الساحل السوري بعد سقوط النظام السوري

"التصرفات الفردية" تطغى على الفرح بسقوط الأسد


في الساحل السوري، سحب البعض صور أبنائه من الشارع بعد أن كانت تملأ الجدران تحت اسم "الشهيد في سبيل الوطن"، والذين باتوا اليوم إرهابيون وفطائس وقتلى حرب لدى النظام الجديد" كما تقول ليلى في هذا التقرير الذي يرصد أحوال الساحل السوري، والطائفة العلوية تحديدًا، بعد سقوط النظام، حيث يعيش الأهالي "في كابوس لا ينتهي... وأشعر أن مستقبلنا مظلم" كما تقول منى.

09 كانون الثاني 2025

كمال شاهين

صحفي وكاتب سوري

"بعد أكثر من عشر سنوات على الموت في سبيل سوريا تركنا بشار الأسد وغادر بطريقة مخزية. لم يقم سوى بتجميع أمواله والفرار من بلاد أعطته كلّ شيء. ما جدوى كل هؤلاء الشهداء الذين سقطوا؟ أولادنا الشباب وهم بالمئات ماتوا من أجل لا شيء". هذا ما تقوله ليلى أحمد وهي موظفة سابقة في قطاع الصحة في ريف بانياس، ووالدة لشابين فُقدا خلال سنوات الحرب. وتضيف “اليوم بات أولادنا إرهابيون وفطائس وقتلى حرب لدى النظام الجديد. هي حالة قهر لا تتكرّر".

يعكس هذا القول ما يشعر به اليوم أهل الساحل السوري من خيبة أمل وحنق يعتصر قلوبهم. "كل يوم أستيقظ على خوف جديد. أشعر بأنني أعيش في كابوس لا ينتهي. مع انهيار النظام، زادت مخاوفي من الانتقام. أسمع القصص عن جماعات معارضة تهدد العلويين، وأتساءل كيف سأحمي عائلتي. نحن بشر، لدينا أحلام وآمال، لكن الخوف يسيطر علينا. لا أعرف ماذا سيحدث غدًا، وأشعر أن مستقبلنا مظلم"، تقول منى ابراهيم،  امرأة من الطائفة العلوية في الساحل السوري، كانت موظّفة في قطاع التعليم.

نهوض الفاعلين الاجتماعيين في الساحل السوري

16 أيلول 2023
كشف الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا في السادس من شباط ٢٠٢٣ مدى اعتماد مجتمعات الساحل السوري على السلطة، ومدى غياب أو ضعف أيّ حضور للمجتمعين المدني والأهلي والفاعلين الاجتماعيين، وسط...

مشاعر الأسى هذه، يرافقها إحساس عام بالخديعة في الجبل العلوي. هناك من سحب صور أبنائه من الشارع بعد أن كانت تملأ هذه الشوارع تحت اسم "الشهيد في سبيل الوطن". المبرات الخيرية حيث كانت تُقام التعازي شهدت نزعًا لصور كثيرة تضم قوائم هؤلاء الضحايا في محاولة لتفادي غضب الهيئة وأتباعها من هؤلاء الضحايا الذين آمن قسم كبير منهم ربما للحظة بأنّ من يدافعون عنه هو وطن وليس فردًا.

هناك أيضًا مخاوف من الانتقام، حيث تعيش العديد من النساء حالة قلق مستمر وعدم يقين وخوف من ردود الفعل المحتملة في مجتمع مصدوم بكلّ معنى الكلمة، مجتمع يجد قسم كبير من أفراده أنفسهم، يدافعون عن فكر "الدولة" لا النظام، كردة فعل على النبذ والإقصاء.

هذا التحوّل في الهوية يؤثر على الأجيال الشابة التي نشأت خلال فترة النزاع، حيث يتساءل الكثير منهم عن مستقبلهم ومكانتهم في المجتمع وبخاصة مع انتشار شائعات كثيرة تتعلّق بالإقصاء من الوظائف الحكومية أو العسكرية منها.

