في الهوية السنية لسوريا الجديدة: محكومون بالأمل، أم بالموت، أم بكليهما؟

ردّاً وسجالاً مع موريس عايق


نشرت حكاية ما انحكت مؤخراً مقالاً للكاتب موريس عايق، تحت عنوان "سوريا السُنيّة.. تزاوج بين سرديّةٍ سلفية جهادية وسرديّة شديدة الطائفية"، يعلن فيه أن "سوريا السُنيّة عنوانُ المرحلة القادمة من تاريخ سوريا". هنا ردٌّ من الكاتب والمفكّر السوري حسام الدين درويش الذي يرى أن "ضعف التنظير والتوجّه الأيديولوجي يقلّل كثيراً من احتمال نجاح أو حتى وجود مشروع الهوية السنية لسوريا".

24 آذار 2025

د: حسام الدين درويش

أكاديمي وباحث في الفلسفة الغربية والفكر العربي والإسلامي

يحاجج كثيرون أنّ السوريين ليسوا شعباً، وإنما هم مجموعة إثنياتٍ أو شعوب (عرب، وأكراد، وتركمان، وسريان، وأشوريين، ... إلخ) وأديان وطوائف متناحرةٌ (مسيحية أرثوذكس، وكاثوليك، وبروتستانت، وإسلام سنة، وعلوية، ودروز، واسماعيلية.. إلخ). ويشدّدون على أنّ هذا هو الواقع الذي ينبغي الاعتراف به والانطلاق منه والتوقّف عن إنكاره، وأنَّ الانقسام الأهلي الطائفي الإثني يعبِّر عن اختلافٍ في "طرق الحياة"، وهو يقف خلف كلّ الصدامات والنزاعات في سوريا، الجديدة والقديمة. ويستغربون ويستهجنون إنكار ذلك، رغم أن السؤال الطائفي يقبع في خلفية تفكير كلّ من يتناول هذه الصدامات والنزاعات والأوضاع في سوريا عموماً.[1]

يزداد حضور هذه الرؤية في الخطاب السوريّ النخبويّ، ويتصاعد التوجّه الذي يرى في الجماعات الدينية أو الطائفية جماعاتٍ إثنية. والحديث عن الطوائف بوصفها إثنيات، يعني تعريفها بالاختلافات القائمة بينها وبين الطوائف/ الإثنيات الأخرى، انطلاقاً من أنّ تلك الاختلافات أكبر و/ أو أهم من القواسم المشتركة الموجودة في ما بينها. وفعلاً، هذا ما يتم التركيز عليه، غالباً، في هذا السياق. ووفقًا لذلك المنظور، العلوية والمسيحية والإسماعيلية والدروز ليسوا عرباً، بل إثنيات ناطقة باللغة العربية. ولا يُنظر إلى الكرد والتركمان (السنة) إلا بوصفهم إثنيةً مختلفةً عن الإثنيات الأخرى. وتبقى الأكثرية العربية السنيّة المجموعة أو الجماعة الوحيدة التي يتم اشتراط أن يكون المنتمي إليها، أو المنسوب إليها، عربيّاً وسنيّاً، في الوقت نفسه. وبهذا، يتم استبعاد العرب غير السنة، والسنة من غير العرب من هذه المجموعة أو الجماعة. وبدلاً من أن تضم حوالي أكثر من 85% من السوريين في حال الحديث عن العروبة، وأكثر من ثلثي السوريين، في حال الحديث عن (الإسلام) السنة، تصبح هذه الأكثرية أقل من نصف عدد السوريين، عند اشتراط الجمع بين العروبة والسنية.[2]

يمكن النظر إلى مشروع الهوية السُنيّة بوصفه مجرّد إمكانيةٍ بين إمكانياتٍ مختلفة، وليس مؤكداً أو حتى مرجحاً أن يكون "الدم والخراب مرجّحين لزمنٍ قادم"، كما يرى عايق.

ويأتي الحديث عن الطوائف بوصفها إثنياتٍ من جهاتٍ مختلفة. فإضافةً إلى أنه يمثل النظرة الاستشراقية النمطية والتنميطية، فهناك من يتبناه في الأكاديميات الرصينة[3] ومن النخبة الفكرية السورية. ولا يلتزم أصحاب هذا التصنيف بمعايير واضحةٍ للتمييز بين الطوائف والإثنيات والشعوب.. إلخ. وحتى عندما يرون أنّ معيار "الاعتقاد الذاتيّ" هو المعيار الحاسم، يجزمون بوجود مثل هذا الاعتقاد مع الإقرار المتذمّر، أحياناً، من غياب التعبير عنه. ولا يبدو واضحاً كيف يمكن الجزم بوجود مثل ذلك الاعتقاد وهيمنته وديمومته من دون حتى أن يتم التعبير عنه! ولست متأكداً من نسبة الأفراد السوريين المنتمين نسباً إلى المسيحية أو العلوية أو الدروز أو الإسماعيلية الذي يعتقدون أن السنة فقط هم المنتمون إلى الإثنية العربية في سوريا، وأن مجموعاتهم أو جماعاتهم الدينية أو المذهبية أو الطائفية متمايزة عن الإثنية العربية، وأنها مجرد جماعاتٍ ناطقةٍ باللغة العربية. وثمة مزاعم بأن أغلبية الأفراد المنتمين إلى الأقليات الدينية والطائفية في سوريا يعتقدون بذلك التمايز، ولدى كثيرين، وأنا منهم، شكوكٌ كبيرةٌ في موضوعية أو مصداقية تلك المزاعم.

عزيز العظمة: عن سوريا بين سقوط النظام وصعود الإسلاميين

17 كانون الثاني 2025
يتناول هذا الحوار مع الأستاذ والدكتور عزيز العظمة مجموعة من القضايا الحيوية المتعلّقة بالواقع السوري الراهن وتحوّلاته بعد سقوط نظام بشار الأسد. كما يناقش العظمة مواضيع محورية مثل صعود الجماعات...

وإذا كان مفهوماً أن تميل الأقليات إلى تبنّي رؤيةٍ طائفيةٍ لكونها أقليةً، وأن يكون لدى أفرادها قلقٌ وجوديٌّ مستقرّ، وشعورٌ بالاغتراب الدائم عن المحيط الذي تهيمن عليه الأكثرية، كما يقول هشام شرابي، في كتابه "المثقفون العرب والغرب"[4]، فإنّ الأكثرية العربية أو السنية قد تكون أقل ميلاً، من حيث المبدأ، لتبنّي رؤيةٍ طائفية، لأسبابٍ تتعلّق بكونها أكثريةً بالدرجة الأولى. وتظهر تلك الرؤية الطائفية في وقت الأزمات والتوترات والاضطرابات، وما أكثرها. والمقصود بالرؤية الطائفية، في هذا السياق، رؤية الأمور والتفاعل معها، انطلاقاً، من أوضاع (المنتمين إلى) الطائفة ومخاوفهم ومطامحهم، ومن القلق أو الخوف الوجودي المحايث لوجودهم. ﻓ "هناك معضلة مطروحة على الأقليات، ولا تعرفها الأكثرية، وهي أنّ كل معركة هي معركة وجودية وكل هزيمة هي إيذانٌ بدمار وجودي"[5]. هذا ما سبق لموريس عايق أن شدَّد عليه ببلاغة. وقد كتب مؤخرًا مقالًا مهمًّا بعنوان "سوريا السُنيّة... تزاوجٌ بين سرديّةٍ سلفية جهادية وسرديّة شديدة الطائفية"، يعلن أو ينذر فيه أن "سوريا السُنيّة عنوانُ المرحلة القادمة من تاريخ سوريا"، وأنّ الإدارة الحالية تقوم ﺑ "إعادة تعريف هوية سوريا انطلاقاً من هُويّةٍ سنيّة تنظر إلى نفسها بوصفها جماعةً قومية، جماعة ذات عصبية، بمعزلٍ نسبيّ عن الاعتقادات الدينية لأبنائها ومدى أرثوذكسيتها". وأنّ مشروعَ الهوية السُنيّة في سوريا مشروعٌ فاشيّ، ينطوي على خطرٍ إباديٍّ للآخرين". و"الآخرون" هنا ليسوا المنتمين إلى الطوائف أو الإثنيات السورية الأخرى فحسب، بل عددٌ كبيرٌ من السنة أنفسهم أيضاً.[6]

يتضمن توصيف عايق لسوريا السنية الفاشية، أو لمشروع الهوية السنية لسوريا الجديدة، رؤيةً نظريةً متينة السبك ومنسجمة العناصر أو الأبعاد. وقد عبَّر كثيرون بعد سقوط/ إسقاط النظام الأسدي، ومنهم كاتب هذه السطور، عن مخاوفهم من "السنية السياسية" الناشئة في سوريا. والمقصود بتلك "السنية" تلك الأفضلية الممنوحة أو المظنون لدى كثيرين (من السنة) أنه ينبغي أن تكون ممنوحةً للسنة على باقي الطوائف والإثنيات لأنهم سنة، وأن تُفرَض تلك الأفضلية بالقسر والإكراه، انطلاقًا من الزعم بأنّ السنة، في العهد الأسدي، لم يكونوا مظلومين فحسب، بل كانوا المظلومين بامتيازٍ أيضاً، وبأنّ العدالة والواقعية والحكمة تقتضي بأن يكونوا هم، خصوصاً أو تحديداً، الأعلون في الدولة الجديدة، لأنهم الأكثرية، ولأنهم المنتصرون الذين ضحوا بالغالي والنفيس إلى أن تمكنوا من إسقاط النظام الأسدي.

وثمّة قرائن عديدةٌ على أنّ السلطة تتصرّف، قولاً وفعلاً، ببراغماتية وفقاً لرؤيتها لضرورات الواقع، أكثر مما تتصرّف وفقًا لأيديولوجيا أو عقيدةٍ (دينيةٍ) جامدةٍ وواضحة المعالم.

سأقتصر، في ما يلي، على إبداء بعض الملاحظات النقدية لمضمون النصّ المذكور للكاتب المتميِّز موريس عايق، مع التشديد على أنّ السمة النقدية لتلك الملاحظات لا تنكر أو تنفي قيمة النص وغنى مضامينه، بل إنّها تتأسّس على تلك القيمة، وذلك الغنى، وتسعى إلى البناء عليهما، في الوقت نفسه.

يبدو النص ردّ فعلٍ منفعلاً بمجازر الساحل الطائفية التي يُقدَّر عدد ضحاياها بألف شخصٍ علويّ. وهو كذلك، لأنه لا يأخذ في الحسبان ما حصل قبل ذلك الحدث، وما كتبه عايق نفسه في هذا الخصوص. كما أنه لا يرى المستقبل إلا استطالةً لهذا الحدث الذي يرى أنه يجبُّ ما قبله، ويؤسّس لما بعده، بحيث يكون تكراراً أو محاكاةً ما له. ففي خصوص الماضي المُهمل، رأى عايق نفسه، سابقاً، أنّ خطاب الفصائل، تجاه مكونات الشعب السوري، خلال عملية ردع العدوان، كان "متقدّماً جدّاً"، وتمنى لو أن ذلك الخطاب "كان حاضراً خلال السنوات الأولى من الثورة لدى الفصائل المسلحة وقتها، فربما كان لمسار الأحداث عندها أن يكون مختلفاً جداً عمّا آلت إليه الأمور"[7]. وقد بقي هذا الخطاب سائداً حتى اليوم، لدرجةٍ أو لأخرى. وليس واضحاً تماماً أو مؤكّداً مدى تعبير تلك المجازر عن التوجّهات الحالية و/ أو المستقبلية لإدارة الأمر الواقع. وينبغي أن نتذكر ونأخذ في الحسبان أنّ سقوط النظام ترافق مع سقوط أو انهيار أهم مؤسسات الدولة أو مواتها واضمحلالها. وينطبق ذلك على المؤسسات العسكرية والأمنية انطباقاً خاصّاً. ومن الواضح أنه ليس لدى السلطة الحالية، حتى الآن، قدرةٌ على ضبط الامن أو حتى ضبط الفصائل التابعة لها أو المتحالفة معها أو ضبط السلاح في المناطق الخاضعة لها.

وفي خصوص المستقبل، يمكن التشديد مع عايق بأن "المستقبل مجرد إمكانيات، وتَحقُّقها يتعلق إلى حدٍّ كبير بسلوكنا الخاص". وانطلاقاً من التشديد المذكور يمكن النظر إلى مشروع الهوية السُنيّة بوصفه مجرّد إمكانيةٍ بين إمكانياتٍ مختلفة، وليس مؤكداً أو حتى مرجحاً أن يكون "الدم والخراب مرجّحين لزمنٍ قادم"، كما يرى عايق.

والجدير بالانتباه والتأمل هو أنه كتب في خاتمة مقالٍ سابقٍ له، عن الوضع السوري بعد سقوط/ إسقاط النظام الأبدي، "علينا أن نُردِّدَ «إننا محكومون بالأمل»، التي قالها سعد الله ونوس عشية انهيار الأحلام الكبيرة"[8]. في المقابل نجد في المقال الأخير رؤيةً سوداويةً (شبه) يائسة ترى أن "هذا المشرق في حالةٍ من الخواء والعجز عن تقديم خياراتٍ بديلة، وكأنّنا محكومون بالموت لزمنٍ طويلٍ قادم"[9]. وحال عايق كحال بعض، وربّما معظم السوريات والسوريين الذين قد تتقلّب أحوالهم بين الفرح والحزن، والتفاؤل والتشاؤم، والأمل واليأس، أكثر من مرّةٍ في اليوم الواحد أحياناً. ولهذا ينبغي لهم/ لنا التريّث في اختيار مَن أو ما نحن محكومون به، وعدم الاستعجال في اختيار الأمل أو اليأس ليكون أحدهما الحاكم الأوحد لهم/ لنا. وقد لا نكون (مضطرين إلى أن نكون) محكومين بالأمل (وحده)، ولا باليأس (وحده)، بل بكليهما معاً غالباً. ومن هنا تبرز قيمة التأنّي الشديد في إطلاق الأحكام الجازمة أو الواثقة في خصوص الواقع السوري الحالي وآفاقه المستقبلية. فالتغيّرات أو التغييرات كثيرة وكبيرة ومتسارعة، والعوامل الداخلية المحلية والخارجية الإقليمية والدولية المؤثرة في توجيه مساره أو مساراته كثيرة ومعقدة. وليس سهلاً ولا مناسباً الضبط النظري لكلّ هذه المتغيّرات وتأكيد او حتى ترجيح مسارٍ ما، من دون أخذ كلّ الممكنات والمسائل الرئيسة في الحسبان. ومن دون التحوّط والانضباط المعرفي تكون معارفنا، غالباً، مجرّد ردود فعلٍ نفسانيةٍ على واقعٍ تتلاطم أمواجه وتتغير أحواله، بحيث تتنافى مضامينها تنافيًا ذاتيًّا، فتُثبت اليوم ما تنفيه غدًا، وتنفي بعد غدٍ ما تُثبته غداً، فتغرق في الواقع نفسيًّا، بدل أن تستوعبه وتمتلكه معرفيّاً.

لا شك أنّ عمليات تطييف المجتمع، ولا سيما في العقود الأخيرة، قد فعلت فعلها واخترقت جسد المجتمع السوريّ؛ لكنْ لا يمكن اختزال ذلك المجتمع وأفراده إلى الطوائف والإثنيات المذكورة. والمجتمع السوري ليس مجتمعاً أهليّاً أو جماعاتٍ أهليةً يترابط أفرادها بالنسب الوراثي، فحسب، بل هو مجتمعٌ مدنيٌّ أيضاً.

