تلك العواطف العنيفة، ما من اسمٍ آخر لها، ثارتْ زوابعها منذ لحظة خبر سقوط النظام هناك، في بلدي الذي طالما كان (هُناي) قبل خروجي منه، قبل سبع سنين وقليل، بالتأكيد غير مختارة. أي عقلٍ قد يصبّر قلباً شواه الشوق على الانتظار ليومٍ إضافيّ؟ ولم تصبح عاطفتي رحيمةً بي حين استقللتُ أول طائرةٍ ممكنةٍ من برلين إلى بيروت إلى (هناك)، ولا حين دخلتُ البلاد وتشرّبتُ بعينيّ وإحساسي هواءها وفضاءاتها وتربتها وبيوتها وناسها، ولم تتلعثم روحي طويلاً.. هنيهةُ وقتٍ وانتظم قلبي وعيناي وقدماي على أرضهم الأولى، كأنهم لم يفارقوها أبداً، هذي البلاد التي أصبحتُ وإياها شبيهتين في انقلاب أقدارنا في رمشة عينٍ من حضيض اليأس إلى بدء انكشاف الطريق.. كان استحقاقاً لا بدّ من مواجهته بين ذاتي ومكانها الأوّل، وقدرتها على الإصغاء إلى ما يقول وأنا ألاقيه ثقيلةً بشوقٍ يؤرّق روحي كذنبٍ غير مغفور..
سوريا... العودة ممكنة
عند نقطة الجديدة الحدودية، يُفاجئني انغلاق مبنى الجوازات، حاجز الرعب المقيمِ كوابيس ليليةً في منامات المنفيين. أي كرمٍ هذا يا بلاد العذابات المقيمة؟! كان يكفينا أن تلاقينا بـ: "أهلاً بأولادي.. ادخلوني آمنين". لكنه كرمٌ في غير مكانه، أن يعبر القادمون الحدود من دون تسجيل دخول، سواءٌ أكان الداخل ابن البلد أو أم زائراً أم ضيفاً رسمياً أم تاجر مخدرات أم مجرماً دولياً..
ظننتُ خلوّ نقطة الحدود من حرّاسها مقدّمةً لفوضى تعمّ البلاد بعد انقلاب مصيرها، ولم يصدق ظني. أمانٌ بادٍ رغم انقطاع الكهرباء. إنما وحشةٌ وعتمٌ دامسٌ على الطريق من الحدود حتى دمشق، ثم طريق دمشق السويداء، لا شيء سوى سياراتٍ عسكريةٍ جاثمة على جانبيه بدواليب معطوبة وزجاج محطّم، كأنها عدة جيشٍ عدوّ، في حين كانت تنتمي إلى القطعات العسكرية للجيش (الوطنيّ)، التي تدافَع إليها الناس بعد التحرير وشقوا خزانات الدبابات وملؤوا بيدونات المازوت بها كوقودٍ لمدافئ بيوتهم المهانة بالبرد طوال الشتاءات الماضية، وساروا بها طافحةً على الطريق والمازوت يشرشر منها ويجعل الطريق زلقاً، يضطرّ السائقين للسير عليه ببطءٍ وحذرٍ شديد، درءاً للحوادث..
فجأة قال السائق: رجاء أرجعي رأسك إلى الوراء.. وسار بأقصى سرعته والسيارة ترتجّ بنا وتميد. فيما بعد أخبرني أنه رأى مَن يلمّح له بضوء بيل، وهؤلاء مشلِّحون وسارقون استغلّوا غياب الحواجز ليهدّدوا المسافرين بالسلب أو القتل، لكننا نجونا.
نصل السويداء ليلاً.. أدخل مدينتي التي أظنني أحفظ ملامحها كمسرى أوردتي على ظهر يدي، آتيها بلهفتي وشوقي وتوقي وآمالي ورهبتي من لقائها.. مشاعر تتصارع في الصدر، وعقلٌ صاحٍ، إنما عاجزٌ عن فضّ اشتباكاتها..
دوار العنقود على حاله البلديّ في مدخل المدينة، لكن الدوار التالي (الباسل) المظليّ الذي ولّى عهد أبيه وأخيه أصبح اسمه (دوار الباشان)، استعاد انتماءه إلى المدينة ولم ينهدم الصرح العمراني المُشيّد في عهد البائدين. تكمل السيارة سيرها في العتمة وأستسلم لهذا الألم العميق البطيء والصاخب، شوقٌ وخوفٌ أكبر منه، هل سأدلّ السائق على المفرق الصحيح إلى حارتي ومفرق بيتي؟ وبيتي بدوره؛ هل سيعرفني بما صارت إليه ملامحي بعد طول فراق؟
كان استحقاقاً لا بدّ من مواجهته بين ذاتي ومكانها الأوّل، وقدرتها على الإصغاء إلى ما يقول وأنا ألاقيه ثقيلةً بشوقٍ يؤرّق روحي كذنبٍ غير مغفور..
أمام شقّتي، تعمشقتْ وردة الشيفليرة حتى غمرت مدخلها، تابعت تكبر في غيابي، فزوجي، الفارد ذراعيه الآن لي، لم يغفل عن سقايتها.. وفي غيابه تسقيها جارتي التي تلاقيني الآن بنشيد: ارفع راسك فوق..
باحتسابٍ ورهبةٍ أدخل، ولا يطلع لي سوى البكاء.. لا يزال شالي العسلي معلّقاً على الشماعة منذ ركنتُه قبل سبع سنين، كذلك فرشاة أسناني وفرشاة شعري التي تكسّرت أسنانها بمجرّد أن لامستُها. كان زوجي، بكلّ عناد، قد حرص على تركِ أشيائي كما هي وفي مكانها مهما طال غيابي، على وعد العودة يوماً ما. هي العائلة إذاً تمنح حياتنا وأشياءنا قوّة الحياة، وجيراننا كذلك. وحين نصونها فإنما نحن نصون حياتنا الشخصية!
أهمس لأغراض بيتي: سلاماً يا بردايات الشبابيك المتهالكة، والأثاث المهترئ، ومناشف المطبخ والحمام المتآكلة.. سلاما لصبرك وانتظارك، ولمن علّمكِ أنّ الانتظار وحده قدرةٌ على الحياة..
سريعاً إلى أهلي.. فائض التجاعيد على وجهي أبي وأمي كان مرآة تجاعيد نمت على وجهي أيضاً، كبرنا أسرع من مرور الزمن.. ضمّاني وقد أصبح في يد كلّ منهما عكاز، وحنانٍ يشتدّ اليوم أكثر من كلّ وقتٍ مضى.. وقبيلةٌ من أبناء أخوتي وأخواتي، بعضهم ولدوا وكبروا في غيابي ووسّع كلّ منهم لنفسه مكاناً، ستة ممن تركتهم بنات وصبياناً كبروا وصاروا على أبواب التخرّج من الجامعة من كلية الطب والمعلوماتية والعلاج النفسي والكلية الرياضية.. بريق عيونهم يعيد إلى عينيّ وإلى البلاد ضياءها..
أوّل مقصدٍ في الصباح التالي: ساحة الكرامة، يليق بها أن تكون محجّة. باستحياءٍ وصمتٍ اندخلتُ بين روّادها الذين أحيوها على مدار أكثر من سنة، ومنحوها اسمها كما منحتهم طاقة الصبر على موات البلاد إلى أن استعادوا حياتهم هم والبلاد معاً. عجبتُ من العائدين إلى أرضهم قبلي وبعدي، كيف لم يختاروا الدخول الصامت إكراماً لها، ومواجهة أنفسهم أولاً قبل مواجهة الجموع تحت أضواء الكاميرات.. فلا يواجه الإنسان ضميره إلا وحده، وفي الظلّ والسكون والتأمل.
الهنا والهناك .. الراحلون والباقون
24 نيسان 2024
أنا الخجلى من غيابي الطويل، اندسست خلسةً بين الناس فاستعدتُ صوتي وثقتي أنني أقف في مكاني الأوّل، ألفيتُ ذاكرتي تنتعش فجأةً بعد ترهّلٍ كان يشقيني، تمتلئ بكلّ ما كنت أفتقده في مغتربي، تستعيد أسماء الوجوه والتواريخ والمعالم التي ظننتني سأتعب في استذكارها، فجاءتني واضحةً بهيّةً جليّة.. نقاءُ هذا الهواء البلديّ دواءٌ لترهل الذاكرة، وماء هذه الأرض شفاءٌ لجروح الغربة، وأنفاس أهلي تعيد لي أماني. السرّ كلّ السرّ والسرور في سكان المكان، آلفه بأرضه وناسه منذ لحظاتي الأولى، كأنني لم أغب عنه سنيناً سرمدية. ابتسامهم حياة وأناقتهم المعتلية على تواضع واهتراء كسائهم صفعةٌ لكلّ إهاناتٍ حاولت النيل منهم وارتدّت على صانعيها..
قدتُ سيارتي في الليل، في العتمة الدامسة، في الحارات العتيقة، لا ضوء كهرباء ولا قناديل كاز.. أجول بين هذه الزواريب بدليل القلب، وأطمئنّ إلى أنني لا أخطئ في دخول المفارق، وهي بدورها لم تنسني فتمنحني نفسها.. أستمع إلى أغاني فهد بلان وأعي أنني أستمع دون بكاء، أو بشجنٍ قابلٍ للاحتمال.. هذه الأغاني التي طمست عينيّ بالدمع وأنا أُنصت إليها من برلين..
أعجز حتى عن التقاط صورة سيلفي والكتابة تحتها أنني صرتُ في بلدٍ يخنقني بحبّه، فما يجري على أرض واقعه أبعد ما يكون عن الوجوه الضاحكة في صور السيلفي على وسائل التواصل. أعتقد أن صاحب الصورة يلتقطها ليصدّق هو قبل غيره أنه عاد إلى مسقط رأسه وهواه، فيما تُكمّم ومضةُ الفلاش رهبة اللقاء بحبيبِ ساديٍّ خارجٍ من معارك أربعة عشر عاماً، ولم تنقشع معاركه بعد، تنتظره معارك ارتدادية سوف يطول الوقت قبل حسم نتائجها.. وتقرّعني أصوات معاركي الداخلية، شعوري بالعار والذنب معاً، أنا الناجية التي لم تعايش سنوات الضنك الأخيرة، أبحث عن نفسي في ملامح أصدقاء قدامى قد تغيّروا كما تغيّرتُ، دخل بيننا غباش اختلاف المعاناة والحاجات والرؤى والأهداف، وتحوّلت مفارقات الخارج والداخل، ما بين باقين في البلاد وهاربين منها، إلى معارك شخصية، كأن أقرب صديقٍ منا إلى الآخر هو أسباب مآسيه الشخصية..
كرمٌ في غير مكانه، أن يعبر القادمون الحدود من دون تسجيل دخول، سواءٌ أكان الداخل ابن البلد أو أم زائراً أم ضيفاً رسمياً أم تاجر مخدرات أم مجرماً دولياً..
لكنّ الحياة هنا على الأرض، في كلّ تفصيلٍ صغير وكبير، لا تشبه مثيلتها على فيسبوك. وسط دفء العناق الحيّ، لا من على الشاشات الصغيرة، ينجلي كلّ غباشٍ ماضٍ ويعيدنا تلميذاتٍ نجول في مدرستنا الثانوية، مدرسة الفتاة التي أصبحت ملاعبنا السابقة فيها كراج سياراتٍ حالياً، وتحوّل مكان صفيّ السابع والعاشر إلى قهوةٍ اسمها (فلامنكو). أقول لنفسي لا ضير من شرب قهوةٍ مرّة فيها، والدردشة مع شابٍ واظب على ارتياد الساحة بصمتٍ طوال فترة الحراك، ولم ينضمّ إلى أي تيارٍ (سياسيّ)، قال لي: يدرك الناس ألا مفرّ من أن يواجهوا معضلاتهم بأنفسهم. لا تزال أدنى الخدمات غير متوفرة: لا ماء ولا كهرباء ولا محروقات، عطشٌ وبردٌ وعتمة.. الوحيد المتغيّر هو انفراجنا بعد سقوط البائد، وأنّ ثمة احتمالٌ لتغييرٍ ما، فيما كان النفق الأسود قبل ذلك بلا نهاية.. ها نحن نشعر بالأمان، والحنان على بعضنا.. تلاشت الجرائم المنظّمة منذ سقوط النظام. لا وجود لشرطة ولا أمن ومع ذلك لم تسجل حوادث خطف جديدة ولا سرقات ولا اعتداء.. ينتظم السير في الطرقات من تلقائه.. لا حوادث سير ولا زمور ولا تصايُح السائقين، عادت مبادئ السياقة الحضارية ما بين ليلة وضحاها.. وتوقفت الشجارات بين الناس، والخوف من بعضهم وولد التعاطف.. حتى البسطاء اكتشفوا بأنفسهم أنّ ميليشيات الأمن المزعوم كانت سبب تلك الجرائم.. توقفت السرقات والخوف منها.. لم تسجّل سوى بعض سرقاتٍ من المباني الحكومية القديمة. وتحقّق بعض العدل أخيراً فيما يخص المباني التي استأجرتها الحكومة من أصحابها منذ عقود بأجورٍ مخزية. استعادوها وأفرغوها من مكاتبها ووضعوا على الأبواب أقفالاً جديدة، وبعضهم هدموا البناء القديم لقطع الطريق كلياً على الحكومة الجديدة بالاستيلاء عليه كما فعلت القديمة..
يمضي يوم الوصول الأول ويفيق شيطان التفاصيل..
في البيوت:
قبل أيام، وطوال السنوات الأخيرة، لا طاقة ولا إمكانية لدى الناس لترميم ما تهالك، مثبورون بترقّب مجيء الكهرباء والماء ورسالة المحروقات، حياتهم جريٌ مجنونٌ لا يتوقف ولا يجدي.. أقصى ما استطاعوه هو الحرص على وصل العلاقات البشرية المعطوبة وسط تفاقم الحاجات حدّ إهانة الإنسان وتمريغه باليأس، قليلاً ما تزاور الأهل والأصدقاء، فلا تدفئة ولا ضيافات تليق بالكرم السوريّ الموروث من الجدود.. إنما لا تزال طاقة الحياة تلوح في العيون..
الساحل السوري بعد سقوط النظام السوري
09 كانون الثاني 2025
حال أسرتي أرحم بكثير من حال معظم الأسر، من تغذوا على اختراعٍ سوريٍّ أنجبته سنوات الحرب: أشباه الألبان والأجبان، ومن اشتروا الطعام ومواد التنظيف لا في عبواتٍ نظامية بل في أكياس نايلون، وليس بالأوزان المعلومة كالأوقية والكيلو بل بما يمكن شراؤه بألف أو خمسة آلاف ليرة، مقتطعة من شدق الراتب الشهري الأعجز عن شراء حتى ماءٍ نظيف.. ولا أحد يسأل عن جودة المواد ولا تاريخ صلاحيتها.. يعرفون رداءتها ويصمتون. الجوع وحده يصرخ.
أجرّب تذوّق صحنٍ صغير من الكنافة النابلسية من أشهر محلٍ يصنعها، ثمنه 18 ألف ليرة، ولاطعم فيه سوى السكر الدبق.. يكفي أنّ تتذوّق أيّ طعامٍ أساسيّ أو تمسح يدك بكريمٍ محليّ أو تستخدم إحدى مواد التنظيف، لتدرك بكلّ ألم كم تتدنّى نوعيّته عن أي منتج مثيلٍ في بلادٍ تحترم الإنسان.
وبالمقابل، تكاد لا تصدّق: كيف تبدو البيوت في أبهى نظافتها وكيف لا تغيب البسمة عن الوجوه، وكيف تعلّمت الصبايا أن تطلي رموشها بمسكرة عينين نضبت لطول استخدامها، تمدّد محتواها بالخلّ فتعيد إحياءها وصنع الجمال.. وكثيرٌ من البيوت عادت لقصّ أوراق الجرائد البالية واستخدامها في الحمام في غياب محارم التواليت والماء حتى البارد..
وأيضاً بالمقابل، وحين تأتي إلى عائلةٍ هديّةٌ من مغترب: فروج بروستد قد نُسي طعمه منذ سنين، تشكر العائلةُ الهادي بكلّ أدب، وتأكل الفروج بحياءٍ وتعفّف، بما فيهم الأطفال الصغار، كأنها عائلةٌ أرستقراطية تتغذى على اللحوم كلّ يوم..
وبالمقابل، أهدتني صديقة قديمة، وقد تخاصمنا حديثا، بيضتين بلديّتين بالعدد، وبضعة أقراص زلابية و3 أرغفة خبز نخالة، ربما صدفة، أو أنها تقصّدت رمزية الخبز والملح، وعليها أعوّل أن يقدر المنتَج البلدي على جمعنا في قادم الأيام بشراً طبيعيين ومحبين..
جولةٌ في المدينة
عشق المدينة لا يحول دون رؤية هذا القبح العمرانيّ الطارئ على حاراتها الجديدة: أبنيةٌ طابقية هائلة، معظمها بلا ترخيص، لا تزال على العظم، ولا انسجام بين مواقعها أو موديلاتها أو واجهاتها أو مساحاتها أو ارتفاع طوابقها أو الوجائب النظامية فيما بينها وما بينها وبين الطرقات.
وفي الشوارع حفرٌ على مدّ البصر، ومطبات غير نظامية.. لكنّ بدعةً عجيبةً تصفع البصر والذائقة ومعايير الأمان، تتكرّر كل حوالي 200 متراً على طول الطرقات: بضعةُ صخورٍ ضخمة مكوّمة في منتصف الطريق كفزّاعات، جيء بها كحلٍّ أخير، كدروع تحمي الكابلات الأرضية تحت الطريق بعد أن تكرّرتْ سرقتها. ومع الوقت تراكمت الزبالة حول بعضها، واعتاد السائقون على الالتفاف حولها بكلّ صبر، لكنها رغم ذلك تتسبب بحوادث سير.
السوق
المتاجر النظامية شبه مهجورة وإن نبتتْ محلاتٌ جديدة لا تحصى، ماركات، تراثيات، وكالات، الكترونيات.. إلا أنّ حياة السوق تكاد تتلخص كلياً في الأكشاك والعربات والبسطات. تبدو كمتاجر مرتجلة، قضمت أرصفة المدينة حتى أتت عليها، ثم تغوّلت حتى حجبت السوق النظاميّ، فلم يعد للماشي محطّ قدم، وضاقت الشوارع بأدنى خدمة للراجلين والراكبين. تحوي هذه الأكشاك كلّ مستلزمات البيت، من الخضار الموسمية حتى الكهربائيات الثقيلة، يصيح الباعة على بضاعتهم بالميكرفونات التي تتداخل أصواتها حتى يطرم المارّة ويترحموا على سوق النحاسين. وقد اجتهد أصحابها بتزيينها لجذب كلّ قاصد، هندسوا الرفوف كأنها واجهات سوقٍ عتيق وبلّطوا أرضها وصنعوا لها أبواباً بأقفال، وكأنها سوف تستمر كسوق دائم. ذكّرتني بتلك الترسانات الإسمنتية التي تركتها إسرائيل بعد رحيلها عن جنوب لبنان عام ألفين. لكنّ إسرائيل غادرته أيامها، ولا يبدو اليوم في السوق بلاء أكبر من هذه الأكشاك ومن صعوبات اقتلاعها، ولا يخفى أنّ معظم أصحابها كانوا مرتبطين بالأمن وجميعهم مسلحون.
يوسف عبدلكي: لا شيء يسير على ما يُرام وسط هذا الرماد
04 أيلول 2023
المصارف
مداخلها محروسةٌ بالفصائل المسلحة. دخلتُ إلى البنك العقاريّ لأبدّل بطاقتي، وتنفّستُ عميقاً لشعوري بأنني أدخل مؤسسة حكومية حقاً. وسط زحمة المراجعين وغياب التدفئة، يجلس الموظفون بمعاطفهم والشالات وطاقية الرأس، ويتعاملون بمسؤوليةٍ مهنية وتعاطف وصبرٍ ورغبة ملموسة في العون.
الازدحام أشدّ على المصرف التجاري حيث ينتظر المتقاعدون المعتاشون على راتبهم التقاعدي وحده، يقفون طويلا في البرد بعجزهم وأمراضهم ووهنهم، ومعظمهم يعودون بعد ساعاتٍ خائبين لتتكرر الوقفة في اليوم التالي..
ومنذ سقط النظام، أضافت الأكشاك أمام المصارف بنداً جديداً وجريئاً إلى خدماتها: بيع وشراء الدولار. فجأةً تبدّل اسم تصريف العملة من السوق السوداء إلى محلات صرافةٍ نظامية، ظهرت في كل شارع، ولم تعد كلمة (دولار) محرمة. ظهر تسعير السلع بها في المتاجر الخدمية جنباً إلى جنب مع الليرة السورية، وكأن التعامل بها هو المعتَمد في البلاد منذ عقود. وبسبب تأرجح سعر الليرة واختلافه ما بين البنوك الحكومية والسوق السوداء، تعلم الناس في ساعاتٍ كيف يتاجرون بالعملة: يبيعون الدولار للمصرف المركزي بسعره الأعلى مما هو في محلات الصرافة، يستلمون المبلغ بالليرة السورية ثم يبيعونها إلى محلات الصرافة الخاصة ويربحون الفرق..
السرّ كلّ السرّ والسرور في سكان المكان، آلفه بأرضه وناسه منذ لحظاتي الأولى، كأنني لم أغب عنه سنيناً سرمدية. ابتسامهم حياة وأناقتهم المعتلية على تواضع واهتراء كسائهم صفعةٌ لكلّ إهاناتٍ حاولت النيل منهم وارتدّت على صانعيها..
المواصلات معضلةٌ كبيرة، هي جرح كل طالبٍ جامعيّ يكابد للالتحاق بجامعته في دمشق واللاذقية. والحال ليس أهون داخل المدينة، غلاء طلب التكسي أجبر الناس على التحرّك بقدر ما تسعفهم أقدامهم. وثمن البنزين بلاءٌ لأصحاب السيارات الخاصة، وشراؤه بالدولار أوفر منه بالليرة، ترى صاحب الموتور يكافخ ليشتري عشرة أو عشرين دولارا ثم يشتري بها بضعة ليترات بنزين..
الشباب
غالبيتهم، لا يدخل العلم في سلم أولوياتهم. كانوا بانتظار السفر، والان يتريثون. يتابعون ما كانوا يتعلمون: بحثوا وتعلّموا كسب المال من التجارة الالكترونية. وطرق تداولها مضحكةٌ مبكية. يتفق أحدهم مع صديق في الخارج ينشئ له موقعا ويبيع فيه منتجات (شي إن مثلاً) بطريقة عجائبية: يعرض البضاعة على موقعه وفيه رقمه واتس أب. يتواصل مع زبائنه عبره، يتفقون ويحددون موعد اللقاء في ساحةٍ أو شارع معروف لاستلام البضاعة وثمنها نقداً حين لا حسابات بنكية لدى الطرفين.
الدين
زيادة عدد المتزيّين باللباس الدينيّ ملحوظة قياساً بها قبل 2011 وازدادت كذلك حلقات التعليم الديني في مجالس خاصة في البيوت، وبالذات بين النساء. وظهرتْ في الطريق نساء يرتدين زيّ الدين ويتسولن، هذه الظاهرة المستجدّة والمهينة في أعراف السويداء، لما للزيّ الديني من حرمة، وعارٌ على لابسيه أن يشحذوا.
في المآتم في مقام عين الزمان، كانت النساء من قبل يدخلن سافرات ولا أحد يتدخل. انقلب الأمر حالياً بأن ظهرت موظفاتٌ في المقام يمنعن النساء والصبايا الصغيرات من الدخول سافرات، ثم علتْ نبرة المطالبة عبر ميكروفون يطالب كلّ الداخلات بتغطية رؤوسهن، ما يوقع النساء ذوات الرأي في إحراجٍ شديد، وطبيعة المكان، كمقامٍ ديني كما مناسبة الموت، لا تسمح بإظهار شجاعةٍ فرديّة بقدر ما ستُفهم كافتعالٍ للمشادّات.
حوار غير منشور سابقًا مع الأب باولو
العائلية
لم تظهر النَزعات العائلية وتمجيد مفهوم العشيرة بهذا الوضوح كما هو اليوم. إضافة إلى الفصائل العسكرية المعلَنة، أنشأت العائلات الكبيرة فصائلها الخاصة. وأنشأت العائلات الصغيرة تحالفاتها لتحل مشكلاتها العامة والخاصة بلغة السلاح.
الثقافة
أسعار الكتب صاروخية حتى على بسطات الكتب المستعملة. ومع ذلك فالمهتمون بالقراءة والثقافة ليسوا قلّة، وقد اعتبروها إحدى أسباب نجاتهم طوال سنوات الحصار. أمسية أو أصبوحة واحدة يرجى منها سماع أدب جيد قد تجمع جماهير أعلى من عداد التيارات السياسية مجتمعة. ومثلها أنشطة النوادي الأدبية والموسيقية وورشات الرسم، وبالذات للأطفال، وهي أكثر ما يعوّل عليها في تأسيس بنيةٍ ثقافيةٍ قد تُحدث تغييرا مأمولا..
المقاهي
تكاثرت في كلّ بناء واجتهدت في انتقاء أسمائها وديكوراتها والموسيقا في فضائها وليس فيها تدفئة.. وروّادها قلائل جداً. ثقافة المقاهي لم تدرج بعد كما تستحقّ، والعجز الماديّ يزيد من عرقلة إدراجها. قليلون بمقدورهم أن يشربوا فنجان قهوة بثمانية آلاف ليرة أو شوكولا ساخنة ب 15 ألف ليرة.
نبض الشارع، مطالب الناس:
*لا ينشغل عموم الناس حالياً بسوريا القادمة.
*يريدون الخلاص من إهانات البرد والجوع والعتمة، خدمات الكهرباء والمحروقات والعلاج الحكومي المُجدي. ناقمون على عطالتهم عن العمل وعلى فصل العاملين من وظائفهم وتأخر رواتب المتقاعدين. يؤرقهم تدبير مصاريف أبنائهم في الجامعة.
يصرخون: نريد فرص عملٍ لا مساعداتٍ مُهينة.
*كلهم على يقين بأنهم وحيدون ولا أحد يمثل صوتهم الفعليّ..
أبحث عن نفسي في ملامح أصدقاء قدامى قد تغيّروا كما تغيّرتُ، دخل بيننا غباش اختلاف المعاناة والحاجات والرؤى والأهداف، وتحوّلت مفارقات الخارج والداخل، ما بين باقين في البلاد وهاربين منها، إلى معارك شخصية، كأن أقرب صديقٍ منا إلى الآخر هو أسباب مآسيه الشخصية..
يقولون لمن يدّعون النطق باسمهم: لا يعنينا ماذا تعني الدولة الدينية أو المدنيّة، ولا النظام ديموقراطي ولا السيادة الوطنية.. خذوا وقتكم في تشكيل لجانكم الأهلية والمدنية والحكومية، وأعطونا فرصة عملٍ كريم. حينها سوف نفكر معكم بالنقابات وباقي الهياكل السياسية. ومن أجل هذا نريد إعلاماً رسميّاً، أوله قناة تلفزيون وطنيّة.
*اسم الشيخ الهجري على كلّ لسان، وربما لم يبرز اسمه كصوتٍ أعلى للحراك إلا بسبب غياب الأصوات المدنيّة فعلياً. لا توافق كبيراً عليه بين الناس، لكنه الوحيد الحاضر برمزيته الاجتماعية المتماهية مع الدينية وسط ضعف وشتات قوى الحراك، وغياب صوتهم الموّحد وانجرار كثيرٍ من أبرز ناشطيه إلى ظلّ عمامة الشيخ، فيما آخرون يكتفون بتفنيد مثالبه.
*وبينما في الظل أشخاص فاعلون وبقوة ويرفضون الظهور إعلامياً، فلا ثقل على الأرض لخطباء الساحة ولا لأيٍّ من تيارات الحراك، لم يكسبوا ثقة الناس بأدائهم، يقولون عنهم: (أنانيون نرجسيون، أقوالٌ بلا أفعال، طامحون إلى المناصب لا إلى بناء البلد، يركضون إلى الظهور على الشاشات أو لقاء الصحفيين، لا لعون أهاليهم، وكلهم يتناحرون فيما بينهم، فيما كنا نأمل من واحدهم طرح مشاريع عمل حيوية وفق اختصاصه)
*تبدو أصوات النساء أكثر اتزاناً في أفكارهن وخطابهن ومعرفة أهدافهن والسير إليها بفاعلية. وفي تجمعاتهن وخطواتهن يُلمَس الهمّ العام أكثر من المطالب الذاتية، وعليهنّ ينعقد الأمل في إحداث تغيير، قد يمضي بسوريا إلى ما يشبه التجربة الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية.