هي ساعات بعد هروب بشار الأسد، وفي الواحدة، ظهيرة يوم الجمعة (٨ ديسمبر/ كانون الأوّل)، اتصل الصديق أُبي عزو ليقول لي إنّه في ساحة الأمويين. شعرت بسعادةٍ كبيرة، فلم ألتقيه منذ 2012. أتى، قاطعاً أكثر من أربعمئئة كيلومتر مع أصدقاء أدالبة. لأُبي أخٌ، وهو وثّاب عزو، اعتقلته هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا) في 2015، ولم تكن قد انفصلت عن تنظيم القاعدة بعد، إذ تمَّ الانفصال في 2016. كانت قد وصلت معلومات لأُبي أنّ أخيه وصديقه اللبناني، وسيم القيّم، يمكن أن يكونا في سجن صيدنايا، وأكّد ابن العقيد هيثم العفيسي لأُبي، وهو من معرّة النعمان، وكان معتقلاً في المهجع الخامس، أنّ وثاب ووسيم كانا في المهجع السادس، وهما أمانة لصالح أمير في "النصرة"، في معمل الكرتون التابع لمعمل الأدوية "أوبري"، وربّما قتلهما الأمير، وربّما وجدهما النظام حينما سيطر على المعمل في 2019. وعدا ذلك هناك شراكات بين النظام وجبهة النصرة وما أخذته من تسميات لاحقاً، فتح الشام، هيئة تحرير الشام، وهناك تقارير تؤكّد ذلك، ومنها ما يؤكّد الصلة بين النظام وداعش كذلك، أو النظام وجيش الإسلام، وقيل، أنّ رزان زيتونة، ورفاقها الذين اختفوا في دوما، حينما كان يسيطر عليها جيش الإسلام، ربما سُلِّموا إلى النظام.
كانوا أربعة أصدقاء، منهم ثلاثة لديهم أقارب في صيدنايا. جلسنا نتداول الحديث، عن أهوال هذا السجن، المُسمّى مسلخاً. اعتقد أُبي بأنّ عليه أن يأخذ معه قاضياً إلى السجن، فربما يساعد في الحصول على أخيه أو أيّة ورقة تفيد بأيّة معلومة عنه. كانت أخت وسيم تتصل بشكلٍ مستمر، منتظرةً أيّة معلومة، وحاولت وعبر سنوات، وعبر أشخاص مقرّبين من حزب الله كذلك، ولكن عبثاً. أيضاً، كانت تُمني النفس بالحصول على أيّة معلومة.
تمّ الاستعانة بالشخص الذي اتصل به أُبي، ولكن تبيّن أنّه صيدلانياً بينما زوجته هي القاضية. المهم استقلينا السيارة، وكنا خمسة أشخاص، أنا وأبي والصيدلاني وصديق أُبي، والكاتبة رانيا مصطفى. صديق أُبي، كان قد اعتُقل في السجن، لأكثر من عام، ونفى بشكلٍ قاطع وجود غرفٍ سرّية، ومُغلقة بإحكام، ومشفّرة، وسواه، وهو ما أُشيع في الساعات الأولى للوصول إلى السجن وبدأ الأهالي بالتوافد إليه. تبيّن أنّ الرجل محقٌ، وكان هناك الكثير من الإشاعات حول الأمر، وتمّ إطلاق سراح أكثر بقليل من 600 معتقل، بينما ليس هناك أيّة معلومات عن الآلاف من المغيّبين قسريًا منذ عام ٢٠١١.
الطريق إلى معتقل صيدنايا
الفوضى عارمة في شوارع دمشق، وطريقنا يبدأ من بلدة جرمانا إلى ساحة العباسيين مروراً بحي برزة فالتل فصيدنايا. كان الازدحام كبيراً، وكنا نرى سيارات ملطّخة بالطين، وهي القادمة من إدلب، ورأينا سوريين؛ أدالبة، حماصنة، حموية، وحلبية وسواهم، وأوزبك كذلك. كان الأصدقاء الأدالبة ينبّهون بعضهم، ونحن أيضا، حينما نكون قريبين من تلك السيارات الملطخة بالطين، بأن نخفّض أصواتنا النقدية، أو نمتنع عن الشتم. كان الخوف بادياً على الأصدقاء، فتجربة إدلب، بقيادة الجولاني سابقا، أحمد الشرع لاحقا، بالاعتقال وتقييد الحريات والتغييب القسري دامية، وذلك منذ فرض سيطرته على إدلب حيث اجتثّ العشرات من الكتائب وفصائل الجيش الحر، وليست هناك أيّة معلومات عن آلاف المعتقلين منهم في سجونه. أيضاً، لم يُفرج عن المعتقلين من سجونه رغم المظاهرات الشعبية، والتي استمرّت في الأشهر السابقة، ولأكثر من ثمانية أشهر، وكان على رأس مطالبها الإفراج عن المعتقلين، والآن انتقلت المظاهرات للمطالبة بالمعتقلين إلى ساحة الجابري في حلب، وربّما في الأيّام القادمة ستكون في دمشق.
كان الأصدقاء الأدالبة ينبّهون بعضهم، ونحن أيضًا، حينما نكون قريبين من تلك السيارات الملطخة بالطين، بأن نخفّض أصواتنا الناقدة، أو نمتنع عن الشتم. كان الخوف بادياً على الأصدقاء، فتجربة إدلب، بقيادة الجولاني سابقًا، أحمد الشرع لاحقًا، بالاعتقال وتقييد الحريات والتغييب القسري دامية، وذلك منذ فرض سيطرته على إدلب حيث اجتثّ العشرات من الكتائب وفصائل الجيش الحر.
حينما غادرنا بلدة التل، خفَّ الازدحام، ولكن لبضع كيلومترات فقط. وحينما اقتربنا من سجن صيدنايا، أصبح الطريق ضيّقاً والازدحام كبيراً. أوقفنا السيارة جانباً، وقال الصيدلاني سأنتظركم أنا في السيارة. كانت لوحات السيارات المركونة جانباً، أو التي تتحرّك ببطءِ السلحفاة من كافة المدن السورية. وتمحورت أحاديث الناس عن الأمل بوجود المعتقلين في غرفٍ سرّيّةٍ، وأنّ البحث بطيئاً، والمعدات المستخدمة في عملية الحفر سيئة، ويجب الاستعانة بخبراء دوليين من أجل تحطيم البوابات المشفّرة، ومن هذه الأحاديث.
كانت الحشود تفوق الثلاثين ألفاً، نساء وشيوخ وشباب وأطفال. الجميع وجهته الصعود نحو السجن. لم نعد قادرين على المشي، كنا نجلس على حافة الطريق، ومثلنا كُثر. صديقنا الذي سُجِن في معتقل صيدنايا كان الأكثر نشاطاً، فاقترحنا أن يتابع هو صعوده وننتظره نحن على الحافة. فعلاً، غاب الرجل قرابة ساعة ثم عاد، وكرّر حديثه السابق، بأنّه لا توجد غرفة سرّيّة ولا شيء من هذا القبيل، وأنّ مكاتب إدارة السجن حُرِق بعضها والأوراق منثورة هنا وهناك، ولا يوجد أيّ أمل بوجود معتقل حي ولو واحد بعد تحرير السجن في اليوم السابق والإفراج عن العدد المذكور أعلاه.
برّادات ومقابر جماعية
لقد تواتر وعلى ألسنة الكثيرين ممن صادفناهم في صعودنا، أنّ أربعة، والبعض قال ست، برادات، أتت في الأيّام السابقة، ودخلت إلى السجن وغادرته، ومال التحليل أنّها لنقل السجناء أحياءً، وهو ما لم أفهمه، فإلى أين سيتم نقلهم؟ وهل هناك فتحات تهوية في البرادات؟ ولكن، وحينما كنت أستمع لأحد مقاطع الفيديو عن مقبرة نجها، وهي جنوب دمشق، ذكر، أحد الأفراد، وهو يقطن بالقرب من المقبرة، أنّه منذ 2011 تأتي البرادات المحمّلة بالجثث، ويكون بانتظارها أحد التركستات، فيتم حفر حفرة كبيرة كمقابر جماعية، وحينما تُكدّس الجثث فيها يقوم التركس بردم التراب فيها، وأنّه في بعض المرّات يتم الدفن ليلاً، وقد رأى أرجلاً وأيدي ورؤوساً حينما عَبَرَ بالسرّ إلى المقبرة، لتأتي التركستات في اليوم التالي وتعيد طمرها.
إذاً، ربما أنّ تلك البرادات الضخمة، لم تُقل السجناء أحياءً بل أمواتاً، وضمن الأحاديث أنّ تلك البرادات، دخلت خلال الأشهر الأخيرة عدّة مرّات إلى سجن صيدنايا؛ ويبدو أنّ النظام أراد التخلّص من المعتقلين بشكلٍ نهائي، حينما كانت تتقرّب منه الدول العربية وتركيا للتطبيع، ولإبقائه مسيطراً على سوريا، وهذا كان سيجبره على فتح السجون لاحقاَ. في الأيّام السابقة وُجِدت أربعون جثّة في مشفى حرستا، لم يمض عليها أيّاماً، إحداها تعود للمعتقل مازن الحماده، الذي أدلى بشهادته عن السجون أمام المحاكم الدولية ووسائل الإعلام. وفي العام 2020 لم يستطع البقاء في أوروبا، لأسباب نفسية، فأُعيد إلى السجن، وربما حاول رجال النظام الأمنيين مساومته على سحب إفادته عن السجون، وبرفضه أُودع إحداها، وقُتل قبل أيّام قليلة من تفكّك النظام.
إعادة إنتاج الخوف
أثناء الصعود، رأينا الكثير من السيارات التي كساها كوادر الهيئة بالطين، وكانت صديقتنا رانيا مصطفى، الكاتبة اليسارية معنا، فقلت لها أنّه من الأفضل أن تضع الطاقية على رأسها. رفضت العديد من المرّات أثناء الحديث، ثم شعرت بأنّ هناك سبب حقيقي للخوف، فوضعتها. كانت نظرات الكوادر مُخيفة بعض الشيء، وربّما نحن نتوجّس الخوف، وربما خليط من هذا وذاك، ولكن، وبعد القليل من التحدّث مع بعضهم، تقلّص الخوف ولكن لم ينته. أصدقاؤنا الأدلبة، يرون أنّ كوادر الهيئة لا أمان لهم، وسرعان ما سيعودون إلى جلدهم القديم.
لم نعثر على أيّ شيءٍ مفيد. أصابنا الإحباط من المشوار المجهد، ولكن الآلاف مثلنا، وحتى ونحن نعود، كانت السيارات تصعد وتصعد، والعيون بحالة خوفٍ ومعظم الكلام كان شتائم لآل الأسد وما فعلوه من ظلمٍ وقهر واعتقال وموتٍ ودمار بالسوريين وبسوريا، وأماني كثيرة بأن يحصلوا ولو على ورقةٍ، تُهدّئ من معاناتهم الممتدّة لأكثر من عقود، وبعض العائلات تعاني منذ 2011. وبالفعل، وُجِد سجناء محتجزين منذ أكثر من أربعين عاماً، وثلاثين وعشرين، وهكذا، في كلّ سجون دمشق وبقية المدن، وبعضهم فاقدي الذاكرة أو لا يستطيعون الحراك، وهناك العديد من النساء مع أولادهم.
أصدقاؤنا الأدلبة، يرون أنّ كوادر الهيئة لا أمان لهم، وسرعان ما سيعودون إلى ارتداء جلدهم القديم.
بعد يومين، أتى صديقٌ أخر، وقد اعتُقل خمس مرات بعد 2011. أتى بعد أن ذهب إلى سجن صيدنايا، ووجد الكثير من الأوراق المبعثرة في كلّ مكان، وسألته: هل ما يزال الناس يذهبون إلى هناك؟ أكّد الأمر لي. وقال لي إنّه لملم بعض الأوراق، وهي هامة، ومتروكة للسرقة، وفيها معلومات عن المعتقلين وأوامر بالقتل، وملطخة بالمازوت، وأكّد حدوث الكثير من السرقات بما فيها بعض أدوات التعذيب. ما جرى في سجن صيدنايا جرى في بقية السجون، وكأنّ هناك جهة أرادت العبث بكلّ ما يخصّ السجون والأفرع الأمنية، وقالت تقارير صحافية إنّ محكمة الإرهاب حُرقت كذلك، وأُتلفت الكثير من أوراقها، وتمَّ سرقة اللابتوبات الخاصّة بالأجهزة الأمنية.
هناك الكثير من الخفايا في ملف السجون السورية، وحتى الآن، لا تزال الحكايات تتحدّث عن سجون لم يُكشف عنها بعد. وحتى الآن، كلّ يومٍ تنشر الصحافة عن مقابر جماعية، ليست معروفة من قبل.
بكى أُبي، أكثر من مرّة، أثناء الحديث عن أخيه، وهي حالة العائلات منذ 2011. كان الخلاص من نظام عائلة الأسد أكثر من ضرورة.