تأتي المخاوف السابقة رغم أنّ الأسبوع الرابع على تغيير النظام المفاجئ في سوريا "انتهى بخير" نسبيًا. إذ لم تحدث مجازر كبيرة ولم تتدفق شلالات الدم التي طالما تحدّث عنها موالو النظام السابق وأكدوا أنّها ستكون حاضرة فيما لو سقط النظام الأسدي. إلّا أنّ هذا الإنجاز الذي يُحسب لقوى الأمر الواقع الجديدة في دمشق ومعها الترتيبات الدولية الملحوظة حتى الآن، لا ينفي أنّ الوقت مبكّر للحديث عن قطيعة مع المرحلة الأسدية السابقة، خاصة مع "تكرار عشرات الحوادث الفردية" كلّ يوم على جغرافيا الساحل السوري وحمص وريف حماة، والأخيرة تشهد النسبة الكبرى من هذه الحوادث بحكم وقوعها على حدود التماس الجغرافي الطائفي مع الإخوة "السوريين الأعداء" حتى السابع من كانون الثاني/ يناير ٢٠٢٥.

"هناك من سحب صور أبنائه من الشارع بعد أن كانت تملأ هذه الشوارع تحت اسم "الشهيد في سبيل الوطن".

ورغم وجود مقدّمات مبشّرة في خطاب السلطة الجديدة تختلف درجاتها بين خطاب الشرع (الجولاني سابقًا) وأعضاء حكومته القادمين من إدلب لحكم سوريا، وممارسات أعضاء "الهيئة والأمن العام" في الشارع، تظلّ مخاوف العلويين مشروعة وسط حالة الاستقرار السوري الهش حالياً بغياب كلّ أشكال الدولة. كما أنّ سيطرة مشاعر "نحن من حقق الانتصار على النظام السابق وكتلته الاجتماعية والعسكرية" على فصائل الهيئة، قد يؤدي إلى تهديدات جديدة على حياة العلويين باعتبارهم "سند النظام الأساسي". ويدعو العقلاء من كلّ الأطراف إلى حضور الدولة الجديدة في المحاسبة والمعاقبة، وإلا تحوّلنا إلى شرع الغابة من جديد.

أهل الساحل السوري والسلطة الجديدة

ينتشر هذا الخطاب الإقصائي في وقت تعيش الطائفة العلوية في الساحل السوري، وهي تشكل نحو 10-12% من السكان (كما يشير كتاب جان كلود فاندام الصراع على السلطة في سوريا، 2010)، حالة من التوتّر والقلق في ظلّ الظروف الراهنة. هذه الحالة ليست مجرّد صدى للأحداث السياسية، بل تعبير أيضًا عن إحباط عميق وقلق متزايد يعتمل في نفوس أبناء الطائفة.

ينتمي أغلب أهل الساحل السوري إلى طبقاتٍ اجتماعيّةٍ مسحوقة اقتصاديًا؛ فلاحون وموظفون وعسكر في الجيش السوري السابق وقوى الأمن أيضًا، ولطالما اعتبرهم السوريون الآخرون القاعدة الاجتماعية الداعمة للنظام الأسدي. وفي هذا نوع من التجني الجمعي، إذ أنّ النظام السابق كان نتاج نفسه وأدواته وعناصره المختلطة من كلّ السوريين. يقول المهندس "محمد الخيّر" (43 عاماً) خلال لقاء في تجمّع شبابي مدني جمع عددًا من الفاعلين الشباب والصبايا لمناقشة المرحلة الجديدة في سوريا أقيم في اللاذقية: "نحن أمام معضلة حقيقية تتمثّل في قراءة النظام الجديد للسوريين على أساس منطق مغلوط هو منطق النظام نفسه. منطق الأقلية والأكثرية. منطق المؤمنين والكفار. وهذا يعني استبعاد مفهوم المواطنة من العمل القادم لبناء سوريا متحرّرة من الاستبداد والطغمة الحاكمة. كلّ الخوف أن نعيد إنتاج دكتاتورية بطريقة جديدة تستمر خمسين عامًا آخراً".

يتابع محمد: "ليس هناك معايير واضحة لمن يدخل في تركيبة السلطة الجديدة بحكم أنّ هذه السلطة طارئة بالأصل على مشهد إدارة دولة بكاملها بعد أن كانت تحكم منطقة صغيرة (إدلب) ذات لون واحد اجتماعيًا إلى حد كبير، شاهدنا عشرات الأشخاص ممن كانوا منتفعين من النظام السابق باتوا يتصدرون خطاب المرحلة الجديدة، ومنهم ليس رجال دين فقط بل موظفين في اتحادات نقابية وبعثيون سابقون، هذا التبدّل السريع يثير الشكوك حول نواياهم وقدرتهم على تمثيل مصالح المجتمع العلوي بشكل حقيقي".

هناك أيضًا من يرفض التعاون مع النظام الجديد لأسباب تتعلّق بالذاكرة الجماعية للجماعة. يتابع المهندس محمد: "وصل النظام الجديد إلى الحكم بالصدفة لقيادة البلاد وبنفس الوقت كان مصنّفًا ولا زال على قائمة الإرهاب الدولية وأولهم (القائد) أحمد الشرع. وقد نال العلويون منهم عدداً من المجازر المعروفة. إن ذكرى أحداث عدرا العمالية وسجن التوبة لا تزال حاضرة في الأذهان، مما يرفع منسوب القلق من أن يتكرّر التاريخ مع وصول سيارات الهيئة بسهولة إلى كل المناطق العلوية".

تظهر الوقائع اليومية حدوث عشرات الانتهاكات، جرائم القتل على امتداد المنطقة. وفيما يتهم الحكم الجديد "فلول النظام وأذناب إيران" وعصابات مسلّحة، وتشير إلى محاولات الهيئة والأمن العام ضبط هذه الحالات، فإنّ مخاوف الأهالي تتصاعد يومًا إثر آخر. وفي محاولة لضبط ما يمكن ضبطه عمدت قرى وحارات في المدن إلى تشكيل لجان شعبية لحماية قراها وحاراتها من هذه التعديات. ولكن هناك مشكلة كما يقول جعفر حلوم لسوريا ما انحكت، وهو طالب جامعي من حي "الرمل الشمالي" في اللاذقية تتمثل في أنّ "الدوريات التابعة للهيئة لا تتعاون معنا في إثبات أنها دوريات تابعة للهيئة. ما يحصل أنّ هناك من يرتدي الزي الرسمي للهيئة والأمن العام مع لبس لثام للوجوه، يحضر هؤلاء إلى الحارات بحجة التفتيش ليلًا دون وثيقة رسمية أو دون التعاون مع الفاعلين الاجتماعيين مثل المخاتير أو اللجان. حصلت عدّة إشكالات كان من الممكن تلافيها لو كان مع هؤلاء ثبوتيات رسمية بمهمتهم. يبدو أننا عدنا لزمن زوّار الفجر مرّة أخرى".

إذ لم تحدث مجازر كبيرة ولم تتدفق شلالات الدم التي طالما تحدّث عنها موالو النظام السابق وأكدوا أنّها ستكون حاضرة فيما لو سقط النظام الأسدي. إلّا أنّ هذا الإنجاز الذي يُحسب لقوى الأمر الواقع الجديدة في دمشق ومعها الترتيبات الدولية الملحوظة حتى الآن، لا ينفي أنّ الوقت مبكّر للحديث عن قطيعة مع المرحلة الأسدية السابقة، خاصة مع "تكرار عشرات الحوادث الفردية" كلّ يوم على جغرافيا الساحل السوري وحمص وريف حماة.

لا ينس جعفر التأكيد على اختلاف تعاطي دوريات الهيئة مع الناس. "بعض هذه الدوريات مهذبة جدًا وعلى درجة عالية من التعاطي الحضاري، ولكن هناك دوريات أخرى تقوم باستفزاز الناس عبر سؤالهم عن طوائفهم وعملهم في الجيش وغير ذلك، هذا مفهوم في إطار أنّ الهيئة تضم أجناسًا متعدّدة ومنها أجنبية لا تعرف طبيعة المجتمع السوري".