في مقالٍ سابق، أشار عايق محقّاً إلى أنّ نظام الأسد قد "أغلق المستقبل حرفياً، فيما فتح سقوطه الباب على جميع الإمكانيات، من أفضلها إلى أسوئها"[10]. ونجد أنه من الضروري ألا تجعلنا ردود فعلنا الانفعالية نخطئ بالإسهام في إعادة إغلاق ذلك الباب، نظريّاً وعمليّاً، أو الإيهام بأنه مغلقٌ، بما يفضي إلى تهميش أو تهشيم الإمكانيات الإيجابية، وتحقيق أو تفعيل الإمكانيات السلبية. وهذا ما يبدو أن عايق يفعله حين يشير في ختام مقاله إلى أننا محكومون بعدم وجود خيارات بديلةٍ (إيجابيةٍ)، وبعدم القدرة على إيجادها. ولهذا نجد أنه لا يتناول أو لا يرى، في هذا المقال، إلا مشروع "سوريا السنية الفاشية"، مع استبعاد أو إقصاء أو تجاهل أو إنكار وجود أيّة خياراتٍ بديلةٍ عن ذلك المشروع المدمِّر. ولا تبدو هذه الرؤية الأحادية موضوعيةً معرفيّاً ومناسبةً سياسيّاً، بقدر ما تعطي الانطباع بأنها زفرةٌ نفسانيةٌ حزينةٌ يائسةٌ. ويمكن وصفها بالخطأ، بالمعنى الديكارتي للكلمة، لأنّ إرادة الحكم تتجاوز فيها المعطيات المتاحة أمام العقل والإدراك. ولا يحصل هذا التجاوز عند وجود الرغبة في شيءٍ ما فحسب، بل يحصل، أيضًا، عند وجود رغبةٍ عن شيءٍ ما أو خشيةٍ منه. وثمّة خشيةٌ كبيرةٌ وواضحةٌ من فاشية سوريا السنية وسلبياتها الكثيرة والكبيرة. وهذا هو الأساس النفسي أو النفساني الذي يبدو واضحاً أن النص يتأسّس عليه، ويحاول أن يؤسِّس له أو يعبِّر عنه معرفيّاً، في الوقت نفسه.

ويبدو مشروع سوريا السنية، المزعوم أو المظنون، توجّهاً أيديولوجيّاً من دون أيديولوجيا، أي من دون رؤيةٍ نظريةٍ واضحة المعالم عما يجب أن يكون. فليس واضحاً ما هي ماهيةُ الأساس الأيديولوجي النظري الذي يحكم توجهات سلطة الأمر الواقع الحالية، وليس مؤكداً أو مرجحاً وجود مثل ذلك الأساس الأيديولوجي. وهذا الافتقار إلى الإنتاج الفكري النظري سمةٌ للأيديولوجيات والحركات الإسلامية السورية في العقود الأخيرة، ومن ضمنها حركة الإخوان المسلمين، التي بقيت تعتاش على إنتاج حسن البنا ومصطفى السباعي وسعيد حوى.. إلخ، وتجترّه، من دون أن تقدّم تنظيراً جديداً يشرح توجّهاتها الفكرية والسياسية المختلفة في العقود الخمسة أو الستة الأخيرة. ويتحدث عايق، في عنوان مقاله، عن أنّ مشروع سوريا السنية هو حصيلة تزاوجٍ بين "سرديّةٍ سلفية جهادية وسرديّةٍ شديدة الطائفية"، لكنْ لم يتطوّع أي طرفٍ لكتابة قصة ذلك التزاوج وحصيلته والتنظير له. ويبدو ذلك التزاوج أقرب إلى زواج المتعة أو المسيار العابر من كونه زواجاً أو ارتباطاً كاثوليكياً لا مجال للطلاق بين طرفيه. وثمّة قرائن عديدةٌ على أنّ السلطة تتصرّف، قولاً وفعلاً، ببراغماتية وفقاً لرؤيتها لضرورات الواقع، أكثر مما تتصرّف وفقًا لأيديولوجيا أو عقيدةٍ (دينيةٍ) جامدةٍ وواضحة المعالم. ومع الإقرار بوجود ما يمكن تسميته ﺑ "جناحٍ عقائديٍّ" في الفصائل التي يقودها الجولاني/ الشرع، يمكن القول مع توماس بييريه، الذي كتب في 20 آذار الحالي: "يُظهر المسار السياسي للرئيس الحالي أنه غالباً ما يعتبر أنّ الجناح العقائدي في منظمته تهديدٌ يجب أن يحمي نفسه منه"[11]. إن ضعف التنظير والتوجّه الأيديولوجي يقلّل كثيراً من احتمال نجاح أو حتى وجود مشروع الهوية السنية لسوريا، الذي يتحدث عنه عايق.

يمكن لتفاعلنا مع ما يحصل في الواقع (السوري) أن يكون منشغلاً أو مهووساً بالبحث عمّا يؤكّد أحكامنا المسبقة. ويمكن لمثل ذلك الانشغال أو الهوس أن يدفع كثيرين إلى التشكيك في القيمة الإيجابية لبعض الأحداث أو الأقوال أو الأفعال التي يبدو أنها تخالف تلك الأحكام، وإلى الطعن في نوايا أصحابها لنفي تلك القيمة. في المقابل، يمكن للانشغال المذكور أن يدفعنا إلى التسرّع في إطلاق أحكامٍ عامةٍ وشاملةٍ، في ردّ فعلٍ على سلبيةٍ أو سلبياتٍ معينة. وتقتضي الرؤية الموضوعية والمنصفة أن نأخذ في الحسبان الأبعاد المختلفة للموضوع. وعلى هذا الأساس، يمكن المحاججة بأنه لا يبدو مؤكّداً وجود مشروع أو توجّهٍ أيديولوجيٍّ، لدى نظام الأمر الواقع الحالي، لخلق الهوية السنية لسوريا التي تحدث عنها عايق. ولا يبدو، من معظم أقوال ذلك النظام، ومن إعلانه الدستوريّ، ومن الكثير من أفعاله، أنّ تلك الهوية، حتى في حال وجود مشروع ما لخلقها أو صنعها أو فرضها، ستكون كما وصفها عايق: فاشيةً قاتلةً وإجراميةً بالضرورة. ويصعب القول عن الإعلان الدستوريّ، على علاته الكثيرة والكبيرة، أنه ابنٌ شرعيٌّ أو طبيعيٌّ للتزاوج المظنون حصوله، لدى سلطة الامر الواقع، بين توجُّهٍ سلفيٍّ وتوجّهٍ طائفيّ.

يمكن للحديث عن "سوريا السنية (الفاشية)" أن يتناغم مع نظرةٍ إلى السوريات والسوريين، تراهم مجرّد طوائف وإثنيات متمايزةٍ ومتصارعةٍ. لا شك أنّ عمليات تطييف المجتمع، ولا سيما في العقود الأخيرة، قد فعلت فعلها واخترقت جسد المجتمع السوريّ؛ لكنْ لا يمكن اختزال ذلك المجتمع وأفراده إلى الطوائف والإثنيات المذكورة. والمجتمع السوري ليس مجتمعاً أهليّاً أو جماعاتٍ أهليةً يترابط أفرادها بالنسب الوراثي، فحسب، بل هو مجتمعٌ مدنيٌّ أيضاً، من حيث تجاوز كثيرون وكثيراتٌ فيه لنسبهم بانتسابٍ إراديٍّ مدنيٍّ فكريٍّ و/ أو قيميٍّ معياريٍّ و/ أو أيديولوجيٍّ سياسيّ. ويمكن لهذا المكون المدني – بالتعاون مع المكونات الأهلية، وليس بالتضاد معها بالضرورة –  أن يسهم، إيجاباً، في صياغة سوريا المستقبلية المنشودة. و"الطريق إلى "سوريا للجميع" طريقٌ شائك جداً، ومليءٌ بالتحديات القاسية الداخلية أو الخارجية"[12]، كما سبق لعايق أن كتب، محقّاً، بُعيد إسقاط النظام الأسدي بثلاثة أيام. ولم يُحسم، ولم يكن بالإمكان أن يُحسَم، مسار ذلك الطريق، بحيث تتقرر نهايته، بعد مضي ثلاثة أشهرٍ فقط على فتح بابه أو أبوابه.

مع سقوط النظام الأسدي انتقلتْ سوريا وانتقل معها معظم السوريات والسوريين من ثقافة الخوف إلى ثقافة المخاوف.

محمد أمير ناشر النعم: مشايخ الشام لن يعطوا ولاءهم إلا لمن يحكم دمشق

06 شباط 2025
"يمتلك السيد أحمد الشرع الآن فائضاً من الشرعية الدينية والثورية والعسكرية والإقليمية والدولية. اجتماع هذه الشرعيّات يُشعره بالراحة التامة في علاقته مع المشايخ، التي يكفيها ما اتخذه من إجراءات حتى...

ما يمكن التحفُّظ بشدّةٍ عليه في رؤية عايق وآخرين كثر هو أنهم يبنون رؤيتهم للواقع السوري الراهن ولآفاقه المستقبلية انطلاقاً من تقييمهم لممارسات السلطة القائمة وأفعالها، فلا يرون غيرها طرفاً فاعلاً ومؤثِّراً في ذلك الواقع وتلك الآفاق، ويحكمهم الامل إذا بدرتْ من تلك السلطة أفعالٌ إيجابية، ويستسلمون لليأس إذا بدر منها عكس ذلك. ما ينبغي أخذه في الحسبان وجود فاعلين سياسيين آخرين، محليين وإقليميين ودوليين، في الوضع السوري الحاليّ وفي تحديد مساره أو مساراته المستقبلية. ما زالت تلك السلطة أضعف من أن تفرض رؤيتها وحدها، ومن الواضح أنها تواجه، ويمكن ويرجّح أن تواجه في المستقبل، قوىً وأطراف محلية (مدنية وأهلية من كل "المكونات")، وخارجية. ومن الصعب الحسمُ المعرفيّ أو السياسيّ المسبق لنتيجة تلك المواجهة وذلك الصراع، الذي يرجح أن يكون سياسيّاً سلميّاً، وليس عسكريّاً، في معظمه. وتبدو التوقعات الجازمة في هذا الصدد أقرب إلى التنبؤات أو النبوءات المعبّرة عن المخاوف أو الآمال، من قربها من الاستشراف المعرفي الرصين للمستقبل.

يتضمن نص عايق توصيفاً مكثفاً وعرضاً متيناً لمخاوف مسوّغةٍ ومشروعة، منتشرة بين سورياتٍ وسوريين كثر. ومن المفيد والضروري تقديم رؤيةٍ نظريةٍ لها، والتفكير فيها والتفاكر حولها، ومناقشتها بصراحةٍ وتفصيلٍ وتعمقٍ وودّ. وتبدو الصورة المقدّمة ﻟ "سوريا السنية" أشبه بنمطٍ مثاليٍّ فيبريٍّ تتبلور فيه كل سمات سوريا المذكورة وتظهر في أقوى صيغةٍ ممكنةٍ لها، من دون أن يعني ذلك الواقعية الكاملة أو حتى الجزئية لذلك النمط وللسمات المؤسّسة له. فكما هو الحال مع كلّ نمطٍ مثاليّ، يمكن توظيف النمط المثاليّ لقراءة الواقع ومعرفة مدى اقترابه من ذلك النمط أو ابتعاده عنه. وإذا كانت المخاوف ترى ذلك الواقع قريباً من النمط المثالي المذكور، فمن المرجح أن تراه "المعرفة الرصينة" بعيداً عنه ومستبعِداً له أيضاً.

مع سقوط النظام الأسدي انتقلتْ سوريا وانتقل معها معظم السوريات والسوريين من ثقافة الخوف إلى ثقافة المخاوف. ففي الثقافة الأولى، ونتيجةً للقمع الشديد والمديد، كان هناك خوفٌ كبيرٌ يمنع أو يعرقل حتى التعبير عن ماهيته أو مناقشته وانتقاد مسبّباته، فضلاً عن محاولة التخلّص منه. أما في الثقافة الثانية، فالمجال أصبح متاحاً ومفتوحاً، عموماً، للتعبير عمّا يثير المخاوف، ولمناقشتها، والتفكير في الممكنات المختلفة والمتاحة للتفاعل معها والمفاضلة فيما بينها. ومن الضروري إبراز هذا الاختلاف واستثمار الممكنات الإيجابية التي يسمح بها. ويمكن الزعم إن المقال المذكور للعزيز موريس عايق، وهذا المقال المحاور أو المناقش له، يجسدان جزءاً من عملية الاستثمار المذكور.

هامش

[1] انظر: موريس عايق، "ما بعد الوطنية السورية: الإنكار القسري للمسألة الطائفية إذ ينتهي انفجاراً في الوجوهموقع الجمهورية، 19 آذار 2025.

[2] See, for example, Michael Izady, “Atlas of the Islamic World and Vicinity, Syria Ethnic Shift, 2010-2018”, Columbia University. At https://gulf2000.columbia.edu/images/maps/Syria_Ethnic_Shift_2010-2018_lg.png.

[3] Cf. Kevin Mazur, Revolution in Syria: Identity, Networks, and Repression, (Cambridge: Cambridge University Press, 2021).

[4] هشام شرابي، المثقفون العرب والغرب، بيروت: دار النهار، ط2 1978، ص 28-29.

[5] موريس عايق، "ما بعد الوطنية السورية: الإنكار القسري للمسألة الطائفية إذ ينتهي انفجاراً في الوجوهموقع الجمهورية، 19 آذار 2025.

[6] موريس عايق، "سوريا السُنيّة... تزاوج بين ِسرديّةٍ سلفية جهادية وسرديّة شديدة الطائفيةموقع سوريا ما انحكت، 19 آذار 2025.

[7] موريس عايق، "أحوالنا على وقع «ردع العدوان» وما بعدها: تفكير في اللحظة السورية الراهنة ومآلاتهاموقع الجمهورية، 11 ديسمبر 2024.

[8] المقال السابق نفسه.

[9] موريس عايق، "سوريا السُنيّة... تزاوج بين ِسرديّةٍ سلفية جهادية وسرديّة شديدة الطائفيةموقع سوريا ما انحكت، 19 آذار 2025.

[10] موريس عايق، "أحوالنا على وقع «ردع العدوان» وما بعدها: تفكير في اللحظة السورية الراهنة ومآلاتهاموقع الجمهورية، 11 ديسمبر 2024.

[11] توماس بييريه، ""في سوريا، مساعي أحمد الشرع للحفاظ على سلطة الرجل الواحدموقع أوريان21، ترجمة: فاطمة بن حمد، 20 آذار (مارس) 2025.

[12] موريس عايق، "أحوالنا على وقع «ردع العدوان» وما بعدها: تفكير في اللحظة السورية الراهنة ومآلاتهاموقع الجمهورية، 11 ديسمبر 2024.

مقالات متعلقة

منمنمات فكرية في مرحلة "ما بعد سوريا الأسد"

14 كانون الأول 2024
"المستقبل في سوريا مفتوح على احتمالات (إيجابية) كثيرة للمرّة الأولى منذ سنوات طويلة" هذا ما يقوله الباحث والمفكّر السوري حسام الدين درويش، دون أن يخفي مخاوفه في الوقت ذاته، حيث...
حسام الدين درويش: الأسئلة الفلسفية تبدو أسئلة غبيّة

20 أيلول 2024
هذا الحوار هو جزء صغير جدَّا من كتاب صدر مؤخرًا عن دار "مؤمنون بلا حدود"، تحت عنوان "درويش بين القدر والمصير/ في الفلسفة والثورة". وهو عبارة عن سيرة ذاتية فكرية...
محمد أمير ناشر النعم: مشايخ الشام لن يعطوا ولاءهم إلا لمن يحكم دمشق

06 شباط 2025
"يمتلك السيد أحمد الشرع الآن فائضاً من الشرعية الدينية والثورية والعسكرية والإقليمية والدولية. اجتماع هذه الشرعيّات يُشعره بالراحة التامة في علاقته مع المشايخ، التي يكفيها ما اتخذه من إجراءات حتى...
في "الكنيسة السنية" سورياً (1)

17 أيلول 2019
تحاول هذه المادة من ملف العلمانية إلقاء الضوء على إحدى أهم المقولات التي تسود الدرس الغربي في مسألة علمانية نظام البعث السوري وتسأل عن أصول هذه المقولة، وبخاصة حينما تُدعم...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد