مقدمة
يُعدّ سامر الزيات من أهم المصوّرين التلفزيونيين السوريين خلال فترة التسعينات وحتى العام ٢٠١٤. ارتبط باسمه كمدير تصوير بالعديد من الأعمال التلفزيونية التي شكّلت ذاكرة أجيال كاملة داخل سوريا وخارجها. حاول من خلال مهنته انتزاع الاعتراف بمكانة التقنيين العاملين في الانتاجات التلفزيونية، ولفت النظر إلى دورهم الأساسي في تلك الأعمال إلى جانب الفريق الإبداعي من كتّاب ومخرجين وممثلين. تكمن أهمية البحث في التجربة المهنية الغنية للزيات في إتاحتها الفرصة لفهم طبيعة الطفرة في صناعة التلفزيون في سوريا منذ عقد التسعينات وحتى اليوم . تلك الصناعة التي اتخذت من تقاليد صناعة السينما هاديًا لها، ومرشدًا فنيًا وتقنيًا.
يتمحور الحديث مع الزيات حول تجربته المهنية والإنسانية، وعن كواليس الدراما السورية منذ مرحلة التشكّل الأولى، وصولًا إلى مرحلة التألق والمنافسة على الصعيد العربي. دور الفنيين في تشكيل تلك الصناعة، والمفاهيم الفنية والتقنية التي أفرزتها الممارسات المهنية في هذا المجال خلال العقود الثلاثة الماضية. إلى جانب الحديث عن علاقة الإنتاج التلفزيوني وتطوّره بالسلطة ورأس المال في بلد مثل سوريا، انتهاءًا بانطلاق الثورة السورية وتغيير المعادلات على صعيد صناعة التلفزيون. نتوقف معه على نحو خاص عند تجربته الطويلة مع المخرج حاتم علي، وما الذي جعل حاتم مخرجًا متفرّدًا، والقطيعة الفنية بينهما لفترة، التي تسبّب بها آخرون، ثم عودتهما للتواصل الفني والإنساني في النهاية. يسرد سامر في الجزئين القادمين من المقابلة، التي ستنشرها حكاية ما انحكت تباعًا، الأجواء في الوسط الفني مع اندلاع الثورة، واضطراره لمغادرة سوريا.
سامر الزيات، مخرج ومصوّر ومدير تصوير تلفزيوني سوري من مواليد دمشق في أيلول العام ١٩٧٢. بدأ رحلته المهنية كمصوّر صحفي عبر وكالة محلية خاصة سورية تزوّد وكالات الأنباء العالمية بالأخبار. بدأ الزيات العمل في الدراما التلفزيونية منذ العام ١٩٩٧ وعمل مع ألمع مخرجي الدراما التلفزيونية السورية، على رأسهم، حاتم علي ونبيل المالح والليث حجو، وغيرهم من المخرجين. أنجز خلال مسيرته المهنية أيقونات في العمل التلفزيوني الدرامي مثل "الزير سالم" و"ربيع قرطبة" و"التغريبة الفلسطينية" و"أحلام كبيرة" و"الفصول الأربعة" بجزئيه. كما صوّر العديد من الأفلام الوثائقية، والفيديو كليب.
أُجري الحوار في الثامن عشر من أكتوبر ٢٠٢٤
إياس: لحظة تعارفنا في دمشق، سنوات قبل العام ٢٠١١، كُنتَ من المصوّرين الأكثر انشغالًا في مجال الدراما التلفزيونية، مما جعل وقتك الشخصي محدودًا للغاية. حين التقينا كنت أعرف بأنني ألتقي بأحد أهم المصوّرين في سوق الإنتاج الدرامي التلفزيوني، في فترة ازدهار الدراما السورية في العالم العربي. من خلال ذلك الاحتكاك أدركت بأني أتعامل مع شخص شديد التواضع والاعتداد بنفسه، مهني على أعلى مستوى. إلى جانب الكرم المعرفي، فأنت تشارك كلّ ما تعرفه كمهني محترف مع أيّ مهتم بمجال اختصاصك، في وقت كان فيه الوصول إلى المعلومة التقنية شديد الصعوبة، خاصةً في المجالات التقنية الحديثة، والمرتبطة بتقنيات التصوير بالكاميرات الرقمية المعاصر.
بالنسبة لي، كباحث في تاريخ صناعة السمع بصري في سوريا، وفي سينما المؤلف، وبعد اللقاءات التي أجريتها مع مجموعة من الفاعلين في هذا المجال بات من الضروري فتح ملف الدراما التلفزيونية في سوريا، التي تطوّرت بشكل كبير على حساب تطوّر صناعة السينما والمسرح، فالظروف التي توفّرت لصناعة المسلسلات لم تتوفّر لأيّ صناعة أخرى، كما أنّ المؤسسين لتلك الصناعة هم ممن درس السينما في مدارس الاتحاد السوفيتي وألمانيا الشرقية، واتجهوا لصناعة الدراما التلفزيونية كتعويض عن غياب صناعة السينما.
سمعت الأستاذ جمال سليمان في بودكاست يقول إنه في منتصف الثمانينات تحدّث حافظ الأسد إلى وزير إعلامه الجديد حينها الدكتور محمد سلمان حول حقيقة أن التلفزيون السوري لا شيء سورياً يُعرض عليه. يبدأ البث وينتهي بـ النشيد العربي السوري، ثم تبدأ التلاوة المباركة للقرآن الكريم بصوت القارئ عبد الباسط عبد الصمد، ثم برامج ومسلسلات أغلبها من الإنتاج المصري. كانت توجيهات حافظ الأسد تتركز على دعم المحتوى السوري في برامج التلفزيون. اجتمع الدكتور محمد سلمان مع مجموعة من أهم المخرجين حينها (علاء الدين كوكش، وغسان جبري، ورياض دياربكرلي، وهيثم حقي، ومأمون البني، وفردوس أتاسي) وبحث معهم كيفية دعم الانتاج الدرامي التلفزيوني في سوريا. أكّد المخرجون للوزير أنّ النظام البيروقراطي في سوريا لا يدعم مثل هذه الصناعة، فعقد الدكتور محمد سلمان اتفاقًا معهم مفاده أن يقدّم التلفزيون كلّ المتطلبات التقنية اللازمة لإنتاج الأعمال التي يرغبون بإنتاجها، مقابل أن يُمنح التلفزيون حق عرض تلك الأعمال، لتبدأ بذلك مسيرة الإنتاج الدرامي التلفزيوني الخاص. تزامن ذلك مع بداية البث الفضائي العربي وظهور مؤسسات إعلامية عربية كبيرة كمؤسسة أوربت، واي ار تي والتي ساهمت برأس المال، إلى جانب مصادر تمويل خليجية أخرى. كل ذلك ما كان ليتم دون توجيهات الرئيس.
سامر: في العام ٢٠٠٤ كنت أعمل مع قصي خولي على مشروع لدعم الروح الوطنية من خلال حملة إعلانية بعنوان "بصمة وطن". قدّمنا المشروع للتلفزيون السوري، وبعد عدد من الاجتماعات التي حضرتها مع قصي لمناقشة المشروع مع إدارة التلفزيون، طٌلب من قصي مقابلة وزير الإعلام، الذي طلب بدوره من قصي وضع قائمة بأسماء فنيين وممثلين من فئة الشباب، من العاملين في الدراما التلفزيونية حصراً، لمقابلة رئيس الوزراء السوري محمد الحلبي. كان هدف رئيس الوزراء من هذا الاجتماع مناقشة السبل التي يمكن من خلالها دعم الدراما التلفزيونية السورية، والتي كانت في أوج تألقها وشهرتها العربية، وعن الكيفية التي يمكن لقطاعات الدولة الأخرى أن تستفيد بها من ازدهار تلك الصناعة. كان حاضراً في الاجتماع الذي عقد في بيت رئيس مجلس الوزراء، عن المنتجين أديب خير، وعن المخرجين الليث حجو، والمثنى صبح، وسامر برقاوي، وعن الممثلين باسم ياخور، ونضال سيجري، وعبد المنعم عمايري، وفادي صبيح، ومصطفى الخاني، وعن الفنيين أنا، وإياد شهاب المونتير وتقني صورة، والموسيقي طاهر ماملي. دام الاجتماع لأكثر من أربع ساعات من النقاش. تصادف أن يكون مكان جلوسي على طاولة الطعام قريباً من رئيس الوزراء، وبعد مرور وقت من الحديث، نظر نحوي ثم قال: الأستاذ لم يدل بأي رأي حول ما نناقشه؟! فكان جوابي أن الشباب قد غطوا كلّ جوانب الموضوع. كنت أعلم أنه لا فائدة من إبداء الرأي، والنتيجة كانت تلاشي النقاش من زاوية المصلحة العامة ليصبح الأمر متعلّق برغبات شخصية انتهازية لأربعة أشخاص فقط من الحاضرين، لا أريد ذكر أسمائهم.
من وجهة نظري، إنّ كلّ المبادرات التي قامت بها الحكومة السورية سابقاً في الثمانينات زمن حافظ الأسد، أو لاحقاً زمن بشار الأسد، هي مبادرات عقيمة، ولا تجذب غير الانتهازيين. تلتقي بمسؤولي الدولة لنقاش مثل هذه المبادرات لتكتشف أنهم لا يفقهون شيئاً عن موضوع النقاش. الدراما التلفزيونية بالنسبة لهذه النماذج لا تتجاوز صورة "باب الحارة والعكيد أبو شهاب" وغيرها من النماذج النمطية السائدة للدراما التلفزيونية السورية في مخيّلة المتلقي الحكومي السطحي. لا يفقهون شيء في صناعة الدراما، ولا قيم هذه الصناعة وتقاليدها. لا قدرة لديهم على سبيل المثال على تحليل أسباب تفوّق الدراما المصرية علينا في بعض النواحي، أو التساؤل عن الذي تتفوّق به صناعة التلفزيون في سوريا، وما جعلها تتربّع على عرش الإنتاج التلفزيوني العربي لعقدين من الزمن؟! الدولة تفكر في المحلي في حين أننا كنا قد بدأنا التفكير بالعالمية، بعد التفوّق على الصعيد العربي.
إياس: هذا ما يجعل الحوار معك شديد الأهمية لهدف تفكيك تلك العلاقة الجدلية بين السلطة وصناعة السمعي بصري في بلد مثل سوريا، لفهم كيف تطوّرت تلك الصناعة خلال عقد التسعينات وصولاً إلى تحقيق أقصى درجات النجاح من خلال جيل من الفنانين والفنيين الطموحين. حدثني عن نشأتك، عن الحارة، وعن الصور المطبوعة في ذاكرتك عن ذلك الزمان، عن تشكّل الوعي لديك. كيف بتّ مهتمًا بصناعة الصورة.
سامر: لأكن صريحًا معك، لا أعتقد بأن هذا التوقيت هو الأفضل لإجراء هذا الحوار، لعدّة أسباب، أهمها ما يحدث اليوم في منطقتنا من صراع مرير، نحن نتحاور في الوقت الذي تُباد فيه غزة ولبنان، وقد تتعرّض دمشق للقصف أو الاجتياح من قبل الجيش الإسرائيلي في أيّ لحظة. إنه من المؤلم أن أحدّثك عن حارات الطفولة وهي تحت التهديد بالإزالة. الحديث عن الشام يفجّر الدموع.
إياس: إنها معركة سرديات، وما نقوله في هذا الحوار هو حقّنا المشروع في الدفاع عن ذاكرتنا، وحقنا في كتابة السردية الخاصة بنا، التي تعبّر عنا بشكل فكري، معرفي، وعاطفي.
سامر: سوف أقسم حياتي إلى ثلاثة أجزاء رئيسية، الأولى هي حياتي قبل أن أصبح مصوّراً، ثم بدايتي عند جورج صليبا، ثم الانتقال إلى عالم الدراما التلفزيونية.
إياس: فلنبدأ بالجزء الأول، حياتك قبل التعرّف إلى جورج صليبا.
سامر: أنا سامر الزيات، سوري، عربي، دمشقي، من بيئة سنية… ولدت في حي العمارة… والشام بالنسبة لي، ليست فقط مكاناً ولدت فيه. عائلة الزيات عائلة دمشقية صغيرة، وهناك العديد من العائلات التي تحمل نفس الكنية (الزيات) تنتمي لمناطق ومذاهب وديانات مختلفة وهم غير مرتبطين، لذا انتميتُ لأخوالي آل شيخ البساتنة، الذين يستطيعون الرجوع في أصول العائلة إلى أربعمائة عام. قضيت السنوات الستة الأولى من عمري في بيت جدي لأمي في العمارة. كان يجتمع في بيت جدي كلّ خميس أكثر من خمسين فرد.
إياس: الأبناء والأحفاد؟
سامر: جزء من الأبناء والأحفاد… العدد الكلي يقدر بـ ١٢٠ فرد هم أخوال، وخالات، وأبناء أخوال وخالات مباشرين وبالرضاع. هذا ما كانت عليه حياتي حينها. نزهات دورية مع العائلة… وصوت الدربكة. في تلك الأجواء نشأت.
إياس: ما الميزة في نمط الحياة ذاك؟ كما تعلم فإنّ الدراما التلفزيونية ساهمت في تشويه نمط حياة الدمشقيين وبالتالي تشويه ثقافة المدينة العريقة، لحساب تصدير صورة نمطية، وسطحية عن تلك الحياة، والأمثلة على تلك الأعمال كثيرة.
سامر: سوف أختصر الأمر بالقول إنّ ما عشته كان حياة حقيقية. ما ميّز تلك المدينة وأهلها صدقهم، وقدرتهم على الحبّ، وتحليهم بأخلاق رفيعة. غلاف رقيق من الحبّ يلفّ حياة تلك البيئةَ وأَهَلَها، وسوف لن تجد ذلك النوع من الحبّ إلا في مثل تلك البيئةِ. مكانان أغصّ لهما كلما عبرا خيالي، قبر أمي، وبيت جدي الواقع في حي العمارة برانية، بين شارع الملك فيصل وحي القزازين، بيت عربي أفرنجي مكوّن من ثلاثة طوابق يسكنه اليوم اثنين فقط من أخوالي، واحد منهم والد وائل شيخ البساتنة المنتج التلفزيوني. لا شيء آخر يفجّر الحنين في صدري إلى دمشق كمثل هذين المكانين. ومن بعدهما تبدأ الأماكن الأخرى، كقاسيون، ومقهى الروضة…إلخ. رائحة بيت جدي لا تفارق خيالي حتى هذه اللحظة.
عشت حياة الحارة في العمارة حتى السادسة، ثم انتقل والدي إلى حي ركن الدين الذي لا تختلف أجوائه عن أجواء الحارات الدمشقية. في الأصل عدد كبير من سكان حي ركن الدين وغيرها من الأحياء الحديثة كانوا من الدمشقيين ممن خرجوا نحو تلك الأحياء المحيطة بالبلدة القديمة، ومعهم انتقلت سبل عيشهم.
إياس: ما مهنة والدك؟
سامر: كان والدي موظّفاً حكومياً، رئيس قسم التصفية والصرف في وزارة الدفاع. في مراهقتي، كثيراً ما كان يصحبني أبي معه إلى عمله، وهناك انتبهت أنّ والدي يعمل بأرقام، وميزانيات ضخمة تُقدّر بمليارات الليرات السورية في زمن كان فيه الدولار الواحد يساوي ٤٥ ل.س، كلّ الأعمال المتعلّقة بمؤسسة الإنشاءات العسكرية في كلّ أرجاء الوطن السوري من أنفاق، وجسور، كلّ أنواع الأبنية السكنية، مشروع دمر على سبيل المثال كان واحد من تلك المشاريع التي نفذتها المؤسسة التابعة لوزارة الدفاع. والدي من كان يوافق على تلك الميزانيات الضخمة، ولو أنه أخذ لجيبه الخاص فقط تلك الأجزاء العشرية لتلك الأرقام الكبيرة كنا عشنا في عالم آخر. لكنه رحمه الله ظّل مديوناً حتى وفاته. ولم يملك غير بيت ركن الدين الذي اشتراه بقرض من البنك وظلّ يسدّد في أقساط الشقة لأكثر من عشرين عام.
إياس: كما هو الحال في الدراما التلفزيونية، مثال للموظّف المخلص نظيف اليد، عفيف اللسان.
سامر: تماماً، هذا هو النمط.
إياس: حدثني عن طموحات وآمال الطفولة.
سامر: عشقت اللغة الإنجليزية مذ كنت طفلاً، وأردت دراستها في الجامعة ولا شيء آخر. كنت في الرابعة عشرة من عمري عندما كنت أعلّم أخي المستوى السادس للمنهج المعتمد للغة الإنجليزية في معهد دار الألسن حين كان طالباً هناك. كنت الطفل المدلّل في عائلتي، وكانوا يعتبرونني المعجزة، تكلمت ومشيت في عمر مبكّر. قرأت الجريدة الرسمية في عمر السادسة. دُهش أحد أخوالي عندما رآني في المنزل منغمس في قراءة الجريدة، فاشترى لي من لبنان مجموعة قصص المكتبة الخضراء للأطفال، مجموعة من القصص العالمية المصوّرة. لكن تحقيق الحلم لم يكن هيّناً. تقدّمت لامتحان البكالوريا ثلاث مرات. في المرّة الأولى اعتقدت أني راسب بكلّ الأحوال فلم أستعد جيّداً لامتحان اللغة العربية فرسبت، لكن على الرغم من رسوبي حصلت على علامة عالية في اللغة الإنجليزية ٢٩ متجاوزاً بذلك علامة الاختصاص لدراسة اللغة الإنجليزية ٣٠/٢٧ . في المرّة الثانية كذلك رسبت، وكان رسوبي بسبب ظروف خاصة قاهرة، لكني أيضًا حصلت على علامة عالية في الإنجليزية ٢٨. في السنة الثالثة حدثت فضيحة كبيرة حيث تسرّبت أسئلة بعض الامتحان، فكانت نسب النجاح عالية، فقامت وزارة التربية بإعادة التصحيح ثلاث مرات لأنجح أخيراً لكني في هذه المرة حصلت في اللغة الإنكليزية على ٢٦ علامة. علامة واحدة أقل من علامة الاختصاص ٢٧. فكان قراري التوقّف عن الدراسة والتوجّه إلى سوق العمل.
كلّ المبادرات التي قامت بها الحكومة السورية سابقاً في الثمانينات زمن حافظ الأسد، أو لاحقاً زمن بشار الأسد، هي مبادرات عقيمة، ولا تجذب غير الانتهازيين.
أخي من أمي مهندس ديكور داخلي يعيش في الكويت، وعن طريقه حصلت على عمل مع صديق له متعهد إكساء، وديكورات. ذهبت لمقابلة الرجل الذي أخذني بدوره إلى شقة في طور الإكساء. كان واضحاً أنهم أنهوا ديكورات الشقة، ومرحلة طلاء الأساس، والجدران تنتظر الآن المرحلة الأخيرة من الطلاء. سألني إذا ما كنت أملك خبرة سابقة في طلاء البيوت، جوابي كان نافيًا. فأخذ يعلمني الأمور الأساسية وبحالة من الاستسهال، نحضّر الطلاء ونخلطه بالنفط أو التنر بمقدار ثلثين لثلث، نمزج الخليط، وبذلك نحصل على الطلاء المطلوب، ثم طلب إليّ حمل فرشاة الطلاء التي كانت كبيرة الحجم بالنسبة إلى حجم جسدي الصغير، وطلب مني طلاء جزء صغير من أحد الجدران تحت مراقبته، كان راضياً عن النتيجة، فطلب مني القيام بنفس الخطوات لطلاء جميع جدران المنزل، ثم غادر، وغاب لأسبوع كامل. خلال ذلك الوقت، كنت أذهب إلى العمل كلّ صباح بصحبة مسجّل الكاسيت الصغير الخاص بي، مع الشرائط الموسيقية التي أفضّل، لأخلق لنفسي مزاجاً في العمل يمتّعني. عاد صاحب العمل بعد أسبوع، ثم عاين الجدران، وامتدح مستوى إنجازي للمهمّة. سألني، هل تجيد حفّ الأبواب؟ فكان جوابي نافيًا. فبدأ بتعليمي خطوات حفّ وطلاء الأبواب بمراحلها الأكثر تعقيداً من مهمة طلاء الجدران. غادر بعدها ليتركني أسبوعاً ثانٍ مع أربعة عشرة باباً تحتاج كلها إلى عمل دقيق قام به شخص لا يملك أيّ خبرة سابقة في هذا المجال، لكني أنجزت العمل. أمي رحمها الله، وعلى الرغم من دلالها، وخوفها الشديد عليّ، إلا أنها كانت شديدة الحرص أن أمارس العمل الحرفي خلال فترة الصيف كي لا أعتاد الجلوس في المنزل. بدأتْ بذلك عندما بلغتُ الثانية عشرة. كنت أقضي الصيف في بيت جدي في العمارة، ومن هناك كنت أغادر مع البالغين في الصباح إلى عملي، وعند الخامسة يجب أن أكون قد عدت لبيت جدي، وفي حال تأخري سوف يطلقون بحقي بطاقات البحث الصارمة. كانت المهنة الأولى التي مارستها هي مهنة الخياطة. في نهاية شهور الصيف الثلاثة التي قضيّتها في ورشة الخياطة، وصلت إلى مستوى حرفي دفع معلمي في الورشة إلى تسليمي ماكينة الحبكة، وهي الماكينة الأصعب بين ماكينات الخياطين المحترفين. التفوّق في إنجاز العمل، هذا ما سوف يتبلور لاحقاً ليصبح قيمة أساسية في تكوين شخصيتي.
إياس: من أين اكتسبت تلك القيمة؟ المنافسة لإنجاز العمل بأفضل صيغة؟
سامر: من أبي وأخوالي. كما ذكرت لك، كان والدي رجلاً عصامياً. بدأ من تحت الصفر، تزوّج والدتي، ثم حصل على البكالوريا، ثم أتمّ دراسته، وحصل على وظيفة في الدولة، في الزمن الذي كان فيه الموظّف قيمة اجتماعية بذاته. أضف إلى أنه كان شاعراً، طبع دواوين شعرية، وكان يكتب بشكل دوري في مجلات أدبية.
إياس: ما اسم والدك؟
سامر: محمد هشام الزيات. كان صديقاً للشاعر محمد صبحي كناكري وكانا معاً جزءاً من مجموعة أكبر من المثقفين، والشعراء مثل محمد الماغوط، وغيره. كان والدي شديد الالتزام بعمله، وبالتفوّق في إنجاز ذلك العمل، مع الالتزام بالأمانة، والصدق، والتجنّب الواعي للكسب الحرام. البيئة التي نشأت بها مشبعة بتلك القيم الإنسانية الرفيعة، فانطبعت في داخلي كقيم نهائية.
إياس: إنّ تلك القيم التي انطبعت فيك من بيئتك، وتجربتك الشخصية، تتطابق مع ما وصف به أهل دمشق تاريخياً من صدق في التعامل، ومستواهم الحرفي العالي في إنجاز الأعمال على اختلافها، والتنافس فيما بينهم على الجودة في العمل في إطار اجتماعي تكافلي. الموصوفين بالذكاء إلى حدّ المكر، وبالرفاعة في السلوك، والعادات الاجتماعية.
سامر: أتفق معك. دمشق هي الكلمة الطيّبة، حسن المعشر، الضمير الحيّ، وتقانة الصنعة. الدمشقي يعطيك بضاعةً تعيدكَ إليه، هذا هو المبدأ التجاري عند أهل الشام، وعليه يمكننا القياس.
إياس: بعد كل ما قمت به من أعمال حرفية، كيف انتهى بك المطاف للعمل لدى جورج صليبا؟
سامر: بالصدفة البحتة، في بداية التسعينات بدأت الشعور بأنّ الأعمال التي كنت أقوم بها ليست ما أريد أن أمارسه لبقية عمري. أعمال شاقة ذات مستقبل غير واضح. بدأت الشعور أنّ الأبواب المشرعة مغلقة في وجهي. طلبت من أخي في الكويت أن يؤمّن لي عقد عمل هناك بأيّة ظروف. وفعلاً، تلقيت عقد عمل من الكويت، وبدأت بتجهيز أوراقي للسفر. لم يرتح والداي لفكرة سفري أنا المدلّل عندهما، فطلبا من خالي أن يجد لي عمل يبقيني في دمشق. كان خالي صديقاً لـ جورج صليبا، وكثيراً ما سمعت جورج لاحقاً يردّد: أن لخالي فضلٌ عليه. كان جورج يصوّر الأعراس والمناسبات في بداياته. ثم انتقل إلى صناعة الأخبار، والعمل الصحفي التلفزيوني بتشجيع من خالي.
إياس: من هو خالك؟
سامر: خالي المتقاعد حالياً هو خالد شيخ البساتنة (أبو سليمان)، كان ضابطاً في الجمارك، وكان يمتلك شبكة واسعة من المعارف في أجهزة الدولة أعطته قدرة، وسلطة. كما نقول بالعامية "كان بفك مشنوق". كان جورج واحدًا من معارف خالي فطلب منه أن يجد لي عمل لديه. وفعلاً، أبلغ خالي أبو سليمان، أمي أن تبلغني أن أنزلَ إلى فندق الشيراتون في يوم وساعة محدّدة لمقابلة جورج في مكتبه. بلغني الأمر، وكانت فكرة الدخول إلى فندق الشيراتون ذو السبعة نجوم، فكرة مثيرة للحماسة، إنه مكان لا نراه إلا في الأفلام. ذهبت لمقابلة جورج في الموعد المحدّد. دخلت الفندق بدهشة كبيرة، راقبت تفاصيل الديكورات الداخلية الخشبية الفاخرة، رائحة الموكيت تعبق في المكان. كان جورج في مكتبه بصحبة مذيعة اللغة الفرنسية في القناة الثانية الرسمية سلوى صبري. كانا يعملان على مونتاج تقرير إخباري لوكالة إخبارية دولية هي العميل الرئيسي لديه (WTN- Worldwide Television News). بعد أن استقبلني بطريقة لائقة، طلب إليَ الجلوس حتى ينتهي من التقرير، وحين فرغ من ذلك، التفت إليّ وسألني عن مستواي باللغة الإنجليزية؟ فأجبته بأني أمتلك مستوى جيّد. ابتسم غير مقتنع وقال لي: أعتبر نفسك ومن هذه اللحظة تعمل لدي، لكن العمل الذي سوف أطلبه منك في المرحلة الأولى هو اتباع دورة في اللغة الإنجليزية وعلى حسابي.
في المرحلة المبكّرة لعمل جورج الصحفي لم يكن هناك طلب كبير على صناعة التقارير لحساب وكالات الأنباء العالمية من سوريا. الـ WTN كانت الوكالة الوحيدة التي يعمل جورج لصالحها، وتلك الوكالة لا تطلب أكثر من تقرير أو إثنين في السنة من جورج. لكن عندما بدأت العمل، كان جورج في مرحلة توسعة نشاطه بعد أن ضم مجموعة MBC لزبائنه، ومن أجل ذلك أخذ مكتب في منطقة المالكي ليكون المقرّ الجديد للشركة. فأراد جورج أن يرسلني لتعلّم اللغة الإنجليزية، وبالتزامن مع ذلك ينتقلون إلى المكان الجديد كي أنضم إليهم لاحقاً، لكني لم أكن أعلم بكلّ ذلك، هو لم يحدثني بكلّ تلك التفاصيل. غادرت المكتب الصغير في فندق الشيراتون وأنا غير مقتنع بتعاقد العمل ذاك، قلت لأمي، لا يبدو أنّ هناك فرصة حقيقية للعمل مع جورج، وبأني مصر على السفر إلى الكويت. أخبرت أمي خالي عن الذي حدث. اتصل خالي بجورج مستفسراً، فأجابه بالذي كان، فعاتبه خالي مفسّراً له حقيقة أني أمتلك مستوى متقدّم باللغة الإنكليزية، ولست بحاجة لدورات إضافية، كما شرح له كيف أني عدت لفكرة السفر بعد خيبة الأمل باللقاء. طلبت مني العائلة العودة لمقابلة جورج. فعلاً عدت إلى مكتبه في فندق الشيراتون، لأصاب بالدهشة مجدّداً بفخامة المكان. كان جورج يجلس وحيداً في مكتبه يتابع قناة الـ CNN، القناة التي لاحظت بعد أن عملت لديه أنه يتابعها دائماً، وعلى مدار الساعة. رحب بي وطلب إليّ الجلوس. ثم تابعت معه تقريرًا كان عن سفينة شحن غارقة في مكان ما، انتهى التقرير فالتفت جورج إلى وسألني: شو فهمت من التقرير الذي كنا نتابعه؟ فأجبته، أتريدني أن أشرحه لك بالعربية أم بالإنجليزية؟ سُعِد جورج بالجواب الواثق، ثم طلب مني مباشرة العمل معه في المكتب الذي لم يكن فيه أحد غيري أنا وجورج، بالإضافة للسكرتيرة، ومصوّر المكتب الذي كان يؤدي خدمته الإلزامية حينها، ولا يأتي إلى العمل إلا في أيام الخميس والجمعة.
إياس: الكثير من السوريين لا يعرفون المنتج والصحفي التلفزيوني السوري جورج صليبا، الرجل الذي أسّس وأدار أوّل وكالة أنباء سورية محلية خاصة، تقوم بتزويد وكالات أنباء عالمية ومحطات تلفزيونية بالأخبار عن سوريا والدول المجاورة، في فترة نهاية الثمانينات وحتى الألفية الثانية. دعنا نوثق بشكل أوضح لهذه الشخصية المهمة، من هو جورج صليبا، ومن أين بدأ؟
سامر: سافر جورج لدراسة الطب في فرنسا، وخلال عامه الأوّل، عمل جورج كـ متعهِّد حفلات هناك. كان العمل الجديد مجزيًا، فترك جورج الدراسة ليبدأ بتعهّد الحفلات في باريس، ثم عاد إلى دمشق في اللحظة التي كانوا يفتتحون بها فندق الميريديان عام ١٩٧٩ فعمل لديهم في الاستقبال. من خلال هذا العمل، تمكّن جورج من جمع مبلغ لا بأس به بالعملة الصعبة مكّنه من افتتاح محل لأشرطة الفيديو باسم "فيديو جانيت" في الغساني. كان ذلك المحل هو الثالث من نوعه لتأجير وبيع أشرطة الفيديو في عموم سوريا، ومن هذا المشروع قطف جورج مكاسب كبيرة. في الطفولة المتأخّرة ومرحلة المراهقة كنت أقضي عطلة نهاية الأسبوع في بيت جدي، كان دائماً ما يرسلني خالي أبو سليمان يوم الخميس إلى صديقه صاحب محل فيديو جانيت، لأعود في كلّ مرة بأكثر من عشرة أفلام هي الأحدث في سوق الفيديو المحلي من أفلام عربية، وأجنبية. لأقضي مع أخوالي ليلتي الخميس والجمعة في مشاهدة الأفلام.
إياس: تلك كانت العلاقة الأولى مع جورج؟
سامر: تلك كانت العلاقة الأولى مع الأفلام في الحقيقة، لكن جورج كان ورائها. لم أكن أعرف جورج حينها بشكل شخصي، وربما لم أره، ولكني عرفت كلّ تلك الارتباطات لاحقًا. كان جورج يترك شريكه في المحل، بينما ركّز هو على تقديم خدمات الفيديو للأعراس والاحتفالات. طبعًا أتحدّث عن أعراس نخبة المجتمع السوري السياسية، والعسكرية، والثقافية، المُقامة في الفنادق الفاخرة. كان لجورج الأسبقية في هذا المجال، وكان ينفذّه بمستوى عالٍ. في تلك الأثناء كانت شبكة الـ WTN قد انفصلت عن وكالة ABC News الأمريكية، وتحولت إلى وكالة أنباء عالمية تزوّد عدد من المحطات بالأخبار، ومنها BBC, CNN, Euronews. طبعاً صنعت تقارير لكلّ تلك المحطات وغيرها كثير خلال عملي مع جورج. كانت الوكالة تبحث عن شخص مؤهّل لإدارة مكتب الوكالة الإقليمي في دمشق. كانوا بحاجة لشخص يتحدّث لغات أجنبية، ولديه الخبرة التقنيّة والفنيّة للتعامل مع الكاميرات وسائط المونتاج. عرضوا العمل على جورج فقام بدوره بسؤال خالي عن رأيه! سأله خالي فيما إذا كان هذا العمل يتعارض مع توجهات الدولة السورية، كان جواب جورج بالنفي، فأخبره خالي أنه يجب أن يباشر هذا العمل لأن فيه فائدة عظيمة، وهذا ما كان. لتبدأ مرحلة جديدة في حياة جورج في مجال العمل الصحفي. بدأ من مكتب الشيراتون الصغير بكاميرا واحدة، وجزيرة مونتاج U-matic، وكان كلّما أراد صناعة تقرير يعتمد على مدير التصوير المعروف هشام المالح. بدأت العمل عند جورج في العام ١٩٩١ أو ١٩٩٢، وتصادف ذلك مع النقلة التقنية من نظام U-matic إلى نظام الـ Betacam SP. سبعة سنوات من العمل الصحفي مع جورج بدأت بـ ٣ أشخاص ووكالة واحدة، ليصل تطوّر العمل في المكتب عند مغادرتي في العام ١٩٩٨ إلى تزويد أكثر من ثلاثة عشر محطة إخبارية بالتقارير، نمتلك ستة جزر للمونتاج، وستة كاميرات، وأربعة سيارات، ومكتبين للإنتاج، وأكثر من ١٤ عاملاً بين مصوّرين ومراسلين صحفيين.
إياس: لقد بدأت العمل لدى جورج في مرحلة تطوير وتوسعة عمله الصحفي، في فترة تاريخية مهمة في المنطقة. كانت حرب الخليج الأولى (الحرب العراقية الإيرانية)، قد انتهت، كما تمكّن حافظ الأسد في تلك الفترة من عقد صفقة مع الأمريكيين مكنته من السيطرة بشكل نهائي على لبنان، الذي انتهت حربه الأهلية بعقد اتفاق الطائف العام ١٩٨٩. وفاة باسل الأسد، وظهور بشار الأسد على الساحة السياسية. البلد المنغلق بدا وكأنه في طريقه إلى الانفتاح بعد عقد كامل من الانغلاق.
سامر: الضربة الصحفية الكبرى لجورج، والتي ساهمت وبشكل كبير في تطوّر عمل مكتبه في دمشق كانت أزمة الرهائن الأمريكيين في لبنان، والتي انتهت في العام ١٩٩٢ لم يكن لدى وكالة WTN مكتباً إقليمياً في المنطقة غير جورج صليبا، فبات المكتب في دمشق مسؤولًا عن تغطية أحداث المنطقة، وهذا قد عاد بنفعٍ كبير، وسمعة مهنية مهمّة للمكتب والعاملين فيه. لم يكن في سوريا ذلك الوقت أيّ نوع من أنواع العمل الصحفي الخاص، كلّ شيء مرتبط بالصحافة كان حكومياً بالمطلق، وتمثله وكالة سانا، والصحف والمجلات الحكومية، إلى جانب الإذاعة والتلفزيون الحكومي السوري. كل تلك العوامل ساهمت في تطوّر عمل جورج الصحفي فبات وكيلاً صحفياً لـ قناة MBC، والجزيرة، ودبي، وأبو ظبي، والسعودية، ومصر، والكويت، إلى جانب القنوات التي تزودها WTN. كان جورج الأوّل في هذا المجال، ليتحوّل إلى أخطبوط الصحافة في سوريا. كنا نعمل على مدار الساعة. عند وفاة حافظ الأسد كنت قد بدأت العمل في الدراما كمصوّر، كنا حينها نصوّر مسلسلاً مع حاتم علي بعنوان (عائلتي وأنا) في العام 2000 أوقفنا التصوير حدادًا، لكني عسكرت مع جورج والعاملين في مكتبه لتغطية حدث بهذا الحجم. نمت في مكتب جورج ثلاثة أيام من أجل تلك التغطيّة مع المنتج وابن خالي وائل شيخ البساتنة. نظرًا إلى سمعة جورج الكبيرة في الصحافة السورية، كانت الكاميرا التابعة لمكتبه هي الكاميرا الوحيدة المسموح لها بالتجوّل في الأماكن المحظورة، طبعًا كان يرافقنا أحد رجال الأمن، لكن مساحة حركتنا كانت أكبر قليلًا من حركة المراسلين الآخرين. كما تعلم، عندما يدخل الصحفيون إلى القصر الجمهوري أو أحد الوزارات أو مواقع أمنية، فإنّ المصورين الصحفيين ملزمين بأماكن محددة وفيها يستطيعون تشغيل كاميراتهم. في جنازة حافظ الأسد كانت الكاميرا التي أحملها هي الكاميرا الوحيدة القادرة على التجوّل حول مشفى الشامي التي كانت فيها جثة حافظ الأسد، وحول القصر الجمهوري في حي المالكي بدمشق. وهناك شهدت بنفسي على اعتلاء عناصر الحرس الجمهوري لأسطح الأبنية حول المشفى، مسلّحين بالقناصات وقاذفات الآر بي جي .
إياس: سوف نتحدّث أكثر لاحقًا عن مغامراتك الصحفية، لكني أرغب أولًا في معرفة المهام الأولى التي كنت تقوم بها في بداية عملك، وكيف تطوّرت تلك المهام لتعمل لاحقًا كمساعد مصوّر، ثم مصوّر لدى جورج؟ وما هي الأسماء التي عملت معها من المصوّرين السوريين؟
سامر: كنت أقضي معظم الوقت في بداية عملي في المكتب وحيدًا بصحبة جورج، والمهام الأولى كانت تنحصر بعمل البوفيه، تقديم الشاي والقهوة لكلينا. كان هناك شاب يأتي إلى العمل يوم الخميس والجمعة (ممتاز بالوع) مصوّر المكتب، والمراسلة التي كانت تأتي حال تسجيلنا تقريرًا ما. كان جورج أيضًا يقضي معظم وقته في المكتب مرتديًا بيجامة منزلية، فهي أكثر راحة. كان يملك خزانة ملابس في المكتب تحوي كلّ ما يحتاجه من ملابس أنيقة في حال أراد مقابلة شخص ما، من خارج المكتب. كان يغادر إلى منزله مرّة واحدة في الأسبوع. بات نمط حياتي مرتبطًا بشكل كبير بنمط جورج، كنت أحيانًا أدخل المكتب يوم الأحد لأغادره يوم الأربعاء. صحيح أنه لم يكن هناك الكثير لعمله في تلك الفترة، لكن في أوقات الاستنفار لإنجاز عمل ما، كنا نقضي معظم الوقت في المكتب.
الدراما التلفزيونية بالنسبة لهذه النماذج لا تتجاوز صورة "باب الحارة والعكيد أبو شهاب" وغيرها من النماذج النمطية السائدة للدراما التلفزيونية السورية في مخيّلة المتلقي الحكومي السطحي. لا يفقهون شيء في صناعة الدراما، ولا قيم هذه الصناعة وتقاليدها.
إياس: ما المهام التي كنت مطلوبة منك في بداية عملك؟
سامر: أخبرني جورج عندما بدأت العمل لديه أنه سيعلمني تقنيات المونتاج الإلكتروني على الأجهزة التي كانت لديه، والتي كانت الأحدث في ذلك الوقت، وبعد المونتاج سوف يعلّمني استخدام الكاميرا كي أرافقه في رحلات صحفية إلى دول أخرى. كان يسافر جورج لتغطية أحداث في السودان، وليبيا التي كانتا في صراع مع الولايات المتحدة. كما غطى أحداث العشرية السوداء في الجزائر.
في السنة الأولى عملت كمساعد مصوّر مع الشاب الذي كان يؤدي خدمته الإلزامية حينها (ممتاز بالوع) والذي كان مصوّر المكتب الرئيسي. كانت الكاميرا التي نعمل عليها من نوع Sony betacam sp 400.
سوف أسرد عليك الحدث الذي نقلني من موقعي كمساعد مصوّر مبتدئ، إلى المصوّر الرئيسي للشركة. أتصل جورج ببيت أهلي يسألني إذا كنت مستعداً للذهاب في مهمة تصوير مستعجلة وهي تغطية أحداث مهرجان البادية الأوّل في مدينة تدمر. كان جورج يحتاج لأربعة تقارير مصوّرة. تقرير واحد لشبكة WTN، وهي العميل الرئيسي بالنسبة لجورج كما أسلفت، وكان يحرص أن يقدّم لها الجودة الأفضل بمستوى التقارير، ولأجل ذلك كان جورج يعتمد على ممتاز في تنفيذ العمل. أمّا التقارير الثلاثة المتبقية فكانت بمثابة تعاقد تجريبي مع تلفزيون الكويت، وبناء على جودة التقارير سوف تقرّر المحطة التعاون مع مكتب جورج كمزوّد صحفي من عدمه. سألني جورج: هل أنت جاهز لتكون مصوّر؟ أجبته بنعم. فإذ به يوكل إلي بمهمة تصوير التقارير الثلاثة الخاصة بتلفزيون الكويت، والتي كان يجب تصويرها كلّها في يوم واحد، في الوقت الذي حصل فيه تقرير الـ WTN على ثلاثة أيام للتصوير. مطلوب مني أنا مساعد الكاميرا المبتدئ تصوير ثلاثة تقارير مختلفة تغطي فعاليات متنوّعة لمناسبة واحدة، وفي يوم واحد. وممتاز، المصوّر الخبير لديه ثلاثة أيام لتحقيق تقرير واحد عن نفس الموضوع. أنجزت المهمة، وعدت بالتقارير الثلاثة إلى جورج الذي دُهِش بمستوى عملي. كان من تقاليد العمل في مكتبنا أن يجتمع كلّ العاملين من مراسلين، ومصوّرين في الصباح لتُوزّع عليهم المهام. في الاجتماع الصباحي الأوّل بعد تصويري التقارير الثلاثة في تدمر، أعلن جورج أني ومن تلك اللحظة سأكون المصوّر الأول في المكتب، وأيّ من المصوّرين يحتاج لدعم تقني أو فني فعليه أن يسألني أنا حصراً، وليس ممتاز، وفي حضوره. كان أجمل ما في العمل مع جورج أنه كان يطلب منا التجريب والتعلّم الدائم. كان يطلب منا التدرّب على جزيرة المونتاج والكاميرات دون القلق من إعطاب الأجهزة باهظة الثمن. كان كريماً بكلّ شيء، وكان يدعم ويعطي الفرص للأشخاص الذين يبحثون عنها. كان جورج أحياناً يؤجّر ثلاث كاميرات لثلاثة إنتاجات تلفزيونية مختلفة، وفي حال وقوع أيّ مشكلة مع المصوّر المصاحب للكاميرا الخاصة بجورج، كان يرسلني لحل تلك المشكلة والحلول مكان المصوّر القديم لإنهاء تصوير العمل، وبذلك أتيحت لي فرصة العمل مع أغلب الأعمال التلفزيونية، وأغلب شركات الإنتاج، ومعظم المخرجين في تلك الفترة.
أنا وكما كنت في طلاء جدران البيوت، أحاول دائماً أن أكون الأفضل فيما أفعل. خلال ذلك العام كنت قد عرفت كلّ شيء مرتبط بالكاميرات وجزيرة المونتاج. كنت أراقب عمل جورج بدقة، وأتمرّن بشغف. أضف إلى أنّ اللغة الإنجليزية ساعدتني كثيراً على قراءة كلّ الكتالوجات الخاصة بالأجهزة، وهذه أعطاني مصدرًا للمعرفة لم يكن متاحاً لأقراني حينها. على الرغم من ذلك الجو المحفّز على العمل، والإبداع، كان لابدّ أن تتوّلد حالة من الغيرة في بعض الأحيان نحو شغفي وتطوري السريع من قبل شباب المكتب من المصوّرين. ممتاز على سبيل المثال، لم يترك حيلة ولم يستخدمها للإيقاع بيني وبين جورج، وطبعًا لم ينجح لا هو ولا غيره على فعل ذلك. كان جورج يقول، وما يزال، أن لديه ولدين، إلياس صليبا، وسامر الزيات.
إياس: كلّ ذلك التطور في العمل، والعلاقة الوثيقة بجورج تبلورت بالشكل الذي ذكرته خلال السنة الأولى فقط؟
سامر: تمامًا، كما ذكرت لك… من نقطة التحوّل تلك، ومن المعرفة القريبة التي نشأت بيني وبين جورج. مراقبته اللصيقة لي ولما كنت أفعل. مباشرة بعد العودة من تدمر كلفني جورج بتصوير كلّ ما هو مرتبط بقناة MBC السعودية. التقارير السياسية، الثقافية، والرياضية. عملت في تلك الفترة مع المراسلة السياسية للمحطة في دمشق سناء الإمام، ومع محمد عبد الرحيم المراسل الرياضي، الذي تسلّم إدارة تلفزيون المشرق لاحقًا، ومع زوجته سهير الذهبي مراسلة الشؤون الاقتصادية. كان البرنامج الأشهر حينها، وعلى مدار سنوات لاحقة على قناة MBC برنامج "صباح الخير يا عرب"، كلّ التقارير، والرسائل المصوّرة التي عُرِضت في البرنامج عن سوريا، بكلّ المواضيع المتنوّعة التي حوتها بين العامين ١٩٩٢ - ١٩٩٧ تقريباً، كانت من تصويري. أضف إلى ذلك، غامر جورج بإرسالي مع الدكتور طالب عمران إلى الهند لتنفيذ سلسلة وثائقية، وكانت إنتاج جورج الخاص الأوّل، وعرض العمل على قناة الجزيرة التي كانت في سنواتها الأولى حينها. كما أني صنعت الكثير من التقارير للعديد من المحطات التلفزيونية عن فنانين سوريين كانوا لامعين حينها، كشأن تقرير عن سوزان نجم الدين، أعمالها وحياتها، ونجدت أسماعيل أنزور، حول مسلسله الذي كان يصوّره حينها، "الموت القادم إلى الشرق". قمت أنا بمونتاج هذا التقرير، وتلقى جورج بطاقة شكر على إثره من قناة الجزيرة.
مهنة المصوّر الصحفي التلفزيوني مهنة مرهقة وصعبة، وبالأخص لشخص صغير الحجم مثلي. في المؤتمرات والتغطيات الصحفية أنت مصوّر ضمن أربعين أو خمسين مراسل لمحطات تلفزيونية. يبدأون بالتدافع بشكل عنيف في الكثير من الحالات. لم أنخرط في هذا التدافع، كنت أعرف دائماً من أين أصوّر اللقطة التي أرغب بها، بشكل مسترخي، ومريح. كان جورج يحتفظ لنفسه، وبشكل حصري مونتاج التقارير السياسية لحساسيّتها. كان يستلم المواد من المصوّرين المختلفين لتحرير تقارير مختلفة إخبارية لمحطّات متعدّدة، وفي حال افتقد للقطة مهمة لإتمام تقرير عمل عليه مصوّر آخر، كان دائماً ما يرجع إلى الأشرطة التي صوّرتها أنا، متأكداً أنه سوف يعثر على ضالته عندي لإتمام ما يقوم به. هذا ما كان عليه الحال من الثقة المهنية القائمة بيني وبين جورج.
كان جورج مهتماً دائماً باستيراد معدات تقنية حديثة تصلح للعمل الصحفي، وصناعة الدراما التلفزيونية. انفتح سوق إنتاج الدراما الخاصة في سوريا في ذلك الأثناء، وبات السوق بحاجة لشركات تقدّم المعدات، والتقنيين المؤهلين لسوق الإنتاج، فكان جورج الأوّل في هذا المجال، كان يقدّم كل ما يتطلبه العمل الدرامي من معدات في مرحلة الإنتاج من إضاءة وكاميرات، وصولاً لعمليات ما بعد الإنتاج، من تحرير للصورة والصوت وصولاً إلى المنتج النهائي. الكاميرا الأولى التي اشتراها في العام ١٩٩١ وهي Sony betacam 90، صوّر بها مسلسل "ليل الخائفين" لهيثم حقي. وكان أول عمل درامي تلفزيوني أعمل به كمساعد مصوّر مع مدير التصوير عبد القادر شربجي، والمصور كان وليد كمال الدين.
سامر الزيات، فيلموغرافيا:
أعمال تلفزيونية درامية، ووثائقية:
مصور/ مدير تصوير/ مدير تصوير وإضاءة
- مدير التصوير، Comme un Soufe en Mai، الفيلم الوثائقي الفرنسي عن ثورة مايو 1968- إخراج تييري مينيسييه، عام ٢٠١٨.
- مدير تصوير مسرحية إيفجينيا في مسرح فولكسبونه ألمانيا إضاءة المسرح بشاشة (4*8)، (2017)
- تدريب الممثلة الرئيسية على التصوير المباشر طوال العرض (1.40 دقيقة) إخراج عمر أبو سعدة (2017).
- مدير التصوير الفوتوغرافي والفيديو الموسيقي من إخراج ديفيد بورشتاين (2016).
- مدير التصوير، Lignes de Partage، الفيلم الوثائقي الفرنسي عن اللاجئين في غرونوبل، فرنسا، إخراج تييري مينيسييه (2016).
مسلسلات:
- ضبو الشناتي، مسلسل للمخرج الليث حجو (2014).
- قلم حمرة - مسلسل للمخرج حاتم (2014).
- أهل الراية ج2، إخراج سيف الدين سبيعي (2010).
- الدوامة للمخرج المثنى صبح (2009). حاز جائزة أفضل تصوير في مهرجان الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون.
- بقعة ضوء ج6، إخراج سامر برقاوي (2009).
- ليس سرابًا، إخراج المثنى صبح (2008). حاز جائزة أفضل تصوير في مهرجان الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون.
- حارة الهوا، إخراج رافي وهبة (2007).
- على حافة الهاوية، إخراج المثنى صبح (2006). حاز جائزة أفضل مخرج في مهرجان ADONIA DRAMA 2007.
- على طول الأيام، إخراج حاتم علي (2005).
- ملوك الطوائف، إخراج حاتم علي (2005). الجائزة الذهبية لأحسن تصوير في مهرجان (ADONIA DRAMA)
- عصي الدمع 2005- إخراج حاتم علي (2005).
- التغريبة الفلسطينية، إخراج حاتم علي (2004). حاز الجائزة الفضية في مهرجان تلفزيون القاهرة الدولي 2005 والجائزة الذهبية في مهرجان تلفزيون البحرين الدولي 2005 والجائزة الذهبية في مهرجان تلفزيون تونس الدولي 2005 والجائزة الذهبية في مهرجان (ADONIA DRAMA) 2004.
- أحلام كبيرة، إخراج حاتم علي (2004).
- ربيع قرطبة، إخراج حاتم علي (2003). حاز الجائزة الذهبية في مهرجان تلفزيون تونس الدولي 2004 .
- عصام ورشا، إخراج : حسان داود (2003)
- صقر قريش، إخراج حاتم علي (2002). حاز على الجائزة الفضية في مهرجان تلفزيون القاهرة الدولي 2003.
- الفارس المغوار، إخراج رفيق حجار (2002).
- صلاح الدين الأيوبي، إخراج حاتم علي (2001)، حاز على الجائزة الفضية في مهرجان تلفزيون القاهرة الدولي 2002.
- الفصول الأربعة الجزء الثاني، إخراج حاتم علي (2001).
- الزير سالم، إخراج حاتم علي (كانون أول 2000). حاز على الجائزة الذهبية في مهرجان تلفزيون البحرين الدولي 2001، والجائزة الذهبية في مهرجان تلفزيون تونس الدولي 2001.
- عائلتي وأنا، إخراج حاتم علي (2000).
- الفصول الأربعة الجزء الأول، إخراج حاتم علي (1999). حاز على الجائزة الفضية في مهرجان تلفزيون البحرين الدولي 1999.
- سفر، إخراج حاتم علي (1998)، حاز على الجائزة الفضية في مهرجان تلفزيون القاهرة الدولي 1999.
- سري للغاية، إخراج نبيل المالح (حزيران 1998).
- مرايا 98، إخراج حاتم علي (1997). حاز على الجائزة الفضية في مهرجان تلفزيون القاهرة الدولي 1998.
- حالات، إخراج نبيل المالح (1996). حاز على الجائزة الذهبية لأحسن إضاءة في مهرجان تلفزيون القاهرة الدولي 1997والجائزة الذهبية لأحسن مخرج في مهرجان تلفزيون القاهرة الدولي 1997والجائزة الذهبية للمسلسلات الكوميدية في مهرجان تلفزيون القاهرة الدولي 1997.