شبح الجوع

إلى ذلك، تعاني المناطق العلوية، مثل كثير من غيرها من المناطق السورية من نقص حاد في الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه والرواتب التي لم تُصرف حتى الآن للعسكريين السابقين والموظفين غير المتقاعدين، وهذا ما يسهم في تفاقم أزمات السوريين ككل والعلويين المنتشرين في الجبال بشكل خاص لغياب أيّ بدائل وما هو موجود منها تم استنزافه على مدار العقد الماضي. يقول علي ياسين لسوريا ما انحكت، وهو شاب تخرّج حديثاً من كلية الهندسة بجامعة اللاذقية (تشرين سابقاً): "هناك توتر اقتصادي ناتج عن ارتفاع أسعار المواد الأساسية مثل الخبز التي وصل سعر الربطة المكونة من 12 رغيف إلى خمسة آلاف ليرة سورية (ثلث دولار) في وقت لم يقبض الناس فيه رواتبهم البالغة عشرين دولاراً. تحتاج العائلة المتوسطة شهرياً إلى عشر دولارات خبز فقط. وغاز (تكلفة الجرة حالياً 250 ألف فأكثر) وهذا يعني أنّ تحرير الأسعار هذا سيقود إلى جوع أكيد لدى من ليس لديهم مصادر دخل غير رواتب الدولة وهم غالبية أهل الجبل".

يضيف علي إنّ ارتفاع أجور النقل الكبير جعل من المستحيل على العائلات إرسال أولادها إلى المدارس والجامعات. "أجرة النقل بين قريتي ـ بستان الحمام ـ وبانياس بلغت 16 ألف ليرة (دولار واحد) (عشرة كيلومترات فقط) أي أنّ أي طالب يحتاج على الأقل خمسين ألف ليرة يومياً وهو أمر يستحيل لأي عائلة تدبره".

إلى ذلك تسبّب انهيار النظام الأسدي في تعطل كلّ أنواع الحركة الاقتصادية في الجبال المرتبطة بالزراعة، ومنها التبغ الذي يشكّل مصدر دخل رئيسي للعائلات الجبلية. يقول قيس الابراهيم، ومزارع من ريف بانياس: "لم تستلم منا الريجي هذه السنة محصول التبغ بشكل كامل، ومن استلمت منه الريجي لم يدفع له كامل حقوقه. هذا تسبّب في زيادة عرض كميات التبغ العربي في السوق المحلي وانخفاض أسعاره بشكل كبير، إضافة إلى غياب التجار من المناطق الأخرى مثل حماة.. يسري هذا أيضًا على منتجي زيت الزيتون والحبوب". هذه التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها المجتمعات العلوية تضيف طبقة جديدة من التعقيد إلى الوضع. فمع تدهور الأوضاع الاقتصادية، يجد الكثيرون أنفسهم في مواجهة صعوبات معيشية متزايدة، مما يزيد من مشاعر الإحباط واليأس ويزيد كذلك احتمال التدخل الخارجي ضمن هذه البيئات.

عناصر الجيش القديم والجيش الجديد

يقول علي محمد (اسم مستعار) وهو طالب ضابط في الكلية الحربية بحمص أجرى تسوية في مركز تسوية مدينة جبلة: "مثل غيري نزلت منذ الرابعة صباحًا إلى المركز لأفاجئ أن هناك مئات غيري في الانتظار. في البداية أدخلونا وسألونا عدّة أسئلة فيما إذا كنا قد شاركنا في الأعمال القتالية. أخبرناهم أننا كنا طلابًا في الكليات العسكرية. صوّرونا بطريقة المساجين. ثم تركونا بعد أن أخذوا المعلومات التي يُفترض أنها موجودة لديهم في سجلات الكليات العسكرية".

