقي، ولم يكن معنا أغطية، فخلعنا معاطفنا لنغطيهم بها وأشعلنا نارًا لنتدفأ عليها وبقينا مستيقظين طوال ليلتين" يقول سمير.
أما معينة فلاحة، وهي من بلدة بنش بريف إدلب، وقد عبرت مع الدفعة الأولى، فتقول لسوريا ما انحكت "بناتي لم يستطعن أن يجدن مكاناً لقضاء حاجتهن" وتابعت أنّ "بعضهم كان يدفع (رشاوى) لتسريع الإجراءات. لكننا قمنا بمظاهرة فعبرت مجموعتنا دون أن ندفع شيئًا".
كما تحدّث سمير العمر إلى عيشهم في حالة فوضى مقلقة، إذ لم يحصلوا على معلومات بشأن تفاصيل إقامتهم، "لم يكن هناك من يتحدّث معنا أو يرشدنا في معبر عون الدادات. حين سألت السائق أين نحن قال لي (ستصل خلال ساعتين إلى المكان الذي تريد)، دون أي تفاصيل أخرى؛ كنت أريد طمأنة أهلي وأقربائي".
لم يكن سمير يميّز شوارع سوريا ودوّاراتها بعد أن غاب أربعة عشر عاماً متواصلة. وبعينين نصف مغلقتين يحاول أن يتذكّر تفاصيل رحلته قائلاً، "لا أذكر أي منطقة مررنا فيها سوى معبر تل الهوى الواقع قرب جرابلس، في ريف حلب، الذي يسيطر عليه "الجيش الوطني". يصدر الحاجز في تل الهوى، إخراج قيد لتيسير الحركة في المنطقة بعد عبور عون الدادات. جلّ ما يذكره العمر أنّه لم تكن هناك "حواجز مزعجة"، بل تابعوا الرحلة بشكل روتيني إلى أن وصلوا إلى مدنهم وقراهم.
رشاوى على الحواجز العسكرية تقي من "خدمة العلم"
منذ أن عبر سمير مع عائلته الحدود اللبنانية، بدأ القلق ينتابه. يوضّح أنّ "عمري تجاوز سن التجنيد الاجباري، إلا أنه وبسبب أخي المطلوب للاحتياط انتابني خوف شديد. وحين قالوا لي إنّ حواجز النظام انتهت، ودخلنا منطقة الأكراد تنفسّت الصعداء".
دفع سمير العمر 2600 دولار للمكتب، أجراً لرحلة عودته مع زوجته وأربعة من أطفاله وأخيه وزوجته وابن أخيه، بواقع 325 دولارًا للشخص الواحد، رحلة يصفها بالقول:"كان الطريق صعباً ومخيفاً، وكنت أخشى عليهم جميعاً".
وانتشرت في لبنان مكاتب تؤمّن رحلات عابرة لمناطق السيطرة المختلفة من لبنان إلى دمشق ومنها إلى حلب فإدلب، مروراً بأربع مناطق سيطرة وحواجز عسكرية مختلفة.
السيدة معينة فلاحة: "دفعنا 350 دولار عن كلّ مقعد في الحافلة، لكننا بقينا مع ذلك واقفين طوال الطريق من بيروت إلى حمص".
اضطر سمير أيضًا لدفع مبلغ إضافي للحواجز في مناطق سيطرة الحكومة السورية، لتمرير أخيه المطلوب الاحتياط. فرغم حصوله على تأجيل التكليف لسبعة أيام، لكنّه كان يخشى من استفزاز أيّ حاجز أو عنصر. ويقول :"دفعت مبالغ طائلة من أجل ألا يأخذوه، مليون ونصف ليرة سورية على ثلاث حواجز، بواقع 500 ألف ليرة سورية لكلّ حاجز"، مضيفاً أنّه دفع مبالغ صغيرة أيضاً لعناصر الحواجز، "حين يطلبون من أخي النزول كان يعطيهم مبلغاً من أجل ألا ينزل، كان وضعاً مرعباُ".
أحمد القاسم (29 عاماً)، كان يخشى هو الآخر أخذه ليخدم الخدمة الاحتياطية على الحدود السورية، لكنّه حصل على تأجيل تكليف أيضاً. "الحواجز كثيرة جداً من 40 إلى 50 حاجز" يتذكر خلال حديثه مع سوريا ما انحكت.
ضمّت رحلة أحمد خمسة وتسعين شخصاً موزّعة على حافلتين، في كلٍّ منهما سبعة وأربعون راكباً/ة.
السيدة معينة فلاحة عادت مع زوجها وأبنائها منذ بدء الحرب الإسرائيلية على لبنان. تقول: "دفعنا 350 دولار عن كلّ مقعد في الحافلة، لكننا بقينا مع ذلك واقفين طوال الطريق من بيروت إلى حمص".
غادرت عائلة معينة على الفور بعد تعرّض الحي الذي تسكن فيه للقصف، "كان الوضع مأساوياً لم نأخذ معنا أيّ شيء، إلّا بعض الطعام كي نتناوله على الطريق، والذي أخذته بعض الحواجز".
لبنان... حرب، خوف ثمّ هرب
سافرت معينة مع زوجها وأبنائها الأربعة إلى لبنان في العام 2012، فيما كانت مدينتهم بنّش تتعرّض لقصفٍ شديد بسبب قرب بيتهم من قرية "الفوعة" ذات الغالبية الشيعية، المُسيطَر عليها من قبل النظام السوري، التي كانت محاصرة من جهاتها الأربعة، من قبل فصائل المعارضة. انتهى حصار القرية في العام 2018 وفق اتفاقية المدن الأربعة، وترحيل سكانها إلى دمشق مقابل ترحيل أهالي الزبداني ومضايا إلى شمال غرب سوريا.
كان الوضع المادي لعائلة معينة متردٍّ في لبنان، فقد واجهوا صعوبة في إيجاد مكان للسكن. "سكنّا في مخيّم فلسطين الذي يقع في ضاحية بيروت الجنوبية، كان منزلنا صغير للغاية أشبه بخيمة، وكان أبنائي يعملون كي يؤمنوا مصدر عيش لنا"، تقول معينة.
مع بدء الحرب الإسرائيلية على لبنان تعرّض حيّهم للقصف. توضّح أنّ "القصف كان بعيدًا في البداية، لكن صاروخًا سقط على مسافة مئتي متر من منزلنا لاحقًا... أبنائي كانوا خائفين جدًا".
تردّدت معينة وأبناؤها كثيراً قبل اتخاذ قرار المغادرة، لا سيما بعد استقرارهم في لبنان مدّة اثني عشر عامًا. كان أبناؤها يعملون في أحد الأسواق العامة في بيروت، وكانوا يخشون من عدم إيجادهم فرصة عمل في الشمال السوري. تقول: "كنت أخشى انقطاع مصدر رزقنا الوحيد. كانت هناك حياة جديدة بانتظارنا لا نعلم عنها شيئاً".
أمّا سمير وعائلته، فكانوا يعيشون في مدينة صور في الجنوب اللبناني واضطروا لمغادرتها رغم إصرار أوّلي على البقاء. يقول: "خرجنا كما خرجت الناس. لم يبق في القرية إلا نحن"، مشيراً إلى أنّ ذعرًا شديدًا أصاب زوجته وأطفاله عند سماعهم أصوات القصف القريبة، ملاحظاً أنّه "بمجرّد ما وصلنا إلى بيروت ارتاحوا وتنفسوا الصعداء".
أحمد القاسم: "حين اشتدّ القصف فكّرت أن أسافر فورًا. بعد موت حسن نصر الله (الأمين العام لحزب الله)، انتشر خطاب عنصري مخيف. رأيت أربع من عناصر الحزب يطلقون النار على الناس بشكل عشوائي، وهم يصرخون بشدّة".
رغم عدم تعرّض المنطقة التي كان يقيم فيها أحمد القاسم لقصف يعرّض حياته لخطورة مباشرة، لكنه كان يسمع أصوات القصف بوضوح. مع ذلك، لم يستطع بيع أيًا من مقتنياته في ظلّ الظروف السائدة، تاركًا بيته على ما هو عليه، حاملًا معه البعض من ثيابه لا أكثر. يقول: "حين اشتدّ القصف فكّرت أن أسافر فورًا. بعد موت حسن نصر الله (الأمين العام لحزب الله)، انتشر خطاب عنصري مخيف. رأيت أربع من عناصر الحزب يطلقون النار على الناس بشكل عشوائي، وهم يصرخون بشدّة"، على حدِّ توصيفه.
إعادة الاستقرار في وطنٍ تغيّرت ملامحه
سكان المناطق التي تشهد موجة عودة يبدون تفهمًا لاتخاذ مواطنيهم السوريين هذا القرار، وفقًا لما لاحظه كاتب وكاتبة هذا التقرير. إبراهيم الزير (٤٠ عاماً)، تاجر من مدينة إدلب، يقول "نحن عشنا الحرب وندرك جيداً ما يعنيه الرعب من القصف؛ هو جزء من واقع حياتنا"، مشيراً إلى أنّ اللبنانيين يستضيفون عددًا كبيرًا من السوريين/ات، خاصة من مناطق حمص ودمشق ودرعا، وآخرين ممّن نجوا بحياتهم من إدلب بسبب الهجمات الروسية والإيرانية المساندة لقوات النظام السوري.
إبراهيم يعتبر أنّه من الطبيعي عودة السوريين/ات إلى مدنهم وقراهم، ولا يرى بأسًا من استضافة اللبنانيين/ات أيضاً، "فهم بالنهاية أهلٌ وأقارب"، مستدركًا أنّ هذا يشمل كل من لم يشارك في الحرب ضدّ السوريين/ات ولم يتسبّب بإيقاع أذى. أشار إبراهيم إلى أنّ معظم العائدين لديهم بيوتًا أو أقارب في منطقتهم، منهم بعض أقاربه.
يتحدّث العائدون عن تغيّر معالم المنطقة بشكلٍ كامل تقريباً، عمّا كان الوضع عليه عند مغادرتهم سوريا. معينة فلاحة ترى أنّ التغيير كان نحو الأفضل، وذلك من نواح متعددة، منها ناحية الإعمار وتوقف القصف بشكلٍ نسبي. أحمد القاسم يؤكد عدم نيته العودة إلى لبنان مطلقًا، ويرى أنّ المنطقة تغيّرت كليًا، مبرّرًا قراره بالقول: "عائلتي وأهلي جميعاً موجودون هنا. لن أعود وإن انتهت الحرب في لبنان. سأستقرّ في بلدي، كفاني اغترابًا".
سمير من ناحيته أيضاً لا ينوي العودة إلى لبنان بعد أن قضى ثلاثة عشر عامًا بعيدًا عن بيته، موضّحًا:"حين تركت بيتي في المسطومة في ريف إدلب، سكنت فيه إحدى العائلات النازحة". يسكن سمير حاليًا لدى بيت أخته في جبل الزاوية. "أنتظر قاطني بيتي كي يتدبروا أمرهم لأعود إلى بيتي"، يقول سمير مؤكدًا أنّ عودته للبنان "من سابع المستحيلات".
معينة وأبناؤها يؤكدون بدورهم أنّه لم يكن لديهم خيار سوى العودة إلى مدينتهم، إذ لا ترى نفسها قادرة على الإقامة في سوريا تحت حكم الأسد. لكنّهم لا يعلمون ما يمكن أن يخبّأ لهم المستقبل، وتبدو متأكدة من أنّ "الله ما بينسى حدا".