حتى بداية القرن العشرين، كان تعبير "البلاد السورية" متداولاً بين السوريين للإشارة إلى بلادهم، لكنه لم يعد قيد الاستخدام، ولم يبق منه إلا أُثرٌ يحفظه الفلسطينيون اليوم، يشيرون إلى فلسطين بتعبير الجمع: "البلاد".
الفيدرالية والهوية السورية (14)
08 أيلول 2016
لا أعرف تماماً أصل هذا التعبير، لكنه كان مناسباً لوصف سوريا التي لم تعرف حكماً مركزياً وتوحيداً سياسياً من داخلها. فهذه البلاد، ومنذ الأزمنة القديمة، لم تعرف سوى دول-مدن عديدة تشبه اليونان القديمة أو الدول-المدن الإيطالية في العصور الحديثة المبكّرة. كان هذا منذ أيام الكنعانيين والآراميين، واستمرّ حتى أيام الإمارات العديدة في بلاد الشام، غداة بدء الحروب الصليبية، رغم واقع الوحدة الثقافية واللغوية التي تمتّعت بها البلاد السورية، والتي وصلت في عهد الامبراطورية الفارسية إلى حدّ فرضها لغتها الآرامية لغةً رسمية لها. أما الوحدة السياسية للبلاد السورية، فقد تحقّقت تحت حكم أجنبي، حكم المصريين والفرس واليونان والرومان ومن ثم العرب، ولاحقاً الأيوبيين والمماليك والعثمانيين أخيراً. جميعها إمبراطوريات كبرى تأسّست خارج الاقليم السوري وأخضعت الأخير لسلطانها ليحظى السوريون بسلطةٍ سياسية واحدة تحكمهم. وكان الأمويين استثناء لإمبراطوريةٍ مركزها في سوريا، دمشق.
يجد هذا الحال تفسيره في طبيعة البلاد السورية الجغرافية الممتدّة من الساحل إلى البادية، تفصل بينهما سلسلتا جبال تجعل الساحل نفسه ضيّقاً. كما أنّ أنهارها صغيرةٌ لا تصلح عموماً للملاحة، وليست هناك أراضي زراعية واسعة. في المحصلة؛ البلاد مقطّعة، وتحتاج إلى جهدٍ بشريّ كبير لبناء شبكة مواصلاتٍ بين أجزائها، وإدامتها وحفظها، كما أنّ مدنها أقرب إلى واحاتٍ لا تسمح بإنتاج فائض كبيرٍ يسمح بخلق جيش كبير، وجهاز دولة واسع، يمكّن مدينة من هذه المدن من إخضاع المدن الأخرى. كان على الدول الكبرى أن تنشأ في بلادٍ خصبة، ذات زراعةٍ واسعة وشروط طبيعية أنسب للاتصال تسمح للدولة الكبيرة بالنشوء لتغزو هذه سوريا وتوحدها، وهذا ما كانت تؤمّنه بلاد الرافدين ومصر وفارس والأناضول التي أتت من الإمبراطوريات الموحدة للبلاد السورية سياسياً.
البلاد السورية كانت حقاً بلاداً عديدة، على رغم امتلاكها وحدةً ثقافية بدرجة عاليةٍ نسبيّاً
في هذا السياق، كان تعبير "البلاد السورية" مناسباً، فالبلاد السورية كانت حقاً بلاداً عديدة، على رغم امتلاكها وحدةً ثقافية بدرجة عاليةٍ نسبيّاً. في نهاية العهد العثماني، لم تكن البلاد متنوّعة إثنياً ودينياً وطائفياً وحسب، إنما امتلك كلُّ إقليمٍ فيها شخصياته وذاكرته واهتماماته ومجالاته الحيوية المختلفة. حلب، التي حطمتها حدود الدول الحديثة، امتلكت ريفاً واسعًا يمتد إلى أضنة وعينتاب ومينائها البحريّ (اسكندرون) والبريّ (الموصل)، وكانت حلب بعيدة عن دمشق وريفها الجنوبي الممتد إلى حوران وفلسطين ومينائها (بيروت). حلب، المدينة الأكبر في سوريا، كانت عاصمةً اقتصادية للدولة العثمانية، فهي صاحبة تاريخٍ تجاري عريق مرتبط بخط الحرير، وصل وكلاء بيوتها التجارية يوماً إلى المدن الأوربية. فيما كانت دمشق مجرّد واحةٍ واسعة، ولها أهميتها الدينية أساساً. لم تصعد أهمية دمشق إلا متأخراً مع بناء بيروت وصعودها، وانطلاق الزراعة في حوران وفلسطين وبناء شبكة طرق تصل هذه الأقاليم بدمشق. رغم تشابههما الثقافي الكبير، حظيتْ حلب ودمشق بشخصيتين متغايرتين بسبب السياقات التاريخية المتباينة لهما، وهذه كانت حال سوريا بكلّ بساطة.
بانتهاء الحكم العثماني وتأسيس المملكة السورية، انطلقت أعمال المؤتمر السوري الأول الذي أصدر الدستور الأوّل لسوريا. ويبدو أنّ الرعيل الأول كان مدركاً حقاً لمعنى تعبير "البلاد السورية"، حيث نصَّ الدستور السوري على وجوب إقامة حكمٍ اتحادي (في نسخة القانون الأساسي للولايات السورية المتحدّة المقدمة إلى لجنة كينغ-كراين استخدم تعبير حلفي كترجمة لفدرالي، ووضعت "فدرال" -هكذا- بين قوسين. وفي النسخ المتداولة للدستور السوري اُستخدم تعبير اللامركزية الواسعة للإشارة إلى فدرالي) في البلاد، ومقاطعات تُدار باللامركزية الواسعة كما أقرّ في المادة الثانية والثالثة من الدستور، وخُصّص الفصل الحادي عشر من هذا الدستور للمقاطعات، وهو يحتوي على ثلاثٍ وعشرين مادةً تُحدّد مجالسها الانتخابية وشروطها وحقّها في إقرار القوانين وتشكيل المحاكم الخاصة بهذه المقاطعات ومسؤولية الوالي، المُعيّن من قبل الملك، أمام المجلس النيابي لهذه الولاية. ظهرت الفيدرالية في أوّل وثيقة سياسية أقرّها سكان البلاد السورية بأنفسهم، وتحديداً لحماية وتأكيد استقلالهم في مواجهة تهديد الاحتلال الغربي لهم.
لم يقتصر إدراك العديد من السياسيين والمثقفين السوريين وقتها على تنوّع البلاد السورية وتباين احتياجاتها، بل أدركوا ضعف الهُويّة الوطنية السورية في العموم، باعتبارها هوية حديثة وناشئة، مقارنة بالهويات التي اعتادها السوريون واعتادوا تنظيم حياتهم تبعاً لها، هوياتهم الدينية والمناطقية والعشائرية وغيرها من الهُويّات التي تنتمي إلى مجال الخبرة اليومية. لهذا يلحظ المرء في لغة ذلك العصر مفرداتٍ غابت لاحقاً عن قاموس الحياة السياسية والثقافية، مفرداتٌ تحيل إلى العمران والتنئشة والآداب والمدنية والتهذيب، وتأكيدهم على الوطنية وضرورة تربية النفس بها. وسوف يكون مغرياً ملاحقة هذا القاموس، كيف انتقى هؤلاء المثقفون والسياسيون مفرداته، وصاغوا لغته كتابةً وتحدّثوا بها، وكيف تحوّلتْ مع السنين، حتى لا تبقى مجرّد انطباعاتٍ خاصة يخرج المرء بها من قراءاته. كان لسان حال الطبقة السياسية والثقافية وقتها مثل حال نظرائهم الإيطاليين بعد تحقيقهم الوحدة الإيطالية، حيث كتب رجل الدولة الإيطالي ماسيمو دازجليو تعليقاً بليغاً في مذكراته: "لقد خلقنا إيطاليا، والآن علينا خلق الإيطاليين". لكنّ مغامرة السوريين انتهتْ وقتها بالاحتلال الفرنسي، ولم يصدر الدستور السوري.
تضاءلت أهمية "الاتحادية" في خضم المواجهة الأولى مع الفرنسيين وتقسيمهم للبلاد، ومن ثم إعادة توحيدها 1930 مجدّداً، وغياب الفيدرالية عن التقليد الفرنسي المشبع بفكرة المركزية الصارمة. ولهذا شعرت الحركة الوطنية، وتحديدًا الحكومة الوطنية التي تولت الحكم بين عامي 36-39، بالحاجة إلى تأكيد سلطتها على سوريا، وخاصة على مناطقها الطرفية البعيدة عن مدن سوريا المركزية. وهنا كانت بداية التوتر مع مناطق عديدة، مثل الساحل وجبل الدروز والجزيرة، حيث انتهت المنافسة بين الفرنسيين والحكومة الوطنية والقوى المحلية في الجزيرة إلى ما يشبه ثورةً صغيرة انتهت بمذبحة عُرفت بـ طقّة عامودا. وساد توتر لن ينقطع مع نخب الساحل وجبل الدروز، حتى في عهد الاستقلال التالي. بعد الاستقلال صاغ السوريون دستوراً ثانياً (دستور 1950) غابت عنه الاتحادية، إنما بقيت الحقوق الشخصية والفردية وتقييد السلطة التنفيذية ومسؤوليتها أمام التشريعية واستقلال القضاء. كما بقيت اللغة ومفرداتها تقريباً كما يشهدها المرء، لدى المثقفين والسياسيين على السواء، كما تشهد بذلك مذكرات خالد العظم.
لم يطل المقام بهذا الدستور، الأكثر مركزيةً، طويلاً حتى انهار أمام الضربات المتلاحقة من الجيش، والتي بدأت مبكراً بعد الاستقلال مع انقلاب حسني الزعيم 1949. ربما حفظ النظام الاتحادي لسوريا، لو قُدّر بقاؤه، قدرتها على مواجهة الانقلابات التي لم يكن عليها سوى احتلال بضعة أبنية في دمشق حتى تُسقط البلد بأكمله. احتمالٌ لم يعد يجدي للماضي، لكنه قد يفيدنا الآن.