يضيف علي: "قضيت ثلاث سنوات وتخرجت من الكلية. عليّ الآن أن أعود لنقطة الصفر في حياتي وهناك المئات غيري. لماذا لا نضاف إلى قوى الجيش الجديدة؟ هل من المعقول أن يكون المحارب المنتمي إلى تنظيم مسلّح له الأولوية في الانتماء إلى جيش وطني، أو أن يتم تفضيل أجنبي علينا نحن أبناء الوطن؟ حتى الآن نعتقد أنه لن يتم التواصل معنا من جديد وسنُترك لمصيرنا".

حالة علي هي حالة من مئات الحالات التي قام فيها أفراد ضباط وصف ضباط من الجيش السوري السابق بتسليم أنفسهم إلى عناصر الأمن العام أو الهيئة دون التعرّض لهم أو أذيتهم أو شتمهم. بالمقابل هناك حالات مختلفة يمكن اعتبارها فردية تتبع للمركز المعني بحدوث حالات شتم وتعنيف لفظي وطائفي.  إن التحولات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها البلاد تثير تساؤلات حول كيفية إعادة بناء الثقة بين المجتمعات المختلفة وكيفية التعامل مع الماضي المؤلم.

"كلّ الخوف أن نعيد إنتاج دكتاتورية بطريقة جديدة تستمر خمسين عامًا آخراً".

وتشير الشائعات المحلية إلى أن الضباط الكبار الذين شاركوا في المعارك القتالية، قد هربوا إلى روسيا، عبر مطار حميميم. وكانت من الحوادث البارزة، تلك التي تسبّبت بمقتل أفراد من الهيئة ومن المدنيين، فقد أدى مقتل مدني في قرية "خربة المعزة" إلى الاصطدام مع الأهالي بعد محاولة دورية تابعة للهيئة اعتقال محمد حسن كنجو وهو النائب العام العسكري بالمحكمة الميدانية العسكرية والمسؤول عن مقتل مئات المعتقلين في سجن صيدنايا وغيره.

ظهور دور رجال الدين العلويين بوضوح

على مدار سنوات حكمه، لم يمنع النظام السابق العلويين من ممارسة شعائرهم أو طقوسهم الدينية، بل عمل على إعادة ترتيب الأولويات الاجتماعية والسياسية. حيث تحولت الفكرة القومية العربية ونظريات العروبة إلى مرجعيات أساسية في الحياة اليومية، مما جعل التدين يحتل مرتبة ثانوية في المجال التداولي للجماعة العلوية. وقد ساهمت هذه الديناميكية في تعزيز الهيكلية الحزبية لحزب البعث، مما أدى إلى تهميش دور المؤسسات الدينية والفاعلين الاجتماعيين العلويين.

يشرح سامر العلي، وهو ناشط مدني مقيم في دمشق ذلك قائلًا: "تحول دور رجال الدين في هذه الفترة إلى دور تابع وارتزاقي من السلطة، حيث أصبحوا يعتمدون على النظام في تأمين مصالحهم، وبهذا فقدوا استقلالهم. كما أن إنتاج رجل الدين بالمعنى الحقيقي في المجتمع العلوي قد توقف، ليحل محله شريحة من منتسبي الجيش المسرّحين الذين وجدوا أنفسهم في مواقع دينية دون أن يكون لديهم التأهيل أو المعرفة اللازمة. هذا التحول أدى إلى تفكيك البنية التقليدية للسلطة الدينية، مما أضعف من تأثير رجال الدين في المجتمع وأدى إلى تغييرات في الأدوار الاجتماعية والسياسية ضمن الجماعة العلوية".

يقول أحمد محمد (23 عامًا) وهو ناشط مجتمعي من مدينة جبلة في حديث مع سوريا ما انحكت: "مع سقوط النظام انفتحت الأبواب المغلقة للمجتمعات المحلية وظهر رجال الدين العلويين كلاعبين رئيسيين متوقعين في هذه المجتمعات نظراً لدورهم القديم في تقديم الإيمان الديني لأبناء الطائفة الذكور. أدى هذا الظهور بالضرورة إلى إثارة مخاوف من اتساع التحكم الديني في بيئة منفتحة بالأصل على الحياة ومخاوف من استخدام التدين العلوي كأداة ضمن الصراع السوري المستمر بأشكال مختلفة".

