هذا المقال هو رابع مقالات ملف «غزة: لحظة أوروبا اليمينية»، الذي ستُنشر مواده يومَي الخميس والجمعة على مدار الأسابيع الأربعة القادمة، وهو من إعداد وتحرير ياسمين ضاهر وقاسم البصري، ومن إنتاج شبكة فبراير، وساهمت فيه الجمهورية.نت وموقع حكاية ما انحكت. يمكن قراءة مقدّمة الملف على هذا الرابط.
"في الثاني والعشرين من يونيو/حزيران ٢٠٢٤، نزلتُ إلى مظاهرةٍ عند مول أليكسا برلين. لأسباب صحية لا أستطيع المشي طويلاً. خرجتُ منها وتوجّهتُ نحو سيارتي المركونة في نقطةٍ قريبة من الباب، فلم يسمح لي الشرطي بالمرور. طلب مني أن أقوم بالتفاف، ما يعني المشي ٥٠٠ متراً. كنت أشير له بأنني لا أستطيع المشي، وأن تلك سيارتي، فيما يقوم هو بدفعي إلى الطرف الآخر. كان برفقتي شخص، وضربتنا الشرطة نحن الاثنين، وأسقطونا أرضاً. كنت على الأرض، والشرطيّ يقول لي: "أنتِ معتقلة". سألتُه: "لماذا؟"، فقال لي "قمتِ بالمقاومة". لم أفهم عن أيّة مقاومةٍ يحكي، ولماذا حصل ما حصل، لا أتذكر حتى كيف سقطتُ على الأرض. كنت أتكلم مع شخص، ثم وجدت نفسي على الأرض، وكان يتحدث عن (تسللي إلى الممتلكات). ثم حملوني، ووصلنا في النهاية إلى المستشفى، وقضيت فيها بقية النهار. لاحقًا وصلتني رسالةٌ مفادُها أن هناك تحقيقاً جارياً بحقي. لم يضربوني فحسب بل فتحوا بحقي تحقيقًا أيضاً، بتهمة مقاومة إجراءات قوى إنفاذ القانون. وكّلتُ محاميًا للنظر فيما ينبغي علي فعله"، تقول الفلسطينية السورية رُهام هوّاش، الناشطة بفعاليةٍ في التظاهرات الداعمة للقضية الفلسطينية في برلين، وهي جالسةٌ على أريكة في منزلها، في ليلةٍ شتوية هادئة، في غرفتها المطلّة على برج التلفزيون في ميدان ألكسندر بلاتر. هذا فيما يحوم حولنا في الغرفة، قطّها زعتر، الذي بدا وكأن هذا الحديث (العنيف) يقضّ مضجعه أيضاً.
لكن هذه لم تكن تجربة رُهام العنيفة الوحيدة مع شرطة برلين. بنظرة إلى الوراء، تتذكر أنّ عنف الشرطة المفرط كان موجوداً خلال التظاهرات والفعاليات الداعمة لغزة على الدوام، خاصة في الجامعات، لكن بنسبة متفاوتة، إذ لم يكن المكان أحياناً مناسباً للشرطة لممارسة العنف، لكنه لم يصل في البداية إلى الدرجة التي صار عليها في الشهرين الرابع والخامس من العام ٢٠٢٤، ثم بات العنف جزءاً من أي نشاطٍ يتعلق بفلسطين.
في نهاية الأسبوع التالية لضربها، أصرت رُهام على المشاركة في التظاهر، وضعت الكوفية، وذهبت على كرسيٍّ متحرك. مع وصولها إلى ميدانٍ في حي فيدينغ البرليني، شاهدتْ ورفاقها، أن شخصاً يتحدث مع الشرطة عنها، فجاء شرطيان وطلبا تصوير قميصها، بذريعة إمكانية وجود رموز تنتهك القانون عليها. سألتهما رُهام إن كانا يتحدثان جدياً، فأكدا ذلك "للأسف"، وسمحت بتصوير القميص دون اظهار وجهها. طوال وقت المظاهرة ظلا يمشيان قربها، لأخذها وتسجيل بياناتها، حال التأكد من وجود شعارٍ مخالف للقانون على قميصها.
"بقيتُ خائفةً من أن يتم أخذي، كلما وضعا يديهما على السماعة الملصقة على الأذن. هل هناك عنفٌ أكثر من هذا؛ أن أخشى طوال الوقت، وأنا في مظاهرةٍ في ألمانيا، من التهجم عليّ في أية لحظة؟ فقد شاهدتُ سابقاً كيف سحبوا نساءً من المظاهرات"، مشيرةً إلى لافتةٍ في إحدى المظاهرات السابقة، كُتب عليها: (لا سلام على أرضٍ مسروقة)، شاركت رُهام فيها لمدة نصف ساعة، حتى قررت الشرطة اختراق المظاهرة، من دون إخبار منظمي المظاهرات أو مسجليها، وأخذ اللافتة وثلاث نساء، رغم إمكانية أخذهن بطريقةٍ أكثر حضاريةً لتسجيل أسمائهن، لا سيما وأنهنّ كنّ سلميّات. "إنه عنف لا مبرر له"، تؤكد.
وكمعظم الدول الغربية، تحتكر الشرطة الألمانية تطبيق العنف، ولديها تفويضٌ باستخدام هذا العنف، المميت أحياناً حال الضرورة. في برلين مثلاً، هناك قانونٌ يحدّد قواعد تطبيق العنف: استخدام الإكراه المباشر، الذي يتضمن استخدام العنف الجسديّ أيضاً، أي "حمل الشخص وابعاده".
لماذا لم يتظاهر طلاب الجامعات الغربية تضامناً مع السوريين؟
01 آذار 2025
ما يرد في هذه المادة الصحفية ينظر فيما إذا كان العنف مبرراً، أو حتى متناسباً مع الموقف، وفيما إذا كانت الشرطة تتبع تكتيكاً خلال التظاهرات، يجعل استخدام العنف متوقعاً للغاية.
فيما تحدق رُهام من نافذة منزلها، تقفز الذكريات المريعة إلى ذهنها، عما عايشته خلال المظاهرات، كالأضواء المتحركة المتلاحقة في الأفق. في شهر ديسمبر من العام ٢٠٢٣، اعتُقلتْ أيضاً، تتذكر. "كنت أيضاً على كرسيٍّ متحرك، وكنت من منظمي التظاهرة، ووضعنا أغنية (طالعلك يا عدوي طالع) على مكبر الصوت، وقام المترجم الذي يعمل مع الشرطة الألمانية بعمله، فباتت الشرطة تردد بأنها جريمة! جريمة! صادروا مكبر الصوت، وجميع المسؤولين عنه، بمن فيهم أنا. أخذونا إلى ساحةٍ قرب محطة غزوندبرونن، وأحاطوا بنا في مشهدٍ سخيف. طلبنا من محاميةٍ أن تلحق بنا إلى هناك. وبعد قرابة ٤٥ دقيقة، قبلوا أن أنزل من فوق مكبر الصوت وأنا على كرسيٍّ متحرك، وسجلوا أسماءنا وبياناتنا، وقالوا لنا بأنه يُمنع علينا المشاركة في التظاهر! وبعد اعتراضنا قالوا إنه يُسمح لنا بذلك".
وشاع في الأشهر الخمسة عشر الأخيرة، استخدام ما يسمى "مخاطبةٌ لعنصرٍ خطير"، حيث تطرق الشرطة باب نشطاء شاركوا سابقاً بكثرةٍ في المظاهرات، وتقول إنه من المفضل ألا يشاركوا فيها مستقبلاً، في تصرفٍ يصعب تصور أنه يتوافق مع الدستور الألمانيّ، الذي يكفل حرية التعبير والتجمع. وتجادل السلطات بأنها، بذلك، تحاول منع حدوث الجرائم قبل وقوعها.
في أواخر أبريل ٢٠٢٤، أرسلتْ باحثةٌ قانونية في مجال "المساءلة لأجل سوريا"، تسأل رُهامَ إن كانت ترغب في كتابة مساهمةٍ في مجلةٍ اسمها "مسؤولية الحماية"، ضمن عددٍ خاصّ بسوريا، عن موضوعة العدالة، كشاهدة ومدعية بالحق الشخصي، فيما يسمّى محكمة الخطيب، أي محاكمة أنور رسلان، رئيس فرع التحقيق في فرع المخابرات السورية ٢٥١، الذي اُعتقلت رُهام فيه في سوريا، فقبلت وهي وتفكر في الكتابة بتعمّق عن البيان الختامي الذي تلته في المرافعات الختامية في ديسمبر العام ٢٠٢١.
في نهاية شهر مايو ٢٠٢٤، بدأ عنف الشرطة في برلين يحتدّ، تتذكر رُهام، "كنت مرهقةً من الدوامة التي دخلناها، أن ننظّم حالنا طوال الأسبوع، ونبذل قصارى جهدنا، وكأننا نعطي الشرطة خطّةً، لتنزل إلى الشارع وتضربنا في يوم المظاهرة. كأننا نحضّر لمسرحية، ونذهب إليها، ونتعرض للضرب، بدأنا بالدخول في دوامة الضرب. أصابتني حالة إعياء من الوضع، صرتُ كلما أنوي كتابة المساهمة، أجد نفسي محبطة، ولا أستطيع الكتابة".
"بقيتُ خائفةً من أن يتم أخذي، كلما وضعا يديهما على السماعة الملصقة على الأذن. هل هناك عنفٌ أكثر من هذا؛ أن أخشى طوال الوقت، وأنا في مظاهرةٍ في ألمانيا، من التهجم عليّ في أية لحظة؟ فقد شاهدتُ سابقاً كيف سحبوا نساءً من المظاهرات"، تقول رُهام.
عندما راسلتْها الباحثة، تستفسر عن المساهمة، "كان الوضع سوريالياً، قلتُ لها: كلما أهمّ بكتابة الرسالة، اصطدم بالواقع الذي أعيش فيه. لا استطيع الانفصال عن واقعي، وأكتب عن العدالة في سوريا، وأنا أعيش ظلماً فقط لكوني فلسطينية، وأرى الظلم الممارس ضد الشعب الفلسطيني"، وأنّ "الحكومة الألمانية تدعم شخصيتي السورية، وتستردّ لي حقي عبر المحاكمة، فيما ينبغي أن تُمحى شخصيتي الفلسطينية. هناك قمعٌ ممنهجٌ ضد الهوية الفلسطينية، وكل يومٍ أعرف عنه أكثر، لذا لا يمكنني مدح الحكومة الألمانية في جهودها في محاكمة الحكومة السورية، بينما تساعد في قتل الأطفال في غزة"، مقترحة ألا تكتب مساهمتها كيلا تخاطر بأهداف حملة المناصرة، إلا أن الباحثة رحبت بتعبير رُهام عن ذلك في المساهمة.
تجلّى اهتزاز ثقة الفلسطينيين السورييّن بالشرطة الألمانية أيضاً عبر مداخلةٍ قام بها أحد الحضور في فعاليةٍ نظمتها مبادرة "سبوره" الحوارية، في حي نويكولن البرليني، عن عنف الشرطة. وقال الرجل إنه عند وصوله من سوريا إلى ألمانيا، كان يغير الرصيف الذي يمشي فيه أحد عناصر الشرطة الألمانية، ثم مع مرور الوقت نالت الشرطة ثقته، لكن ما تفعله الشرطة منذ أكثر من عام، جعل هذه الثقة تهتز.
منذ خمسة عشر شهراً، تثير مشاهد ملاحقة الشرطة للمتظاهرين/ات وممارسة عنف شديدٍ ضدهم في ألمانيا، وخاصة في برلين، السخط لدى المجتمع العربي والمهاجر، مع انتشار فيديوهات عنها على وسائل التواصل الاجتماعي، كمشهد ملاحقة دورية شرطةٍ لطفل يحمل علم فلسطين، أو احتجاز عائلةٍ لفترةٍ طويلة في البرد، بغرض أخذ بيانات أفرادها، بعد أن ألقى ابنها كلمة في مظاهرة. وتدافع الشرطة في هذه الحالات بأنها تفعل ذلك لأجل "رفاه" الطفل، والتأكد من أنه يلقى الرعاية اللازمة وسط عائلته.
يارا نصار، الناشطة في حركة تضامنٍ فلسطينية في برلين، لخصت في فعالية "سبوره"، الحوارية في برلين، تجربتها وتجربة كثيرين ممن تحدثت معهم من الحركة، بأن التواصل مع الشرطة لا يتم بالكلمات، بل باللكمات، وأن الشرطة لا تقول لهم إنّ عليهم إزالة يافطة، بل تتدخل بقوةٍ وحشية، بسرعةٍ شديدة. واستشهدت بتجربة سيدةٍ تعرفها، كانت تقوم بدور منظمة تظاهرة، روت لها كيف أنها طلبت مرّةً من الشرطة أن يبتعدوا عن التظاهرة حوالي مئة متر، لأن الشارع ضيق، نظرًا لتوقعها أن يتعرضوا للضرب من قبل الشرطة، ثم وجدت نفسها فجأة في يد شرطيٍ يمسك بعنقها، ويلكمها على عينها، دون أن يخبرها أحدٌ بما يتوجب عليها فعله. وأشارت إلى أن الكثير من عناصر الشرطة يرتدون قفازات، بعضها مملوءٌ بالرمل، وأنه عندما يتلقى أحدنا ضربة على عينه، يتلمس حوله بيده، محاولاً التوجه، وهنا إن لمس المرء الشرطة، تُحرّر ضده مخالفة مقاومةٍ الشرطة، متحدثةً عن إلقاء تهم شديدة، بسرعة كبيرة، ضد المتظاهرين.
وتوضح أن تهمة "مقاومة الشرطة" تقع ضمن تقدير الشرطة نفسها، وهكذا إن تمنّع المرء عن إبعاده، ووضع نفسه "بكامل وزنه" قبالة الشرطة، يعتبر المرء "مقاوماً" للشرطة، وإن دُفع المرء من الظهر وسقط بين يدي شرطيّ، يعتبر "تهجمًا" أو "مقاومة".
علّقت متظاهرةٌ من جمهور الفعالية الحوارية المذكورة، بأن العنف ينشأ في كثيرٍ من الأحيان جراء استفزازهم من قبل مظاهراتٍ مضادة، داعمة لإسرائيل، مشتكيةً من عدم حماية الشرطة لهم، وعدم تحرير ضبطٍ ضد المتظاهرين ضدهم، بل على العكس عندما يشتكون من شخص في الجانب المضاد، تتبدل الأدوار، فيجري تحويل الجاني إلى ضحية والضحية إلى جاني، ويلامون هم أنفسهم. وتشتكي من حمايةٍ انتقائية للمتظاهرين، مستنكرةً كلام نائب رئيس نقابة الشرطة الألمانية عن وظيفة نقابته كحاميةٍ للمتظاهرين، قائلة أنها لا تعلم عن أيّة حمايةٍ للمتظاهرين يتحدث، ما يحدث هو العكس، مشيرةً إلى أنها اختبرت عنفاً بالغاً من الشرطة، وأنها المرأة المشار إليها في الحوار، التي تعرضت للركل في النصف الأسفل من جسدها خلال مظاهرة، ولم تعتقل ولم يكن هناك أية دعوى ضدها.
وكانت الشابة تشير في حديثها إلى ناشطةٍ متضامنة بشدة مع إسرائيل، هي السياسية في الحزب الليبرالي، كارولين برايسلر، التي تواظب على الاقتراب من المظاهرات الداعمة لغزة، بطريقةٍ يجدها المتظاهرون استفزازية. وكثيراً ما تلفت الأنظار، بوجودها وحدها وهي تحمل صور المختطفين الإسرائيليين، تُحيط بها مجموعة من عناصر الشرطة، كما هو واضح في المشهد أدناه.
واظب محمد أمجاهد، الصحفي الألماني من أصول مغربية، عند عمله على كتابه الصادر حديثاً بعنوان "كلها حالات فردية؟ النظام الكامن خلف عنف الشرطة"، على مراقبة تظاهرات المناخ وتلك المتضامنة مع فلسطين. وخلص محمد في مقابلةٍ معي عبر الإنترنت إلى أنه "أعي بأن بعضهم يتسبب بالمشاكل في المظاهرات، وأنّ بعض السوريين لا يذهبون إلى هذه المظاهرات بسبب أنصار حزب الله فيها. لكنني، ونتيجة بحثٍ عميق أجريته، على التظاهرات الفلسطينية، والمناخية، يمكنني القول بأن جلّ المتظاهرين سلميّون، لا يقولون كلاماً مخالفاً للقانون، لا أتحدث هنا عن الجانب الأخلاقيّ أو السياسي. مثلاً إن كانوا يلبسون الكوفية أو يحملون علم فلسطين، ستجد شرطياً لا يحب هذه الرموز، ويقوم بإزالتها أو ضرب المتظاهر/ة على رغم أنها قانونية، ويدخل في شجار مع المتظاهر/ة، خاصةً إذا ما تحدثنا عن شبابٍ متحمس. رأيت مرّةً شاباً يقول لشرطي: أنت عنصريّ. أرى هذا الكلام ملاحظة، وليس شتيمة، لكننا نعرف بأن الشرطة تريد اختلاق قضيةٍ من هكذا كلمات".
ويلاحظ العديد من الصحفيين والحقوقيين، أن العنف الشرطي المفرط يسري على مختلف التظاهرات، المتعلقة بالمناخ وإجراءات إغلاق كوفيد، لكن ما يفرق التظاهرات الداعمة لفلسطين عن غيرها، ويجعل الناشطين/ات فيها متضررين أكثر، هو الحساسية العالية لدى الساسة ومن ثم الشرطة لمخالفات الهتافات، ومحاولة التعامل معها فوراً، وسحب متظاهر/ة من وسط الجموع، ما يرفع إلى حد كبير فرص نشوب صداماتٍ عنيفة.
البحث عن وجهٍ للاجئين السوريين في ألمانيا في ظلّ صعود اليمين
21 شباط 2025
تكتيك شرطة يمهد للعنف؟
المحامي أندرياس غورسكي، يشغل دور المحامي المرافق للتظاهرات، ويمثّل أيضاً مقدّمي طلب المظاهرة والمنظمين في عين المكان. وفي ذلك، يكون على تواصلٍ مع مدير المهمة الأمنية من الشرطة، والمسؤولين عن التواصل، ويمثّل أشخاصاً في المحاكمات المرتبطة بالتجمع، التي تدور حول التحقّق: هل وقعتْ هناك جرائم أم لا، وما إذا كان تصرف الشرطة قانونيًا.
بعد عدة محاولاتٍ للاتفاق على موعدٍ لإجراء مقابلة معه، لم يُكتب لها النجاح، شاهدته في فعالية "سبوره" الحوارية، يوضح أن المشكلة التي يراها من الناحية العملية هي أن هناك فجوة كبيرة بين ما ينصّ عليه القانون، وما يتوجب على الشرطة فعله، وما يحدث على الأرض، وهو أمرٌ يرتبط بالتزام عناصر الشرطة بالأوامر، إذ لا يقابل عناصر الشرطة المقاومين للأوامر كثيراً.
ويمضي شارحاً أن المشكلة تكمن في أنه، وحسب انطباعه: بأيّة أفكار تمضي الشرطة إلى هذه المهام الأمنية؟ أنّه لا يُلتزم بواجب خفض التصعيد في برلين، وأنه يؤخذ بتكتيك لا يؤدي إلى تخفيض التصعيد. ويرى أن قانون حرية التجمع ينصّ بوضوح، أن خفض التصعيد، يعني إدارة الصراع، أي أن "تكون موجّهةً نحو المجموعة المستهدفة، ما لا يعني أن تتخذ الشرطة أية مناسبةٍ سانحة للدخول وسط مظاهرة أو ايقافها، بل تعني مجال المناورة في إدارة المهمة الأمنية، واتخاذ قرارٍ فيما هو مهمٌّ بالنسبة إليهم؛ هل لدينا جناية فردية؟ هي غالبًا جُنَح، التفوه بعبارات. هل نعمل على معاقبتها، والحيلولة دون أن يمارس الآخرون حق التجمع؟ أم نقول أن ذلك طفيف، لندعها تحدث الآن، وأن ذلك مسألة متعلقة بالمهمة الأمنية؟".
ويؤكد أنّ معدل التجريم في النشاطات الداعمة لفلسطين سببه التعبير الكلاميّ، أو هو في جوهره متعلق به. ويخلص إلى أنه وفقاً لخبرته في الشارع وفي قاعات المحاكم، لم ترقَ الشرطة إلى مستوى مهامها في الشهور الخمسة عشر الأخيرة.
ويلاحظ العديد من الصحفيين والحقوقيين، أن العنف الشرطي المفرط يسري على مختلف التظاهرات، المتعلقة بالمناخ وإجراءات إغلاق كوفيد، لكن ما يفرق التظاهرات الداعمة لفلسطين عن غيرها، ويجعل الناشطين/ات فيها متضررين أكثر، هو الحساسية العالية لدى الساسة ومن ثم الشرطة لمخالفات الهتافات، ومحاولة التعامل معها فوراً، وسحب متظاهر/ة من وسط الجموع، ما يرفع إلى حد كبير فرص نشوب صداماتٍ عنيفة.
ويثير هتاف "من البحر للنهر فلسطين حرة"، على نحوٍ خاص، الكثير من الجدل الحقوقي والشعبي. منعت وزارة الداخلية الألمانية هذا الهتاف بُعيد ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، معتبرة إياه مرتبطاً بحركة حماس وجماعة صامدون. وفي حين أصدرت محاكم ألمانية ذات درجاتٍ دنيا أحكاماً متفاوتةً بخصوصه، من المنتظر أن تنظر محكمة العدل الاتحادية في القضية. ويعتبر عناصر الشرطة هذا الشعار، أو أية نسخ بديلة التفافية عليه، ممنوعة، ويفتحون تحقيقاً بشأنها.
ولأجل ملاحقةٍ لصيقة لكل هتاف، تستعين الشرطة عادةً بمترجمين عرب يرافقونها للتعامل مع الهتافات خلال التظاهرات الفلسطينية.
وبعد أن أثارت تقارير إعلامية، زعمت أن متظاهرين في برلين هتفوا مطلع فبراير الحالي بهتافاتٍ تدعو لقتل اليهود، سخطاً في ألمانيا، قررت السلطات فرض شروطٍ متشددة للغاية، وهكذا بات الهتاف أو تشغيل الموسيقى بأية لغةٍ ما عدا الألمانية والإنكليزية ممنوعاً. في يوم السبت ٨ فبراير، فضت السلطات تجمعاً في ساحة فيتنبرغبلاتز في برلين، لأن أحدهم تحدث بالعبرية، وشغل المتظاهرون موسيقى عربية. وبررت الشرطة شروطها نظراً إلى "العدد الكبير من الجرائم في مثل هذه التجمعات في الماضي".
ويعتبر المحامي غورسكي أنه، ولكي تمضي الأمور على نحو أفضل، ينبغي أن تحصل تغيراتٌ سياسية، على مستوى وزارة الداخلية، عبر نزع تجريم بعض الشعارات على نحو من "من البحر إلى النهر"، المنسوبة خطأً وفق باحثين إلى حماس وصامدون، وأن تغير الشرطة تكتيك عملياتها، فيما يتعلق بتدخلاتها لقمع المخالفات المفترضة، ما يعني أن تأخذ فقرة واجب خفض التصعيد في قانون حرية التجمع بجدية.
الكاتب محمد أمجاهد، يعيد سلوك الشرطة في برلين إلى قرارٍ سياسي، قائم على منهجٍ يعتمد العنف عوض الحوار، ملاحظاً أن رئيس بلدية برلين، "فيغنر"، يقدّم منذ يومه الأول في منصبه كرت بلانش للشرطة، وهو مثالٌ جيد لنسوقه، بأنه بالنسبة لفيغنر، الشرطة ديانة، مقدسة، وهو أفضل مثالٍ في ألمانيا كلها، بما في ذلك بافاريا المحافظة، على أن الدولة الألمانية عنيفةٌ ضد الأقليات، ضد العرب والمسلمين واليهود واللاجئين. يرسل، هو ووزير داخليته، الشرطة إلى أي مكانٍ تحدث فيه مشكلة، وبالمثل لقمع المتظاهرين المتضامنين مع القضية الفلسطينية، بشكل عام، وليس فقط لملاحقة حالات معاداةٍ للسامية تحصل أحياناً، ومن الضروري أن نتكلم عنها".
ويرى أمجاهد، أنّ هناك اتفاقاً سياسياً عاماً على أن الشرطة مقدسة، وهو أمر يعتبره خطيراً للغاية، إذ "عندما تحصل الاشتباكات، كما حصل في جامعات برلين، لا ترغب الدولة الألمانية في العديد من الأحيان بحلّ المشاكل عبر الحوار، بل عن طريق العنف. أول خيار بالنسبة للدولة الألمانية، هو الشرطة، وهو جوابٌ على كل الحوارات المهمة".
ساسة ألمان يستعجلون التخلص من السوريين/ات
10 كانون الأول 2024
خلل في نظام محاسبة الشرطة
نظرياً، يمكن للمتضرر من عنف الشرطة المفرط أن يتقدم ببلاغٍ جنائيّ ضده لدى الشرطة، ليحقق قسم الشرطة المختص في كل اتهامٍ حسب نوعه. لكن هذا النظام يعاني من خللٍ شديد.
الصحفي أمجاهد يعتبر أن "هناك مشكلة شرطة ومشكلة قضاء. هناك دراسة في جامعة فرانكفورت تشير إلى أن أقل من ٢٪ من التبليغات ضد الشرطة، تصل إلى المحكمة. وهناك دراسةٌ أخرى لجامعة بوخوم تشير إلى أن أقل من ١٪ من تلك التي تصل إلى المحاكم الألمانية تنتهي بحكمٍ ضد الشرطي. هذه الأرقام دليلٌ على وجود خللٍ في البنية القضائية، وأيضاً في البنية السياسية والاجتماعية. تعتبر الشرطة مقدسة، لا نشك فيها. تعتبر ديانةً بالنسبة للطبقة السياسية".
ويمضي في شرح كيف أن نظام محاسبة الشرطة المذكور معطلٌ من الناحية العملية، قائلاً:" المشكلة الأولى تكمن في أنه، حال تعرضك للعنف من قبل الشرطة سيتوجب عليك الذهاب للشكوى عند الشرطة. إن كنت مهاجراً/لاجئاً أم لا، ستجد صعوبةً في المطالبة بحقك. والمشكلة الثانية تكمن في الشكوى المضادة، في اللحظة التي ستحاول تقديم شكوى ضد الشرطي، سيحاول الشرطي المعني تدمير حياتك، وسيجد عناصر شرطة آخرين يتفقون معه على سيناريو خياليّ ضدك، هذا إذا وصلت إلى المحكمة (لن تصل). لذا هناك الكثير من المحامين/ات الذين يقولون للمتضرر/ة ربما من الأفضل ألا تطالب بحقك وتذهب للشرطة أو توكل محامياً، وهذه مشكلة كبيرة فيما يوصف بأنها دولة ديمقراطية ودولة قانون".
واظب محمد أمجاهد، الصحفي الألماني من أصول مغربية، عند عمله على كتابه الصادر حديثاً بعنوان "كلها حالات فردية؟ النظام الكامن خلف عنف الشرطة"، على مراقبة تظاهرات المناخ وتلك المتضامنة مع فلسطين. وخلص محمد إلى أنه "أعي بأن بعضهم يتسبب بالمشاكل في المظاهرات، وأنّ بعض السوريين لا يذهبون إلى هذه المظاهرات بسبب أنصار حزب الله فيها. لكنني، ونتيجة بحثٍ عميق أجريته، على التظاهرات الفلسطينية، والمناخية، يمكنني القول بأن جلّ المتظاهرين سلميّون، لا يقولون كلاماً مخالفاً للقانون، لا أتحدث هنا عن الجانب الأخلاقيّ أو السياسي”.
وتتحدث الشرطة الألمانية عادة، كلما أثارت واقعة عنفٍ شديد ضجةً على وسائل التواصل الاجتماعي، عن إجرائها تحقيقاً داخلياً، كشأن التحقيق في دفع شرطيٍّ لمتظاهرةٍ داعمة لفلسطين بطريقةٍ عنيفة جداً على الأرض على هامش مظاهرة. وفي حالة نادرة، أكدت النيابة العامة في برلين إدانة شرطيٍّ بضرب مراسل صحيفة برلينر تسايتونغ خلال احتلال ناشطين داعمين لفلسطين مبنىً في جامعة هومبولدت في برلين، رغم إظهاره هويته الصحفية. وحكمتْ على الشرطيّ بغرامة قدرها ٧٢٠٠ يورو.
الكاتب أمجاهد يؤكد، بناءً على أبحاثه ذات الصلة، أن هذه التحقيقات لا تؤدي في ٩٩٪ من الحالات إلى أية نتيجة، موضحاً " يُجادل بأن التحقيق يُسند إلى شرطة بوتسدام مثلاً إن كانت الواقعة متعلقة بشرطة برلين، لكننا نعرف جميعاً، بأن عناصر الشرطة أصدقاء، هذه لعبة، هذا مسرحٌ بالنسبة إليّ، وأحاول في كتابي التوضيح بأن الدولة الألمانية تعرف أصلاً بأن عنف الشرطة مشكلةٌ هيكلية، ولا تقوم بأي إصلاح".
وفيما إذا كانت الوسائل القانونية تنصف الناشطين/ات، المتعرضين للعنف، أم هناك دوماً خوفٌ من شكوى مضادة تقدّمها الشرطة، يقول المحامي غورسكي أنه يقدم المشورة للذين يقصدونه، ويوضح الخيارات والمخاطر، ويقرر الأغلبيةُ عدم تقديم دعوى، وعدم الإقدام على هذه المخاطرة. ويوضح أن الدعوى المضادة، التي تقدمها الشرطة، بتهمة مقاومتها أو الاعتداء الجسدي عليها، لا تحدث في كل حالة، ولا ينبغي تعميمها، لكنه أمرٌ يقابله كثيراً، أكثر من الحالات التي لا يصادفها.
ومضى المحامي في شرح الجانب التقني المعقد في هكذا نوع من المحاكمات، مبيناً أنه "يعتبر عنف الشرطة غير القانوني، وسيلة دفاع أيضاً في المحاكمة، عندما يكون هناك إجراءاتٌ جنائية ضد المرء. إذ إن استطعتُ اثبات أنني متضررٌ من تصرف غير قانوني من الشرطة، ودافعت عن نفسي حيالها، لا يصبح من السهل معاقبتي على ذلك، وفي بعض الأوضاع من المستبعد. وعندما أقدم للشرطة مسبقاً فيديو عن الواقعة، على سبيل المثال، يصبح لدي أحياناً مشكلة في استراتيجية الدفاع، لأن الشرطة تقدم وفقها أقوال شهودٍ لصالحها، متسقة مع الفيديو المقدّم إلى المحكمة. لذا هذا حقلٌ معقدٌ للغاية، والمشكلة تكمن في أن الشرطة تحقق ضد نفسها والنيابة العامة تحقق ضد سلطةٍ مقربة جداً جداً منها، إذ أن لدى الجهتين الملاحقة للجرائم، المصالح نفسها، والتفويضات نفسها"، واصفاً المضي في الطريق القانوني بأنه طويل نسبياً، ويتضمن جانباً مادياً يتعلّق بتغطية التكاليف القانونية.
الشرطة كجهازٍ تنفيذي فحسب؟
في أكتوبر العام ٢٠٢٤، لفتت رئيسة شرطة برلين باربرا سلوفيك مايسل وسيناتور الداخلية في الولاية كرستيان هوخغريبه، الأنظار، بدعوتهما إلى الاستفادة من أقصى إمكانيات القانون في ملاحقة المتظاهرين/ات لأجل غزة، كشأن توقيف "مرتكبي الجرائم". وتحدثت سلوفيك عن "توقعهم صدور أحكامٍ أكثر" بحق المتظاهرين. وأثارت هذه التصريحات عدم تفهم النيابة العامة، التي تحدثت عن تحققها في كل حالة على حدة للنظر في وجود شبهةٍ كافية، و"الأفضل العمل بشكلٍ صحيح على الإسراع في ذلك".
وأوضح ميشائيل بتزولد، المتحدث باسم النيابة العامة، أنّه بحلول ذاك الشهر، وصلهم ٣١٩٧ قضية متعلقة بالشرق الأوسط وأحداث التظاهر، وأغلقوا بالفعل ٨٠٪ منها، ورفعوا لائحة اتهاماتٍ في ٣٦٣ قضية، وصدر حكمٌ مبرم في ٢٠ قضية منها، عقوبة أربعةٍ منها السجن مع وقف التنفيذ، وعقوباتٌ مالية للباقين.
في حوار "سبوره" في برلين، واظب هايكو تيغاتز، نائب رئيس نقابة الشرطة الألمانية على تصوير الشرطة على أنها جهاز تنفيذي لا يتدخل في السياسات، وليس لديهم كعناصر شرطة سوى تنفيذ الأوامر. زعمٌ ردت عليه يارا ناصر، الكاتبة وعالمة الأنثروبولوجيا الألمانية اللبنانية، الناشطة في حركة التضامن مع فلسطين في برلين، مشيرة إلى أنّ تصريح نقابة الشرطة هذا يخدم اليمين (الشعبوي).
فلسطين: المعيشة والاقتصاد على هامش العدوان
20 أيار 2024
مانويل أوسترمان، نائب رئيس نقابة الشرطة، زميل تيغاتز، يحرّض بانتظام ضد المتظاهرين/ات لأجل غزة في ألمانيا. وأثار أوسترمان الغضب، عندما علق على مشهد استخدام شرطة برلين الكلاب المدربة لترهيب المتظاهرين/ت الفلسطينيين، بالتأكيد على أنّ ما يشاهدونه من مظاهرات في برلين، سببٌ كافٍ لبدء حملة ترحيلٍ من ألمانيا، "للمعادين للسامية المستعدين للعنف، الذين يسيئون لدستورنا. أجساد وحياة عناصر شرطتنا سيان بالنسبة إليهم. استخدام كلاب المهام الأمنية صحيحٌ تماماً، وسأمضي خطوةً أخرى، ستكون إزالة الكمامة في أماكن كثيرة مفيدةً أكثر".
نظير هذا الكلام التحريضي، وغيره من الأقوال العنصرية، قدّمت منظمة العفو الدولية، شكوى إشرافيةً ضده. وزعم تيغاتز أن زميله أوسترمان يتحدث على وسائل التواصل الاجتماعي بصفته الشخصية، ما أثار ضحكات الحضور.
وجادل تيغاتز أن هناك حزمةً من الوسائل التي يمكن من خلالها مراقبة عمل الشرطة، منها، المحاكم والنيابة العامة، و"مكاتب الثقة"، و"مكاتب شكوى" فُتحت حديثاً، وما يسمى بمفوضيات الشرطة، التي يفترض أن تدعم الثقة بين المواطن والشرطة، وتعمل على مراقبة عمل الشرطة، مشيراً إلى أنّ عناصر الشرطة يخضعون لمراقبة رؤسائهم.
إلا أن البروفيسور توبياس سينغلنستاين، أستاذ علم الإجرام والقانون الجنائي في جامعة غوته، أكّد على ضرورة أن يلعب المجتمع المدني والإعلام دوراً رقابياً أيضاً، وقلّل من شأن مفوضيات الشرطة كأداة رقابيّة، قائلاً "تواجد مفوضيات الشرطة في بعض الولايات وعلى المستوى الاتحادي، هو خطوةٌ صغيرة في الاتجاه الصحيح، لكنها سلطاتٌ صغيرة للغاية، بتفويضاتٍ صغيرة، وحقل مسؤولياتٍ صغير، وموارد ضئيلة. مقارنة بما نعرفه عن دول كبريطانيا وإيرلندا، تعتبر هذه المفوضيات الألمانية، نقطةً في بحر، ولها دور الوساطة بين المواطن والشرطة، لا دور الرقابة على الشرطة، الذي يصبح في الخلفية. وإن أردنا شيئاً مما يتواجد في دول أوروبية أخرى، هيئات رقابةٍ حقيقية مستقلة، فالطريق أمامنا طويل".
ويعيد الكاتب محمد أمجاهد عدم إقدام الدولة الألمانية على إصلاحاتٍ لتصبح الرقابة على الشرطة، في مستوى دول كإيرلندا والدنمارك، إلى وجود نقابتيّ شرطة كبيرتين، تحاولان منع أي إصلاحٍ أو أي حوارٍ بخصوص الإصلاح، كإنشاء إدارةٍ مستقلة تراقب الشرطة.
ويشير إلى محاولة قيادة الشرطة الايهام بوجود نوعٍ من التوازن في صفوفها، وتعاملها مع المهاجرين واللاجئين، عبر "تنوع" مفترض عبر توظيف عناصر شرطةٍ من أصولٍ عربية مثلاً. ويلخص الوضع في ألمانيا بطريقةٍ ساخرة بالقول:" في ألمانيا، يحبون (محمد) الشرطي، الذي يرسلونه في برلين إلى نويكولن وهيرمان بلاتز، أو في ديسبورغ، أي مكان فيه الكثير من المهاجرين، كي يذهب محمد ويضرب محمداً ثانياً، الذكورية هي مشكلة عامة ضمن الشرطة. يذهب (محمد) إلى الشرطة، ويرى زميله الألماني يقول له، عليك التأكيد بأنك معنا، فيقول له (محمد) أنه سيذهب إلى نويكولن وسيضرب بعض المهاجرين هناك، وسنحتفل مع بعضنا بعدها، هذه مشكلة كبيرة. أعرف العديد من اللاجئين الذين وصلوا إلى ألمانيا في ٢٠١٥، الذين يريدون تقديم برهانٍ على أنهم مندمجون في المجتمع، ويرون أنفسهم ألماناً، لأنهم يعملون مع الشرطة. التنوع في الشرطة يجلب عنفاً متنوعاً".
المحامي أندرياس غورسكي، يشغل دور المحامي المرافق للتظاهرات، ويمثّل أيضاً مقدّمي طلب المظاهرة والمنظمين في عين المكان، يرى أنّ حركة الناشطين/ات الفلسطينية ذات صبغةٍ مهاجرة، وأنّه "ما من شكٍّ بأن هناك قمع دولة لها. لن يجادلني في ذلك حتى كاي فيغنر (رئيس بلدية برلين)، فهو يطالب بذلك طوال الوقت، ما يعني أن أداة القمع توائم طوال الوقت مع الحركة، التي من المفترض أن تصيبها، وأبرزها من وجهة نظري، قانون الهجرة الذي يستخدم كتدبيرٍ انضباطي، وأداة قمع، شديدة للغاية"
قانون الإقامة والهجرة كأداة قمع
منذ بدء حراك الناشطين الداعمين لغزة، دأب الساسة الألمان على التهديد بتبعاتٍ قانونية للمخالفات المرتبطة بمعاداة السامية، خاصةً فيما يتعلق بقانون الإقامة واللجوء ومنح الجنسية الألمانية، ما وضع الراغبين في المشاركة في التظاهرات أمام أخطار وجودية، نظراً لتفسير السلوك والعبارات بطريقةٍ كيفيةٍ من قبل السلطات.
المحامي غورسكي يرى أنّ حركة الناشطين/ات الفلسطينية ذات صبغةٍ مهاجرة، وأنّه "ما من شكٍّ بأن هناك قمع دولة لها. لن يجادلني في ذلك حتى كاي فيغنر (رئيس بلدية برلين)، فهو يطالب بذلك طوال الوقت، ما يعني أن أداة القمع توائم طوال الوقت مع الحركة، التي من المفترض أن تصيبها، وأبرزها من وجهة نظري، قانون الهجرة الذي يستخدم كتدبيرٍ انضباطي، وأداة قمع، شديدة للغاية"، مشيراً إلى أن الناس الذين يخرجون إلى الشارع ليس لديهم جواز سفر، وإقاماتهم مختلفة، وتُصدر السلطة أحكاماً مختلفةً بحقهم، كعدم تمديد الإقامة أو الترحيل، وهي شديدة الوضوح مقارنةً بالعقوبة التي يتضرر منها شخصٌ بجواز سفرٍ ألماني.
ويتحدث غورسكي عن استخدامٍ استراتيجي لقانون الهجرة، تدعمه الشرطة والنيابة العامة، ويشرح أنّ هناك نوعاً من واجب مشاركة البيانات بين السلطات، وتسرع الشرطة والنيابة لإبلاغ سلطات الأجانب بفتح تحقيق ضد شخصٍ أجنبي، لكن لم يسبق وأن شاهدهم مرة وقد شاركوا خبر إغلاق قضية ضد شخص مع سلطات الأجانب. "إن أُغلق التحقيق، ينبغي أن يخبر المرء بنفسه سلطات الأجانب بذلك".
ذاكرة مصرية "شبه متخيّلة" و"مختزلة أحيانًا" عن محاولات عودة الروح السورية
07 كانون الثاني 2025
علاقةٌ رومانسية تجمع الشعب الألماني والشرطة
رغم انتشار فيديوهات عنف الشرطة المفرط ضد المتظاهرين/ات دعماً لغزة وضد تغير المناخ في وقتٍ سابق، إلا أنّ قلةً فقط من الجمهور الألماني تستنكرها، وكثيراً ما يشاهد المرء على وسائل التواصل الاجتماعي تعليقاتٍ على نحو "الشرطة تفعل كل شيء كما يجب". وعادةً ما تتبنى وسائل الإعلام تقارير الشرطة الأمنية عن تلك الوقائع، من دون التمحيص فيها، وإلقاء نظرةٍ ناقدة عليها.
ويفسر الكاتب أمجاهد ذلك، جزئياً بالكوبغاندا، أي الترويج للشرطة في المسلسلات والأفلام والمجلات والروايات والبودكاست، بشكلٍ يطبع عنف الشرطة، ملاحظاً كيف أن نمط "الجريمة" محبوبٌ جداً في ألمانيا.
ويقول أمجاهد في حواره معي، "هناك رومانسيةٌ بين الشرطة والألمان، مضحكة أحياناً وخطيرة أحياناً. عندما أذهب إلى مدن كبيرة لأجل قراءةٍ من كتابي. ورغم افتراض أن الحضور يعرفون موقفي الناقد من الشرطة، لكنني دائماً ما أجد ألمانياً (يبكي) محتجاً، بأن الشرطة هم الأصدقاء والمساعدون، هكذا تعلمت في المدرسة. أفهم أن هذا الموضوع عاطفيٌّ جداً بالنسبة للألمان، لماذا؟ لأن دور الشرطة يكمن في جعل ألمانيا كما كانت قبل وصول كل اللاجئين والمهاجرين إليها. هو موقفٌ يستند إلى الخيال قليلاً. مع فرض الحكومة، قبل أسابيع، الرقابة على جميع الحدود مع دول الجوار لمنع الهجرة، يرسلون الشرطة لتراقب، بطريقةٍ عنصرية، كل شخص شكله ليس ألمانياً على الحدود، يتخيلون أن الشرطة بوسعها جعلهم يعيشون مثلما كانوا في العام ١٩٦٥، لكن (محمد) موجود هنا، ماذا ستفعل؟".
ويجادل بأن هذه العلاقة العاطفية راسخةٌ وقديمة، إذ " كان الألمان يبلّغون في العهد النازي، عن اليهود الذين يعيشون في الجوار، وبات الألمان كلهم شرطة. من دون هذه الرومانسية وعلاقة الحب مع الشرطة. كان من المستحيل أن ينجح الهولوكوست بالطريقة التي نعرفها".
رياح تغيير .. نحو الأسوأ؟
الأجواء السائدة في ألمانيا في هذه الأثناء، المائلة إلى أقصى اليمين، لا تشي بأن البلاد مقدمةٌ على حقبةٍ سياسية جديدة، أكثر تصالحاً مع الداعمين للقضية الفلسطينية، أو تتجه نحو فرض أي نوع من الرقابة الحقيقية على الشرطة. هذا ما يوضحه بجلاء خطاب فريدريش ميرتز، مرشح المستشارية عن الاتحاد المسيحي المحافظ، خلال الحملة الانتخابية. وميرتز، المتوقع بشدة أن يكون الحاكم التالي للبلاد، هو رئيس الحزب المسيحي الديمقراطي، الحاكم في ولاية برلين، بقيادة كاي فيغنر.
في خطابٍ له في مؤتمر الحزب، مطلع فبراير الحالي، رد ميرتز غاضباً من تظاهراتٍ ملأت شوارع برلين ومدن ألمانية أخرى، ضد مخاطرته بتمرير قانونٍ متشدد للغاية ضد اللاجئين، مع أصوات حزب البديل لأجل ألمانيا اليميني المتطرف، قائلاً: "أين هي انتفاضة الصالحين، عندما يُلوَّح بالأعلام الفلسطينية وتُحرق الأعلام الإسرائيلية؟".
وقال ميرتز في فيديو مشترك مع باقي مرشحي الأحزاب، لصالح المجلس المركزي ليهود ألمانيا، أن صور أناسٍ يدعون في أجزاء من بلادهم لتدمير إسرائيل، "لا تحتمل"، وللوقوف بحزم ضد هذه الكراهية، سيمنحون شرطتهم تغطيةً أكبر، وسيوسعون صلاحياتها، لتستطيع التصرف باتساقٍ أكبر ضد "مرتكبي أعمال العنف المعادين للسامية"، مضيفاً أنهم سيشددون فقرة "التحريض" في القانون الجنائي، ليصبح إنكار حق إسرائيل في الوجود جريمةً يعاقب عليها القانون مستقبلاً.