أصدرت الطائفة عدداً من البيانات غداة سقوط الأسد. كان واضحًا فيها التناقضات بين بيان وآخر. ولم تظهر أسماء الموقعين في قسم منها، وهو ما أوقع الناس في حيرة من أمرهم، عن ماهية تلك الجهات. عندما تواصل سوريا ما انحكت مع عدد من رجال الدين، تبين لها أنّ الأهداف كانت في الأساس نبيلة، وأن "إصدار عفو عام"، كانت من ضمن الأفكار المقترحة، التي لم يتم الاتفاق بشأنها.

يقول الدكتور محمد الخيّر، وهو من مجموعة واسعة تعمل على تأسيس مجلس إسلامي علوي أعلى (قيد الإنجاز) معلقًا على هذا الشأن: "إن الهدف من تأسيس هذا المجلس هو إعادة إحياء الهوية الدينية للعلويين وتعزيز دورهم في المجتمع، بعيداً عن الهيمنة السياسية التي فرضها النظام السابق. نحن نؤمن بأن الدين يجب أن يكون عاملًا موحدًا وليس مفرقًا، وأن يكون هناك مساحة للتعبير عن المعتقدات بشكل حر ومنفتح. نحن ندرك تماماً المخاوف التي قد تثار حول استخدام الدين كوسيلة للسيطرة أو كأداة في الصراع القائم، ولكننا نعمل على التأكيد على أن يكون الدين مصدرًا للسلام والتسامح، وليس أداة للصراع. لذا، نحن نسعى إلى تشكيل مجلس يمثل جميع الأطياف العلوية، ويكون قادرًا على الحوار مع باقي المكونات السورية".

فمع تدهور الأوضاع الاقتصادية، يجد الكثيرون أنفسهم في مواجهة صعوبات معيشية متزايدة، مما يزيد من مشاعر الإحباط واليأس ويزيد كذلك احتمال التدخل الخارجي ضمن هذه البيئات.

يضيف "الخيّر" الذي كان جده "محسن" قاضي قضاة العلوية في الخمسينيات: "نحن نعيش في مرحلة حساسة تتطلب منا جميعًا أن نكون حذرين ونبني على أسس من التفاهم والاحترام المتبادل. إن إعادة بناء الثقة بين أبناء الطائفة وبين المجتمع السوري ككل هو أمر بالغ الأهمية. نحن بحاجة إلى إيجاد قنوات للتواصل مع الآخرين، وإظهار أن لدينا رؤية لمستقبل مشترك يمكن أن يتسع للجميع. ونتمنى أن نتمكن من تجاوز التحديات التي تواجهنا وأن نكون جزءاً من الحل في سوريا الجديدة."

خوف التدخلات الدولية

وسط ما سبق من أوضاع، فإنّ هناك تخوّفات أخرى بحدوث تدخل دولي في مناطق الساحل السوري، فيما لو ذهبت العلاقة مع قوى الأمر الواقع الجديدة في دمشق باتجاه سيء، ناتج بشكل أساسي من عدم شفافية الهيئة في العديد من المواضيع المرتبطة بالطائفة العلوية وأولها ما يتعلّق بمصير عناصر الجيش السوري المنحل أو إذا نجحت بقايا النظام السابق في اجتذاب مؤيدين لها، بسبب تقاعس الهيئة بالتحرك سريعًا نحو مختلف السوريين، وليس فقط الجماعة العلوية.

يشير ضابط سابق في الجيش السوري (فضّل عدم ذكر الاسم) في حديث مع سوريا ما انحكت إلى أنّه " كان هناك ما يقرب من نصف مليون عسكري من مختلف الطوائف السورية في الجيش، من ضباط وأفراد وقادة، بعضهم شارك في المعارك التي جرت في السنوات الماضية وعملوا كجيش وطني، حارب الإرهاب الذي لم ينزل عن كتف من هم اليوم بالصدفة في قيادة البلاد. وفي حال لم يتم إجراء إعادة لهؤلاء للجيش ـ على الأقل من لم تتلطخ أيديهم بدماء السوريين وفق معايير محددة وشفافة وعالية الدقة ـ فإنّ هذا قد يفتح الباب نحو الاستثمار في هذه الخبرات من قبل الخارج التركي أو الإيراني أو غيرهم، لسبب بسيط هو الجوع الي سيضربهم مع توقف رواتبهم المتواضعة أصلًا".

يضيف الضابط، وهو من سلاح المدفعية البحرية: "إن سكوت النظام الجديد عن تصرفات العدو الصهيوني بهذا الشكل المذل يجعل الكثيرين مشككين في الموقف الوطني للنظام الجديد، الذي هو أصلًا ترتيبة دولية تهدف لمسح الفاعلية السورية في المنطقة وتحويل البلاد إلى مسخ يتوافق مع تطلعات العدو، لذلك فإنّ الذهاب باتجاه تشاركية وطنية تعددية سيكون مخرجًا مناسبًا للعهد الجديد من تبعية الارتهان للخارج".

عدا عن هذا فإنّ هناك محاولات تركية جادة باتجاه جذب الطائفة العلوية إلى مدارها. في الأسبوع الثالث من سقوط النظام حضر وفد تركي من ولاية أنطاكيا إلى اللاذقية والتقى عددًا من رجال الطائفة ممن ينتمون إلى تيارات دينية وغير دينية بهدف جسّ النبض العلوي تجاه تصوّرات تركية تتعلّق بالساحل السوري وربما بنيّة ضمه إلى تركيا أو العمل ضمن السياسة التركية الناعمة لدفع العلويين لطلب الحماية التركية.

بالمثل، هناك كذلك تيارات علوية تميل نحو مثل هذه التوجهات الدولية، وسط قلق كبير من قضية "التصرفات الفردية" التي تستمر وتكون حصيلتها مقتل أفراد من الطائفة لا ذنب لهم ولا علاقة لهم بالنظام السابق. ورغم اتهام الهيئة لفلول النظام وعصابات مسلحة بهذه التصرفات، فإن مسؤولية الأمن والأمان تقع على عاتق الهيئة، التي عليها بذات الوقت العمل مع المجتمع المحلي على ضبط هذه الحالات.

عودة أجهزة الدولة من شرطة وقضاء هي المهمة العاجلة التي يجب إيلائها الأهمية القصوى، بدل إشغال الناس بتعديلات المناهج الدراسية السابقة مثلًا، يرى من التقاهم سوريا ما انحكت.

مقالات متعلقة

مصابو الساحل السوري: الموت أريح من هالعيشة

23 أيار 2019
ما حال مصابي جيش النظام والمليشيات التي حاربت معه؟ كيف هي حياتهم بعد الإصابة؟ كيف يتعامل معهم النظام ومؤسساته؟ أي شعور ينتابهم اليوم؟ هل يشعرون بالندم أم الفخر؟ هنا تحقيق...
"الجبنة الحموية" ليست مقابل " التبغ اللاذقاني"

30 أيار 2018
يتحدث التاجر الحموي "أبو محمد" فيقول وهو يشارك في تعزية في قرية في الساحل السوري: "شو يعني؟ ليش جايين لهون؟ لحتى نشتري الدخان، دخان دوير بعبدة والقدموس والدالية ما في...
لم يصعد "علي" إلى الحافلة الأخيرة

09 تشرين الأول 2018
هل كان "عليّ" ضحية القدر أم ضحية أفعاله في جيش النظام السوري أم ضحية الاستبداد أم مجرد ضحية من ضحايا الحرب اللعينة التي طالت السوريين دون تمييز؟ لا يهتم أبا...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد